إِدْرَاكُ مُـفْــرَدٍ تَـصَـوُّرًا عُـلِـمْ
وَدَرْكُ نِـسْـبَـةٍ بِـتَصْدِيْـقٍ وُسِـــمْ
وَقُـدِّمَ الــأَوَّلُ عِـنْـدَ الـوَضْــعِ
لِــأَنَّـــهُ مُـقَــــدَّمٌ بِالـطَّــبْــــعِ
وَالنَّظَـرِي مَا احْتَـاجَ لِلتَّأَمُّلِ
وَعَكْسُـهُ هُـوَ الضَّـرُوْرِيُّ الجَـلِـي
وَمَـا بِـهِ إِلَـى تَـصَــوُّرٍ وُصـِـلْ
يُدْعَـى بِقَـوْلٍ شَـارِحٍ فَلْتَبْتَـهِـلْ
وَمَـا لِـتَـصْـدِيْـقٍ بِـهِ تُـوُصِّــلَا
بِـحُـجَّـةٍ يُـعْـرَفُ عِـنْـدَ العُـقَــلَا
⁕⁕⁕
النظم
إِدْرَاكُ مُـفْــرَدٍ تَـصَـوُّرًا عُـلِـمْ
وَدَرْكُ نِـسْـبَـةٍ بِـتَصْدِيْـقٍ وُسِـــمْ
((أنواع العلم الحادث))
المراد بالعلم مطلق الإدراك لا ما يراد به في اصطلاح بعض الأصوليين وهو إدراك خاص أي: إدراك النسبة التصديقية لأنه حينئذ لا يقبل التقسيم الآتي.
وتقييد العلم بالحدوث للاحتراز عن علم الله تبارك وتعالى إشعارا بتنزهه سبحانه عن أن يتصف علمه بالتصور أو التصديق؛ إذ كل منهما مفسر بالإدراك الذي هو وصول النفس إلى المعنى ولأن التصور حصول الصورة وهو من خواص الأجسام ففي إطلاقه على علمه تعالى إيهام وإن أريد به معنى صحيح.
وفي هذا تنبيه على أن التقييد مراد لمن لم يقيد وأنه كان ينبغي له التقييد، على أن ذكر الأنواع يكفي في ذلك لأن علمه تعالى ليس بأنواع لكن المصنف رحمه الله تعالى أراد الإيضاح.
((إدراك مفرد)) المراد به ما ليس مشتملا على نسبة حكمية.
((تصورا علم)) فإدراك كالجنس، وتقييده بالمفرد يخرج التصديق ويتناول ما لا نسبة له أصلا، كإدراك زيد وما فيه نسبة إلا أنها غير حكمية، كإدراك بنوة زيد لعمرو ونحوها.
((ودرك)) اسم مصدر بمعنى إدراك أي: وإدراك وقوع ((نسبة)) حكمية ((بتصديق وسم)) من الوسم وهو التعليم.
وتقرير هذا الكلام أن العلم الذي هو حصول صورة الشيء في الذهن ينقسم إلى تصور وتصديق، أما التصور فهو حصول صورة الشيء فيه من غير حكم عليه بنفي ولا إثبات كإدراك الإنسان من غير حكم عليه بشيء.
وأما التصديق فهو إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة أي: الإذعان لذلك، كإدراك أن زيدا كاتب أو ليس بكاتب، هذا هو مذهب الحكماء.
وليس قول من قال التصديق عندهم هو الحكم خارجا عن هذا لأن الحكم مقول بالاشتراك عندهم على معنيين:
أحدهما هذا أعني إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة،
والآخر إدراك النسبة الحكمية التي هي ثبوت شيء لشيء أو انتفاؤه عنه، فلعل من فسر التصديق عندهم بالحكم أراد الأول.
وأما التصديق على مذهب الإمام الرازي فمركب من أربع إدراكات:
- إدراك المحكوم عليه،
- وإدراك المحكوم به،
- وإدراك النسبة الحكمية التي هي مورد الإيجاب والسلب،
- وإدراك أن تلك النسبة واقعة أو ليست بواقعة،
أو من ثلاث إدراكات وحكم إن لم يكن الحكم عنده إدراكا.
والفرق بين المذهبين ظاهر؛ لأنه على مذهبه مركب وعلى مذهبهم بسيط كما رأيت، ولأن الحكم نفس التصديق عندهم وجزء التصديق عنده، ولأن تصور الطرفين شطر عنده وشرط عندهم،
والمتبادر من عبارة المصنف مذهب الحكماء.
النظم
وَقُـدِّمَ الــأَوَّلُ عِـنْـدَ الـوَضْــعِ
لِــأَنَّـــهُ مُـقَــــدَّمٌ بِالـطَّــبْــــعِ
((وقدم الأول)) أي: التصور على التصديق ((عند الوضع)) أي: في الذكر والكتابة والتعلم والتعليم ((لأنه مقدم)) على التصديق ((بالطبع)) أي: بحسب اقتضاء طبيعة التصور أي: حقيقته.
والمقدم بالطبع هو الذي يكون بحيث يحتاج إليه المتأخر من غير أن يكون علة فيه؛ كالواحد والاثنين والتصور كذلك بالنسبة إلى التصديق على كلا المذهبين لأنه إما شرط أو شطر.
وعبارة المصنف أحسن من قول بعضهم: «وقدم القول الشارح على الحجة وضعا لتقدم التصور على التصديق طبعا»؛ لشمول التصور والتصديق فيها القولَ الشارح وغيره من التصورات والحجة وغيرها من التصديقات.
ثم شرع في تقسيم آخر للعلم بقوله:
النظم
وَالنَّظَـرِي مَا احْتَـاجَ لِلتَّأَمُّلِ
وَعَكْسُـهُ هُـوَ الضَّـرُوْرِيُّ الجَـلِـي
((و)) العلم ((النظريْ)) بإسكان الياء ((ما احتاج للتأمل)) يعني إلى الفكر والنظر كإدراك حقيقة الإنسان وكإدراك أنك مبعوث وأن العالم حادث.
((وعكسه)) أي: ما لا يحتاج إلى فكر ونظر ((هو الضروري الجلي)) أي: الواضح سواء توقف على حدس أو تجربة أو لا كتصورك وجودك وإدراك أن الواحد نصف الاثنين.
فيدخل في الضروريات القضايا الأوليات والحدسيات والتجربيات وسيأتي بيانها؛ لأن الأخيرين وإن توقفا على حدس وتجربة فليسا بمتوقفين على فكر ونظر، وهذا مجرد اصطلاح فإن النظري منسوب إلى النظر الاصطلاحي ولا يصدق على التجربة والحدس لما عرفت من تفسيره، وحينئذ يجب أن يعنوا بالنظر ما هو أعم من القياس ولواحقه؛ لئلا ترد الأشياء المكتسبة بالاستقراء والتمثيل.
وقيل العلوم الحادثة كلها ضرورية ووجه بأن العبد لا تأثير له في شيء من العلوم فحصول العلوم كلها له لا يقدر على دفعه فيكون ضروريا.
وقيل كلها نظرية، ووجه بأن العبد في ابتداء وجوده كان خاليا من جميع العلوم فاكتسبها شيئا فشيئا.
وقد ذكرنا أن الضروري يطلق بمعنى آخر، والخلاف في النسبة بينه وبين البديهي مع فوائد أخر في الشرح.
النظم
وَمَـا بِـهِ إِلَـى تَـصَــوُّرٍ وُصـِـلْ
يُدْعَـى بِقَـوْلٍ شَـارِحٍ فَلْتَبْتَـهِـلْ
وَمَـا لِـتَـصْـدِيْـقٍ بِـهِ تُـوُصِّــلَا
بِـحُـجَّـةٍ يُـعْـرَفُ عِـنْـدَ العُـقَــلَا
((وما به إلى تصور وصل)) على لفظ المبني للمجهول أي: ما توصل به إلى التصور ((يدعى بقول شارح)) لشرحه الماهية ويسمى أيضا معرفا وتعريفا.
فـ«ما» واقعة على بعض التصورات وهو المعرِّف، وذلك كالحيوان الناطق تعريفا للإنسان فإنه يوصل إلى تصور الإنسان.
((فلتبتهل)) أي: فلتطلب مبالغا في الطلب.
((وما لتصديق به توصلا)) على صيغة المبني للمجهول أي: وما توصل به لتصديق، نحو العالم متغير وكل متغير حادث فإنه يوصل إلى أن العالم حادث ((بحجة يعرف عند العقلا)) أي: أرباب هذا الفن وأل في العقلاء للكمال، وسمي بذلك لأن من تمسك به حجَّ خصمه أي: غلبه.