الصراع الإيراني الأمريكي والسيناريوهات المستقبلية


دلاور علاء الدين

15-01-2020

قال رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، هارولد ويلسن: "أسبوع واحد فترة طويلة في عالم السياسة"، لكن أسبوعاً واحداً في سياسات العراق والشرق الأوسط أطول بكثير، كما كان الأسبوع الفائت. هناك عوامل في منطقتنا قد تؤدي إلى أحداث وأزمات تقلب الموازين خلال 2020، ولتوقعها يمكن أن نركز على ثلاث عواصم معنية، بغداد وطهران وواشنطن، التي شهد تفكير أصحاب القرار فيها وحالتهم النفسية تغيرات كبيرة.

العراق

سيستمر الصراع بين المتظاهرين والسلطة في بغداد وغيرها من المدن من اليوم وحتى أجل غير معلوم. ستكون إعادة تشكيل الحكومة حبلى بالمشاكل. هناك الآن نية للإبقاء على حكومة عادل عبدالمهدي حتى الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة، أي أنه سيبقى رئيساً للوزراء طوال السنة، سواء بنفس الفريق أم بفريق مختلف. رغم أن هذا لن يكون مقبولاً من الشارع العراقي، فإن السلطة الشيعية لا تهتم كثيراً لرأي الشارع، خاصة إذا وافق مقتدى الصدر ومرجعية النجف، أو سكتا عن الأمر. يجب أن تجري في نهاية السنة الحالية انتخابات تقلب الموازين وبآلية جديدة وربما ستتبعها تغييرات كبرى.

خلال 2020، سيستمر الصراع بين إيران والعراق في الساحة العراقية، وسيؤدي ذلك بإيران إلى فرض نفوذها على القرار العراقي بصورة مباشرة أكثر من ذي قبل. سيستمر ضعف الدولة العراقية نتيجة هذا الصراع والمشاكل الداخلية، لكنها لن تنهار. لم يبلغ العراق حداً يستطيع معه الوقوف على قدميه بإرادته، والعامل الوحيد الذي يبقي العراق كدولة ويحميه من الانهيار والفشل هو دعم المجتمع الدولي – خاصة إيران وأمريكا، وإلا فإن العراق على حافة الانهيار منذ 2014، وسيسقط حالما يسحب المجتمع الدولي يده.

أمريكا

دونالد ترمب في السنة الحالية مختلف جداً عنه في السنة الماضية أو عندما تولى الرئاسة. إنه الآن أكثر ثقة بنفسه وبجيشه ومستعد للحرب. أصبحت قدرته على مجاراة تصرفات إيران والقوى الحليفة لها في العراق أقل، وسيزيد من الضغط والعقوبات على إيران أكثر فأكثر. لكن ذلك لا يعني أن ترمب يسعى للحرب. فهو مازال يفكر كرجل أعمال طموح ويريد سحب إيران إلى طاولة التفاوض. لأنه يعرف أن الحرب ليس فيها منتصر وقد تؤدي إلى عدم فوزه بدورة رئاسية ثانية. لكن إن لم يبق أمامه خيار، فإنه سيفضل الحرب في الأسابيع القادمة (حتى نهاية آذار) لأنه سيدخل بعدها في الحملة الانتخابية ولن تكون الحرب في صالحه.

إيران

تبنت إيران منذ أمد بعيد ستراتيجية شاملة طويلة الأمد تمضي بها قدماً خطوة فخطوة. في هذا السياق، استغلت إيران كل أزمة ظهرت في العراق لتنفيذ قفزة أكبر في مجال تنفيذ ستراتيجيتها. فعندما ظهر داعش، أفادت إيران من مجلس النواب العراقي وحكومة حيدر العبادي وفتوى المرجعية لتعزيز القوات الحليفة لها لتصبح أقوى من قوات الدولة، وضمنت لها الشرعية القانونية، وميزانية ضخمة. بعد ذلك، استغلت حملة تحرير المناطق التي احتلها داعش للسيطرة على المناطق السنية التي لم يبلغها نفوذ إيران من قبل. كما استغلت التوترات التي تلت الاستفتاء (على استقلال كوردستان) للسيطرة على أغلب المناطق الكوردستانية المقتطعة والتي تضم نصف شعب وأرض وثروات كوردستان العراق، وبذلك أضعفت مكانة حكومة إقليم كوردستان والقوى السياسية لإقليم كوردستان، التي كانت تعرف بأنها أقرب لأمريكا وليس لإيران. ثم جاء دور السيطرة المباشرة على مجمل نظام الحكم في العراق، والذي حققته على هامش أزمات أكتوبر (التظاهرات وما تلاها). صحيح أن كل ذلك لم يمر بدون أذى لإيران وحلفائها، لكن الذي يهم هو النتيجة. فالسيطرة الإيرانية ومكانة إيران في 2020 أقوى من أي سنة سبقت.

الفرق بين سياسات أمريكا وإيران

على العكس من أمريكا، ليست إيران قوة عظمى، وليست قوة اقتصادية أو صناعية باحثة عن سوق، بل هي قوة أمنية إقليمية ذات إمكانيات اقتصادية محدودة. فعندما تبسط نفوذها على دولة ما، لا تستهدف سوقها، بل حماية الأمن القومي للدولة والإبقاء على نظامها الحاكم. ففي بلد كالعراق، تحتاج إيران إلى فرض نفوذها واستخدام مؤسسات الدولة للاستفادة من الموارد المالية والبشرية وتعزيز القدرة على نموها ونشر نفوذها، من خلال المجاميع التي تشاركها المذهب (الشيعة) وهو محدود. تبرر إيران تدخلها ونفوذها تحت شعار الجوار والمذهب المشترك، لكن لا يبدو أن الأولوية بالنسبة لإيران تتمثل في تحسين نظام الحكم ورفع المستوى المعيشي لأبناء المجتمعات الخاضعة لنفوذها، كما تستطيع أمريكا، وإلا لكانت البصرة وكربلاء والناصرية ستتحول إلى نماذج مشرقة أكثر عمراناً من أربيل والسليمانية. بل أن أولوية إيران تتمثل في ضمان الجانب الأمني من خلال حلفائها غير الحكوميين.

وبخلاف أمريكا، تمتلك إيران سياسة واضحة في العراق، فهي تعرف ماذا تريد وبأي وسيلة تحقق ما تريد، وتحققه باستمرار. تمتلك إيران مجموعة متنوعة من الأدوات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والدينية في العراق. فلكبار مسؤوليها علاقات شخصية ومباشرة مع غالبية القيادات السياسية والأمنية وحكام العراق، ولم يكن الإيرانيون بحاجة إلى الطرق الرسمية واعتماد البروتوكولات الدولية في العلاقة مع الحكومة والمؤسسات السياسية العراقية، بل يتعاملون مع الشخصيات والأجنحة المختلفة كلاً لوحده وبصورة متفرقة، وكان قاسم سليماني محنكاً في هذا النوع من التعامل.

لذا، وفي مقابل تصاعد النفوذ الإيراني، كان النفوذ الأمريكي في العراق يتراجع باستمرار، وبات لها الآن أقل تأثير على القرار السياسي والحكم في العراق، والأدوات المتاحة لها هي فقط التهديد العسكري والمالي. فترمب لا يحسب إلا أقل حساب للدولة والقيادات العراقية، ويتعامل مع العراق حتى اليوم في إطار سياسة أمريكا تجاه إيران، بل ينظر إليهما نفس النظرة.

سيناريوهات العام الحالي للصراع الإيراني الأمريكي

هناك أربعة سيناريوهات محتملة يمكن أن تحصل خلال 2020 لكن بدرجات متفاوتة:

1- اللاحرب واللاسلم أو الحرب بالوكالة وإنهاك كل طرف للطرف الآخر: كما جرى من قبل. هذا السيناريو هو الأوفر حظاً وقابل للتطبيق، رغم أنه مفعم بالمخاطر. ستقوم أمريكا في السنة الحالية بتشديد العقوبات والضغوط على إيران لتزيد من عدم الاستقرار في الداخل الإيراني وفي البيت الشيعي العراقي، بحيث تقضي على وحدة صفهم. في نفس الوقت سيبقي قواته على أهبة الاستعداد ويستغل أخطاء إيران، مثل العزلة الدولية التي واجهتها نتيجة إسقاط الطائرة الأوكرانية.

في المقابل، ستستمر إيران في مساعيها لإخراج الجيش الأمريكي من العراق، سواء من خلال مضايقته بواسطة حلفائها أو من خلال مجلس النواب والحكومة العراقيين. في الأخير، قد يصاب ترمب بالإرهاق والضجر وسيرد مرة أخرى على إيران ويصل بالتوترات إلى مستوى جديد، أو يقرر الانسحاب من العراق. عندها لن يكون مستبعداً أن يفرض عقوبات على العراق قد تسفر عن انهيار وفشل الدولة العراقية، وهذا مثل الذي حصل في سوريا، لن يمثل مشكلة لإيران.

2- الحرب: هذا السيناريو ماثل باستمرار رغم أنه الآن ضعيف. يرى بعض المراقبين أن إيران تريد حرباً مباشرة عاجلاً، كطريقة لحماية نظامها من انتفاضة في الداخل. لكن هذه الفرصة تسنت لإيران الأسبوع الماضي ولم تنتهزها. فقد تهيأت أجواء وحدة صف داخلية مع شيعة العراق، ولم يكن الأمريكيون قد باشروا تحريك كل قواتهم والاستعداد لحرب شاملة. لكن لا يستبعد أن يكون الإيرانيون مترددين واستحسنوا الانتظار حتى تبلغ الحملة الانتخابية في أمريكا ذروتها (من الربيع إلى الخريف)، كما ستسنح لهم فرصة إجراء الانتخابات الرئاسية (في شباط)، وحينها ليس مستبعداً أن يكون ترمب أكثر استعداداً للتنازل.

من اللافت أن الدولة الإيرانية تخوض منذ أربعين سنة صراعات مع القوى العالمية والإقليمية، لكنها نجحت في إدارة كل حروبها بالوكالة وعلى أراضي الدول الأخرى. أي أنها لم تدخل حرباً مباشرة مع أي من تلك القوى. فقد كانت تخوض وباستمرار صراعاً دامياً مع تركيا في كل من سوريا والعراق، بينما لم تقع حرب مباشرة بين الطرفين منذ أربعمائة سنة. لذا فإنها لخوض حرب مباشرة مع أمريكا، عليها أن تجري حسابات كثيرة.

3- عدم تصعيد التوترات مع شيء من التهدئة: أي أن يسعى الطرفان، إيران وأمريكا، لقضاء 2020 في سلام لحين إجراء الانتخابات في البلدين. فإن فاز ديمقراطي مثل جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة، لن يكون مستبعداً إحياء الاتفاق النووي القديم والتوقيع على اتفاقات موازية تخص النظام المستقبلي للشرق الأوسط. أما إذا أعيد انتخاب ترمب، فسيواجه الإيرانيون احتمالين، أن تستمر اللعبة على وتيرتها الحالية وصولاً إلى الحرب، أو أن يخرج ترمب التاجر عن جلده القتالي ويطرح مبادرة بلا مقدمات للاتفاق، وبوادر تحقق هذا السيناريو ضعيفة.

4- التهدئة والحوار: السيناريو النموذجي عبارة عن حوار جاد شامل للتوصل إلى اتفاق على كل مستويات الصراع. في هذا السيناريو، تضطلع بريطانيا والأوروبيون بدور أكبر في الوساطة والجمع بين الطرفين على طاولة الحوار. فبإمكان هؤلاء إقناع إيران بالبدء من جديد بمفاوضات نووية وإقناع أمريكا برفع جزء من الضغوط والعقوبات الاقتصادية. لكن حظوظ هذا السيناريو في 2020 قليلة جداً بل هي مستحيلة في ظل أجواء عدم الثقة الحالية والحملات الانتخابية – رغم أنه ليس ثم سيناريو مستحيل في عالم السياسة.