ادبيات محلية

شيخ الليبراليين الجدد الدكتور شاكر النابلسي يترجل عن صهوة الحياة

Jan 15, 2014

بقلم: شاكر فريد حسن


غاب عن دنيانا قبل أيام الكاتب والأديب والباحث والمفكر والأكاديمي المعروف الدكتور شاكر النابلسي ، أحد أبرز المثقفين العرب والليبراليين الجدد المنظرين للفكر العلماني ، والمشتغلين بقضايا النقد والإبداع والفكر والحداثة والتنوير والعلمانية والأصوليات الدينية الإسلامية .


شاكر النابلسي هو كاتب من أصل أردني ، ولد سنة 1940، عاش ردحاً من الزمن في الأردن ثم أقام في السعودية زهاء ربع قرن ، بعد ذلك سافر إلى أمريكا واستقر فيها بعد نيله شهادة الدكتوراه من إحدى جامعاتها . تعددت اهتماماته ومشاغله التنويرية ما بين النقد الأدبي ومسائل الإصلاح ومقومات النهوض العربي ونقد المقدس وتفكيك القضايا التي يعيشها الفكر العربي . انطوت كتاباته وطروحاته الفكرية على نزوع ديمقراطي تقدمي علماني، متأثراً كمعظم أبنا جيله بالمفكر الايطالي انطونيو غرامشي ، متبنياً نهجاً ليبرالياً حراً صادم فيه الكثير، وأثارت كتاباته جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية والثقافية العربية .


اتصف شاكر النابلسي بروحه الدائبة للبحث ، وحرصه على متابعة ومواكبة كل ما هو جديد وحداثي في وعاء الفكر العربي ،متتبعاً إسهامات المحدثين والمجدين العرب ، ومتبيناً قضايا التنوير والإصلاح ، متفائلاً بنظرته نحو العلمانية وانتصارها الحتمي في المجتمعات العربية .


حارب شاكر النابلسي الركود والخمول واللامبالاة ، وساهم في نشر ثقافة التنوير والعقلانية والإصلاح والديمقراطية وأفكار المجتمع المدني ، ودعم حرية التعبير والتفكير والاختلاف بالرأي ، فضلاً عن دفاعه القومي عن حق الشعوب في منطقتنا بالحرية والتنمية والتقدم .


تفرغ النابلسي للبحث العلمي والتأليف ، وترك وراءه ثروة فكرية غنية من المؤلفات والأبحاث والدراسات والمقالات بلغت نحو 60 كتاباً في مجالات النقد والتاريخ والاجتماع والفكر السياسي آخرها "الجنسانية العربية" ، ومن أبرز أعماله ومؤلفاته : العرب بين الليبرالية والأصولية الدينية ، الليبرالية السعودية بين الوهم والحقيقة ، أسئلة الحمقى في السياسة والإسلام السياسي ، الفكر العربي في القرن العشرين ، الحداثة والليبرالية ، معاً على الطريق ، النظام العربي الجديد ، الفكر العربي في القرن العشرين " وغيرها الكثير .


في كتابه "الفكر العربي في القرن العشرين " يوضح د. شاكر النابلسي النظرة العلمانية وأهميتها للمجتمع العربي، مؤكداً بكل يقين بان التيار العلماني هو الذي سيتغلب في النهاية . أما في كتابه "تهافت الأصولية " فيتطرق إلى الأصوليات الدينية الإسلامية ويرى خطرها على الحاضر والمستقبل العربي ، وهذا الخطر يتمثل في الأيمان المطلق بالحقائق المطلقة ، ومنع النقاش، والجدل، والإبداع الفكري، وفي هذا تكبيل تام للنشاط الفكري ، والاجتهاد، وازدهار الرأي الآخر، لأن الحقيقة المطلقة - كما يقول- مرتبطة دائماً بالعقائد الدينية ، وليست بالأفكار . فالأفكار تتغير ، أما العقائد الدينية فهي عابرة للتاريخ ، لا تتغير ولا تتبدل ، مشيراً أن هذا الخطر يتمثل في ارتباط ظاهرة الإرهاب بالسلفية / الأصولية الدينية .


وحين منع المفكر المصري الراحل د. نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت للمشاركة في عدد من الندوات الثقافية ، انشأ د. شاكر النابلسي مقالاً بعنوان "الغول نصر حامد أبو زيد" ومما جاء فيه : " أفهم تماماً أن تمنع الكويت إرهابياً من دخول أراضيها . وأفهم لأن تمنع الكويت من دخول أراضيها لصاً أو مهرّباً ، أو تاجر مخدرات ، أو قواداً ، أو نخّاساً ، أو مجرماً يهدد استقلال الكويت وأمنه . أفهم أن تمنع الكويت داعية دجّال ، يتقاضى في الليلة الواحدة عشرة آلاف دينار كويتي لكي يقيم (show) ديني في مكان ما . أفهم أن تمنع الكويت أولئك الدعاة الدجّالين الذين يتاجرون بالدين كتجارة الآخرين الأشقياء بالمخدرات ، والذين يثيرون غرائز الجمهور الدينية ، ويدفعونه إلى اللطم والبكاء، أكثر مما يثيرون عقول جمهورهم ، ويدفعونه إلى التفكير وإعادة التفكير والعمل .


ويضيف قائلاً : "أفهم أن تمنع الكويت مغنية ساقطة ، أو راقصة رخيصة ، أو عاهرة فاجرة ، أو جاسوسة يهودية . ولكني لا أفهم أبداً أن تمنع الكويت الديمقراطية الجميلة ، ومشعل الثقافة الخليجية والعربية بكتبها ، وإصداراتها ، ومسرحها ، ومجلاتها، وصحافتها الحرة ، أكاديمياً وعالماً إسلامياً في مطلع الألفية الثالثة ، يحمل هموم الإسلام ليلاً نهاراً ، ويدافع عنه ، وعن قيمه الأخلاقية الجميلة ، لا بالدجل ، ولا بالشعوذة ، ولا بإطلاق اللحية ، وصبغها بالحناء ، وتضمينها بالمسك والعنبر ، وحمل المسواك ، ولبس الثوب القصير ، والشماغ ، أو الغترة ، والبست ، أو العباءة ، أو المشلح، وتعفير جسمه بالطيب والعود والبخور ، ولكن بالعلم الغزير ، والثقافة المنفتحة الواسعة على كل جهات الأرض ، والمعرفة العميقة ، والعقل السلطان..!

هذا هو الدكتور شاكر النابلسي ، المفكر الحر الشريف ، والمثقف العضوي ، والمفكر الليبرالي التنويري المثير للجدل ، الذي مات بعد رحلة عطاء وإبداع فكري خصب ، وستظل ذكراه حية بأعماله ومؤلفاته ومنجزاته البحثية وأفكاره النيرة.

:من أدبياتي

ب فاروق مواسي

Jan 17, 2014

لماذا يكتب المبدع؟

من أولويات النقد الأدبي أن يحاول تلمّس دافع الكتابة لدى المبدع واستشفاف معاناتها، وذلك من

خلال شمولية يكون التحري فيها عيّـنة معبرة، قد تصل بنا إلى وعيٍ ما في فهم النص.

قد تتنوع الأسباب: من هروب من الواقع إلى تغلّـب عليه، من تجميل للحياة إلى وصف لقبحها، من

تسلية ومتعة إلى نضال ومغالبة، من ممارسة لحرية الكاتب إلى تمرين للقارئ أن يمارس حريته هو،

من الوصول إلى المطلق وحتى تقديس الحياة والطبيعة وتسجيلها إعجابا وعبادة، من الطفولة واللعب

إلى المسؤولية حتى في تفسير الطبيعة وتغييرها.

ربما يختصر أحدهم الطريق ظانًّـا أن الكتابة استمرار للتكسب، وهي بهدف منفعي مادي أسوة

بغيرها من الصنائع. ومع أن ذلك لا تثريب فيه على المبدع، إلا أن حرفة الفقر أدركت الأدباء غالبًا،

حتى أصبح (عيش الأديب) كناية عن الفاقة. ولا أظن أن أرسكين كالدويل- وهو من أكثر كتاب

القصة رواجًـا في العالم – كان مجافيـًا الحقيقة في إجابتــه لمن سأله: هل تكتب لتكسب؟ فقال:

"أكتب لأنني أحب أن أكتب، ولن أستطيع أن أمنح الكتابة كل حياتي إلا إذا استطعت أن أحصل منها

على قوت يومي".

إذن لماذا يكتب المبدع؟

ها هو جان كوكتو يعترف:

"الشعر ضروري، وليتني أعلم لماذا؟"

هل يكتب الكاتب تنفيسًا عن مكبوتات الجنس كما يرى فرويد؟

هل يكتب تساميًا من شعور بالنقص وإلحاحـًا لاستيفاء ذاته كما يرى أدلر؟

هل يكتب لأنه محب للظهور .... لانه يحب نفسه؟

لاستمرارية حضوره؟ وحضوره يعني حضور أفكاره التي يخاف ألا تدوَّن أو أشعاره التي قد تضيع.

لماذا هذا الحرص على خلود المادة الأدبية وسيرورتها؟

مهما تكن الإجابة فإن الكتابة قَـدَر، هي اضطرار وقسر، لا تأتي طواعية وترفــًا، بل تأتي تعبيرًا عن

قلق ينتاب المبدع، فيعبر عنه حتى "يغطي" ما نقص، أو يكمل وجودًا ما، يستمر ليبحث عن التوافق

بينه وبين مجتمعه. ذلك لأن من طبيعة المبدع أصلاً أن يرفض القائم استحثاثًا للتغيير نحو الأفضل

والأمثل.... . إنه يبحث عن زمن ضائع قد يستعيده بصورة جديدة، أو يناغي حاضرًا مؤلمًا أو مسعدًا

يخاف أن يمضي بدون ذكر، أو ذكريات، أو ينتظر مستقبلاً كالمهدي يحمل أوتوبيا وحلمًا، أو كإرميا

يحمل مخاوف وتحذيرًا ......


إذن فالمبدع في الزمن يستنطق حرية نسبية تؤاتيه ليسيطر على الأحداث، وأحيانـًا يبكيها. فيه نوع

من الطفولة، يعيد تركيب الأشياء والعناصر في علاقات جديدة، أحيانــًا يرضى منها، وآنًا يسخط

عليها.

في الإبداع نضال ومغالبة وإيمان، ومن هنا نتفهم عبد الله نديم وقد قضى من حياته عشر سنوات في

أشق الظروف، وهو متخفٍّ. وقراءة في سِـيَـر بلزاك ودستويفسكي وتولستوي وفلوبير وإميل زولا

وغيرهم ترينا كم ضحى هؤلاء، لأنهم مؤمنون بقيمة ما يكتبون وجدواه. فالكتابة تضحية وجرأة،

والجبن لا يتيح الفن والإبداع، وإنما يخلق الاتكالي الوصولي.

إن رؤيا الكاتب الفنان سر عذابه وسر القداسة التي تكتنف هذا العذاب، و "الوصول إلى المطلق

يستلزم العرق والدموع واحتراق الأعصاب" - كما يقول شكري عياد في مقدمة كتابه "الرؤيا

المقيدة".

والكتابة - كما يرى سارتر - كشف للعالم، ثم اقتراح المبدع واجبًا يقوم به للقارئ، وإنه يلجأ إلى

ضمائر الآخرين بغية الاعتراف به عاملاً جوهريـًا في مجموع الكون (انظر: سارتر- "ما الأدب"،

ترجمة محمد غنيمي هلال ص65) .

إن تغيير العالم كان هدفًا ماركسيًا يعمد إلى تجميل الحياة وتزيينها بما هو متعة للإنسان وبناء

لوجوده. فليس الأدب لهوًا وتسلية، وليس منقطعـًا عن التواصل، وإلا فإنه يبقى في أحسن الحالات

جوهرة في صدفة في خضم.

والمبدع يجب أن يشعر بأنه ضروري، بالإضافة إلى العالم، وأن الموضوع الذي ينتجه يكون

موضوع نظر دائم من المتلقين ومنه أولاً.

عند بدء دراستي الجامعية التقيت شاعرًا عبريـًا مغمورًا كنت أحس عبقريته في حركاته، كان يكتب

أو يرصف كلمات يؤديها بانفعال، وكنت ألمس الصدق في كتابته، لكن كلماته كانت مبتورة، كان

يكتفي أحيانـًا بحرف هنا وخط هناك (قد تسمونه مجنونًا). ومهما شهدت من عبقرية هذا الطالب فليس

صحيًا أن المرء يكتب لنفسه، وإذا شرع المرء في تدوين نفسه فمبلغ جهده أن يستديم هذه العواطف

في نفسه واهية ضعيفة كما يقول سارتر (م. ن ص 49)، وذلك لان الكتابة تحتاج بعد ذلك إلى

معاودة وتنقيح وتهذيب وإضفاء الطابع الفكري عليها، والفكر فيه تواصل وعقلنة ورسالة.

يبقى سبب آخر للإبداع أقتطفه من صلاح عبد الصبور في كتابه "حتى نقهر الموت"، حيث يقول في

التقديم:

"لا يقهر الموت إلا الحجر والكلمة، والكلمة أطول عمرًا من الحجر، وأصلب على الزمن، وأقدر

على مغالبته".

وكيف يقهر المبدع الموت إن لم يكن بمناضلة وجراءة ومسؤولية وتوجيه؟

...............................................................

*من كتابي "أدبيات"- مواقف نقدية. القدس- 1991، ص 32- 34.