الحج والعمرة
الباب الأول: حكم الحج وفضله وحِكَمه
الفصل الأول: تعريف الحج وفضله
المبحث الأول: تعريف الحج لغةً واصطلاحاً
الحج لغةً:
الحج لغة: هو القصد.
الحج اصطلاحاً:
هو قصد المشاعر المقدسة لإقامة المناسك تعبداً لله عز وجل.
المبحث الثاني: من فضائل الحج
- الحج من أفضل الأعمال عند الله تعالى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حجٌ مبرور)). أخرجه البخاري ومسلم.
- الحج من أسباب مغفرة الذنوب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)). أخرجه البخاري ومسلم.
- الحج المبرور جزاؤه الجنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). أخرجه البخاري ومسلم.
- الحج يهدم ما كان قبله:
عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)) أخرجه مسلم.
- ينفي الفقر والذنوب:
عن عبدالله بن مسعود قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)).
الفصل الثاني: من حِكَم مشروعية الحج
- تحقيق توحيد الله تعالى:
- قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: -].
- عن جابر رضي الله عنه، أنه قال في بيان حجته عليه الصلاة والسلام: ((فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) أخرجه مسلم.
- إظهار الافتقار إلى الله سبحانه:
فالحاج يبتعد عن الترفه والتزين، ويلبس ثياب الإحرام متجرداً عن الدنيا وزينتها، فيُظهر عجزه، ومسكنته، ويكون في أثناء المناسك، ضارعا لربه عز وجل، مفتقرا إليه، ذليلا بين يديه، منقادا بطواعية لأوامره، مجتنبا لنواهيه سبحانه، سواء علم حكمتها أم لم يعلم.
- تحقيق التقوى لله تعالى:
قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:].
ومما تتحقق به التقوى في الحج، الإبتعاد عن محظورات الإحرام.
- إقامة ذكر الله عز وجل:
قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: –].
- تهذيب النفس البشرية، بتطهيرها من فعل السيئات، ومبادرتها إلى القيام بالطاعات:
قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)).
- في الحج تذكير بالآخرة، ووقوف العباد بين يدي الله تعالى يوم القيامة:
فالمشاعر تجمع الناس من مختلف الأجناس في زيٍ واحد، مكشوفي الرؤوس، يلبون دعوة الخالق عز وجل، وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يديه سبحانه يوم القيامة في صعيدٍ واحدٍ حفاةً عراةً غرلاً خائفين وجلين مشفقين؛ وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته والإخلاص له في العمل.
- تربية الأمة على معاني الوحدة الصحيحة:
ففي الحج تختفي الفوارق بين الناس من الغنى والفقر والجنس واللون وغير ذلك، وتتوحد وجهتهم نحو خالقٍ واحد، وبلباسٍ واحد، يؤدون نفس الأعمال في زمنٍ واحد ومكانٍ واحد، بالإضافة إلى ما يكون بين الحجيج من مظاهر التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
- أن أداء فريضة الحج فيه شكرٌ لنعمة المال وسلامة البدن:
ففي الحج شكر هاتين النعمتين العظيمتين، حيث يجهد الإنسان نفسه، وينفق ماله في التقرب إلى الله تبارك وتعالى.
إلى غير ذلك من الحكم والفوائد والمنافع.
الفصل الثالث: حكم الحج وهل هو على الفور أم التراخي
المبحث الأول حكم الحج:
الحج ركنٌ من أركان الإسلام، وفرضٌ من فروضه.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:].
ثانياً: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)).
ثالثاً: الإجماع:
فقد نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن حزم، والكاساني.
المبحث الثاني: هل الحج واجبٌ على الفور أو على التراخي؟
الحج واجبٌ على الفور عند تحقق شروطه، ويأثم المرء بتأخيره، وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وهو أصح الروايتين عن أبي حنيفة، ومنقول عن مالك وهو قول أحمد، واختيار الشوكاني، والشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
- قوله تعالى: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [البقرة:] والأمر على الفور.
- قوله تعالى: فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنَّ الله سبحانه قد أمر بالاستباق إلى الخيرات، والتأخير خلاف ما أمر الله تعالى به.
ثانياً: من السنة:
- عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)) والأصل في الأمر أن يكون على الفور، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية حين أمرهم بالإحلال وتباطؤوا.
ثالثاً: أنَّ الإنسان لا يدري ما يعرض له، فقد يطرأ عليه العجز عن القيام بأوامر الله، ولو أخَّر الحج عن السنة الأولى فقد يمتد به العمر، وقد يموت فيفوت الفرض، وتفويت الفرض حرام.
تمهيد:
تنقسم شروط الحج إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: شروط وجوب، وصحة، وإجزاء (الإسلام، العقل)
القسم الثاني: شروط وجوب، وإجزاء فقط (البلوغ، الحرية)
القسم الثالث: شرط وجوب فقط (الاستطاعة)
الفصل الأول: شروط وجوب، وصحة، وإجزاء
المبحث الأول: الإسلام
المطلب الأول: حكم حج الكافر
لا يصح الحج من الكافر، ولا يجب عليه، ولا يجزئ عنه إن وقع منه.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
- قال الله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:].
وجه الدلالة:
أنه إذا كانت النفقات لا تقبل منهم لكفرهم مع أن نفعها متعدٍّ، فالعبادات الخاصة أولى ألَّا تقبل منهم، والحج من العبادات الخاصة، فلا يُقبَل من كافر.
- وقال تعالى: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال].
ثانياً: من السنة:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟)) أخرجه مسلم.
وجه الدلالة:
أن الحديث صحيح صريح في قطع النظر عما قبل الاسلام.
ثالثاً: الإجماع:
أجمع أهل العلم على أن الحج إنما يتعلق فرضه بالمسلم، نقله ابن حزم، وابن قدامة، والشربيني.
المطلب الثاني: من حج الفريضة، ثم ارتد ثم تاب وأسلم فهل يجب عليه الحج من جديد؟
لا تجب عليه حجة الإسلام مجددا بعد التوبة عن الردة، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة وقول ابن حزم واختاره ابن عثيمين وبه أفتت اللجنة الدائمة.
الأدلة:
أولا من الكتاب:
قال الله تعالى: وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن الآية دلت على أن إحباط الردة للعمل مشروط بالموت كافرا.
ثانياً: من السنة:
قول النبي لحكيم بن حزام: ((أسلمت على ما أسلفت عليه من خير)) أخرجه مسلم.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت له ثواب ما قدم من أعمال صالحة حال كفره، بعد أن أسلم، فمن باب أولى ثبوت الأعمال التي قدمها المرء حال إسلامه قبل ارتداده إذا عاد إلى الإسلام.
المبحث الثاني: العقل
العقل شرطٌ في وجوب الحج وإجزائه، فلا يجب على المجنون، ولا تجزئ عن حجة الإسلام إن وقعت منه.
أولاً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)).
ثانياً: الإجماع:
أجمع أهل العلم على عدم وجوب الحج على المجنون، نقل ذلك ابنُ قدامة، والنوويُّ، والمرداوي، وأجمعوا كذلك على أنه لو حج فإنه لا يجزئه عن حجة الفريضة، نقل ذلك ابن المنذر.
ثالثاً: أن المجنون ليس من أهل العبادات، فلا يتعلق التكليف به كالصبي.
رابعاً: أن الحج لابد فيه من نية وقصد، ولا يمكن وجود ذلك في المجنون.
مسألة: هل العقل شرط صحة؟
اختلف أهلُ العلم في صحة حج المجنون على قولين:
القول الأول: يصح الحج من المجنون بإحرام وليه عنه، وهو مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية في المشهور، والشافعية.
دليل ذلك:
القياس على صحة حج الصبي الذى لا يميز في العبادات.
القول الثاني: لا يصح الحج من المجنون ولو أحرم عنه وليه وهو مذهب الحنابلة، وقول للحنفية، وقول للمالكية، ووجه للشافعية، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)).
وجه الدلالة:
أن المراد برفع القلم عدم تكليفهم، فدل ذلك على أن المجنون ليس من أهل التكليف، وعلى عدم صحة العبادة منه.
ثانياً: أن العقل مناط التكليف، وبه تحصل أهلية العبادة، والمجنون ليس أهلا لذلك، فلا معنى ولا فائدة في نسكه، أشبه العجماوات.
ثالثاً: أن الحج عبادة من شرطها النية، وهي لا تصح من المجنون.
رابعاً: الإجماع على أن المجنون لو أحرم بنفسه لم ينعقد إحرامه؛ وقد حكى المرداوي الإجماع على ذلك، فكذلك إذا أحرم عنه غيره.
الفصل الثاني: شروط وجوب وإجزاء
المبحث الأول: الحرية
المطلب الأول: الحرية شرط وجوب
الحرية شرط في وجوب الحج فلا يجب على العبد، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. وحكى الإجماع على ذلك ابن قدامة، والنووي، والشربيني، والشنقيطي
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام)).
وجه الدلالة:
أن الحج لو كان واجبا على العبد في حال كونه مملوكا لأجزأه ذلك عن حجة الإسلام، وقد دل الحديث أنه لا يجزئه، وأنه إذا أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام.
ثانياً: أن الحج عبادة تطول مدتها، وتتعلق بقطع مسافة، والعبد مستغرق في خدمة سيده، ومنافعه مستحقة له، فلو وجب الحج عليه لضاعت حقوق سيده المتعلقة به، فلم يجب عليه كالجهاد.
ثالثاً: أن الاستطاعة شرط في الحج، وهي لا تتحقق إلا بملك الزاد والراحلة، والعبد لا يتملك شيئا.
المطلب الثاني: الحرية شرط إجزاء
الحرية شرط في الإجزاء عن حج الفريضة، فإذا حج العبد لم يجزئه عن حج الفريضة، ولزمه إذا أعتق، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
أولاً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((من حج، ثم عتق فعليه حجة أخرى، ومن حج وهو صغير ثم بلغ فعليه حجة أخرى)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن عبدالبر.
ثالثاً: أن الرقيق فعل ذلك قبل وجوبه عليه، فلم يجزئه إذا صار من أهله، كالصغير.
المبحث الثاني: البلوغ
المطلب الأول: حكم حج الصبي
البلوغ ليس شرطاً لصحة الحج، فيصح من الصبي، فإن كان مميزا أحرم بنفسه، وإن لم يكن مميزا أحرم عنه وليُّه، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وبعض الحنفية، وجماهير العلماء من السلف والخلف.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء، فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبيا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر))، وفي رواية: ((فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها)) رواه مسلم.
وجه الدلالة:
أن الصبي الذي يحمل بعضده، ويخرج من المحفة لا تمييز له.
- عن السائب ابن زيد رضي الله عنه قال: ((حُجَّ بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين)) رواه البخاري.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، والقاضي عياض.
ثالثاً: أنه يصح من الولي عقد النكاح عنه والبيع والشراء بماله، فيصح إحرامه عنه إذا كان غير مميز.
المطلب الثاني: البلوغ شرطُ وجوبٍ وشرط إجزاءٍ
البلوغ شرط وجوبٍ وشرط إجزاء، فلا يجب الحج على الصبي، فإن حج لم يجزئه عن حجة الإسلام، وتجب عليه حجة أخرى إذا بلغ.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)).
وجه الدلالة:
أن في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم)) دليل واضح على أن حج الصبي تطوع، ولم يؤد به فرضا؛ لأنه محال أن يؤدي فرضا من لم يجب عليه الفرض.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على عدم وجوب الحج إلا بالبلوغ: ابن المنذر، وابن جُزي، والشربيني، ونقل الإجماع على عدم إجزاء الحج إلا بالبلوغ: الترمذي وابن المنذر، وابن عبدالبر، والقاضي عياض.
ثالثاً: أن من لم يبلغ ليس مكلفاً فلا يتعلق به التكليف.
المطلب الثالث: ما يفعله الصبيُّ بنفسه وما يفعله عنه وليه
ما يفعله الصبيُّ من أعمال الحج على قسمين:
القسم الأول: ما يقدر عليه الصبي بنفسه، كالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى، فإنه يلزمه فعله، ولا تجوز فيه النيابة، ومعنى لزوم فعله أنه لا يصح أن يفعل عنه؛ لعدم الحاجة إليه لا بمعنى أنه يأثم بتركه؛ لأنه غير مكلف.
القسم الثاني: ما لا يقدر عليه؛ فإنه يفعله عنه وليه.
الأدلة:
أولاً: الآثار عن الصحابة:
عن أبي بكر رضي الله عنه: ((أنه طاف بابن الزبير في خرقة)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((كنا نحج بصبياننا فمن استطاع منهم رمى ومن لم يستطع رمي عنه)).
ثانياً: الإجماع:
نقله ابن المنذر.
المبحث الأول: تعريف الاستطاعة
لغة: هي الطاقة والقدرة على الشَّيء.
واصطلاحا: المستطيع هو القادر في ماله وبدنه، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس واختلاف عوائدهم، وضابطه: أن يمكنه الركوب، ويجد زادا وراحلة صالحين لمثله بعد قضاء الواجبات، والنفقات، والحاجات الأصلية.
المبحث الثاني: حكم الاستطاعة
المطلب الأول: اشتراط الاستطاعة في وجوب الحج
الاستطاعة شرطٌ في وجوب الحج.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قال الله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:].
وجه الدلالة:
أن الله تعالى خص المستطيع بالإيجاب عليه، فيختص بالوجوب، وغير المستطيع لا يجب عليه.
- قال الله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:].
ثانياً: الإجماع:
أجمع العلماء على أن الاستطاعة شرطٌ في وجوب الحج، نقله ابن حزم، وابن قدامة، والقرطبي، والنووي.
ثالثاً: انتفاء تكليف ما لا يطاق شرعاً وعقلاً.
المطلب الثاني: هل الاستطاعة شرط إجزاءٍ في الحج؟
الاستطاعة ليست شرط إجزاء في الحج، فإذا تجشم غير المستطيع المشقة، فحج بغير زاد وراحلة، فإن حجه يقع صحيحاً مجزئاً عن حج الفريضة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
ويدل لذلك ما يلي:
- أن خلقاً من الصحابة رضي الله عنهم حجوا ولا شيء لهم، ولم يؤمر أحدٌ منهم بالإعادة.
- أن الاستطاعة إنما شُرِطت للوصول إلى الحج، فإذا وَصَلَ وفَعَلَ أجزأه.
- أن سقوط الوجوب عن غير المستطيع إنما كان لدفع الحرج، فإذا تحمله وقع عن حجة الإسلام، كما لو تكلف القيام في الصلاة والصيام مَنْ يسقط عنه، وكما لو تكلف المريض حضور الجمعة، أو الغني خطر الطريق وحج، فإنه يجزئ عنهم جميعاً.
المطلب الثالث: إذن الوالدين في حج الفريضة
ليس للوالدين منع الولد المكلف من الحج الواجب، ولا تحليله من إحرامه، وليس للولد طاعتهما في تركه، وإن كان يستحب له استئذانهما، نص على هذا فقهاء الحنفية , والشافعية، والحنابلة، وهو أحد القولين للمالكية.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله عز وجل: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:].
ثانياً: من السنة:
- عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا طاعة في معصية الله, إنما الطاعة في المعروف)) رواه البخاري، ومسلم
- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) رواه البخاري، ومسلم.
وجه الدلالة:
أن فيه تقديم الصلاة على ميقاتها على بر الوالدين، فدل على أن فرائض الأعيان التي هي من حقوق الله عز وجل تقدم على فروض الأعيان التي هي من حقوق العباد، فيقدم حج الفريضة على بر الوالدين.
ثالثاً: القياس على الصلاة المكتوبة بجامع الفرضية في كل منهما، فكما أن الوالدين لا يستطيعان أن يمنعا الولد من الصلاة المكتوبة فكذلك حج الفريضة.
رابعاً: أن طاعة الوالدين إنما تلزم في غير المعصية.
المطلب الرابع: إذن الوالدين في حج النافلة
للأبوين منع ولديهما من الحج التطوع، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. وذلك للآتي:
أولاً: أنه يلزم طاعة الوالدين في غير معصية, ولو كانا فاسقين لعموم الأوامر ببرهما والإحسان إليهما.
ثانياً: أن للوالدين منعه من الجهاد، وهو من فروض الكفايات، فالتطوع أولى.
المطلب الخامس: إذن صاحب العمل
من أراد حج الفريضة وكان بينه وبين غيره عقد يُلزمه بالعمل في أيام الحج أو بعضها، فإنه يستأذن منه, فإن أذن له وإلا وجب عليه الوفاء بالعقد، وهذه فتوى ابن باز , وابن عثيمين، واللجنة الدائمة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة:].
- قوله تعالى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً [الإسراء:].
ثانياً: من السنة:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم))
وجه الدلالة:
أن العقد الذي جرى بين الموظف وموظِّفِه عهد يجب الوفاء بشروطه حسبما يقتضي العقد.
المبحث الثالث: أقسام الاستطاعة
أقسام الاستطاعة في الحج والعمرة أربعة:
القسم الأول: أن يكون قادراً ببدنه وماله: فهذا يلزمه الحج والعمرة بنفسه بإجماع أهل العلم.
القسم الثاني: أن يكون عاجزاً بماله وبدنه: فهذا يسقط عنه الحج والعمرة بإجماع أهل العلم.
القسم الثالث: أن يكون قادراً ببدنه عاجزاً بماله: فلا يلزمه الحج والعمرة بلا خلاف , إلا إذا كان لا يتوقف أداؤهما على المال، مثل أن يكون من أهل مكة لا يشق عليه الخروج إلى المشاعر.
القسم الرابع:.أن يكون قادراً بماله عاجزاً ببدنه عجزاً لا يرجى زواله: فيجب عليه الحج والعمرة بالإنابة، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.
المبحث الرابع: شروط الاستطاعة
المطلب الأول: شروط الاستطاعة العامة للرجال والنساء
الشرط الأول: الاستطاعة البدنية: وتشمل صحة البدن، والقدرة على السير والركوب.
الشرط الثاني: الاستطاعة المالية: وتشمل الزاد والراحلة، والنفقة فاضلاً عن دَينه, ونفقته, وحاجاته الأصلية.
الشرط الثالث: الاستطاعة الأمنية: والمراد بها أمن الطريق.
المطلب الثاني: شروط الاستطاعة الخاصة بالنساء
الشرط الأول: المحرم.
الشرط الثاني: عدم العدة.
المبحث الخامس: الاستطاعة البدنية
المطلب الأول: من لا يستطيع أن يثبت على الآلة أو الراحلة
من لا يستطيع أن يثبت على الآلة، أو ليس له قوة أن يستمسك على الراحلة فهذا لا يجب عليه أن يؤدي بنفسه فريضة الحج باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:].
وجه الدلالة:
أن من لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أو يستمسك بها فهو غير مستطيع, فلا يجب عليه الحج، لأنه إنما وجب على من استطاع إليه سبيلاً.
ثانياً: من السنة:
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه جاءته امرأة من خثعم تستفتيه، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((قالت: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير، عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، فقال صلى الله عليه وسلم: فحجي عنه)) رواه مسلم.
ثالثاً: الإجماع:
نقل القرطبي الإجماع على عدم وجوب الحج على من لم يستطع أن يثبت على الراحلة.
المطلب الثاني: صحة البدن؛ هل هي شرط لأصل الوجوب، أو شرط للأداء بالنفس؟
صحة البدن ليست شرطاً للوجوب، بل هي شرط للزوم الأداء بالنفس، فمن كان قادراً بماله عاجزاً ببدنه فإنه يجب عليه الحج، بإرسال من ينوب عنه، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وهو قول للحنفية، واختاره ابن حزم، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:].
وجه الدلالة:
أن الاستطاعة هي الزاد والراحلة، فمن وجد الزاد والراحلة فقد وجب الحج في حقه، فإن كان عاجزاً عن الحج ببدنه لزمه أن يقيم غيره مقامه.
ثانياً: من السنة:
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه جاءته امرأة من خثعم تستفتيه، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ المرأة على وصف الحج على أبيها بأنه فريضة، مع عجزه عنه ببدنه، ولو لم يجب عليه لم يقرها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يمكن أن يقر على خطأ، فدل على أن العاجز ببدنه القادر بماله يجب عليه أن ينيب.
المبحث السادس: الاستطاعة المالية
المطلب الأول: اشتراط الزاد والراحلة:
يشترط في وجوب الحج القدرة على نفقة الزاد والراحلة، فاضلاً عن دَينه، ونفقته، وحوائجه الأصلية، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول سحنون, وابن حبيب من المالكية، وبه قال أكثر الفقهاء.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قال الله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:] ..
وجه الدلالة:
أن الله عز وجل لما قال: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً علمنا أنها استطاعة غير القوة بالجسم; إذ لو كان تعالى أراد قوة الجسم لما احتاج إلى ذكرها; لأننا قد علمنا أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.
- قال الله تعالى: إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ [النحل:].
وجه الدلالة:
أن الآية تفيد أن الرحلة لا تبلغ إلا بشق الأنفس بالضرورة، ولا يكلفنا الله تعالى ذلك لقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:]، فتعين اشتراط الزاد والراحلة لتحقيق الاستطاعة في الحج.
- قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى البقرة: [.]
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة، سألوا الناس، فأنزل الله عز وجل: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)).
ثانياً: أنه قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم ولا مخالف لهم:
- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال في استطاعة السبيل إلى الحج: ((زاد وراحلة)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في ذلك أيضاً: ((زاد, وبعير)).
- عن أنس رضي الله عنه: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً قال: ((زاد, وراحلة)).
- عن ابن عمر قال: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً قال: ((ملء بطنه, وراحلة يركبها)).
المطلب الثاني:
اشتراط الراحلة خاص بالبعيد عن مكة الذي بينه وبينها مسافة قصر، أما القريب الذي يمكنه المشي، فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه، إلا مع عجز، كشيخ كبير لا يمكنه المشي، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
وذلك لما يلي:
- أنها مسافة قريبة، يمكنه المشي إليها، فلزمه، كالسعي إلى الجمعة.
- أنه لا تلحقهم مشقة زائدة في الأداء مشياً على الأقدام فلم تشترط الراحلة.
المطلب الثالث: الحاجات الأصلية التي يشترط أن تفضل عن الزاد والراحلة:
الحاجة الأول: نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم مدة ذهابه وإيابه.
الحاجة الثانية: ما يحتاج إليه هو وأهله من مسكن، ومما لا بد لمثله كالخادم وأثاث البيت وثيابه بقدر الاعتدال المناسب له في ذلك.
الحاجة الثالثة: قضاء الدين الذي عليه، لأن الدين من حقوق العباد، وهو من حوائجه الأصلية، فهو آكد، وسواء كان الدين لآدمي أو لحق الله تعالى كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها.
المطلب الرابع: من وجب عليه الحج وأراد أن يتزوج وليس عنده من المال إلا ما يكفي لأحدهما
من وجب عليه الحج وأراد أن يتزوج وليس عنده من المال إلا ما يكفي لأحدهما، فعلى حالين:
الحال الأولى: أن يكون في حالة توقان نفسه والخوف من الزنا، فهذا يكون الزواج في حقه مقدماً على الحج.
الحال الثانية: أن يكون في حال اعتدال الشهوة، فإنه يقدم الحج على الزواج، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، واختاره ابن تيمية، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أدلة وجوب تقديم النكاح في حال توقان الشهوة:
أولاً: اتفاق العلماء على ذلك:
نقله شيخي زادة، وابن كمال باشا , وحكاه المجد إجماعاً.
ثانياً: أن من اشتدت حاجته إلى الزواج وجبت عليه المبادرة به قبل الحج؛ لأنه في هذه الحال لا يسمى مستطيعاً.
ثالثاً: أن في التزويج تحصين النفس الواجب، ولا غنى به عنه، كنفقته، والاشتغال بالحج يفوته.
رابعاً: أن في تركه النكاح ترك أمرين: ترك الفرض، وهو النكاح الواجب، والوقوع في المحرم، وهو الزنا.
دليل تقديم الحج على النكاح في حال اعتدال الشهوة:
أن الحج واجب على الفور على من استطاع إليه سبيلاً، فيقدم على المسنون؛ لأنه لا تعارض بين واجب ومسنون.
فرع:
ليس من الحوائج الأصلية ما جرت به العادة المحدثة لرسم الهدية للأقارب والأصحاب، فلا يعذر بترك الحج لعجزه عن ذلك.
المبحث السابع: اشتراط أمن الطرق لتحقيق الاستطاعة
المطلب الأول: المراد بأمن الطريق
المقصود بأمن الطريق أن يكون الغالب في طريقه السلامة آمناً على نفسه وماله من وقت خروج الناس للحج، إلى رجوعه إلى بلده؛ لأن الاستطاعة لا تثبت دونه.
المطلب الثاني: هل أمن الطريق شرط أداء بالنفس أو شرط صحة؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه شرط وجوب, فمن استوفى شروط الحج وخاف الطريق فإنه لا يجب عليه الحج، ولا يتعلق في ذمته، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، وهو رواية عن أبي حنيفة، وأحمد.
دليل ذلك:
أن الوصول إلى البيت بدونه لا يتصور إلا بمشقة عظيمة فصار من جملة الاستطاعة.
القول الثاني: أنه شرط أداء بالنفس، فمن استوفى شروط الحج وخاف الطريق فإن الحج يتعلق في ذمته ويسقط عنه الأداء، وهذا مذهب الحنفية في الأصح، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:].
وجه الدلالة:
أن من استطاع الحج فإنه يجب عليه، فإن كان الطريق مخوفاً فإن ذلك يسقط عنه الأداء حالاً، مع تعلق وجوب الحج في ذمته لاستيفائه شروط وجوبه.
ثانياً: أن إمكان الأداء ليس شرطاً في وجوب العبادة بدليل ما لو زال المانع ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن الأداء فيه.
ثالثاً: أنه مع خوف الطريق يتعذر الأداء دون تعذر القضاء، كالمرض المرجو برؤه، أما عدم الزاد والراحلة فإنه يتعذر معه الجميع.
المبحث الثامن: اشتراط المحرم
المطلب الأول: من هو المحرم؟
مَحْرَم المرأة هو زوجها أو من يحرم عليها بالتأبيد بسبب قرابة، أو رضاع، أو صهرية، ويكون مسلماً بالغاً عاقلاً ثقة مأموناً؛ فإن المقصود من المحرم حماية المرأة وصيانتها والقيام بشأنها.
المطلب الثاني: اشتراط المحرم في حج الفريضة:
يشترط لوجوب أداء الفريضة للمرأة رفقة المحرم، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، واختاره ابن باز، وابن عثيمين، وبه صدرت فتوى اللجنة الدائمة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:].
وجه الدلالة:
أن وجود المحرم داخل في الاستطاعة التي اشترطها الله عز وجل لوجوب الحج؛ فإن المرأة لا تقدر على الركوب والنزول وحدها عادة، فتحتاج إلى من يركبها وينزلها من المحارم أو الزوج، فعند عدمهم لا تكون مستطيعة.
ثانياً: من السنة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرأة، تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة ثلاث ليال، إلا ومعها ذو محرم)) رواه مسلم.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك)) رواه البخاري، ومسلم.
ثالثاً: أن المرأة يخاف عليها من السفر وحدها الفتنة.
المطلب الثالث: اشتراط إذن الزوج في حج النفل
ليس للمرأة الإحرام نفلاً إلا بإذن زوج.
الأدلة:
أولاً: الإجماع:
أجمع أهل العلم على اشتراط إذن الزوج في جواز إحرام المرأة في النفل، نقله ابن المنذر، وابن قدامة.
ثانياً: أنه تطوع يفوت حق زوجها، فكان لزوجها منعها منه، كالاعتكاف.
ثالثاً: أن طاعة الزوج فرض عليها فيما لا معصية لله تعالى فيه, وليس في ترك الحج التطوع معصية.
المطلب الرابع: إذا وجدت المرأة محرماً في الفرض فهل يشترط إذن زوجها؟
ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض إذا استكملت شروط الحج، ووجدت محرماً، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وقولٌ للشافعية، وهو قول أكثر أهل العلم.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)) رواه البخاري، ومسلم
ثانياً: أن حق الزوج لا يقدم على فرائض العين، كالصلاة المفروضة، وصوم رمضان، فليس للزوج منع زوجته منه، لأنه فرض عين عليها.
ثالثاً: أن حق الزوج مستمر على الدوام، فلو ملك منعها في هذا العام لملكه في كل عام، فيفضي إلى إسقاط أحد أركان الإسلام.
المبحث التاسع: الشرط الثاني الخاص بالمرأة عدم العدة
يشترط لوجوب الحج على المرأة ألا تكون المرأة معتدة في مدة إمكان السير للحج، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وقال به طائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن المتوفى عنها زوجها لا يجوز لها أن تخرج من بيتها وتسافر للحج، حتى تقضي العدة، لأنها في هذه الحال غير مستطيعة، لأنه يجب عليها أن تتربص في البيت.
- قوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [الطلاق:].
وجه الدلالة:
أن الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج من بيوتهن.
ثانياً: عن سعيد بن المسيب: ((أن عمر بن الخطاب كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء، يمنعهن الحج)).
ثالثاً: أن العدة في المنزل تفوت، ولا بدل لها، والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام، فلا يفوت بالتأخير، فلا تلزم بأدائه وهي في العدة.
تمهيد: تعريف المواقيت
المواقيت في اللغة:
جمع ميقات، وهو الوقت المضروب للفعل والموضع، ثم استعير للمكان، ومنه مواقيت الحج لمواضع الإحرام يقال: هذا ميقات أهل الشام: للموضع الذي يحرمون منه.
المواقيت في الاصطلاح: زمان النسك وموضع الإحرام له.
الفصل الأول: مواقيت الحج الزمانية
المبحث الأول: أشهر الحج
اختلف أهل العلم في تحديد مواقيت الحج الزمانية على أقوال، أشهرها:
القول الأول: أن وقت الإحرام بالحج: شوال وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف، واختاره الطبري، وابن تيمية، وابن باز، واللجنة الدائمة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج، فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر)).
وجه الدلالة:
أنه نص أن يوم النحر يوم الحج الأكبر، ولا يجوز أن يكون يوم الحج الأكبر ليس من أشهره.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر، نؤذن بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان)) رواه البخاري، ومسلم.
وجه الدلالة:
أن ذلك كان امتثالاً لقوله تعالى: وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ ... [التوبة:]، وإذا كان يوم النحر هو يوم الحج الأكبر، فتعين أن يكون من أشهر الحج.
ثانياً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة)).
- عن عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((هن: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج، والعمرة يحرم بها في كل شهر)).
ثالثاً: أن يوم النحر فيه ركن الحج، وهو طواف الزيارة، وفيه كثير من أفعال الحج الواجبة، منها: رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق، والطواف، والسعي، والرجوع إلى منى، ومستبعد أن يوضع لأداء ركن العبادة وواجباتها وقت ليس وقتها، ولا هو منه.
القول الثاني: أن وقت الحج شوال وذو القعدة وشهر ذي الحجة إلى آخره، وهذا مذهب المالكية، ونُقِلَ عن الشافعي في القديم، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن حزم، والوزير ابن هبيرة، والشوكاني، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن الآية عبرت بالجمع (أشهر)، وأقل الجمع ثلاث، فلا بد من دخول ذي الحجة بكماله.
ثانياً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
عن ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت ابن عمر يسمي أشهر الحج؟ قال: نعم، كان يسمي شوالاً، وذا القعدة، وذا الحجة، وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه.
ثالثاً: أن من أيام الحج اليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واليوم الثالث عشر، يفعل فيها من أعمال الحج: الرمي، والمبيت، فكيف نخرجها من أشهر الحج وهي أوقات لأعمال الحج؟!.
رابعاً: أن طواف الإفاضة من فرائض الحج، ويجوز أن يكون في ذي الحجة كله بلا خلاف منهم; فصح أنها ثلاثة أشهر.
المبحث الثاني: الإحرام قبل أشهر الحج
اختلف أهل العلم في حكم الإحرام بالحج قبل أشهره على أقوال منها:
القول الأول: يصح الإحرام بالحج وينعقد قبل أشهر الحج، لكن مع الكراهة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة. واختيار ابن باز
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن معنى الآية: الحج (حج) أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحاً.
- قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقر:].
وجه الدلالة:
أنه متى أحرم انعقد إحرامه؛ لأنه مأمور بالإتمام.
- قوله تعالى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن الألف واللام في الأهلة للعموم، فيقتضي أن سائر الأهلة ميقات للحج.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج)).
ثالثاً: أن التوقيت ضربان: توقيت مكان وزمان، وقد ثبت أنه لو تقدم إحرامه على ميقات المكان صح، فكذا لو تقدم على ميقات الزمان.
رابعاً: أن الإحرام بالحج يصح في زمان لا يمكن إيقاع الأفعال فيه، وهو شوال، فعلم أنه لا يختص بزمان.
القول الثاني: أنه لا ينعقد إحرامه بالحج قبل أشهره، وينعقد عمرة، وهذا مذهب الشافعية، وقولٌ للمالكية، ورواية عن أحمد، وبه قال طائفةٌ من السلف، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن ظاهر الآية أن ميقات الحج في أشهره، فيجب انحصار الحج فيه، فلا يصح قبله، ولو كان يجوز الإحرام للحج في سائر شهور السنة لم يكن للآية فائدة.
ثانياً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
- عن أبي الزبير قال: ((سئل جابر: أهل بالحج في غير أشهر الحج، قال: لا)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لا يحرم بالحج إلا في أشهره، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج)).
ثالثاً: أن الإحرام نسك من مناسك الحج، فكان مؤقتاً، كالوقوف بعرفة والطواف.
رابعاً: أنه ميقات للعبادة فلا يصح قبله، كما لا تصح الصلاة قبل ميقاتها.
خامساً: أن من التزم عبادة في وقت نظيرتها انقلبت إلى النظير مثل أن يصوم نذراً في أيام رمضان، أو يصلي الفرض قبل وقته، فإنه ينقلب تطوعاً.
تمهيد
أصناف الناس باعتبار موضع الإحرام ثلاثة:
الصنف الأول: الآفاقي: من كان خارج المواقيت.
الصنف الثاني: الميقاتي: من كان بين المواقيت والحرم.
الصنف الثالث: المكي: أهل مكة أو أهل الحرم.
المبحث الأول: ميقات الآفاقي
المطلب الأول: مواقيت الآفاقي
أولاً: تعريف الآفاقي: هو من كان منزله خارج منطقة المواقيت.
ثانياً: مواقيت الآفاقي:
تتنوع مواقيت الآفاق باعتبار جهتها من الحرم، فلكل جهة ميقات معيَّن، ويرجع كلام أهل العلم في المواقيت إلى ستة مواقيت:
الميقات الأول: ذو الحُليفة: ميقات أهل المدينة، ومن مر بها من غير أهلها، وهو موضع معروف في أول طريق المدينة إلى مكة، بينه وبين المدينة نحو ستة أميال (كيلو متر تقريبا)، وبينه وبين مكة عشرة مراحل، نحو مائتي ميل تقريباً (كيلو متر تقريبا)، فهو أبعد المواقيت من مكة، وتسمى الآن (آبار علي)، ومنها أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع.
الميقات الثاني: الجُحْفة: ميقات أهل الشام، ومن جاء من قبلها من مصر، والمغرب، ومن وراءهم من أهل الأندلس ويقال لها مَهْيَعة، وهي قرية كبيرة على نحو خمس مراحل من مكة (كيلو متر تقريبا)، وعلى نحو ثمان مراحل من المدينة، سميت جحفة؛ لأن السيل جحفها في الزمن الماضي، وحَمَلَ أهلها، وهي التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقل إليها حمى المدينة، وكانت يومئذ دار اليهود، ولم يكن بها مسلم، ويقال إنه لا يدخلها أحد إلا حم، وقد اندثرت، ولا يكاد يعرفها أحد، ويحرم الحجاج الآن من (رابغ)، وهي تقع قبل الجحفة بيسير إلى جهة البحر، فالمحرم من (رابغ) محرم قبل الميقات، وقيل إن الإحرام منها أحوط لعدم التيقن بمكان الجحفة.
الميقات الثالث: قَرْن المنازل (السيل الكبير): ميقات أهل نجد، و (قرن) جبل مطل على عرفات، ويقال له قرن المبارك، بينه وبين مكة مرحلتان، نحو أربعين ميلاً (كيلو متر تقريباً)، وهو أقرب المواقيت إلى مكة، وتسمى الآن (السيل).
الميقات الرابع: يلملم: ميقات أهل اليمن وتهامة، والهند، ويلملم جبل من جبال تهامة، جنوب مكة، وتقع على مرحلتين من مكة (كيلو متر تقريباً).
الميقات الخامس: ذات عِرق: ميقات أهل العراق، وسائر أهل المشرق، وهي قرية على مرحلتين من مكة، بينهما اثنان وأربعون ميلاً، (كيلو متر تقريبا) وقد خربت.
أدلة تحديد هذه المواقيت الخمسة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن؛ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة)).
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن. قال عبدالله - يعني ابن عمر - وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويهل أهل اليمن من يلملم)).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ وهو في معرسه من ذي الحليفة في بطن الوادي، فقيل: إنك ببطحاء مباركة، قال موسى: وقد أناخ بنا سالم بالمناخ من المسجد الذي كان عبدالله ينيخ به، يتحرى معرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين القبلة، وسطاً من ذلك)).
- عن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)).
ثانياً: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك: ابن المنذر، وابن حزم، وابن عبدالبر، وابن رشد، وابن قدامة، والنووي.
الميقات السادس: العقيق:
العقيق: واد وراء ذات عرق مما يلي المشرق، عن يسار الذاهب من ناحية العراق إلى مكة، ويشرف عليها جبل عرق.
اختلف أهل العلم في الإحرام منه على قولين:
القول الأول: الاقتصار على استحباب الإحرام من ذات عرق، وهو يقع بعد العقيق، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
الأدلة:
- نصوص أحاديث المواقيت، وليس في شيء منها العقيق.
- إجماع الناس على أنهم إذا جاوزوا العقيق إلى ذات عرق أنه لا دم عليهم، ولو كان ميقاتاً لوجب الدم بتركه.
- إجماع الناس على ما فعله عمر رضي الله عنه من توقيت ذات عرق، وهو بعد العقيق.
القول الثاني: استحباب الإحرام من العقيق لأهل المشرق، وهذا مذهب الشافعية، وبعض الحنفية، وبه قال بعض السلف، واستحسنه ابن المنذر, وابن عبدالبر.
الأدلة:
أولاً: عن أنس رضي الله عنه: ((أنه كان يحرم من العقيق)).
ثانياً: أن الإحرام من العقيق فيه من الاحتياط، والسلامة من الالتباس بذات عرق؛ لأن ذات عرق قرية خربت، وحول بناؤها إلى جهة مكة، فالاحتياط الإحرام قبل موضع بنائها، فينبغي على من أتى من جهة العراق أن يتحرى ويطلب آثار القرية العتيقة، ويحرم حين ينتهي إليها، ومن علاماتها المقابر القديمة، فإذا انتهى إليها أحرم.
المطلب الثاني: الإحرام من الميقات لمن مرَّ منه قاصداً النسك:
يجب الإحرام من الميقات لمن مر منه قاصداً أحد النسكين: الحج أو العمرة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن؛ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة)).
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن. قال عبدالله - يعني ابن عمر - وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويهل أهل اليمن من يلملم)).
وجه الدلالة من هذين الحديثين:
أنه صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت، فقال: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة))، وفائدة التأقيت المنع من تأخير الإحرام عنها، وعلى ذلك جرى عمل المسلمين.
- عن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات، والأصل في دلالة الأمر الوجوب، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم تجاوزوها بغير إحرام.
ثانياً: من الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك النووي، والزيلعي.
المطلب الثالث: من سلك طريقاً ليس فيه ميقات معين، برًّا أو بحراً أو جوًّا:
من سلك طريقاً ليس فيه ميقات معين، برًّا أو بحراً أو جوًّا اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتاً من المواقيت. وذلك باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي.
الدليل:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه أهل العراق وقالوا: يا أمير المؤمنين إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل نجد قرناً، وإنها جور عن طريقنا- يعني فيها ميول وبعد عن طريقنا- فقال رضي الله عنه: ((انظروا إلى حذوها من طريقكم)).
مسألة:
من سلك طريقاً ليس فيه ميقات معين، برًّا أو بحراً أو جوًّا، فاشتبه عليه ما يحاذي المواقيت ولم يجد من يرشده إلى المحاذاة وجب عليه أن يحتاط ويحرم قبل ذلك بوقت يغلب على ظنه أنه أحرم فيه قبل المحاذاة؛ وليس له أن يؤخر الإحرام، وبهذا صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي، وبه أفتى ابن باز.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:].
وجه الدلالة:
أن الله سبحانه أوجب على عباده أن يتقوه ما استطاعوا، وهذا هو المستطاع في حق من لم يمر على نفس الميقات.
ثانياً: أن الإحرام قبل الميقات جائز مع الكراهة ومنعقد، ومع التحرى والاحتياط خوفًا من تجاوز الميقات بغير إحرام تزول الكراهة؛ لأنه لا كراهة في أداء الواجب.
المطلب الرابع: هل جدة ميقات؟
جدة ليست ميقاتاً، ولا يجوز لأحد أن يتجاوز ميقاته ويحرم من جدة، إلا أن لا يحاذي ميقاتاً قبلها فإنه يحرم منها، كمن قدم إليها عن طريق البحر من الجزء المحاذي لها من السودان؛ لأنه لا يصادف ميقاتاً قبلها، وهذا اختيار ابن باز، وابن عثيمين، وبه صدرت فتوى اللجنة الدائمة، وقرار هيئة كبار العلماء، والمجمع الفقهي الإسلامي.
الأدلة:
أولا من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها)).
وجه الدلالة:
أن الحديث دل على وجوب إحرام من مرَّ على هذه المواقيت حتى لو كان من غير أهلها، ولم يذكر جدة من بينها، وعليه فلا يجوز له تأخير الإحرام إلى جدة أو غيرها مما يلي الميقات الذي مر عليه.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لما فتح هذان المصران أي الكوفة والبصرة أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرناً شق علينا فقال: انظروا حذوها من طريقكم فحدّ لهم ذات عرق)).
وجه الدلالة:
أن الإحرام يكون في الميقات أو حذوه، وجدة ليست ميقاتاً وليست محاذية لأحد المواقيت.
ثانيا: أنه بالرغم من أن جدة كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يتخذها ميقاتاً مع أهمية موقعها وقربه، ولو كانت من المواقيت لنص عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
فرع:
من لم يحمل معه ملابس الإحرام في الطائرة، فليس له أن يؤخر إحرامه إلى جدة، بل الواجب عليه أن يحرم في السراويل، وعليه كشف رأسه، فإذا وصل إلى جدة اشترى إزاراً وخلع القميص، وعليه عن لبسه القميص كفارة، وهي إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو أرز أو غيرهما من قوت البلد أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة، وهذا قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
المطلب الخامس: حكم تجاوز الميقات للمحرم بدون إحرام
الفرع الأول: من تجاوز الميقات بغير إحرام ولم يرجع للإحرام من الميقات:
من كان مريداً لنسك الحج أو العمرة، وتجاوز الميقات بغير إحرام، فإنه يجب العود إليه، والإحرام منه، فإن لم يرجع أَثِم ووجب عليه الدم، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية والشافعية، والحنابلة، وحكى ابن عبدالبر الإجماع على ذلك.
الأدلة:
دليل وجوب الرجوع:
أنه نسك واجب أمكنه فعله، فلزمه الإتيان به كسائر الواجبات.
دليل وجوب الدم عليه:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((من ترك شيئاً من نسكه فليهرق دماً)).
مسألة:
من تجاوز الميقات بدون إحرام ليدخل مكة لعدم حمله التصريح فحجه صحيح لكنه يأثم بارتدائه المخيط، وتجب عليه الفدية، وبه قال ابن عثيمين.
الفرع الثاني: من تجاوز الميقات بغير إحرام ثم رجع إلى الميقات فأحرم منه
من تجاوز الميقات بغير إحرام ثم رجع إلى الميقات فأحرم منه، فلا دم عليه.
الأدلة:
أولا: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك الكاساني وشمس الدين ابن قدامة.
ثانياً: لأنه أحرم من الميقات الذي أُمر بالإحرام منه، فلم يلزمه شيء؛ لأنه أتى بالواجب عليه، كما لو لم يجاوزه ابتداء.
ثالثاً: لأنه لم يترك الإحرام من الميقات ولم يهتكه، فلم يجب عليه شيء.
الفرع الثالث: من أحرم بعد الميقات، ثم رجع إلى الميقات
من أحرم بعد الميقات، ثم رجع إلى الميقات؛ فإنه لا يسقط عنه الدم، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، وبه قال زفر من الحنفية، وهو قول ابن المبارك , واختيار الشنقيطي , وابن باز , وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((من ترك شيئاً من نسكه فليهرق دماً)).
ثانياً: أن الدم استقر عليه بترك واجب الإحرام من الميقات، ولا يزول هذا برجوعه، أما إذا رجع قبل إحرامه منه فإنه لم يترك الإحرام منه، ولم يهتكه.
الفرع الرابع: إذا جاوز الميقات غير مريد نسكاً ثم أراده
إذا جاوز الميقات غير مريد نسكاً، ثم أراده فإنه يحرم من موضعه، وهو مذهب المالكية، والشافعية، وبه قال ابن حجر، والشوكاني، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت: ((ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة))، وهذا أنشأ النية من دون المواقيت، فميقاته من حيث أنشأ.
ثانياً: عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أنه أحرم من الفُرْع))، والفُرْع بلاد بين ذي الحليفة وبين مكة، فتكون دون ميقات المدني، وابن عمر رضي الله عنهما مدني، وتأويله أنه خرج من المدينة إلى الفرع لحاجة، ولم يقصد مكة، ثم أراد النسك فكان ميقاته مكانه.
ثالثاً: أن من وصل إلى مكان على وجه مشروع، صار حكمه حكم أهله.
الفرع الخامس: المرور من الميقات لحاجة غير النسك:
مسألة: حكم الإحرام لمن جاوز الميقات إلى الحل لحاجة غير النسك
من جاوز الميقات لا يريد نسكاً، ولا يريد دخول الحرم فلا يجب عليه الإحرام.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
قوله عليه الصلاة والسلام: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجاً أو عمرة)).
وجه الدلالة:
أنَّ مفهوم الحديث يدل على أنَّ من لم يرد الحج والعمرة، يجوز له أن يتجاوز الميقات بغير إحرام.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن قدامة.
مسألة: حكم الإحرام لمن جاوز الميقات إلى مكة لحاجة غير النسك
من جاوز الميقات – ممن لا يجب عليه النسك - بقصد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، فإنه يستحب له الإحرام ولا يجب وهو مذهب الشافعية، والظاهرية، وهو رواية عن أحمد، وبه قال طائفة من السلف، وهو ظاهر تبويب البخاري، واختاره النووي، وابن القيم , وابن مفلح، والزركشي، والصنعاني، والشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن المواقيت: ((هنَّ لهنَّ، ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن كان يريد حجا أو عمرة)) رواه البخاري، ومسلم.
وجه الدلالة:
أنَّ مفهوم الحديث يدل على أنَّ من لم يرد الحج والعمرة، يجوز له أن يتجاوز الميقات بغير إحرام، ولو وجب بمجرد الدخول لما علقه على الإرادة.
- عن جابر رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير احرام)) رواه مسلم، وعن أنس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر)) رواه مسلم.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح حلالاً غير محرم، وكذا أصحابه، فدل على عدم لزوم الإحرام لمن دخل مكة.
ثانياً: أن الله تعالى لم يأمر قط, ولا رسوله عليه الصلاة السلام بأن لا يدخل مكة إلا بإحرام، فهو إلزام ما لم يأت في الشرع إلزامه.
ثالثاً: أنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخل مكة أو الحرم أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة.
رابعاً: أنه تحية لبقعة فلم تجب كتحية المسجد.
مسألة المرور بميقاتين:
لا يجوز لمريد النسك أن يتجاوز أول ميقات يمر عليه إلى ميقات آخر، سواء كان أقرب إلى مكة أو أبعد، مثل أن يترك أهل المدينة الإحرام من ذي الحليفة حتى يحرموا من الجحفة، أو أن يترك أهل الشام الإحرام من الجحفة إلى ذي الحليفة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية، والحنابلة، وهو قول طائفة من السلف، واختاره النووي، وابن حجر، والصنعاني، وابن عثيمين احتياطاً.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المواقيت: ((هنَّ لهنَّ، ولمن أتى عليهنَّ من غير أهلهنَّ ممن كان يريد حجا أو عمرة)) رواه البخاري، ومسلم.
وجه الدلالة:
أن الحديث يدل بعمومه على أن من مر بميقات فهو ميقاته، فالشامي مثلاً إذا أتى ذا الحليفة فهو ميقاته، يجب عليه أن يحرم منه. ولا يجوز له أن يجاوزه غير محرم.
ثانياً: أن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم، فكل من مرّ بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته، وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض.
المطلب السادس: حكم التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية:
التقدم بالإحرام قبل المواقيت المكانية جائز بالإجماع، فيما نقله ابن المنذر، والمرغيناني، والنووي، لكنه يكره، وهو مذهب المالكية، والحنابلة، واختاره ابن باز وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات، وهذا مجمع عليه، ولا يفعل إلا الأفضل، وقد حج مرة، واعتمر مراراً، وقد ترك النبي صلى الله عليه سلم الإحرام من مسجده الذي الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وأحرم من الميقات، فلا يبقى بعد هذا شك في أن الإحرام من الميقات أفضل.
ثانياً: أنه لو كان الأفضل الإحرام من قبل الميقات لكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم، ولما تواطؤوا على ترك الأفضل، واختيار الأدنى، وهم أهل التقوى والفضل، وأفضل الخلق، ولهم من الحرص على الفضائل والدرجات ما لهم.
ثالثاً: إنكار عمر وعثمان رضي الله عنهما الإحرام قبل المواقيت:
عن الحسن ((أن عمران بن الحصين أحرم من البصرة فلما قدم على عمر وقد كان بلغه ذلك أغلظ له وقال: يتحدث الناس أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من مصر من الأمصار)).
. ((أحرم عبدالله بن عامر من خراسان، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع، وكرهه له)).
خامساً: أنه تغرير بالإحرام وتعرض لفعل محظوراته، وفيه مشقة على النفس، فكره كالوصال في الصوم، قال عطاء: انظروا هذه المواقيت التي وقتت لكم، فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنباً في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك.
سادساً: القياس على كراهة الإحرام قبل أشهر الحج.
المطلب السابع: الحيض والنفاس لا يمنع من إحرام المرأة من الميقات
المرأة التي تريد الحج أو العمرة لا يجوز لها مجاوزة الميقات، بلا إحرام، حتى لو كانت حائضاً فإنها تحرم وهي حائض، وينعقد إحرامها ويصح.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: (( ... فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي)).
وجه الدلالة:
أنه أمر النفساء بالاغتسال والإحرام، ولا فرق في ذلك بينها وبين الحائض، فالنفاس أقوى من الحيض لامتداده وكثرة دمه، ففي الحيض أولى.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، والنووي، وابن رجب.
المبحث الثاني: ميقات الميقاتي
المطلب الأول: تعريف الميقاتي
هو من كان يسكن بين المواقيت والحرم كأهل جدة، وقديد، وعسفان، ومر الظهران، وبحرة، وأم السَّلَم.
المطلب الثاني: موضع إحرام الميقاتي
من كان ساكناً أو نازلاً بين المواقيت والحرم فإن ميقاته موضعه، فإن جاوزه أثم ووجب عليه الدم، فإن عاد إليه سقط الدم، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الدليل:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت: ((ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة))، وفي رواية: ((فمن كان دونهن فمن أهله)).
المبحث الثالث: ميقات المكي (الحرمي) للعمرة
المطلب الأول: تعريف المكي
المكي هو: من كان داخل الحرم عند إرادة الإحرام، سواء كان من أهلها أو عابر سبيل.
المطلب الثاني: ميقات المكي للحج
من كان منزله في مكة أو الحرم، فإنه يحرم من منزله سواء كان مستوطنا أو نازلاً.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت: ((ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة)).
وجه الدلالة:
أن نص الحديث يقتضي أن أهل مكة يحرمون منها.
- عن جابر رضي الله عنه قال: ((أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أحللنا، أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح)) رواه مسلم.
وجه الدلالة:
أن الصحابة رضي الله عنهم الذين حلوا من إحرامهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم أحرموا من الأبطح، وهو موضع بمكة.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن حزم، والقرطبي، والنووي.
الفصل الأول: تعريف الإحرام، وحكمه، والحكمة منه
المبحث الأول: تعريف الإحرام لغةً واصطلاحاً
الإحرام لغةً:
هو الدخول في الحرمة، يقال: أحرم الرجل إذا دخل في حرمة عهد أو ميثاق؛ فيمتنع عليه ما كان حلالاً له.
الإحرام اصطلاحاً:
هو نية الدخول في النسك، وهذا قول جمهور الفقهاء، من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
المبحث الثاني: حِكَم تشريع الإحرام
من حكم مشروعية الإحرام:
- استشعار تعظيم الله عز وجل
- تلبية أمره بأداء النسك الذي يريده المحرم
- استشعار إرادة تحقيق العبودية
- الامتثال لله تبارك وتعالى.
المبحث الثالث: حُكم الإحرام
الإحرام من فرائض النسك، حجًّا كان أو عمرة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنية)). أخرجه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة:
أنَّه لا يصح العمل ولا ويثبت إلا بوقوع النية، والإحرام هو نية الدخول في النسك؛ فلا يصح وقوع النسك إلا بنية وهي الإحرام.
ثانياً: الإجماع:
فقد نقل الإجماع على ذلك، ابن حزم.
المبحث الأول: الاغتسال
المطلب الأول: حكم الاغتسال للمحرم
يُسنُّ الاغتسال للإحرام، وهو باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. وحكى فيه النووي الإجماع.
الأدلة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((أتينا ذا الحليفة. فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر. فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي)) أخرجه مسلم.
وجه الدلالة:
أنه إذا كانت الحائض أو النفساء لا تنتفع من غسلها في استباحة العبادة كالصلاة، ومع ذلك أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال؛ فاغتسال المحرم الطاهر من باب أولى، وكان للسنية، وليس للوجوب؛ لأن الأصل هو براءة الذمة، حتى يثبت الوجوب بأمرٍ لا مدفع فيه.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((إن من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم، وإذا أراد أن يدخل مكة)).
المطلب الثاني: حكم اغتسال الحائض والنفساء
يُسنُّ للحائض والنفساء الغسل للإحرام، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: (( ... فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة. فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر. فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي)) أخرجه مسلم.
وجه الدلالة:
أن قوله: ((اغتسلي))، أمرٌ لها بأن تغتسل مع أنها نفساء لا تستبيح باغتسالها هذا الصلاة، ولا غيرها مما تُشترَط له الطهارة.
ثانياً: أنه غسلٌ يُراد به النسك؛ فاستوى فيه الحائض والطاهرة.
المطلب الثالث: استحباب تلبيد الرأس
يستحب للمحرمُ بعد غسل الإحرام أن يلبد رأسه، وذلك لمن يطول مكثه في أعمال الحج، وهذا مذهب الشافعية، وقول للحنفية، وقول للمالكية، واختاره المباركفوري. وحكى النووي فيه الإجماع.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عمر قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا)) رواه البخاري، ومسلم
فيه استحباب تلبيد الرأس قبل الإحرام.
. وعن حفصة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع قالت: فقلت: ما يمنعك أن تحل؟ فقال: إنى لبدت رأسي، وقلدت هديى، فلا أحل حتى انحر هديى)) رواه البخاري، ومسلم.
فيه دليل على استحباب تلبيد شعر الرأس عند الإحرام.
. عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذى خر من بعيره ميتاً: ((اغسلوه بماء سدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبدا)).
فيه استحباب التلبيد، وتقليد الهدى
ثانياً: أن ذلك أرفق به، لكونه يسكن شعره، ويجمعه، فلا يتولد فيه القمل، ولا يقع فيه الدبيب، ولا يتخلله الغبار، ولا يتشعث، ولا ينتفش في مدة الاحرام.
المبحث الثاني: الإحرام في إزار ورداء
يستحب الإحرام في إزار ورداء.
الدليل:
الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك النووي، وابن تيمية.
مسألة: إذا لم يجد المحرم إزاراً أو لم يجد نعلاً
إن لم يجد المحرم إزاراً، لبس السراويل، وإن لم يجد نعلين، لبس الخفين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات، يقول: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل)).
. عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن رجلاً سأللأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يلبس المحرم؟ فقال: لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوباً مسه الزعفران، ولا ورس، فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين)).
. عن جابر رضي الله عنهما قال: ((من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل)) رواه مسلم.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن قدامة.
المبحث الثالث: التطيب
المطلب الأول: حكم الطيب قبل الإحرام
التطيب في البدن لا في الثياب، مسنونٌ قبل الدخول في الإحرام؛ استعداداً له، ولو بقي جرمه بعد الإحرام، وهو مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)).
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم)).
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنا نضمِّخ وجوهنا بالمسك المطيَّب قبل أن نحرم، ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا)).
ثانياً: أن الطيب معنىً يراد للاستدامة فلم يمنع الإحرام من استدامته كالنكاح.
ثالثاً: أن المقصود من استنانه حصول الارتفاق به حالة المنع منه كالسحور للصوم.
المطلب الثاني: التطيب في ثوب الإحرام
يمنع المحرم من تطييب ثوبه قبل الإحرام وبعده، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وقول للشافعية، وقولٌ للحنابلة اختاره الآجري، وصححه ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المحرم: ((لا يلبس ثوباً مسه ورس ولا زعفران)).
ثانياً: أن الطيب يبقى في الثوب ولا يستهلك بخلاف البَدَن، فلا يقاس عليه.
المبحث الرابع: الإحرام عقب صلاة
اختلف أهل العلم فيها على قولين:
القول الأول: تُسن صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وقد حكى النووي الإجماع على ذلك.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما ((أنه كان يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ركعتين ثم يركب، فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
القول الثاني: ليس للإحرام صلاة تخصه، فإن كان في وقت فريضة استحب أن يحرم عقيب الصلاة المكتوبة، وهو روايةٌ عن أحمد، واختيار ابن تيمية، والألباني وابن عثيمين وزاد: أو عقب صلاة مشروعة من عادته أنه يصليها.
الدليل:
أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة خاصة بالإحرام، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عقب الفريضة.
المبحث الخامس: التلبية
المطلب الأول: تعريف التلبية
التلبية لغةً:
إجابة المنادي، وتطلق على الإقامة على الطاعة.
التلبية اصطلاحاً:
هي قول المحرم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
المطلب الثاني: حكم التلبية
التلبية سنةٌ في الإحرام، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وقول ابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. لا يزيد على هؤلاء الكلمات. وإن عبدالله بن عمر رضى الله عنهما كان يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد الحليفة، أهلَّ بهؤلاء الكلمات)) أخرجه مسلم.
- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال بجمع: ((سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة، ههنا يقول: لبيك اللهم لبيك ... )). أخرجه مسلم ..
وجه الدلالة من الحديثين:
أن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفيد الاستحباب.
ثانيا: لأن التلبية ذكر فلم تجب في الحج والعمرة كسائر الأذكار فيهما.
المطلب الثالث: رفع الصوت بالتلبية
يُسنُّ للرجل أن يرفع صوته بالتلبية. حكى النووي الإجماع على ذلك.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن السائب بن خلاد الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو قال بالتلبية يريد أحدهما)).
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصرخ بالحج صراخاً)) أخرجه مسلم.
المطلب الرابع: كيفية تلبية المرأة
المرأة لا ترفع صوتها، وإنما تلبي سرًّا بالقدر الذي تُسمِع به نفسها. ذهب إلى ذلك جماهير أهل العلم وحكاه ابن عبدالبر إجماعا.
وذلك لما يُخشى من رفع صوتها من الفتنة.
المطلب الخامس: وقت التلبية
الفرع الأول: ابتداء وقت التلبية
يستحب أن يبتدئ المحرم بالتلبية، إذا ركب دابته وابتدأ السير وهو مذهب المالكية، والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة، وهو اختيار الشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
من السنة:
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب راحلته واستوت به أهلَّ)).
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب راحلته بذي الحليفة، ثم يهل حين تستوي به قائمة)).
- عن سالم بن عبدالله أنه سمع أباه يقول: ((ما أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره)).
- عن نافع قال: ((كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أراد الخروج إلى مكة ادَّهن بدهنٍ، ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد الحليفة، فيصلي ثم يركب، وإذا استوت به راحلته قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل)).
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته)) ..
قال النووي: هذه أحاديث صحيحة قاطعة بترجح الإحرام عند ابتداء السير.
الفرع الثاني: انتهاء وقت التلبية في الحج:
تنتهي التلبية في الحج عند ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النحر، ولا فرق في ذلك بين المفرد، والقارن، والمتمتع، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل، فأخبر الفضل: أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة)).
وجه الدلالة:
أن الحديث نص في انتهاء التلبية عند رمي جمرة العقبة، وقد جاء من رواية الفضل بن العباس رضي الله عنهما، وقد كان رديفه يومئذ، وهو أعلم بحاله من غيره.
- عن عبدالله بن سخبرة , قال: ((لبى عبدالله وهو متوجه إلى عرفات، فقال أناس: من هذا الأعرابي، فالتفت إلي عبدالله، فقال: أضل الناس أم نسوا؟ والله ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى الجمرة إلا أن يخلط ذلك بتهليل أو بتكبير)).
ثانياً: أن التلبية للإحرام، فإذا رمى فقد شرع في التحلل، فلا معنى للتلبية.
المبحث الأول: أحكام الأنساك الثلاثة
المطلب الأول: أنواع الأنساك الثلاثة
النوع الأول: الإفراد: وهو أن يحرم بالحج مفرداً.
النوع الثاني: القران: وهو أن يحرم بالعمرة والحج معاً في نسك واحد.
النوع الثالث: التمتع: وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يحل منها، ثم يحرم بالحج من عامه.
المطلب الثاني: جواز الأنساك الثلاثة
يجوز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة: الإفراد، أو القران، أوالتمتع، وكلها شريعة صحيحة، وسنة ثابتة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة، فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة، فليهل)) قالت عائشة رضي الله عنها: ((فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة))، وفي رواية: ((منا من أهل بالحج مفرداً، ومنا من قرن، ومنا من تمتع))
وجه الدلالة:
أنها ذكرت إحرام الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم على أحد هذه الأنساك الثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على جواز الأنساك الثلاثة: الماوردي، وابن عبدالبر، والبغوي، وابن هبيرة، وابنُ قدامة، والقرطبي، والنوويُّ، وابن باز، وأثبت آخرون الخلاف في المسألة.
المطلب الثالث: نسك النبي صلى الله عليه وسلم:
النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم هو القران، وهذا مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المنصوص عنه، وهو قول أئمة الحديث، كإسحاق بن راهويه، وابن المنذر، واختاره ابن حزم، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر، والكمال ابن الهمام، والشوكاني، والشنقيطي
وابن باز وابن عثيمين.
الأدلة:
الدليل الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة))
وجه الدلالة:
أنه أمر أن يهل بعمرة في حج، وهذا إهلال القران، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً.
الدليل الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج))
وجه الدلالة:
أن المراد بالتمتع هنا القران، فالصحابة كانوا يطلقون التمتع ويريدون به القران، ويدل له هنا أن ابن عمر رضي الله عنهما بيَّن إثر هذا الكلام صفة عمل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه عليه السلام بدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فذكر صفة القران.
الدليل الثالث: فعل ابن عمر رضي الله عنهما وأنه قَرَن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافا واحدا، ثم قال: ((هكذا فَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم))
الدليل الرابع: عن حفصة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: ((ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أحل من الحج)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّها على كونه معتمراً، وأخبرها أنه ساق الهدي، وأنه لن يحل من عمرته حتى يحل من الحج يوم النحر، وهذه صفة القران.
الدليل الخامس: عن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: ((يلبي بالحج والعمرة جميعاً)) قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر، فقال: ((لبى بالحج وحده))، فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر، فقال أنس: ما تعدوننا إلا صبياناً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لبيك عمرة وحجاً)).
المطلب الرابع: أفضل الأنساك
التمتع أفضل الأنساك الثلاثة لمن لم يسق الهدي، وهو مذهب الحنابلة، وأحد قولي الشافعي، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن حزم، وابن قدامة، والشوكاني، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى دون سائر الأنساك.
ثانياً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما: ((أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ساق الهدي معه، وقد أهلوا بالحج مفرداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحلوا من إحرامكم، فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصروا، وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة، قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما آمركم به، فإني لولا أني سقت الهدي، لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ولكن لا يحل مني حرام، حتى يبلغ الهدي محله. ففعلوا)).
- عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولحللت مع الناس حين حلوا)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي)).
وجه الدلالة من هذه النصوص من وجهين:
الوجه الأول: أنه قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة، أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينقلهم من الفاضل إلى المفضول، بل إنما يأمرهم بما هو أفضل لهم.
الوجه الثاني: أنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا أن التمتع هو الأفضل لما تأسف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولما تمنى أنه لم يسق الهدي حتى يحل مع الناس متمتعاً.
- عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: ((أنزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات، قال: رجل برأيه ما شاء)).
- عن أبي نضرة، قال: ((كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبدالله، فقال: على يدي دار الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله، فـ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [البقرة:]، كما أمركم الله)).
ثالثاً: أن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج، مع كمالها وكمال أفعالها على وجه اليسر والسهولة، مع زيادة لنسك هو الدم، فكان ذلك هو الأولى.
رابعاً: أنه أسهل على المكلف غالباً لما فيه من التحلل بين العمرة والحج.
المطلب الخامس: تعيين أحد الأنساك
يستحب أن يُعيِّن ما يحرم به من الأنساك عند أول إهلاله، نص على هذا جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية في الأصح، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِرَ أن يُعيِّن نسكه.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أصحابه بالاحرام بنسك معين فقال: ((من شاء منكم أن يهل بالحج أو عمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل)).
ثانياً: أن التعيين هو الأصل في العبادات.
ثالثاً: أن بتعيين النسك يعرف المحرم ما يدخل عليه، وهو أقرب إلى الإخلاص.
المطلب السادس: الإحرام المبهم
إذا أحرم ولم يعيِّن نسكه فإنه ينعقد إحرامه، ويصرفه إلى ما شاء من أنواع النسك قبل شروعه في أفعال النسك، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((قدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بسعايته، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: بم أهللت يا علي؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأهد، وامكث حراماً كما أنت)).
- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: أحججت؟، فقلت: نعم، فقال: بم أهللت؟، قال قلت: لبيك، بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة، وأحل)).
ثانياً: أنه صح الإهلال مبهما لتأكد الإحرام، وكونه لا يخرج منه بمحظوراته.
ثالثاً: أن هذا مثل ابتداء الإحرم بالنية مطلقاً، ثم تعيينه باللفظ بأي أنواع النسك شاء.
المطلب السابع: من لبى بغير ما نوى
من لبى بغير ما نوى، كأن ينوي القران، ويجري على لسانه الإفراد، ونحو ذلك فإنه يكون مُحْرِماً بما نوى، لا بما جرى على لسانه.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
ثانياً: الإجماع:
نقله ابن المنذر.
ثالثاً: أن الواجب النية، وعليها الاعتماد، واللفظ لا عبرة به، فلم يؤثر، كما لا يؤثر اختلاف النية فيما يعتبر له اللفظ دون النية.
المطلب الثامن: نسيان ما أحرم به
مَنْ أحرم بشيء معين، ثم نسي ما أحرم به فإنه يلزمه حج وعمرة، ويعمل عمل القارن، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية.
الأدلة:
أولاً: أنه تلبس بالإحرام يقيناً فلا يتحلل إلا بيقين الإتيان بالمشروع فيه.
ثانياً: أنه أحوط لاشتماله على النسكين، فيتحقق بالإتيان بالنسكين الخروج عما شرع فيه، فتبرأ ذمته.
المطلب التاسع: الإحرام بما أحرم به فلان:
من نوى الإحرام بما أحرم به فلان انعقد إحرامه بمثله، فإن كان لا يعلم ما أحرم به فإنه يقع مطلقاً ويصرفه إلى ما يشاء، نص على هذا جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((قدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بسعايته، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: بم أهللت يا علي؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأهد، وامكث حراماً كما أنت)).
) عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: أحججت؟، فقلت: نعم، فقال: بم أهللت؟، قال قلت: لبيك، بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة، وأحل)).
المبحث الثاني: الإفراد في الحج
الإفراد بالحج أن يحرم بالحج مفرداً، فيقول: «لبيك اللهم حجاً»، ثم يمضي في عمل حجه حتى يتمه، فليس عليه إلا طواف واحد، وهو طواف الإفاضة، وليس عليه إلا سعي واحد، وهو سعي الحج، ولا يحل إلا يوم النحر، وليس عليه دم، وإن كان يستحب له ذلك.
المبحث الثالث: القران في الحج
المطلب الأول: تعريف القران
أن يحرم بالعمرة والحج معاً في نسك واحد، فيقول: لبيك اللهم عمرة في حجة.
المطلب الثاني: إطلاق التمتع على القران
يطلق التمتع على القران في عرف السلف، قرر ذلك ابن عبدالبر، والنووي، وابن تيمية، وابن حجر، والكمال ابن الهمام، والشنقيطي، وغيرهم.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله عز وجل: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن القارن متمتع بجمع النسكين في نسك واحد، ومتمتع بسقوط أحد السفرين عنه، فلم يحرم لكل نسك من ميقاته، فيدخل بذلك في عموم الآية في مسمى التمتع.
ثانياً: أن إطلاق الصحابة رضي الله عنهم التمتع على نسك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان نسكه القران:
. عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: ((تمتع نبي الله وتمتعنا معه)).
. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج)).
. عن سعيد بن المسيب قال: ((اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة، فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعاً)).
ثالثاَ: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((إنما جعل القران لأهل الآفاق وتلا: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:]، فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع ومن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقرن أو تمتع فعليه دم)).
وجه الدلالة:
أنه أدرج القران في مسمى التمتع في الآية، وذلك بلزوم الدم إن كان من أهل الآفاق، وعدم لزومه إن كان من حاضري المسجد الحرام.
رابعاً: أن كلا النسكين فيه تمتع لغة ; لأن التمتع من المتاع أو المتعة، وهو الانتفاع أو النفع، وكل من القارن والمتمتع، انتفع بإسقاط أحد السفرين وانتفع القارن باندراج أعمال العمرة في الحج.
المطلب الثالث: صور القران:
للقران ثلاث صور:
الصورة الأولى: صورة القران الأصلية:
أن يحرم بالعمرة والحج معا، فيجمع بينهما في إحرامه، فيقول: لبيك عمرة وحجا، أو لبيك حجا وعمرة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
. أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل -عليه السلام- وقال: ((صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة، أو قال: عمرة وحجة)).
. عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ((فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، ومنا من أهل بحج وعمرة)).
ثانياً: هذه الصورة هي نسك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف بين الفقهاء في صحتها، وإنما اختلفوا في المفاضلة بينها وبين غيرها من أنواع النسك، وقد نقل الإجماع على جوازها ابن عبدالبر، والمباركفوري.
الصورة الثانية: إدخال الحج على العمرة:
أن يحرم بالعمرة، ثم يُدخِل عليها الحج قبل الشروع في الطواف، وهذا جائز مطلقاً، وقد يضطر إلى ذلك بسبب عدم قدرته على إتمام نسك العمرة قبل دخول الحج، أو من أتاها الحيض قبل أن تطوف.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عائشة قالت: ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟. قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نفست؟. قلت: نعم. قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جوَّز لعائشة رضي الله عنها إدخال الحج على العمرة.
ثانياً: عن نافع: ((أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير، فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال، وإنا نخاف أن يصدوك. فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:] إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة. ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت حجاً مع عمرتي. وأهدى هدياً اشتراه بقديد ولم يزد على ذلك، فلم ينحر، ولم يحل من شيء حرم منه، ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر، فنحر وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
رابعاً: الإجماع:
نقل الإجماع على جواز إدخال الحج على العمرة: ابن المنذر، وابن عبدالبر، وابن قدامة، وابن أخيه ابن أبي عمر، والقرطبي، والرملي، ووصف ابن عبدالبر والنووي القول بعدم الصحة أنه شذوذ.
مسألة:
يشترط في إدخال الحج على العمرة أن يكون قبل الطواف، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وهو قول أشهب من المالكية، وبه قال أبو ثور، واختاره ابن عبدالبر.
دليل ذلك:
أنه إذا طاف فيكون حينئذ قد اشتغل بمعظم أعمال العمرة، وشرع في سبب التحلل، ففات بذلك إدخال الحج على العمرة.
الصورة الثالثة: إدخال العمرة على الحج
اختلف أهل العلم في حكم إدخال العمرة على الحج، وذلك بأن يحرم بالحج مفرداً، ثم يدخل عليها العمرة ليكون قارناً، وذلك على قولين:
القول الأول: لا يصح إدخال العمرة على الحج، فإن فعل لم يلزمه، ويتمادى على حجه مفرداً، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية في الأصح، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف، وابن المنذر، واختاره المباركفوري.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما: ((أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ساق الهدي معه، وقد أهلوا بالحج مفرداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحلوا من إحرامكم، فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصروا، وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة)).
وجه الدلالة:
أن أمرهم بفسخ الحج إلى عمرة إنما كان بغرض إعلامهم بجواز العمرة في أشهر الحج لإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية من عدم الجواز، فلو كان يجوز إدخال العمرة على الحج لأمرهم بذلك، ولما احتاج أن يأمرهم بفسخ الحج.
ثانياً: أن أفعال العمرة من الطواف والسعي والحلق استحقت بالإحرام بالحج، فلم يبق في إدخال الإحرام بها فائدة بخلاف العكس من إدخال الحج على العمرة، فإنه يستفيد به الوقوف والرمي والمبيت.
رابعاً: أن التداخل على خلاف الأصل، ولا يصار إليه إلا بدليل، لاسيما أن فيه إدخال الأصغر على الأكبر، وهو لا يصح.
خامساً: أن العمرة أضعف من الحج، فلم يجز أن تزاحم ما هو أقوى منها بالدخول عليها، وجاز للحج مزاحمتها لأنه أقوى منها.
القول الثاني: يجوز إدخال العمرة على الحج، ويكون قارناً، وهذا مذهب الحنفية، وهو قول الشافعي القديم، واللخمي من المالكية، وبه قال عطاء، والأوزاعي، وقواه ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها: ((أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، ثم جاءه جبريل عليه السلام، وقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة، أو عمرة وحجة)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِرَ أن يُدخل العمرة على الحج، وهذا يدل على جواز إدخال العمرة على الحج.
ثانياً: عن سراقة بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)).
ثالثاً: أنه يستفيد بذلك أن يأتي بنسكين بدل نسك واحد.
رابعاً: قياساً على إدخال الحج على العمرة؛ لأنه أحد النسكين.
المطلب الرابع: أعمال القارن
الفرع الأول: أعمال القارن
عمل القارن والمفرد واحد، فالقارن يكفيه إحرام واحد، وطواف واحد، وسعي واحد، ولا يحل إلا يوم النحر، ويقتصر على أفعال الحج، وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحج، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال أكثر السلف، واختاره ابن عبدالبر، وابن حجر، والشنقيطي، والمباركفوري وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا)).
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً)).
وجه الدلالة:
أن الحديث نص صريح على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته.
- عن عائشة رضي الله عنها: أنها أهلت بعمرة، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، فنسكت المناسك كلها، وقد أهلت بالحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((يسعك طوافك لحجك وعمرتك)).
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد.
- عن جابر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((دخلت العمرة في الحج، مرتين)).
وجه الدلالة:
أن تصريحه صلى الله عليه وسلم بدخولها فيه يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران.
ثانياً: الآثار:
- عن سلمة بن كهيل قال: ((حلف طاوس: ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافاً واحداً)).
- عن نافع: ((أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف إن يصدوك، فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:] إذًا أصنع كما صنع رسول الله عليه وسلم، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي وأهدى هديًا اشتراه بقديد، ولم يزد على ذلك فلم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول. وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم))
وجه الدلالة:
أن في هذه الرواية التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد، وهو الذي طافه يوم النحر للإفاضة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((من قرن بين حجه وعمرته أجزأه لهما طواف واحد))، وفي لفظ: ((من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما حتى يحل منهما)).
الفرع الثاني: وجوب الهدي على القارن:
يجب الهدي على القارن، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال أكثر الفقهاء.
الأدلة:
أولاً: أن القارن داخل في مسمى التمتع في عرف الصحابة رضي الله عنهم، ويدل على ذلك ما يلي:
- عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: ((تمتع نبي الله وتمتعنا معه)).
وجه الدلالة:
أنه وصف نسكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالتمتع مع كونه صلى الله عليه وسلم كان قارناً.
- عن سعيد بن المسيب، قال: ((اختلف علي وعثمان رضي الله عنهما وهما بعسفان في المتعة، فقال علي: ما تريد إلا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعاً)).
ثالثا: أن الهدي إذا كان واجباً على المتمتع؛ لأنه تمتع بسقوط سفره الثاني من بلده، فلأن يجب على القارن أولى؛ لأنه جمع بين النسكين في إحرام واحد، وقد اندرجت جميع أفعال العمرة في أفعال الحج ..
رابعاً: أن إيجاب الهدي على القارن هو إجماع من يعتد به من أهل العلم، نقله الشنقيطي، ووصف ابن حجر قول ابن حزم بعدم الوجوب بالشذوذ.
المبحث الرابع: التمتع في الحج
المطلب الأول: تعريف التمتع
التمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يحل منها، ثم يحرم بالحج من عامه.
المطلب الثاني: سبب تسمية النسك بالتمتع
السبب الأول: أن المتمتع يتمتع بإسقاط أحد السفرين عنه، فشأن كل واحد من النسكين أن يحرم به من الميقات، وأن يرحل إليه من قطره، فإذا تمتع بالنسكين في سفرة واحدة، فإنه يكون قد سقط أحدهما، فجعل الشرعُ الدمَ جابراً لما فاته، ولذلك وجب الدم أيضاً على القارن، وكل يوصف بالتمتع في عرف الصحابة لهذا المعنى، ولذلك أيضاً لم يجب الدم على المكي متمتعاً كان أو قارناً؛ لأنه ليس من شأنه الميقات ولا السفر.
السبب الثاني: أن المتمتع يتمتع بين العمرة والحج بالنساء والطيب، وبكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت الحج، وهذا يدل عليه الغاية في قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:]، فإن ذلك يدل على أن ثمة تمتعا بين العمرة والحج، ويدل عليه أيضاً لفظ التمتع فإنه في اللغة بمعنى التلذذ والانتفاع بالشيء.
السبب الثالث: أن التمتع سُمِّي بذلك لانتفاعه بالتقرب إلى الله تعالى بالعبادتين.
السبب الرابع: أن التمتع سمي بذلك لتمتعه بالحياة حتى أدرك إحرام الحجة.
والسببان الأولان: هما المشهوران عند أهل العلم.
المطلب الثالث: صور التمتع
التمتع له صورتان:
الصورة الأصلية:
أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم يحرم بالحج بعد فراغه من العمرة، وهذه الصورة صحيحة بالإجماع، ونقله ابن المنذر، وابن عبدالبر، والقرطبي.
الصورة الطارئة: فسخ الحج إلى عمرة
أن يحرم بالحج، ثم قبل طوافه، يفسخ حجه إلى عمرة، فإذا فرغ من العمرة وحل منها، أحرم بالحج، وهذه الصورة تصح عند الحنابلة، والظاهرية، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن تيمية، وابن القيم، والشنقيطي، وابن باز، ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفى الأثر، وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل قال: الحل كله)).
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((اجعلوها عمرة، فأحل الناس إلا من كان معه الهدي)).
عن جابر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين لا، بل لأبد أبد)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن هذه العمرة التي وقع السؤال عنها، وكانت عمرة فسخ، هي لأبد الأبد، لا تختص بقرن دون قرن.
ثانياً: أن فسخ الحج إلى عمرة ليتمتع بها، هو من باب الانتقال من الأدنى من الأعلى، وهو جائز، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يصلي ركعتين في بيت المقدس أن يصليها في الحرم، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، ((أن رجلا، قام يوم الفتح، فقال: يا رسول الله، إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: صل هاهنا، ثم أعاد عليه، فقال: صل هاهنا، ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذن)).
مسألة:
لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز فسخ الحج إلى عمرة مفردة لا يأتي بعدها بالحج.
المطلب الرابع: شروط المتمتع
الفرع الأول: ما يشترط للتمتع
الشرط الأول: الإحرام بالعمرة في أشهر الحج
يشترط للتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
الأدلة:
أولاً: الإجماع:
نقله ابن حزم، وابن عبدالبر، وابن قدامة، وابن أخيه ابن أبي عمر.
ثانياً: أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة؛ لأن العمرة جائزة في السنة كلها والحج إنما موضعه شهور معلومة، فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج ولم يأت في ذلك العام بحج فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به.
ثالثاً: أنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فلم تحصل صورة التمتع، فهو كالمفرد.
الشرط الثاني: أن يحج من عامه
أن يحرم بالحج في عامه، فإن اعتمر في أشهر الحج فلم يحج ذلك العام، بل حج في العام القابل فليس بمتمتع.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن هذا يقتضي الموالاة بين العمرة والحج.
ثانياً: عن سعيد ابن المسيب قال: ((كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج، فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا)).
ثالثاً: الإجماع:
نقله ابن حزم، وابن قدامة، ووصف القول بسواه أنه شذوذ.
رابعاً: أن الدم إنما يجب لترك الإحرام بالحج من الميقات، وهذا لم يترك الإحرام بالحج من الميقات، فإنه إن أقام بمكة صارت مكة ميقاته، وإن رجع إلى بلده وعاد فقد أحرم من الميقات.
خامساً: أنهم إذا أجمعوا على أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج من عامه فليس بمتمتع، فهذا أولى؛ لأن التباعد بينهما أكثر.
الشرط الثالث: عدم السفر
يشترط للتمتع أن لا يسافر بين العمرة والحج، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف، وهو قول عامة أهل العلم.
الأدلة:
أولاً: قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنه لا فرق بين حاضري المسجد الحرام في عدم وجوب الدم عليهم، وبين الآفاقيين في وجوب الدم عليهم، إلا أن الآفاقيين ترفهوا بإسقاط أحد السفرين عنهم، وإذا كان الأمر كذلك فإذا سافروا بين الحج والعمرة فلا يكونون قد ترفهوا بترك أحد السفرين، فزال عنهم اسم التمتع وسببه.
ثانياً: عن عمر رضي الله عنهما قال: ((إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع فإن خرج ورجع فليس بمتمتع))، وعن ابن عمر نحو ذلك.
الشرط الرابع: أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج:
أن يفرغ من العمرة بالطواف والسعي والتقصير، قبل إحرامه بالحج، فإن أدخل الحج على العمرة قبل حله منها، فإنه يصير قارناً.
الأدلة:
أولاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة، قالت: ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبدالرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال: هذه عمرة مكان عمرتك)).
وجه الدلالة:
أن عائشة رضي الله عنها لم تتمكن من الفراغ من العمرة قبل الحج بسبب حيضها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعُدَّ عمرتها في حجها، لتكون بذلك قارنة، فدل ذلك على أن شرط التمتع الفراغ من العمرة قبل الدخول في الحج.
ثانياً: أن صورة التمتع لا تتحقق إلا بالحل بين العمرة والحج، فإذا أدخل أعمال الحج قبل الفراغ من العمرة كان ذلك قراناً بإجماع أهل العلم.
الشرط الخامس: نية المتمتع في ابتداء العمرة أو في أثنائها.
اختلف أهل العلم في اشتراط نية المتمتع في ابتداء العمرة أو في أثنائها على قولين:
القول الأول: لا تشترط نية التمتع، وهو مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية في الأصح، واختاره ابن قدامة، والشنقيطي.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ [البقرة:].
وجه الدلالة:
عموم الآية، فإنه لم يشترط فيها نية التمتع، وتخصيصه بها هو تخصيص للقرآن بغير دليل.
ثانياً: أنه لا يحتاج إلى النية؛ لأن الدم يتعلق بترك الإحرام بالحج من الميقات، وذلك يوجد من غير نية.
القول الثاني: يشترط نية التمتع، وهذا مذهب الحنابلة، ووجهٌ للشافعية، واختاره ابن عثيمين.
دليل ذلك:
أنه جمع بين عبادتين في وقت إحداهما، فافتقر إلى نية الجمع كالجمع بين الصلاتين.
الفرع الثاني: ما لا يشترط للتمتع
المسألة الأولى: لا يشترط كون الحج والعمرة عن شخص واحد
لا يشترط كون الحج والعمرة عن شخص واحد، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنه عموم، وليس فيه اشتراط كون النسكين عن شخص واحد
ثانياً: أن مؤدِّي النسكين شخص واحد.
المسألة الثانية: لا يشترط للتمتع ألا يكون من حاضري المسجد الحرام
لحاضري المسجد الحرام التمتع والقرآن، مثلهم مثل الآفاقي، لكن يسقط عنهم الدم، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، واختاره الشنقيطي، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن الآية أثبتت التمتع لحاضري المسجد الحرام، وإنما نفت وجوب الدم عليهم.
ثانياً: أن حقيقة التمتع والقران موجودة في حاضري المسجد الحرام، كالآفاقين، ولا فرق، وإنما يقع الخلاف بينهم في وجوب الدم على الآفاقين دون حاضري المسجد الحرام، بسبب ما حصل للآفاقيين من الترفه بسقوط أحد السفرين عنهم.
ثالثاً: أن ما كان من النسك قربة وطاعة في حق غير حاضري المسجد الحرام كان قربة وطاعة في حق حاضري المسجد الحرام، كالإفراد.
المسألة الثانية: من هم حاضرو المسجد الحرام؟
اختلف الفقهاء في حاضري المسجد الحرام الذين لا يجب عليهم دم التمتع والقران إلى أقوال منها:
القول الأول: حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحرم ومن كان من الحرم دون مسافة القصر، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره الطبري.
الأدلة:
أولاً: لأن الشارع حد الحاضر بدون مسافة القصر، بنفي أحكام المسافرين عنه، فالاعتبار به أولى من الاعتبار بالنسك؛ لوجود لفظ الحضور في الآية.
ثانياً: أن حاضر الشيء من دنا منه، ومن دون مسافة القصر قريب في حكم الحاضر؛ بدليل أنه إذا قصده لا يترخص رخص السفر، فيكون من حاضريه.
القول الثاني: هم أهل الحرم، وهو قول طائفة من السلف وقدمه صاحب الفروع واستظهره ابن حجر، وأفتت به اللجنة الدائمة واختاره ابن عثيمين.
الدليل من أقوال الصحابة:
قال ابن عباس حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:] هم: أهل الحرم.
المطلب الخامس: أعمال المتمتع
الفرع الأول: طواف المتمتع وسعيه
يجب على المتمتع طوافان وسعيان، فيبدأ أولاً بعمرة تامة: فيطوف ويسعى، ثم يحلق أو يقصر، ويتحلل منها، ثم يحرم بالحج، ويأتي بطواف للحج وسعي له، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف. وحكى ابن رشد الإجماع على أن المتمتع عليه طوافان: طواف لعمرته، وطواف لحجه.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا)).
وجه الدلالة:
أنه يدل على الفرق بين القارن والمتمتع، وأن القارن يفعل كفعل المفرد والمتمتع يطوف لعمرته ويطوف لحجه.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي)).
وفيه أن طواف المتمتع وسعيه مرتان: مرة لعمرته، ومرة لحجه.
الفرع الثاني: الهدي
يجب على المتمتع دم نسك إذا لم يكن من حاضري المسجد الحرام، فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن ابن رضي الله عنهما قال: ((تمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس، من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة, وليقصر, ثم ليهل بالحج ويهدي, فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)).
ثالثاً: عن أبي حمزة قال: ((سألت ابن عباس عن المتعة، فأمرني بها، وسألته عن الهدي: فقال: فيها جزور، أو بقرة، أو شرك في دم)).
رابعاً: الإجماع:
يجب الدم على المتمتع بالإجماع: نقله ابن المنذر، وابن رشد، والقرطبي، وابن قدامة وابن مفلح. والشوكاني.
خامساً: أن حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة، ولا يحصل له الترفه بترك أحد السفرين، فهو أحرم من ميقاته، فأشبه المفرد.
المبحث الخامس الاشتراط في الحج والعمرة
المطلب الأول حكم الاشتراط في الحج والعمرة
يصح الاشتراط في الحج والعمرة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، والظاهرية، وبه قال طائفة من السلف، واختاره البيهقي، وابن قدامة، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)) أخرجه البخاري ومسلم.
ثانياً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
- عن سويد بن غَفَلة، قال: ((قال لي عمر ابن الخطاب: يا أبا أمية حج واشترط فإن لك ما اشترطت ولله عليك ما اشترطت)).
- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((حج واشترط وقل: اللهم الحج أردت ولك عمدت فإن تيسر وإلا فعمرة)).
- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة: ((هل تستثني إذا حججت؟ فقال: ماذا أقول قالت: قل: اللهم الحج أردت وله عمدت فإن يسرته فهو الحج وإن حبسني حابس فهو عمرة)).
ثالثاً: أنه لو نذر صوم يوم أو أيام بشرط أن يخرج منه بعذر صح الشرط وجاز الخروج منه بذلك العذر بلا خلاف، فكذا الاشتراط في النسك.
رابعا: أن للشرط تأثيراً في العبادات بدليل قوله: إن شفى الله مريضي صمت شهراً ونحوه.
المطلب الثاني: متى يشرع الاشتراط؟
يشرع الاشتراط إذا خاف المانع من إتمام النسك، وهذا اختيار ابن تيمية، وابن القيم، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)) أخرجه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة:
أنه إنما أشار إليها بالاشتراط لما رآها شاكية تخاف المانع من إتمام النسك.
ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بعمره كلها، حتى في الحديبية أحرم، ولم يقل: إن حبسني حابس، وكذلك في عمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، وحجة الوداع، ولم ينقل عنه أنه قال: وإن حبسني حابس، ولا أمر به أصحابه أمراً مطلقاً، بل أمر به من جاءت تستفتي؛ لأنها مريضة تخشى أن يشتد بها المرض فلا تكمل النسك.
المطلب الثالث صيغة الاشتراط:
أن يهل بالنسك الذي يريده من عمرة أو حجة مفرداً أو قارناً، أو متمتعاً، ثم يقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، نص على هذا فقهاء الحنابلة، أو يقول: اللهم محلي حيث حبستني، نص على هذا فقهاء الشافعية، وورد عن السلف صيغ أخرى. لذا لا يلزم الاشتراط بصيغة معينة.
دليل ذلك:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)) أخرجه البخاري ومسلم.
فرع:
إن قال إن مرضت ونحوه فأنا حلال. فمتى وجد الشرط حل بوجوده، أما إن قال فلي أن أحل، أو محلي حيث حبستني فهو مخير بين البقاء على إحرامه وبين التحلل، لأنه شرط صحيح فكان على ما شرط، وهذا مذهب الشافعية في الأصح، والحنابلة، وقرره ابن عثيمين.
فرع:
فائدة الاشتراط: أنه إذا حبس عن النسك بعذر فإنه يحل منه وليس عليه هدي ولا صوم ولا قضاء ولا غيره، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره ابن حزم، وابن القيم، وابن عثيمين.
فرع:
إن شرط قلب حجه عمرة بالمرض أو نحوه جاز، وتجزئه عن عمرة الإسلام، نص على هذا فقهاء الشافعية.
الأدلة:
أولاً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة ((هل تستثني إذا حججت فقال ماذا أقول قالت قل: اللهم الحج أردت وله عمدت فإن يسرته فهو الحج وإن حبسني حابس فهو عمرة)).
- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((حج واشترط وقل: اللهم الحج أردت ولك عمدت فإن تيسر وإلا فعمرة)).
ثانياً: أنه كما لو شرط التحلل به بل أولى.
فرع:
لا يصح أن يقال: لي أن أحل متى شئت، نص على هذا فقهاء الشافعية، والحنابلة.
ودليل ذلك ما يلي:
- أنه ينافي مقتضى الإحرام.
الفصل الأول: تعريف المحظورات، والفدية، وأنواعهما
المبحث الأول: معنى محظورات الإحرام والفدية
المطلب الأول: معنى محظورات الإحرام
المحظورات: جمع محظور، وهو الممنوع، وهو من مرادفات الحرام.
ومحظورات الإحرام: هي الممنوعات التي يجب على المحرم اجتنابها؛ بسبب إحرامه ودخوله في النسك.
المطلب الثاني: معنى الفدية
الفدية: أصل الفدية لغةً أن يُجعل شيءٌ مكان شيءٍ حمىً له، ومنه فدية الأسير، واستنقاذه بمال.
والفدية اصطلاحاً: هي ما يجب لفعل محظورٍ أو ترك واجب، وسميت فدية؛ لقوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:].
المبحث الثاني: عدد محظورات الإحرام
· عدد المحظورات:
محظورات الإحرام التي تعم الرجال والنساء سبعة:
- حلق الشعر.
- تقليم الأظافر.
- الطيب.
- الصيد.
- عقد النكاح.
- الجماع.
- مباشرة النساء.
المحظورات التي تختص بالرجال اثنتان:
- لبس المخيط.
- تغطية الرأس.
المحظورات التي تختص بالنساء اثنتان:
- النقاب.
- لبس القفازين.
المبحث الثالث: أقسام محظورات الإحرام باعتبار الفدية
تنقسم محظورات الإحرام باعتبار الفدية إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: ما فديته فدية أذى (فدية الأذى هي الدم أو الإطعام أو الصيام)
القسم الثاني: ما فديته الجزاء بمثله: وهو الصيد
القسم الثالث: ما لا فدية فيه: وهو عقد النكاح
القسم الرابع: ما فديته مغلَّظة: وهو الجماع
المبحث الأول: أنواع محظورات الترفه، وما يجب فيها
المطلب الأول: أنواع محظورات الترفه
تشمل محظورات الترفه خمسة محظورات
المحظور الأول: حلق الشعر
المحظور الثاني: تقليم الأظافر
المحظور الثالث: الطيب
المحظور الرابع: تغطية الرأس
المحظور الخامس: لبس المخيط
المطلب الثاني: ما يجب على من ارتكب شيئاً من محظورات الترفه
مَن حلق أو قلَّم أظفاره أو غطى رأسه أو تطيب أو لبس مخيطاً لعذر، فإنه يجب عليه في كل ذلك فدية الأذى، فيُخيَّر بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين- لكل مسكينٍ نصف صاع - أو ذبح شاة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال أكثر الفقهاء.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن عبدالله بن معقل، قال: جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه، فسألته عن الفدية، فقال: ((نزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة، حُمِلتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى - أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى - تجد شاة؟ فقلت: لا، فقال: فصم ثلاثة أيامٍ، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكينٍ نصف صاع)).
المطلب الثالث: توزيع الصدقة على مساكين الحرم
يشترط أن توزَّع الصدقة على مساكين الحرم، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره الشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
الدليل:
قوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنَّ في حكم الهدي ما كان بدلاً عنه من الإطعام، فيجب أن يكون كذلك بالغ الكعبة.
المطلب الرابع: موضع الصيام وصفته
يجوز الصيام في أي موضعٍ مفرَّقاً أو متتابعاً.
الأدلة:
أولًا: من الكتاب:
قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:]
وجه الدلالة:
أنه أطلق الصيام، ولم يقيده بشيء، والواجب البقاء على إطلاقات النصوص، وعدم التصرف بتقييدها من غير دليل.
ثانياً: الإجماع:
نقل النووي الإجماع على جواز تفريق الصيام، وحكى الشنقيطي الإجماع على أنه يصام في أي مكان.
ثالثاً: أن الصيام لا يتعدى نفعه لأحد؛ لذا لا يقتصر على مكانٍ بعينه.
المطلب الخامس: ارتكاب محظورات فدية الأذى عمداً
لا فرق في التخيير في فدية الأذى بين من ارتكب المحظور بعذر، أو كان عمداً، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، واختاره الشنقيطي؛ وذلك لأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذىً به وهو معذور، فكان ذلك تنبيهاً على وجوبها على غير المعذور.
المطلب السادس: فعل المحظورات نسياناً أو جهلاً أو إكراهاً
مَن فَعَلَ شيئاً من محظورات الإحرام ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء عليه، سواء كان صيداً أو جماعاً أو غيرهما، وسواء كان فيه إتلاف أو لم يكن، وهو مذهب الظاهرية، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول إسحاق وابن المنذر وطائفةٍ من السلف، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:]، فقال الله: ((قد فعلت)).
- قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:].
- قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ [النحل:]
وجه الدلالة:
أن الكفر إذا كان يسقط موجبه بالإكراه، فما دونه من باب أولى.
- قوله تعالى في قتل الصيد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أن قوله: مُتَعَمِّدًا وصفٌ مناسبٌ للحكم، فوجب أن يكون معتبراً؛ لأن الأوصاف التي عُلِّقت بها الأحكام إذا تبين مناسبتها لها صارت علةً موجبة، يوجد الحكم بوجودها، وينتفي بانتفائها، وإلا لم يكن للوصف فائدة.
ثانياً: من السنة:
- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرفوعاً: ((أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي بالرجل، فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك، قلت لعطاء: أراد الإنقاء، حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم)) رواه البخاري.
وجه الدلالة:
أنه لم يأمر الرجل الذي لبس الجبة وتضمخ بالطيب بالكفارة؛ وذلك بسبب جهله بالحكم، واكتفى بأمره أن ينزع الجبة، وأن يغسل عنه أثر الطيب.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).
ثالثاً: من الآثار:
عن قبيصة بن جابر الأسدي: ((أنه سمع عمر بن الخطاب, ومعه عبدالرحمن بن عوف, وعمر يسأل رجلا قتل ظبياً وهو محرم فقال له عمر: عمداً قتلته أم خطأ؟ فقال له الرجل: لقد تعمدت رميه وما أردت قتله, فقال له عمر: ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ; اعمد إلى شاةٍ فاذبحها، فتصدق بلحمها وأسق إهابها)).
وجه الدلالة:
أنه لو كان العمد والخطأ في ذلك سواء عند عمر؛ لما سأله أعمداً قتلته أم خطأ، وكان ذلك فضولاً من السؤال لا معنى له.
رابعاً: أن الكفارة إنما تجب إذا وقعت الجناية بارتكاب المحظور؛ لفداء النفس من المخالفة وللتكفير عن الذنب، ومع الجهل أو النسيان أو الإكراه لا جناية؛ لأنهم لم يتعمدوا المخالفة فلا معنى للكفارة.
خامساً: القياس على الأكل أو الشرب ناسياً في نهار رمضان، فإنه لا يفسد الصوم ولا قضاء فيه.
سادساً: أن ما سوى هذا القول ظاهر الفساد والتناقض، فما يرخص به أحدهم في حال، يمنعه الآخر.
المطلب السابع: تكرار المحظور
تكرار المحظور له ثلاث أحوال:
الحال الأولى: إذا كرر محظوراً من جنسٍ واحد، كلبس قميص، ولبس سراويل، ولم يفد فإنه يفدي مرةً واحدة، وهو مذهب الحنابلة، وبه قال محمد بن الحسن الشيباني من الحنفية، وهو قول الشافعي في القديم، واختاره ابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن الله تعالى أوجب لحلق الرأس فديةً واحدة، ولم يفرق بين ما وقع في دفعةٍ أو دفعات، ثم إن الحلق لا يكون إلا شيئاً بعد شيء، فهو ارتكاب محظوراتٍ متتاليةٍ من جنسٍ واحد، ومع ذلك لم يوجب فيه إلا فدية واحدة.
ثانياً: أن ما تداخل متتابعاً، كحلق شعرات، تداخل متفرقاً، كالأحداث والحدود.
أدلة أنه إن كفر عن الأول ثم ارتكب المحظور أنه يلزمه فديةٌ أخرى:
- أنه بالمحظور الثاني صادف إحراماً؛ فوجبت فيه الفدية، كما وجبت على المحظور الأول، وقياساً على الحدود والأيمان.
- أنه لما كفر للأول فقد التحق المحظور الأول بالعدم؛ فيعتبر الثاني محظوراً آخر مبتدأ، كما إذا جامع في يومين من شهر رمضان.
الحال الثانية: أن يكون المحظور من أجناسٍ مختلفة، كطيبٍ ولبس مخيطٍ، فإنه يفدي لكل محظور، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعةربعةأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: أنها محظوراتٌ مختلفة الأجناس، فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود المختلفة.
ثانياً: أن السبب الموجب للكفارة الثانية غير عين السبب الموجب للكفارة الأولى، أشبه ما لو حلف ثم حنث وكفر، ثم حلف وحنث.
الحال الثالثة: أن يكون المحظور صيداً، فإن الفدية تتعدد بتعدد الصيد، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أن الآية تدل على أن من قتل صيداً لزمه مثله, ومن قتل أكثر لزمه مثل ذلك.
ثانياً: أنه لو قتل أكثر معًا تعدَّد الجزاء, فمتفرقاً أولى؛ لأن حال التفريق ليس أنقص كسائر المحظورات.
ثالثاً: أنها كفارة قتل, كقتل الآدمي, أو بدل متلف, كبدل مال الآدمي؛ فتتعدد.
المبحث الثاني: حلق الشعر
المطلب الأول: حلق شعر الرأس
حلق شعر الرأس من محظورات الإحرام.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن عبدالله بن معقل، قال: ((جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه، فسألته عن الفدية، فقال: نزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة، حُمِلتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى - أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى - تجد شاة؟ فقلت: لا، فقال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكينٍ نصف صاع)) رواه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة:
أنه رتب فدية الأذى على حلق الرأس مع كونه للعذر، فدل على أنه من محظورات الإحرام.
ثالثا من الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر , والنووي.
المطلب الثاني: حلق شعر غير الرأس
اختلف أهل العلم في كون حلق شعر غير الرأس من محظورات الإحرام على قولين:
القول الأول: أنه محظور، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وحكى ابن عبدالبر فيه الإجماع.
الأدلة:
أولاً: أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، ((أنه قال في قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:]: (التفث: الرمي، والذبح، والحلق والتقصير، والأخذ من الشارب، والأظفار، واللحية)).
ثانياً: القياس على شعر الرأس:
قياس شعر الجسد على شعر الرأس؛ بجامع أن الكل يحصل بحلقه الترفه، والتنظف، وهو ينافي الإحرام لكون المحرم أشعث أغبر.
القول الثاني: أنه لا يحظر حلق غير شعر الرأس، وهذا مذهب أهل الظاهر، وقوَّاه ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: أن النص جاء بتحريم حلق الرأس فقط، ولا يصح قياس غيره عليه؛ لأن حلق الرأس يتعلق به نسك وهو الحلق أو التقصير، فإن المحرم إذا حلق رأسه فإنه يُسقِط به نسكاً مشروعاً، وغيره لا يساويه في ذلك.
ثانياً: أن الأصل الإباحة والحل.
ثالثاً: أن المحرم ليس ممنوعاً من الترفه في الأكل، فله أن يأكل من الطيبات ما شاء، ولا من الترفه في اللباس، فله أن يلبس من الثياب التي تجوز في الإحرام ما يشاء، ولا من الترفه بإزالة الأوساخ فله أن يغتسل ويزيل الأوساخ.
المطلب الثالث: ما يجب من الفدية في حلق شعر الرأس
يجب في حلق شعر الرأس فدية الأذى: ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين.
الأدلة
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: ((أتى عليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية والقمل يتناثر على وجهي فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة)).
ثالث الإجماع:
نقله ابن المنذر، وابن عبدالبر.
المطلب الرابع: متى تجب الفدية في حلق الشعر؟
تجب الفدية في حلق الشعر إذا حلق ما يحصل به إماطة الأذى، وهو مذهب المالكية، واختاره ابن حزم، وابن عبدالبر، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنَّ حلق شعر الرأس من أذىً به، لا يكون إلا بمقدار ما يماط به الأذى.
ثانياً: من السنة:
- عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: ((أتى عليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟. قلت: نعم. قال: فاحلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة)).
وجه الدلالة:
أن الكفارة إنما تجب في حلق الرأس في مثل ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على كعب بن عجرة، وهو حلق ما يماط به الأذى.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرمٌ في رأسه)).
وجه الدلالة:
أن الحجامة في الرأس من ضرورتها أن يُحلَق الشعر من مكان المحاجم، ولا يمكن سوى ذلك، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتدى؛ لأن الشعر الذي يزال من أجل المحاجم لا يماط به الأذى، فهو قليلٌ بالنسبة لبقية الشعر.
الفرع الأول:
إذا أخذ شعراتٍ من رأسه فإنه يحرم عليه؛ لأن المحرم نُهِيَ عن حلق شعر رأسه، وهو يشمل القليل والكثير، والقاعدة أن امتثال الأمر لا يتم إلا بفعل جميعه، وامتثال النهي لا يتم إلا بترك جميعه، لكن الفدية لا تجب إلا بحلق ما يحصل به الترفه وزوال الأذى.
الفرع الثاني:
إذا خرج في عينيه شعر، أو استرسل شعر حاجبيه على عينيه فغطاهما، فله إزالته، وكذلك إن قطع جلدة عليها شعر لم يكن عليه فدية؛ لأنه زال تبعاً لغيره والتابع لا يضمن كما لو قلع أشعار عيني إنسان فإنه لا يضمن أهدابهما.
المطلب الخامس: غسل رأس المحرم وتخليله
لا بأس أن يغسل المحرم رأسه، ويخلله ويحكه برفق، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وقول للمالكية، وهو قول جماعة من السلف , وبه قال ابن المنذر، واختاره النووي، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عبدالله بن حنين: ((أن عبدالله بن العباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبدالله بن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني عبدالله بن العباس إلى أبي أيوبٍ الأنصاري، فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب، فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبدالله بن حنين، أرسلني إليك عبدالله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم، فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسانٍ يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، وقال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل)).
- عن عائشة رضي الله عنها ((أنها حاضت ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة، فقالت: يا رسول الله، هذه ليلة عرفة وإنما كنت تمتعت بعمرة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: انقضي رأسك، وامتشطي، وأمسكي عن عمرتك)).
وجه الدلالة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها بأن تنقض رأسها، وتمتشط وهي محرمة.
ثانياً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((المحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، وإذا انكسر ظفره طرحه ويقول: أميطوا عنكم الأذى فإن الله لا يصنع بأذاكم شيئا)).
- أنه قول ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهم، كما تقدم ذكر ذلك عنهم في القصة التي جرت بينهم في الأبواء.
المبحث الثالث: تقليم الأظافر
المطلب الأول: حكم إزالة الأظفار للمحرم
لأهل العلم في قص المحرم ظفره قولان:
القول الأول: أن المحرم ممنوعٌ من إزالة أظفاره، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وحكى فيه الإجماع ابن المنذر، وابن قدامة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:] جاء عن بعض السلف في تفسيرها أنها تدل على منع المحرم من أخذ أظفاره.
ثالثاً: من آثار الصحابة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال في تفسير آية الحج: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ: ((التفث: الرمي، والذبح، والحلق والتقصير، والأخذ من الشارب، والأظفار، واللحية)).
رابعا: أنه إزالة جزءٍ ينمو من بدنه، يقضي به تفثه، ويترفه بإزالته، أشبه الشعر.
القول الثاني: أنه يجوز للمحرم أن يقص شعره وأظفاره، وهذا مذهب الظاهرية، وجعله ابن مفلح احتمالا، وذلك للآتي:
- أنه لم يأت نص من كتاب ولا سنة في منعهما.
- أنه دون الشعر في الترفه, فيمتنع الإلحاق.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من الفطرة قص الأظفار، والفطرة سنة لا يجوز تعديها, ولم يخص عليه السلام مُحْرماً من غيره: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:].
المطلب الثاني: ما تحصل به إزالة الأظافر:
إزالة الظفر كإزالة الشعر سواء قلمه أو كسره أو قطعه، وكل ذلك حرامٌ موجبٌ للفدية.
المطلب الثالث: ما يجب من الفدية في تقليم الأظفار:
يجب في تقليم الأظافر فدية الأذى، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال أكثر أهل العلم؛ وذلك لأنه أزال ما مُنِعَ إزالته لأجل الترفه، فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر، وعدم النص لا يمنع قياسه على المنصوص، كشعر البدن مع شعر الرأس.
المطلب الرابع: قص ما انكسر من الظفر
إن انكسر ظفره فله قص ما انكسر منه، ولا شيء عليه.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:].
وانكسار الظفر يغلب في الأسفار، وهذا يوجب الرخصة فيه.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((المسلم ينزع ضرسه، وإن انكسر ظفره طرحه، أميطوا عنكم الأذى؛ فإن الله تعالى لا يصنع بأذاكم شيئا)).
وجه الدلالة:
أنه قول صحابي، ولا يُعرف له مخالفٌ من الصحابة رضي الله عنهم.
ثالثاً: الإجماع:
نقله ابن المنذر وابن قدامة.
رابعاً: أن بقاءه يؤلمه، أشبه الشعر النابت في عينه.
خامساً: أنه إزالةٌ لأذاه، فلم يكن عليه فدية، كقتل الصيد الصائل.
سادساً: أنه بعد الكسر لا ينمو، فهو كحطب شجر الحرم.
المبحث الرابع: الطيب
المطلب الأول: حكم الطيب للمحرم
الطيب من محظورات الإحرام في البدن والثوب.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يجتنبه المحرم: ((ولا يلبس ثوباً مسه زعفران ولا وَرْس)).
وجه الدلالة:
أنه نهى المحرم عن الزعفران، والزعفران طيب.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن رجلاً وقصه بعيره ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيباً، ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا)).
وجه الدلالة:
أنه لما منع الميت من الطيب لإحرامه؛ فالحي أولى.
- عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: ((بينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجِعرانة، ومعه نفرٌ من أصحابه، جاءه رجل فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجلٍ أحرم بعمرة، وهو مُتَضمِّخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي، ثم سُرِّي عنه، فقال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأُتِي برجل، فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك)) قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم.
ثانيا الإجماع:
نقل ابن المنذر، وابن حزم، وابن عبدالبر، وابن قدامة، والنووي.
المطلب الثاني: الحكمة من تحريم الطيب على المحرم
- أن ذلك يبعد المحرِم عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها، ويجتمع همه لمقاصد الآخرة، أما الطيب فإنه قد ينسيه ما هو فيه من العبادة؛ لما فيه من الترفه؛ بما يخالف مقصود الحج من التجرد من ذلك؛ فلذلك نهي عنه.
- أن الطيب من أسباب دواعي الوطء، فتحريمه من باب سد الذريعة؛ فإن الطيب يعطي الإنسان نشوة؛ وربما يحرك شهوته؛ ويلهب غريزته؛ ويحصل بذلك فتنة له؛ والله تعالى يقول: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:].
المطلب الثالث: الفدية في الطيب
إذا تطيب المحرم عمداً فعليه الفدية، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة؛ وذلك قياساً على الفدية في حلق الرأس؛ بجامع أنه ترفه باستعمال محظور.
المطلب الرابع: هل يشترط في الفدية تطييب العضو كاملاً؟
لا يشترط في لزوم الفدية بالطيب أن يطيب العضو كاملاً، وهو مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: عموم الأدلة في الفدية، ولا فرق فيها بين القليل والكثير.
ثانياً: أنه معنًى حصل به الاستمتاع بالمحظور، فاعتبر بمجرد الفعل كالوطء.
ثالثاً: أن تقدير ما تجب به الفدية وما لا تجب به لا يكون إلا بتوقيفٍ من الشارع، ولا يوجد في الباب ما يدل على شيءٍ من ذلك، فوجب الوقوف على العمومات التي توجب الفدية على من ارتكب المحظور قليلاً كان أو كثيرا.
رابعاً: أن التطيب عادةً لا يكون لعضوٍ كامل.
المطلب الرابع: حكم استعمال البخور
حكم البخور هو حكم استعمال الطيب، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
وذلك للآتي:
أولاً: عمومات الأدلة، والبخور من جملة أنواع الطيب الذي حظر استعماله على المحرم.
ثانياً: أن المقصود هو الاستمتاع برائحة الطيب، وهذا حاصلٌ بالبخور.
ثالثاً: أنه يصدق على من تبخَّر أنه تطيَّب.
المطلب الخامس: حكم استدامة الطيب الذي كان قبل الإحرام
لا حرج في استعمال الطيب الذي يبقى أثره بعد الإحرام، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال بعض السلف.
الدليل:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كأني أنظر إلى وَبِيص الطيب في مَفرِق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أيام وهو محرِم)). وقالت رضي الله عنها: ((كنتُ أطيِّب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولإحلاله قبل أن يطوف بالبيت)).
المطلب السادس: تطييب الحاج ثوب الإحرام قبل إحرامه
يُمنَع الحاج من تطييب ثوب الإحرام قبل إحرامه، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، واختيار ابن باز ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران أو الورس)).
ثانياً: أنَّ الطيب من محظورات الإحرام، ويصدق على من استدام الثوب بعد الإحرام، أنه ارتكب المحظور حال إحرامه.
ثالثاً: أنَّ الرخصة إنما جاءت في البدن؛ فلا يتجاوز صورتها.
رابعاً: أن الطيب في الثوب لا يستهلك كما هو في البدن؛ فلا يصح القياس.
المبحث الخامس: تغطية الرأس للذكر
المطلب الأول: حكم تغطية الرأس للذكر
تغطية الرأس للذكر من محظورات الإحرام، مثل: الطاقية، والغترة، والعمامة، وما أشبه ذلك.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن رجلاً وقصه بعيرُه ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا، ولا تخمروا رأسه؛ فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا)).
وجه الدلالة:
أنه علَّل منع تخمير رأسه ببقائه على إحرامه، فعلم أن المحرم ممنوعٌ منه؛ فإن المحرِم الحي أولى من المحرِم الميت.
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ((أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف ... )).
وجه الدلالة:
أن ذكر العمامة بعد ذكر البرانس دليلٌ على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بمعتاد اللباس، ولا بنادره.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابنُ المنذر، وابن عبدالبر، وابن رشد، وابن القيم.
المطلب الثاني: أقسام ستر الرأس
ستر الرأس على أقسام:
الأول: أن يغطيه بما يحمله على رأسه ولا يقصد به التغطية، فهذا جائز، باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية والمالكية والشافعية، والحنابلة , وهو اختيار ابن حزم، وابن حجر، وابن باز وابن عثيمين؛ وذلك لأنه لا يقصد به الستر؛ ولا يستر بمثله عادةً.
الثاني: أن يستره بملاصق بما يلبس عادةً على الرأس، مثل الشماغ والعمامة والطاقية، والخوذة فهذا حرام.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، ((أن رجلا قال: يا رسول الله، ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين، فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران أو ورس))
وجه الدلالة:
أن ذكر العمامة بعد ذكر البرانس دليل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بمعتاد اللباس، ولا بنادره.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصة الرجل الذي وقصته دابته: ((لا تخمِّروا رأسه)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن حزم، والنووي، وابن القيم.
الثالث: أن يستظل بمنفصل عنه، غير تابع كالاستظلال بخيمة، أو شجرة، فهذا جائز.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر رضي الله عنه أنه قال في حديث حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأمر بقبة من شعر، فضربت له بنمرة، فأتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها ... )).
- عن أم الحصين: ((أن بلالا أو أسامة كان رافعا ثوبا يستر به النبي صلى الله عليه وسلم من الحر)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن قدامة، والنووي، وابن القيم.
الرابع: أن يُظلِّل رأسه بتابع له منفصل كالشمسية والسيارة، ومحمل البعير، وما أشبهه، فهذا يجوز، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، ورواية عن أحمد، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن المنذر وابن القيم , والشوكاني والشنقيطي وابن باز وابن عثيمين. والألباني.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر رضي الله عنه قال: ((حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً، وأحدهما آخِذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة)).
- عن أم الحصين: ((أن بلالاً أو أسامة كان رافعا ثوبا يستر به النبي صلى الله عليه وسلم من الحر)).
ثانياً: القياس:
أن ذلك لا يقصد به الاستدامة، فلم يكن به بأس، كالاستظلال بالحائط.
ثالثاً: استصحاب الأصل:
فما يحلُّ للحلال يحلُّ للمحرم، إلا ما قام على تحريمه دليل.
المطلب الثاني: الفدية في تغطية الرأس
تجب في تغطية الرأس الفدية بذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الدليل على ذلك:
القياس على الفدية في حلق الرأس، بجامع أنه استمتاع محض، وترفه باستعمال محظور.
المطلب الثالث: مقدار تغطية الرأس الذي تجب فيه الفدية
لا يشترط لوجوب الفدية ستر جميع الرأس، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: عموم الأدلة في الفدية، ولا فرق فيها بين القليل والكثير.
ثانياً: أنه معنًى حصل به الاستمتاع بالمحظور، فاعتبر بمجرد الفعل كالوطء.
ثالثاً: أن تقدير ما تجب به الفدية وما لا تجب به لا يكون إلا بتوقيف من الشارع، ولا يوجد في الباب شيء، فوجب الوقوف على العمومات التي توجب الفدية على من ارتكب المحظور قليلا كان أو كثيرا.
رابعاً: أن الانتفاع بتغطية الرأس يحصل في البعض، فتجب الفدية بذلك.
خامساً: القياس على عدم اشتراط حلق جميع شعر الرأس لوجوب الفدية.
المطلب الرابع: حكم تغطية الوجه للمحرم
تغطية الوجه للمحرم مباح، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وبه قال جماعة من السلف , وابن حزم، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا)).
وجه الدلالة:
أن النص خص الرأس بالنهي عن التغطية، فمفهومه يقتضي جواز تغطية غيره، أما ما جاء من تغطية الوجه فهو شاذ ضعيف.
ثانيا: أقوال الصحابة:
- عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه: ((أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم)).
- عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال: ((رأيت عثمان بالعَرْج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أُرْجُوان)).
ولا يعرف لهؤلاء الصحابة مخالف منهم.
ثالثا: أن الأصل هو الإباحة.
المبحث السادس: لبس المخيط
تمهيد: تعريف المخيط
المخيط: هو المفصَّل على قدر البدن أو العضو، بحيث يحيط به، ويستمسك عليه بنفسه، سواء كان بخياطة أو غيرها، مثل: القميص، والسراويل، ونحو ذلك.
المطلب الأول: حكم لبس المخيط للذَّكَر
لبس المخيط للذكر من محظورات الإحرام.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: ((بينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، ومعه نفر من أصحابه، جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، وهو مُتَضَمِّخ بطيب، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي، ثم سُرِّي عنه، فقال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل، فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك)).
وجه الدلالة:
أنه لما عَلِمَ أنه محرم أمره بأن ينزع عنه الجبة، فدل على أن لبس الجبة ونحوها من المخيط المحظور على المحرم.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خمسة أنواع من اللباس تشمل جميع ما يحرم، وقد أوتي جوامع الكَلِم، وذلك أن اللباس إما أن يصنَع للبدن فقط فهو القميص، وما في معناه، أو للرأس فقط وهو العمامة وما في معناه، أو لهما وهو البُرْنُس وما في معناه، أو للفخذين والساق وهو السراويل وما في معناه، أو للرِّجلين وهو الخف ونحوه.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن حزم، وابن عبدالبر، وابن رشد.
المسألة الأولى: من أحرم بالمخيط أو لبسه بعد إحرامه لعدم حمله التصريح
من أحرم بالمخيط أو لبسه بعد إحرامه ليدخل به مكة لعدم حمله التصريح فحجه صحيح لكنه يأثم بارتدائه المخيط، وتجب عليه الفدية، وبه قال ابن عثيمين.
المسألة الثانية: لبس المرأة المخيط لغير الوجه والكفين
يجوز للمرأة المحرمة أن تلبس المخيط لغير الوجه والكفين.
الدليل::
نقل الإجماع على ذلك: ابن المنذر وابن عبدالبر وابن رشد.
المسألة الثالثة: لبس الخفاف للمحرم الذكر
لبس الخف حرام على الرجل المحرِم، سواء كان الخف صحيحا أو مخرَّقاً، إلا لمن لم يجد النعلين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عمر: ((إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفلَ من الكعبين)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بعَرَفَاتٍ: ((من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل)).
- عن جابر رضي الله عنهما قال: ((من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، والنووي.
المسألة الرابعة: هل يجب قطع الخفين لمن لم يجد نعلين؟
من لم يجد نعلين فلبس خفين، لا يجب عليه قطعهما، وهو مذهب الحنابلة، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن تيمية، وابن القيم، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: ((من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل)).
- عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل)).
وجه الدلالة من الحديثين:
أنه أطلق لبس الخفين، ولم يقيِّده بقطعهما.
المطلب الثاني: لبس المحرم للخاتم
يجوز للمحرم لبس الخاتم بلا خلاف بين أهل العلم.
المطلب الثالث: لبس المحرم للساعة أو النظارة أو سماعة الأذن أو تركيبة الأسنان
يجوز للمحرم لبس الساعة، أو النظارة، أو سماعة الأذن، أو تركيبة الأسنان؛ وذلك لأنها كلها ليست في معنى ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبسه من أنواع الألبسة.
المطلب الرابع: لبس الهِمْيان (وعاء النفقة).
يجوز للمحرم لبس الهِمْيان، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وبه قال أكثر العلماء.
الأدلة:
أولاً: أنه ورد عن طائفة من الصحابة، كعائشة، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، حتى حُكي في ذلك إجماعهم.
ثانياً: أن الهميان ليس في معنى ما جاء النهي عنه من الألبسة للمحرم في النصوص، فيبقى على أصل الإباحة.
ثالثاً: أن شد الهميان في الوسط هو ضرورة حفظ النفقة، ومما تدعو الحاجة إليه؛ فجاز كعقد الإزار.
مسألة: عقد الرداء
يجوز عقد الرداء عند الحاجة، وهو قول طائفةٍ من الشافعية، واختاره الجويني والغزالي وابن حزم وابن تيمية، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم فقال: ((لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف)).
وجه الدلالة:
أن إجابته صلى الله عليه وسلم بما لا يلبس عن السؤال عما يلبس، دليلٌ على أن كل ما عدا هذه المذكورات مما يلبسه المحرم.
ثانياً: أنه لم يرد في ذلك منعٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو في معنى المنصوص على منعه.
ثالثاً: أنَّ الرداء وإن عُقِد، لا يخرج عن كونه رداء.
مسألة: عقد الإزار للمحرم
يجوز عقد الإزار للمحرم إذا لم يثبت ويستمسك إلا بذلك، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره ابن حزم، وابن تيمية، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم فقال: ((لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف)).
وجه الدلالة:
أن إجابته صلى الله عليه وسلم بما لا يلبس عن السؤال عما يلبس، دليلٌ على أن كل ما عدا هذه المذكورات مما يلبسه المحرم.
ثانياً: أنه لم يرد في ذلك منعٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو في معنى المنصوص على منعه.
ثالثاً: من آثار الصحابة:
قال طاوس: رأيت ابن عمر يطوف بالبيت، وعليه عمامة قد شدَّها على وسطه، فأدخلها هكذا.
رابعاً: أنَّ فيه مصلحة له، وهو أن يثبت عليه.
خامساً: أنه يُحتاج إليه لستر العورة فيباح، كاللباس للمرأة.
فرع: حكم تشبيك الرداء بمشبك
يجوز للمحرم تشبيك ردائه بمشبك ونحوه؛ لأنه لا يعد لبساً
المطلب الخامس: ستر المحرمة وجهها
الفرع الأول: ستر المحرمة وجهها بالنقاب
أولا: تعريف النقاب
النقاب هو: لباس الوجه؛ وهو أن تستر المرأة وجهها، وتفتح لعينيها بقدر ما تنظر منه.
ثانيا حكم النقاب للمحرمة:
النقاب من محظورات الإحرام على المرأة، وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين)).
ثانياً: أنه قولٌ ثابتٌ عن طائفةٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ولا مخالف لهم.
الفرع الثاني: ستر المحرمة وجهها بغير النقاب
اختلف أهل العلم في تغطية المحرمة وجهها بغير النقاب على قولين:
القول الأول: لا يجوز تغطية المحرمة وجهها إلا لحاجة، كمرور الأجانب، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول طائفة من السلف، واختاره ابن دقيق العيد، والشنقيطي.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
. عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ولا تتنقب المحرمة)).
. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان الفضل رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع)).
وفيه دليل على أن إحرام المرأة في وجهها.
ثانيا: الإجماع:
نقل الإجماع على أنه يحرم على المرأة أن تغطي وجهها إلا لحاجة، ابن عبدالبر، وابن قدامة، وابن رشد.
ثالثاً: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه)).
رابعاً: القياس: فالوجه من المرأة يجب كشفه، كالرأس من الرَّجُل.
القول الثاني: يجوز للمحرمة تغطية وجهها، وهو قولٌ في مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والصنعاني، والشوكاني، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: أقوال الصحابة رضي الله عنهم
- عن معاذة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت)).
قال ابن القيم: نساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة.
- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمشط قبل ذلك في الإحرام)).
- عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: ((كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق)).
ثانياً: أنه لم يَرِد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرَّم على المحرمة تغطية وجهها، وإنما هذا قول بعض السلف.
ثالثاً: القياس:
فكما يجوز تغطية الكف من غير لبس القفازين، فيجوز كذلك تغطية الوجه من غير لبس النقاب، وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وهما كبدن الرجل، يجوز تغطيته، ولا يجوز لبس شيء مفصلٍ عليه.
رابعاً: أن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها، فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة.
خامساً: أن النهي إنما جاء عن النقاب فقط، والنقاب أخص من تغطية الوجه، والنهي عن الأخص لا يقتضي النهي عن الأعم؛ وإنما جاء النهي عن النقاب لأنه لبس مفصلٌ على العضو، صنع لستر الوجه، كالقفاز المصنوع لستر اليد، والقميص المصنوع لستر البدن، وقد اتفق الأئمة على أن للمحرم أن يستر يديه ورجليه مع أنه نهي عن لبس القميص والخف.
الفرع الثالث: هل يشترط في تغطية المحرمة وجهها ألا يمس الوجه؟
لا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه لا بعود ولا بيد ولا غير ذلك، فيجوز أن تستر وجهها للحاجة كالستر عن أعين الناس، بثوب تسدله من فوق رأسها، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، واختاره ابن قدامة، وابن تيمية.
الأدلة:
أولاً: من أقوال الصحابة
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت)).
- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمشط قبل ذلك في الإحرام)).
- عن فاطمة بنت المنذر قالت: ((كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق .. )).
وجه الدلالة:
أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الصحابة رضي الله عنهن كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة.
ثانياً: أن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطا لبيَّن، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوهما، مما يعد لستر الوجه.
المطلب السادس: لبس القفازين للمحرمة
تمهيد: تعريف القفازين
القفَّازان: شيء يعمل لليدين يغطي الأصابع مع الكف.
الفرع الأول: حكم لبس القفازين للمحرمة
يحرم على المحرمة لبس القفَّازين، وهو مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف.
الدليل:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين)).
الفرع الثاني: حكم لبس القفازين للرجل
يحرم على الرجل لبس القفازين
الدليل:
نقل الإجماع على ذلك النووي، وابن قدامة، والشنقيطي.
المطلب السابع: الفدية في لبس المخيط
يجب في لبس المحرم المخيط، فدية الأذى: ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الدليل: على ذلك:
القياس على الفدية في حلق الرأس، بجامع أنه استمتاع محض، وترفه باستعمال محظور.
المطلب الثامن: متى تجب الفدية بلبس المخيط؟
تجب الفدية بمجرد اللبس ولو لم يستمر زمنا، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة؛ وذلك لأنه استمتاع يحصل بمجرد الفعل، كالوطء في الفرج.
المبحث الأول: حكم عقد النكاح للمحرم
يحرم عقد النكاح على المحرم، ولا يصح، سواء كان المحرم الولي، أو الزوج، أو الزوجة، ولا فدية فيه، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وهو قول طوائف من السلف.
الأدلة:
أ- أدلة تحريم النكاح وعدم صحته
أولاً: من السنة:
عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لايَنكِح المحرِم، ولا يُنكِح، ولا يخطُب)).
وجه الدلالة:
أنه منهيٌّ عنه لهذا الحديث الصحيح، والنهي يقتضي الفساد.
ثانياً: أقوال الصحابة رضي الله عنهم:
- عن أبي غطفان بن طريف المري ((أن أباه طريفا تزوج امرأة وهو محرم، فرد عمر بن الخطاب نكاحه)).
- عن قتيبة بن وهب: ((أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير، فأرسل إلى أبان بن عثمان ليحضر ذلك وهما محرمان، فأنكر ذلك عليه أبان، وقال سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب)).
وروي ذلك: عن علي وابن عمر رضي الله عنهم، وليس يعرف لهما من الصحابة مخالف.
ثالثاً: إجماع أهل المدينة
عن سعيد بن المسيب: ((أن رجلاً تزوج وهو محرم، فأجمع أهل المدينة على أن يفرَّق بينهما)).
رابعاً: أن الإحرام معنىً يمنع من الوطء ودواعيه، فوجب أن يمنع من النكاح، كالطيب.
خامساً: أنه عقد يمنع الإحرام من مقصوده وهو الوطء، فمنع أصله، كشراء الصيد.
ب- أدلة عدم وجوب الفدية فيه
أولاً: عدم الدليل على وجوب الفدية، والأصل براءة الذمة.
ثانياً: أنه وسيلة لم يترتب عليها الانتفاع بالمقصد المحرم، والذي يجبر إنما هو المقاصد.
ثالثاً: أنه فَسَدَ لأجل الإحرام، فلم يجب به فدية، كشراء الصيد.
المبحث الثاني: الخطبة للمحرم
لأهل العلم في خطبة المحرم قولان:
القول الأول: تكره الخطبة للمحرم، والمحرمة، ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، واختيار ابن قدامة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب)).
ثانياً: أقوال الصحابة:
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: ((لا ينكح المحرم، ولا يخطب على نفسه ولا على غيره)).
ثالثاً: أن النكاح لا يجوز للمحرم، فكرهت الخطبة له.
رابعاً: أنه تسبب إلى الحرام، فأشبه الإشارة إلى الصيد.
القول الثاني: أنه تحرم خطبة المحرم وهو مذهب المالكية، واختيار ابن حزم وابن تيمية والصنعاني، والشنقيطي، وابن باز وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب)).
فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجميع نهيا واحدا ولم يفصل وموجب النهي التحريم وليس لنا ما يعارض ذلك من أثر ولا نظر
ثانياً: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: ((لا ينكح المحرم، ولا يخطب على نفسه ولا على غيره)).
ثالثاً: أن الخطبة مقدمة النكاح وسبب إليه كما أن العقد سبب للوط، والشرع قد منع من ذلك كله حسما للمادة.
رابعاً: أن الخطبة كلام في النكاح وذكر له وربما طال فيه الكلام وحصل بها أنواع من ذكر النساء والمحرِم ممنوع من ذلك كله.
خامساً: أن الخطبة توجب تعلق القلب بالمخطوبة واستثقال الإحرام والتعجل إلى انقضائه لتحصيل مقصود الخطبة كما يقتضي العقد تعلق القلب بالمنكوحة.
مسألة: الشهادة على عقد النكاح
لا تأثير للإحرام على الشهادة على عقد النكاح، وقد نصَّ على ذلك فقهاء الشافعية، والحنابلة، وإليه ذهب الشنقيطي، وابن عثيمين.
الدليل:
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب))
وجه الدلالة:
أن الشاهد لا يدخل في ذلك، فإن عقد النكاح بالإيجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك.
المبحث الأول: الجماع في النسك
المطلب الأول: حكم الجماع للمحرم في النسك
الوطء في الفرج حرامٌ على المحرم، ومفسدٌ لنسكه.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن الرَّفَث: هو الجماع عند أكثر العلماء،، ولم يختلف العلماء في قول الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:] أنه الجماع، فكذلك هاهنا.
ثانياً: أقوال الصحابة رضي الله عنهم
- عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في رجل وقع على امرأته وهو محرم: ((اقضيا نسككما، وارجعا إلى بلدكما، فإذا كان عام قابل فاخرجا حاجين، فإذا أحرمتما فتفرقا، ولا تلتقيا حتى تقضيا نسككما واهديا هدياً)).
- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: ((أن رجلا أتى عبدالله بن عمرو، فسأله عن محرم وقع بامرأته، فأشار إلى عبدالله بن عمر، فقال: اذهب إلى ذلك واسأله، قال شعيب: فلم يعرفه الرجل، فذهبت معه، فسأل ابن عمر، فقال: بطل حجك، فقال الرجل: أفأقعد؟ قال: لا، بل تخرج مع الناس، وتصنع ما يصنعون، فإذا أدركت قابلا فحج، وأهد، فرجع إلى عبدالله بن عمرو، فأخبره، ثم قال: اذهب إلى ابن عباس فاسأله، قال شعيب: فذهبت معه، فسأله، فقال له مثل ما قال ابن عمر، فرجع إلى عبدالله بن عمرو، فأخبره، ثم قال: ما تقول أنت؟ قال: أقول مثل ما قالا)).
وجه الدلالة من هذه الآثار:
أنه قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم.
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على تحريم الوطء حال الإحرام: ابن عبدالبر، وابن رشد، والنووي، ونقل الإجماع على فساد النسك بالوطء: ابن المنذر، وابن حزم، والشربيني، وابن مفلح والشنقيطي.
المطلب الثاني: متى يَفسد الحج بالجماع؟
لا يخلو الجماع في الحج من ثلاث أحوال:
الحال الأولى: من جامع قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه بالإجماع، نقله ابن المنذر، وابن حزم، وابن عبدالبر، وابن رشد، والزيلعي، والشربيني، والشنقيطي.
الحال الثانية: من جامع بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فسد حجه عند جمهور الفقهاء من المالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة، واختاره ابن باز.
الأدلة:
أولاً: آثار الصحابة
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: ((أن رجلا أتى عبدالله بن عمرو، فسأله عن محرم وقع بامرأته، فأشار إلى عبدالله بن عمر، فقال: اذهب إلى ذلك واسأله، قال شعيب: فلم يعرفه الرجل، فذهبت معه، فسأل ابن عمر، فقال: بطل حجك، فقال الرجل: أفأقعد؟ قال: لا، بل تخرج مع الناس، وتصنع ما يصنعون، فإذا أدركت قابلا فحج، وأهد، فرجع إلى عبدالله بن عمرو، فأخبره، ثم قال: اذهب إلى ابن عباس فاسأله، قال شعيب: فذهبت معه، فسأله، فقال له مثل ما قال ابن عمر، فرجع إلى عبدالله بن عمرو، فأخبره، ثم قال: ما تقول أنت؟ قال: أقول مثل ما قالا)).
وجه الدلالة:
أنه قول هؤلاء الصحابة، ولم يفرقوا بين ما قبل الوقوف وبعده، ويدل عليه أنهم لم يستفصلوا السائل.
ثانياً: القياس على فساد النسك بالجماع قبل الوقوف بعرفة، والجامع أن كلا منهما وطءٌ صادف إحراما تاما قبل التحلل.
الحال الثالثة: من جامع بعد التحلل الأول فلا يفسد نسكه باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عروة بن مضرس الطائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجُّه وقضى تفثه)).
وجه الدلالة:
أنه إذا تم حجه يوم النحر فلا وجه لإبطاله بعد ذلك.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أصاب من أهله قبل أن يطوف بالبيت يوم النحر فقال: ((ينحران جزوراً بينهما، وليس عليهما الحج من قابل)).
وجه الدلالة:
أنه قول ابن عباس رضي الله عنهما، ولا يعرف له مخالف من الصحابة.
ثالثاً: أن إحرامه بعد تحلله الأول غير تام، وإنما عليه بقيةٌ من إحرام، هو حرمة الوطء، وهذا لا يجوز أن يفسِد ما مضى من عبادته.
رابعاً: أن الحج عبادة لها تحللان، فوجود المفسد بعد تحللها الأول لا يفسدها، كوجود المفسد بعد التسليمة الأولى في الصلاة لا يفسدها.
المطلب الثالث: ما يترتب على الجماع في النسك
يترتب على الجماع في الحج خمسة أشياء:
أولاً: الإثم.
ثانياً: فساد النسك.
وهذان الأمران سبق بحثهما.
ثالثاً: وجوب المضي في فاسده، وعلى ذلك أكثر العلماء.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنه أمر بإتمام الحج والعمرة، وأطلق، ولم يُفرِّق بين صحيحها وفاسدها.
ثانياً: أفتى بذلك جمع من الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف.
رابعاً: وجوب القضاء
الأدلة:
أولاً: أفتى بذلك جمعٌ من الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على وجوب القضاء ابن المنذر، والنووي، والشربيني.
ثالثاً: أن النسك يلزم بالشروع فيه فصار فرضا بخلاف باقي العبادات.
خامساً: الفدية
تجب الفدية على من أفسد النسك بالجماع، وقد اتفق أهل العلم على ذلك، والواجب في ذلك في الحج بدنة، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طوائف من السلف، واختاره ابن باز.
الأدلة:
أولاً:
- عن عكرمة: ((أن رجلا قال لابن عباس: أصبت أهلي، فقال ابن عباس: أما حجكما هذا فقد بطل فحجا عاما قابلا ثم أهلا من حيث أهللتما، وحيث وقعت عليها ففارقها فلا تراك ولا تراها حتي ترميا الجمرة وأهد ناقة ولتهد ناقة))، وعنه أيضاً: ((إذا جامع فعلى كل واحد منهما بدنة)).
- وروي عن عمر نحوه.
ثانياً: أنه وطءٌ صادف إحراما تاما، فأوجب البدنة.
ثالثاً: أن ما يفسد الحج، الجناية به أعظم، فكفارته يجب أن تكون أغلظ.
مسألة:
يفسد نسك المرأة بالجماع مطلقا، فإن كانت مطاوعة فعليها بدنة كالرجل، فإن كانت مكرهة فإنه لا يجب عليها هدي، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف.
أدلة وجوب البدنة على المرأة إذا كانت مطاوعة
أولاً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
- عن عكرمة مولى ابن عباس: ((أن رجلا وامرأته من قريش لقيا ابن عباس بطريق المدينة, فقال: أصبت أهلي, فقال ابن عباس: أما حجكما هذا فقد بطل فحجا عاما قابلا, ثم أهلا من حيث أهللتما حتى إذا بلغتما حيث وقعت عليها ففارقها فلا تراك ولا تراها حتى ترميا الجمرة وأهد ناقة, ولتهد ناقة)).
- عن يزيد بن يزيد بن جابر قال: سألت مجاهدا، عن المحرم يواقع امرأته، فقال: كان ذلك على عهد عمر بن الخطاب، فقال: ((يقضيان حجهما والله أعلم بحجهما، ثم يرجعان حلالا كل واحد منهما لصاحبه، فإذا كان من قابل حجا وأهديا وتفرقا من المكان الذي أصابهما))
وجه الدلالة:
أنه أمر الرجل والمرأة أن يهديا جميعا، فقال: ((وأهديا)).
ثانياً: أنها أحد المتجامعين من غير إكراه، فلزمتها بدنة كالرجل.
ثالثاً: أن الأصل استواء الرجال والنساء في الأحكام إلا بدليل.
ب- أدلة سقوط الهدي عنها إذا كانت مكرهة
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ [النحل:].
وجه الدلالة:
أن الكفر إذا كان يسقط موجبه بالإكراه، فما دونه من باب أولى.
ثانياً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).
ثالثاً: أنه جماعٌ يوجب الكفارة، فلم تجب به حال الإكراه أكثر من كفارة واحدة، كما في الصيام.
المبحث الثاني: مقدمات الجماع
المطلب الأول: حكم مباشرة النساء في النسك
تحرم مباشرة النساء في النسك، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وحُكي فيه الإجماع.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:].
والرفث فسره غير واحد من السلف وبعض أهل العلم بالجماع ومقدماته
ثانياً: أنه إذا حَرُم عليه عقد النكاح فلأن تحرم المباشرة وهي أدعى إلى الوطء أولى.
المطلب الثاني: هل يفسد النسك بالمباشرة؟
مباشرة النساء من غير وطء لا تفسد النسك، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
وذلك للآتي:
أولا: أن فساد النسك تعلق بالجماع، ودواعي الجماع ليست مثل الجماع، فلا تلحق به.
ثانيا: أنه استمتاع محض فلم يفسد الحج، كالطيب.
المطلب الثالث: فدية من باشر فلم ينزل
من باشر ولم ينزل فعليه دم أو بدله من الإطعام أو الصيام، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وقال به طائفة من السلف وهو اختيار ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الآثار:
- عن علي رضى الله عنه أنه قال: ((من قبل امرأة وهو محرم فليهرق دما)).
- عن عبدالرحمن بن الحارث: ((أن عمر بن عبيد الله قَبَّل عائشة بنت طلحة محرما، فسأل، فأجمع له على أن يهريق دما)).
وجه الدلالة:
أن الظاهر أنه لم يكن أنزل؛ لأنه لم يُذكر.
ثانيا: أنه استمتاع محض، عري عن الإنزال، فوجبت فيه الفدية، كالطيب.
ثالثا: أنه فعل محرم في الإحرام، فوجبت فيه الكفارة، كالجماع.
المطلب الرابع: حكم من باشر فأنزل
مَنْ باشر فأنزل لم يفسد نسكه، وحُكيِ الإجماع على عدم الفساد، وعليه فدية الأذى: دم أو بدله من الإطعام أو الصيام، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، ورواية عن أحمد، وقال به طائفة من السلف، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: أدلة عدم فساد النسك
- أنه إنزال بغير وطء فلم يفسد به الحج، كالنظر.
- أنه لا نص على فساد النسك به، ولا إجماع، ولا هو في معنى المنصوص عليه؛ لأن الوطء في الفرج يجب بنوعه الحد، واللذة فيه فوق اللذة بالمباشرة، ولا يفترق فيه الحال بين الإنزال وعدمه، ويتعلق به اثنا عشر حكما.
أدلة وجوب فدية الأذى (الدم أو الإطعام أو الصيام) على من باشر فأنزل
أولاً: الآثار:
- عن علي رضى الله عنه أنه قال: ((من قبل امرأة وهو محرم فليهرق دما)).
- عن عبدالرحمن بن الحارث: ((أن عمر بن عبيد الله قَبَّل عائشة بنت طلحة محرما، فسأل، فأجمع له على أن يهريق دما)).
وجه الدلالة:
أن الفدية إذا وجبت على من باشر ولم ينزل، فأولى أن تجب على من باشر فأنزل.
ثانياً: أنه استمتاع لا يفسد النسك، فكانت كفارته فدية الأذى، كالطيب.
ثالثاً: أنه فعل محرم في الإحرام، فوجبت فيه الكفارة، كالجماع.
المبحث الأول: تدارك الواجبات متى ما أمكن
ترك الواجبات لا يسقط بالنسيان والجهل والإكراه متى أمكن تداركه.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن أنس بن مالك قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ((من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها)).
وجه الدلالة:
أنه لم يسقط عنه الصلاة مع النسيان مع خروج وقتها؛ لأنه يمكن تداركه بالقضاء.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل المسيء صلاته: ((ارجع فصل، فإنك لم تصل)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقط الصلاة الحاضرة بالجهل، وإنما أمره بالإعادة مع أنه جاهل.
ثانياً: أنه ترك مأمورا، والمأمورات أمور إيجابية، يمكن تداركها بفعلها، بخلاف المنهيات فإنها مضت، ولا يمكن تداركها، لكن إذا كان في أثناء المنهي فيجب التدارك بقطعه.
ثالثاً: أن تارك المأمور جاهلا أو ناسيا غير مؤاخذ بالترك، لكن عدم فعله إياه يقتضي إلزامه به متى زال العذر إبراء لذمته.
المبحث الثاني: فدية ترك الواجب
يجب بترك الواجب دم، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن الدم وجب على المتمتع لتركه واجب الإحرام للحج من الميقات، وفي حكمه كل من ترك واجبا.
ثانياً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((من نسي شيئا من نسكه، أو تركه فليهرق دما)).
وجه الدلالة:
أن مثله لا يقال بالرأي فله حكم الرفع، ولا مخالف له من الصحابة رضي الله عنهم، وعليه انعقدت فتاوى التابعين، وعامة الأمة.
الفصل السادس: ما يحرم على المحرم، وما يباح له
المبحث الأول: التجارة والصناعة للمحرم
للمحرم أن يتجر ويصنع في الحج.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنها نزلت في التجارة في الحج، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة:]. في مواسم الحج).
- قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِر ... لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج: -].
وجه الدلالة:
أنه لم يخصص شيئاً من المنافع دون غيرها فهو عام في جميعها من منافع الدنيا والآخرة.
- قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنه لم يخصص منه حال الحج، فيبقى البيع على أصل الإباحة.
ثانياً: عن أبى أمامة التيمي قال: ((كنت رجلا أكري في هذا الوجه وإن ناسا يقولون ليس لك حج، فقال ابن عمر: أليس يحرم ويلبي ويطوف بالبيت ويفضى من عرفات ويرمي الجمار؟ قلت: بلى، قال: فإن لك حجا، جاء رجل الي النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة:]، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ عليه هذه الآية، وقال: لك حج)).
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على جواز ذلك ابن قدامة، والنووي، والشنقيطي، والجصاص، ووصف القول بسواه بالشذوذ.
مسألة:
استحب أهل العلم أن تكون يده فارغة من التجارة ليكون قلبه مشغولا بما هو بصدده، متعريا عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بها، إلا أن ذلك لا يقدح في صحة حجه ولا يأثم به، ولا يخرج المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، ونقل النووي الإجماع على ذلك.
المبحث الثاني: ما يجب على المحرم توقيه
يجب على المحرم أن يتوقى ما يلي:
أولاً: الفحش من القول والفعل، وذلك منهي عنه في الإحرام وغير الإحرام إلا أن الحظر في الإحرام أشد لحرمة العبادة.
ثانياً: الفسوق: وهو جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام.
ثالثاً: الجدال في الحج: وهو المخاصمة في الباطل، لاسيما مع الرفقاء والخدم، أو الجدل فيما لا فائدة فيه؛ لأن ذلك يثير الشر ويوقع العداوة ويشغل عن ذكر الله، أما الجدال بالتي هي أحسن لإظهار الحق ورد الباطل فلا بأس به
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن هذا نهي بصيغة النفي، وهو آكد ما يكون من النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.
- قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:].
ثانياً: من السنة:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه))
- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
وجه الدلالة:
أن من جملة ما فُسِّر به الحج المبرور: أنه الحج الذي لم يخالطه شيء من المأثم.
الفصل الأول تعريف الطواف ومشروعيته وفضائله
المبحث الأول: تعريف الطواف
الطواف لغةً: دوران الشيء على الشيء.
الطواف اصطلاحاً:
هو التعبد لله عز وجل، بالدوران حول الكعبة على صفةٍ مخصوصة.
المبحث الثاني: مشروعية الطواف
الطواف بالبيت عبادة مشروعة
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قوله تعالى: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:].
- قوله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:].
وجه الدلالة:
أن هاتين الآيتين تدلان على مشروعية الطواف بالبيت, وأنه من العبادات التي يتعبدالله بها منذ القدم.
- قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:].
وجه الدلالة:
في هذه الآية أمر واضح وصريح من الله لعباده القاصدين بيته أن يطوفوا بالبيت الحرام, وفي هذا دليلٌ على مشروعية الطواف.
ثانياً: من السنة:
- حديث جابر الطويل في صفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ... )) الحديث. أخرجه مسلم.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة ثم سجد سجدتين ثم يطوف بين الصفا والمروة)) أخرجه البخاري ومسلم.
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ، ثم طاف)) أخرجه البخاري ومسلم.
المبحث الثالث: فضائل الطواف
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه، كان كعتق رقبة، لا يضع قدما، ولا يرفع أخرى، إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكَتَبَ له بها حسنة)).
المبحث الرابع: من حكم مشروعية الطواف
الطواف كغيره من العبادات تنضوي تحته حكمة عامة عظيمة هي طاعة الله تبارك وتعالى فيما أمر به في كتابه أو أمر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم, إلا أن للطواف حكمة خاصة ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها حيث قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)) , فعلم من هذا الحديث أن الحكمة التي من أجلها شرع الطواف هي ذكر الله تبارك وتعالى, والتقرب إليه بهذه العبادة العظيمة.
الفصل الثاني: أنواع الطواف
المبحث الأول: طواف القدوم
المطلب الأول: أسماء طواف القدوم
يسمَّى طواف القادم، وطواف الورود، وطواف الوارد، وطواف التحية، وطواف اللقاء.
المطلب الثاني: حكم طواف القدوم
طواف القدوم سنة للقارن والمفرد القادمين من خارج مكة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:].
وجه الدلالة:
أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وقد تعين أن المقصود بهذا الطواف طواف الإفاضة بالإجماع، فلا يكون غيره كذلك.
ثانياً: من السنة:
- عن محمد بن عبدالرحمن بن نوفل القرشي، أنه سأل عروة بن الزبير فقال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتني عائشة رضي الله عنها: ((أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ، ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة)). ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك ثم حج عثمان رضي الله عنه، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم معاوية، وعبدالله بن عمر، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، ثم لم ينقضها عمرة، وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه، ولا أحد ممن مضى، ما كانوا يبدءون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت، ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان، لا تبتدئان بشيء أول من البيت، تطوفان به، ثم إنهما لا تحلان)).
- حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ((حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وكان طوافه أول ما قدم للقدوم.
ثالثاً: أن الله سبحانه لم يأمر بذلك الطواف ولا رسوله، ولا اتفق الجميع على وجوبه، وإنما اتفقوا على أنه من شعائر الحج ونسكه، وهذا اليقين، فلا يخرج عنه إلا ببرهان.
رابعاً: سقوط هذا الطواف عن الحائض، وعن المراهق الذي لم يدرك إلا الوقوف بعرفة، فلو كان واجبا لوجب قضاؤه وتداركه، أو جبره بدم.
خامساً: القياس على تحية المسجد، فإنها ليست واجبة، ولاعلى من تركها شيء، فكذلك طواف القدوم فإنه تحية البيت.
المطلب الثالث: وقت طواف القدوم
يبدأ وقت طواف القدوم حين دخول مكة، وينتهي بالوقوف بعرفة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وهو قول للحنابلة، واختاره ابن قدامة، وابن تيمية، وصححه ابن رجب.
الأدلة:
أدلة أن طواف القدوم يكون عند أول القدوم إلى مكة
أولاً: من السنة:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((إن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة أنه توضأ ثم طاف)).
- عن جابر رضي الله عنهما، في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا)).
ثانياً: أنه تحية البيت العتيق، والتحية إنما تكون في أول شيء.
أدلة أن وقت طواف القدوم ينتهي بالوقوف بعرفة
أولاً: من السنة:
عن عائشة رضي الله قالت: ((فطاف الذين أهلوا بالعمرة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر، بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافا واحدا)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما طافوا بعد يوم عرفة طواف الإفاضة، ومنهم من كان متمتعا لم يطف إلا طواف عمرته، ومنهم من لم يدرك الحج إلا يوم عرفة، فعلم أن طواف القدوم إنما يشرع لمن أتى البيت قبل الوقوف بعرفة.
ثانياً: أن المحرم بعد الوقوف بعرفة مطالب بطواف الفرض، وهو طواف الزيارة.
ثالثاً: أن طواف الإفاضة يغني عن طواف القدوم لمن لم يقدم البيت إلا بعد يوم عرفة، كالصلاة الفرض تغني عن تحية المسجد.
رابعاً: أن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب، لشرع في حق المعتمر طواف للقدوم مع طواف العمرة؛ لأنه أول قدومه إلى البيت، فهو به أولى من المتمتع، الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به.
خامساً: أن طواف القدوم شُرِعَ في ابتداء الحج على وجه يترتب عليه سائر الأفعال فلا يكون الإتيان به على غير ذلك الوجه سنة.
المطلب الرابع: متى يسقط طواف القدوم؟
يسقط طواف القدوم عن أربعة أصناف:
أ – الحائض: وفي حكمها النفساء، وذلك إذا استمر دمهما إلى يوم عرفة.
دليل ذلك:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف فطمثت، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: والله، لوددت أني لم أكن خرجت العام، قال: ما لك؟ لعلك نفست؟ قلت: نعم، قال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري .. قالت: فلما كان يوم النحر طهرت، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضت)).
وجه الدلالة:
أن عائشة رضي الله عنها لم تطف للقدوم، وذلك أنها حاضت قبل القدوم إلى مكة، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفعل ما يفعله الحاج إلا الطواف بالبيت، فلم تطهر إلا يوم النحر، فطافت للإفاضة.
ب- المكي: وفي حُكمهالآفاقي إذا أحرم من مكة.
دليل ذلك:
أن طواف القدوم شرع للقدوم، والقدوم في حق المكي غير موجود.
ج - المعتمر والمتمتع
دليل ذلك:
أن طواف القدوم يندرج في طواف العمرة، كالصلاة الفرض تغني عن تحية المسجد.
د - من قصد عرفة رأسا للوقوف يسقط عنه طواف القدوم
دليل ذلك:
أن محل طواف القدوم المسنون قبل وقوف عرفة، وقد فات.
المبحث الأول: صفة الطواف
صفة الطواف بالبيت هي أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فيستقبله، ويستلمه، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر، ثم يبتدئ طوافه جاعلا يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفا بالبيت، ثم يمر وراء الحِجْر، ويدور بالبيت، فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه، فتتم له بهذا طوافة واحدة، ثم يفعل كذلك، حتى يتمم سبعا.
المبحث الثاني: شروط الطواف
المطلب الأول: النية
يشترط نية أصل الطواف، وهذا مذهب جمهور الفقهاء: الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات)).
. عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحل لكم فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الطواف صلاة، والصلاة لا تصح إلا بالنية اتفاقا.
ثانياً: الطواف عبادة مقصودة؛ ولهذا يتنفل به، فلا بد من اشتراط النية فيه.
مسألة: هل يشترط تعيين نية الطواف إذا كان في نسك من حج أو عمرة؟
لا يشترط تعيين نوع الطواف إذا كان في نسك من حج أو عمرة, فلو طاف ناسيا أو ساهياً عن نوع الطواف أجزأه عن الطواف المشروع في وقته، ما دام أنه قد نوى النسك الذي هو فيه: العمرة أو الحج، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية , والمالكية، والشافعية في الأصح , واختاره الشنقيطي ,وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع بعدما دخلوا معه وطافوا وسعوا أن يفسخوا حجهم ويجعلوه عمرة، وكان منهم القارن والمفرد، وإنما كان طوافهم عند قدومهم طواف القدوم، وليس بفرض، وقد أمرهم أن يجعلوه طواف عمرة، وهو فرض.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلن لأصحابه، أو يأمرهم بإعلام الطائفين بأن هذا طواف للقدوم، وذلك طواف للإفاضة، بل كان يؤدي المناسك ويقول: ((لتأخذوا مناسككم))، ولا شك أن كثيرا ممن حج معه صلى الله عليه وسلم لم يكن مستحضرا أن الطواف بعد الوقوف بعرفة، هو طواف الزيارة، وهو الطواف الركن، وإنما كانوا يتابعون النبي صلى الله عليه وسلم في مناسكه.
ثانياً: أنَّ نية النسك تشمل أعمال المناسك كلها بما فيها الطواف بأنواعه، فلا يحتاج إلى نية، كما أن الصلاة تشمل جميع أفعالها، ولا يحتاج إلى النية في ركوع ولا غيره.
ثالثاً: أن أركان الحج والعمرة لا تحتاج إلى تعيين النية، كالوقوف بعرفة، والإحرام، والسعي، والطواف ركن في النسك بالإجماع، فلا يفتقر إلى تعيين النية.
رابعاً: أن نية الطواف في وقته يقع بها عن المشروع في ذلك الوقت دون الحاجة إلى تعيين النية، فإن خصوص ذلك الوقت إنما يستحق خصوص ذلك الطواف بسبب أنه في إحرام عبادة اقتضت وقوعه في ذلك الوقت فلا يشرع غيره.
خامساً: أن القول باشتراط تعيين النية فيه حرج كبير؛ إذ إن أكثر الحجاج على جهل كبير بمناسك الحج ومعرفة الواجب فيه.
المطلب الثاني: ستر العورة
ستر العورة شرطٌ لا يصح الطواف بدونه، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وحكي الإجماع على وجوبه.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:].
وجه الدلالة
أن سبب نزول الآية أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، وكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فنزلت هذه الآية، وقد ثبت هذا التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعلى ذلك جماهير علماء التفسير، وصورة سبب النزول قطعية الدخول عند أكثر الأصوليين.
ثانياً: من السنة:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط، يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)) أخرجه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة:
أن الحديث يدل على أن علة المنع من الطواف كونه عريانا، وهو دليل على اشتراط ستر العورة للطواف.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطواف بالبيت صلاة))
وجه الدلالة
أن قوله: ((الطواف صلاة)) يدل على أنه يشترط في الطواف ما يشترط في الصلاة، إلا ما أخرجه دليل خاص كالمشي فيه، والانحراف عن القبلة، والكلام، ونحو ذلك، ولماكان من شروط الصلاة المجمع عليها عند أهل العلم ستر العورة كان شرطاً أيضاً لصحة الطواف.
المطلب الثالث: الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر في الطواف
الفرع الأول: طواف الحائض لغير عذر
يحرم طواف الحائض لغير عذر.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها حين حاضت وهي محرمة: ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري))، وفي رواية: ((حتى تغتسلي)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عائشة رضي الله عنها أن تطوف بالبيت وهي حائض، والنهي في العبادات يقتضي الفساد وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته.
- عن عائشة رضي الله عنها: ((أن صفية حاضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإنها لحابستنا، فقالوا: يا رسول الله، قد زارت يوم النحر، قال: فلتنفر معكم)).
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث يدل على أن الحائض تنتظر حتى تطهر ثم تطوف، وهذا يدل على اشتراط الطهارة.
ثانياً: الإجماع:
أجمع العلماء على تحريم طواف الحائض، نقله النووي، وأقره الصنعاني، وعامتهم على عدم صحته.
الفرع الثاني: طواف الحائض عند الضرورة
إذا اضطرت المرأة الحائض إلى طواف الإفاضة، كأن تكون مع رفقة لا ينتظرونها، كان ذلك جائزا، لكن تتوقى ما يخشى منه تنجيس المسجد بأن تستثفر، فتجعل ما يحفظ فرجها؛ لئلا يسيل الدم فيلوث المسجد، وهذا اختيار ابن تيمية، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:].
ثانياً: من السنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)).
وجه الدلالة:
أن الحائض إذا اضطرت إلى الطواف لا تستطيع إلا هذا.
ثالثاً: أن الصلاة أعظم من الطواف، ولو عجز المصلي عن شرائطها من الطهارة أو ستر العورة أو استقبال القبلة فإنه يصلي على حسب حاله، فالطواف أولى بذلك؛ فإن أصول الشريعة مبنية على أن ما عجز عنه العبد من شروط العبادات يسقط عنه، وكما لو عجز الطائف أن يطوف بنفسه راكبا وراجلا فإنه يحمل ويطاف به.
الفرع الثالث: اشتراط الطهارة من الحدث في الطواف
أجمع أهل العلم على مشروعية الطهارة في الطواف، ثم اختلفوا في لزومها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنَّ الطهارة من الحدث شرط في صحة الطواف، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية , والشافعية , والحنابلة , وهو اختيار ابن باز.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ وطاف بالبيت)).
وجه الدلالة:
أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لبيان نصٍّ من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم، فدل ذلك على اشتراط الطهارة للطواف؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بينه بفعله وقال: خذوا عني مناسككم، ولم يرد دليل يخالف ذلك؛ فثبت أن الطهارة للطواف شرط.
- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت وهي محرمة: ((افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) وفي رواية ((حتى تغتسلي)).
وجه الدلالة:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص لعائشة رضي الله عنها أن تفعل وهي حائض كل ما يفعله الحاج غير الطواف، فإنه جعله مقيدا باغتسالها وطهارتها من الحيض، فدل على اشتراط الطهارة للطواف، وفي معنى الحائض: الجنب والمحدث.
- عن عائشة رضي الله عنها: ((أن صفية حاضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها لحابستنا، فقالوا: يا رسول الله، قد زارت يوم النحر، قال: فلتنفر معكم)).
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث يدل على أن الحائض تنتظر حتى تطهر ثم تطوف، وهذا يدل على اشتراط الطهارة.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((الطواف بالبيت صلاة ... )).
وجه الدلالة:
أنه شبه الطواف بالصلاة, فدل ذلك على أن للطواف جميع أحكام الصلاة إلا ما دل الدليل على استثنائه كالمشي والكلام وغيره, ومن ذلك الطهارة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)).
القول الثاني: أن الطهارة واجبة في الطواف، فيعيد متى ما كان في مكة، فإن عاد إلى بلده جبره بدم، وهذا مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد.
الدليل:
قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:].
وجه الدلالة:
أن الأمر بالطواف مطلق لم يقيده الشارع بشرط الطهارة، وهذا نص قطعي يجب العمل به، وما ورد في السنة فإنه يدل على الوجوب فقط لا على الشرطية.
القول الثالث: أن الطهارة سنة في الطواف، وهذا قول عند الحنفية، ورواية عن أحمد، واختاره ابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، وابن عثيمين.
وذلك للآتي:
أولاً: أنه لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الطائفين بالوضوء، ولا باجتناب النجاسة، لا في عمره ولا في حجته مع كثرة من حج معه واعتمر ويمتنع أن يكون ذلك واجبا ولا يبينه للأمة وتأخير البيان عن وقته ممتنع.
ثانياً: قياسا على أركان الحج وواجباته فإنه لا يشترط لهما الطهارة، فكذلك الطواف لا يشترط له الطهارة.
المطلب الرابع: ابتداء الطواف من الحجر الأسود
ابتداء الطواف من الحجر الأسود شرط لصحة الطواف، فلا يعتد بالشوط الذي بدأه بعد الحجر الأسود، وهو مذهب الشافعية , والحنابلة , ورواية عند الحنفية، وقول عند المالكية.
الأدلة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة، إذا استلم الركن الأسود، أول ما يطوف: يخب ثلاثة أطواف من السبع)) أخرجه البخاري ومسلم.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا)) أخرجه مسلم.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ابتداء الطواف من الحجر الأسود, ومواظبته دليل على فرضية الابتداء به؛ لأنها بيان لإجمال القرآن في قوله تعالى: ((وليطوفوا بالبيت العتيق))، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لتأخذوا مناسككم)).
المطلب الخامس: أن يجعل البيت عن يساره
يشترط أن يجعل البيت عن يساره، وهو قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
دليل ذلك:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا)) أخرجه مسلم، وقد قال: ((لتأخذوا مناسككم)).
المطلب السادس: دخول الحِجْر ضمن الطواف
الطواف من وراء الحطيم فرض، من تركه لم يعتد بطوافه، حتى لو مشى على جداره لم يجزئه، وهذا مذهب الجمهور من المالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
- عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت، فقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم وعنها، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: نعم)). أخرجه البخاري ومسلم.
- عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر -؛ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله؛ ولجعلت بابها بالأرض؛ ولأدخلت فيها من الحِجر)) أخرجه مسلم.
وجه الدلالة من الحديثين:
أن الحِجْر جزء من الكعبة؛ فيجب أن يكون الطواف من ورائه، فإن لم يطف من ورائه لم يتحقق الطواف حول الكعبة.
- مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الطواف من وراء الحجر، وفعله بيان للقرآن الكريم، فيلتحق به؛ فيكون فرضا.
المطلب السابع: أن يقع الطواف في المكان الخاص وهو داخل المسجد الحرام
يشترط أن يكون مكان الطواف حول الكعبة المشرفة داخل المسجد الحرام، قريبا من البيت أو بعيدا عنه، وهذا شرط متفق عليه بين المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة، وحكى النووي الإجماع على عدم صحة الطواف خارج المسجد الحرام
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:].
وجه الدلالة:
أن الله عز وجل، أمر بالطواف بالبيت، فمن طاف خارج البيت لم يكن طائفا به.
ثانياً: من السنة:
فعله صلى الله عليه وسلم, فقد طاف عليه الصلاة والسلام داخل المسجد الحرام، وقال: ((لتأخذوا مناسككم)).
ثالثاً: أنه إذا طاف خارج المسجد لم يكن طائفا بالبيت، وإنما طاف حول المسجد.
المطلب الثامن: الطواف بالبيت سبعاً
يشترط أن يطوف بالبيت سبعاً ولا يجزئ أقل منها، وهو قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال عطاء وإسحاق، واختاره ابن المنذر، والكمال ابن الهمام من الحنفية.
الأدلة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعا))، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لتأخذوا مناسككم)).
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا)).
فرع: الشك في عدد الأشواط
لو شكَّ في أثناء الطواف في عدد الأشواط التي طافها فإنه يبني على اليقين، وهو الأقل، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية والحنابلة، واستثنى المالكية من ذلك المستنكح، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، واختاره ابن باز، وابن عثيمين.
دليل ذلك من السنة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان)) رواه مسلم.
وجه الدلالة:
أنه أمر باطراح الشك والبناء على اليقين، وهو الأقل، وفي حكم الصلاة: الطواف.
المطلب التاسع: الموالاة بين الأشواط
تجب الموالاة بين الأشواط، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم والى بين أشواط طوافه، وقد قال: ((لتأخذوا مناسككم)).
ثانياً: أن الطواف كالصلاة؛ فيُشترط له الموالاة كسائر الصلوات، أو أنه عبادةٌ متعلقة بالبيت؛ فاشتُرِطت لها الموالاة كالصلاة.
فرع: ماذا يفعل إذا أقيمت صلاة الفريضة في أثناء الطواف؟
إذا أقيمت صلاة الفريضة، فإنه يقطع الطواف بنية الرجوع إليه بعد الصلاة، فإذا قُضيت الصلاة يبدأ من حيث وقف، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، وبه قال أكثر أهل العلم، واختاره ابن حزم، وابن عثيمين.
الأدلة:
دليل قطع الصلاة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)).
وجه الدلالة:
أن الطواف صلاة، فيدخل في عموم الخبر، بوجوب المبادرة إلى الصلاة، وقطع طوافه.
دليل البناء على ما سبق:
أن ما سبق بني على أساسٍ صحيحٍ وبمقتضى إذنٍ شرعي؛ فلا يمكن أن يكون باطلاً إلا بدليلٍ شرعي.
المطلب العاشر: المشي للقادر عليه
إذا كان قادرا على المشي، فيجب عليه أن يطوف ماشياً، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، واختاره ابن عثيمين، وأوجبه المالكية في الطواف الواجب فقط.
الأدلة:
- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، قال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت، يقرأ بالطور وكتابٍ مسطور)) أخرجه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة:
أن الترخيص لها بالطواف راكبة بسبب العذر، يدل أن العزيمة بخلاف ذلك، وأن الأصل أن يطوف ماشياً.
- عن جابر رضي الله عنه قال: ((طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه؛ فإن الناس غشوه)) أخرجه مسلم.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم ما طاف راكباً إلا لعذر، وهو أن يراه الناس ليتأسوا به.
فرع: إذا كان عاجزاً عن المشي، وطاف محمولاً، فلا فداء ولا إثم عليه.
الأدلة:
أولاً من السنة:
- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((شكوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، قال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفتُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت، يقرأ بالطور وكتاب مسطور)) أخرجه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة:
أنه رخص لها الطواف راكبة للعذر.
- عن جابر رضي الله عنه قال: ((طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه؛ فإن الناس غشوه)) أخرجه مسلم.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً للعذر، وهو أن يراه الناس ليتأسوا به.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن تيمية.
الفصل الرابع: سنن الطواف
المبحث الأول: الاضطباع
المطلب الأول: تعريف الاضطباع
الاضطباع لغةً: مشتق من الضَبْع, بمعنى: العضد؛ سمي بذلك لإبداء أحد الضبعين.
الاضطباع اصطلاحاً: أن يتوشَّح بردائه ويخرجه من تحت إبطه الأيمن، ويلقيه على منكبه الأيسر، ويغطيه، ويبدي منكبه الأيمن.
المطلب الثاني: حكم الاضطباع
الاضطباع سنةٌ من سنن الطواف، وهو للرجال دون النساء, وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
- عن يعلى بن أمية رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى)).
- عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ((فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله، مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
المطلب الثالث: متى يُسن الاضطباع؟
الاضطباع مشروعٌ في طواف القدوم, وطواف العمرة فقط، وهو مذهب الحنابلة , وقولٌ عند الشافعية , واختاره ابن باز , وابن عثيمين.
الأدلة:
- عن يعلى بن أمية رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى)).
الدلالة:
تدل هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اضطبع في طوافه أول مقدمه، ولم يُروَ عنه الاضطباع في غير ذلك.
المبحث الثاني: الرمل
المطلب الأول: تعريف الرمل
لغةً: الهرولة, يقال: رمل: إذا أسرع في المشي، وهزَّ منكبيه.
اصطلاحاً: هو الإسراع في المشي، مع تقارب الخطى وتحريك المنكبين, وهو دون الوثوب والعدو، ويسمى أيضاً الخبب.
المطلب الثاني: حكم الرمل
الرمل سنةٌ للمحرم، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف ويمشي أربعة وأنه كان يسعى بطن المسيل، إذا طاف بين الصفا والمروة)) أخرجه البخاري ومسلم.
- حديث جابر الطويل في حجة الوداع قال: ((فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً)) أخرجه مسلم.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا، قومٌ قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين؛ ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا)) أخرجه البخاري ومسلم.
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف)) أخرجه مسلم.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر)) أخرجه مسلم.
المطلب الثالث: الرمل في الأشواط الثلاثة
الرمل يكون في الثلاثة الأشواط الأُوَل من الطواف.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول، يخب ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل، إذا طاف بين الصفا والمروة) أخرجه البخاري ومسلم.
- حديث جابر الطويل في حجة الوداع قال: ((فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً)) أخرجه مسلم.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن قدامة , والنووي.
المطلب الرابع: الرمل خاصٌ بطواف القدوم وبطواف المعتمر فقط
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- حديث جابر الطويل في حجة الوداع قال: ((فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً)) أخرجه مسلم.
وجه الدلالة:
أن هذا الرمل كان في طواف القدوم.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا، قومٌ قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين؛ ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا)) أخرجه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة:
أن هذا الرمل كان في طواف العمرة.
الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن قدامة.
المبحث الثالث: استلام الحجر الأسود وتقبيله
المطلب الأول: استلام الحجر الأسود وتقبيله
يسن استلام الحجر الأسود وتقبيله، في ابتداء الطواف، وفي كل شوط، وبعد ركعتي الطواف.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: ((أمَا والله، إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك، فاستلمه، ثم قال: فما لنا وللرمل، إنما كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله؟ ثم قال: شيءٌ صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه)) أخرجه البخاري ومسلم، وفي رواية: ((أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: «إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)).
- عن سويد بن غفلة، قال: ((رأيت عمر قبَّل الحجر والتزمه، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا)).
- عن الزبير بن عربي، قال: ((سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، قال: قلت: أرأيت إن زحمت؟ أرأيت إن غلبت؟ قال: اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله)).
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنه قال في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه، ثم مشى على يمينه، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً)) أخرجه مسلم.
ثانيا: الإجماع:
نقل الإجماع على سنية استلام الحجر الأسود في الطواف: ابن حزم، وابن عبدالبر، وابن رشد والنووي.
المطلب الثاني: استلام الحجر عند الزحام
إذا وجد الطائف زحاماً فيجتنب الإيذاء، ويكتفي بالإشارة إلى الحجر الأسود بيده؛ وذلك لأن الزحام يؤذيه؛ ويؤذي غيره؛ وربما يحصل به الضرر؛ ويذهب الخشوع، ويخرج بالطواف عما شُرِع من أجله من التعبد لله؛ وربما حصل به لغوٌ وجدال ومقاتلة.
المطلب الثالث: كيفية الإشارة إلى الحجر الأسود
إذا لم يستلم الحجر الأسود ويقبله، فله أن يستلمه ويقبل يده، وله أن يستلمه بشيءٍ يكون معه، ويقبله، وله أن يشير إليه بيده من غير تقبيل.
الأدلة:
- عن نافع، قال: ((رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله)).
- عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: ((رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، ويستلم الركن بمحجنٍ معه ويقبِّل المحجن)).
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: ((طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه؛ فإن الناس غشوه)).
المبحث الرابع: استلام الركن اليماني
يُستحبُّ استلام الركن اليماني، وهو الركن الواقع قبل ركن الحجر الأسود, ولا يقبله، ولا يقبل ما استلم به.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((ما تركت استلام هذين الركنين: اليماني والحجر، مُذْ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما، في شدةٍ ولا رخاء)) أخرجه البخاري ومسلم.
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت، إلا الركنين اليمانيين)) أخرجه البخاري ومسلم.
- عن سالم عن أبيه أنه قال: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من أركان البيت إلا الركن الأسود، والذي يليه، من نحو دور الجمحيين)) أخرجه مسلم.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن رشد.
مطلب: استلام غير الركنين اليمانيين:
لا يسن استلام غير الركنين اليمانيين
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين)).
- عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت، فقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. وعنها، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: نعم)) أخرجه البخاري ومسلم.
ثانياً: أن الركن الذي فيه الحجر الأسود فيه فضيلتان: كون الحجر فيه، وكونه على قواعد إبراهيم عليه السلام، والركن اليماني فيه فضيلة واحدة: وهي كونه على قواعد أبينا إبراهيم عليه السلام، وأما الشاميان فليس لهما شيء من الفضيلتين؛ ولذا لم يشرع استلامهما.
المبحث الخامس: الذكر والدعاء في الطواف
يستحب للطائف أن يكثر من الذكر والدعاء في طوافه, وله أن يدعو الله بما شاء من خيري الدنيا والآخرة؛ إذ لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرٌ أو دعاءٌ خاصٌّ بالطواف، إلا ما بين الركنين اليمانيين فإنه يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار) ..
المبحث السادس: قراءة القرآن في الطواف
لأهل العلم في قراءة القرآن في الطواف قولان:
القول الأول: استحبابه مع تفضيل الذكر المأثور عليه، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، وإحدى الروايتين عن أحمد، وروي عن طائفةٍ من السلف، واختاره ابن المنذر.
وذلك للآتي:
أولاً: أن الطواف صلاة، ولا تكره القراءة في الصلاة.
ثانياً: أن الموضع موضع ذكر، والقرآن أفضل الذكر.
ثالثاً: أن قراءة القرآن مندوبٌ إليها في جميع الأحوال إلا في حال الجنابة والحيض.
القول الثاني: كراهته، وهو مذهب المالكية، وقولٌ للحنفية، وهو روايةٌ عن أحمد، وبه قال طائفةٌ من السلف.
وذلك للآتي:
أولاً: أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل، والمشروع في الطواف مجرد ذكر الله تعالى، ولم يثبت عنه في الطواف قراءة قرآن، بل الذكر، وهو المتوارث من السلف والمجمَع عليه، فكان أولى.
ثانياً: أن ما ما ورد من الذكر مختصًّا بمكانٍ أو زمانٍ أو حال، فالاشتغال به أفضل من الاشتغال بالتلاوة.
المبحث السابع: الدنو من البيت
يستحب للطائف أن يدنو من البيت, وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
وذلك للآتي:
أولاً: لشرف البيت، وأنه هو المقصود.
ثانياً: أنه أيسر في الاستلام والتقبيل.
المبحث الثامن: صلاة ركعتين خلف المقام بعد الطواف
المطلب الأول: حكم صلاة ركعتين خلف المقام بعد الطواف
صلاة ركعتين خلف المقام بعد الطواف، سنةٌ مؤكدة, وهو مذهب الشافعية في الأصح، والحنابلة , واختاره ابن حزم، وابن باز , وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
- حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ((حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:] فجعل المقام بينه وبين البيت ... الحديث)).
- عن عبدالله بن أبي أوفى قال: ((اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت، وصلى خلف المقام ركعتين)).
- حديث الأعرابي الذي جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وما يجب عليه، وفيه: ((خمس صلوات في اليوم والليلة)) فقال: هل علي غيرهن؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع)) ... الحديث.
وجه الدلالة:
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرَّح بأنه لا يجب شيءٌ من الصلاة، إلا الصلوات الخمس المكتوبات.
- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خمس صلواتٍ كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن؛ كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذَّبه، وإن شاء أدخله الجنة)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أن الصلوات التي فرضها الله على عباده، هي الصلوات الخمس فقط, وفي هذا دليلٌ على أن ركعتي الطواف غير واجبة.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من طاف بالبيت، وصلى ركعتين كان كعتق رقبة)).
وجه الدلالة:
كون رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج الحديث مخرج الفضل، وجعل لركعتي الطواف أجراً محدوداً؛ فإنه دليلٌ على أنها ليست بواجبة؛ إذ إن الواجب غير محدَّد الأجر والثواب.
المطلب الثاني: مكان أدائهما
أداء ركعتي الطواف يكون خلف المقام إن تيسر له ذلك.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
- حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: ((حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:] فجعل المقام بينه وبين البيت ... الحديث)).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك، النووي، وابن تيمية.
المطلب الثالث: إذا لم يتيسر للطائف أداؤها خلف المقام بسبب الزحام أو غيره
إذا لم يتيسر للطائف أداؤها خلف المقام بسبب الزحام أو غيره، فإنه يصليها في أي مكانٍ تيسر في المسجد، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية , والمالكية , والشافعية والحنابلة.
المبحث التاسع: استلام الحجر بعد الانتهاء من الطواف
يسن لمن انتهى من طوافه وصلى ركعتي الطواف أن يعود إلى الحجر فيستلمه، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ((ثم رجع إلى الركن فاستلمه)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن قدامة وابن عبدالبر.
مسألة: الكلام في الطواف:
يكره الكلام في الطواف لغير حاجة، وهو قول الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
الأدلة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى قد أحل فيه النطق فمن نطق فلا ينطق فيه إلا بخير)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة، بإنسانٍ ربط يده إلى إنسان بسير، أو بخيط، أو بشيءٍ غير ذلك، فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال: قده بيده)).
وجه الدلالة:
أنه لولا كراهة الكلام لما احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يشير إليه بيده.
الفصل الأول: تعريف السعي بين الصفا والمروة
- (السعي) لغةً: المشي، والعدو من غير شد.
- (الصفا) لغةً: جمع صفاة، وهي الحجر الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئا؛ وقيل: هي الصخرة الملساء.
واصطلاحاً: مكانٌ مرتفع من جبل أبي قبيس، ومنه ابتداء السعي، ويقع في طرف المسعى الجنوبي.
- (المروة) لغةً: حجارةٌ بيض برَّاقة، والجمع مرو.
واصطلاحاً: جبلٌ بمكة، وإليه انتهاء السعي، وهو في أصل جبل قعيقعان، ويقع في طرف المسعى الشمالي.
فالسعي اصطلاحاً: هو قطع المسافة الكائنة بين الصفا والمروة، سبع مرات في نسك حجٍّ أو عمرة.
الفصل الثاني: مشروعية السعي وأصله وحكمته
المبحث الأول: مشروعية السعي
السعي بين الصفا والمروة مشروع في الحج والعمرة
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون، يعني بين الصفا والمروة، فكانت سنة)).
- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة)).
المبحث الثاني: أصل السعي
أصل مشروعية السعي هو سعي هاجر عليها السلام، عندما تركها إبراهيم مع ابنهما إسماعيل عليهما السلام بمكة، ونفد ما معها من طعام وشراب، وبدأت تشعر هي وابنها بالعطش؛ فسعت بين الصفا والمروة سبع مرات طلباً للماء، يقول ابن عباس: وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى- أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبلٍ في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم ((فذلك سعي الناس بينهما)) رواه البخاري.
المبحث الثالث: حكمة السعي
- شُرِعَ السعي؛ تخليداً لذكرى إبراهيم وزوجته هاجر وابنهما إسماعيل عليهم السلام؛ وتشريفًا لهم.
- استشعار العبد بأن حاجته وفقره إلى خالقه ورازقه كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الكرب العظيم إلى خالقها ورازقها، وليتذكر أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يضيعه، ولا يخيب دعاءه.
الفصل الثالث: حكم السعي والتطوع به
المبحث الأول: حكم السعي
السعي بين الصفا والمروة ركنٌ من أركان الحج والعمرة، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما، وطائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً من الكتاب:
قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن تصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله، يدل على أن السعي بينهما أمرٌ حتمٌ لا بد منه؛ لأنه لا يمكن أن تكون شعيرةً، ثم لا تكون لازمةً في النسك؛ فإن شعائر الله عظيمة، لا يجوز التهاون بها، وقد قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ الآية [المائدة:]، وقال: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ الآية [الحج:].
ثانياً: من السنة:
- أن طواف النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة، بيانٌ لنصٍّ مجملٍ في كتاب الله، وهو قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ []، وقد قرأها عليه الصلاة والسلام لما صعد إلى الصفا، وقال: ((نبدأ بما بدأ الله به)) وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان لبيان نصٍّ مجملٍ من كتاب الله؛ فإن ذلك الفعل يكون لازما.
- عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأخذوا مناسككم))، وقد طاف بين الصفا والمروة سبعاً، فيلزمنا أن نأخذ عنه ذلك.
- عن حبيبة بنت أبي تجراة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي)).
- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((قدمتٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخٌ بالبطحاء، فقال لي: أحججت؟ فقلت: نعم، فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة)).
فهذا أمرٌ صريحٌ دل على الوجوب، ولم يأت صارفٌ له.
- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: ((يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة، عن حجك وعمرتك)).
وجه الدلالة:
أنه يُفهم من الحديث أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها إجزاءٌ عن حجها وعمرتها.
ثالثاً: من أقوال الصحابة:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما أتم الله حج امرئٍ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة)).
- عن عروة قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أرى على أحدٍ لم يطف بين الصفا والمروة، شيئاً، وما أبالي أن لا أطوف بينهما، قالت: بئس ما قلت، يا ابن أختي! طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاف المسلمون؛ فكانت سنة، وإنما كان من أهلَّ لمناة الطاغية، التي بالمشَلَّل، لا يطوفون بين الصفا والمروة، فلما كان الإسلام سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله عز وجل: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:]. ولو كانت كما تقول لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)).
وفي رواية: سألت عائشة، وساق الحديث بنحوه، وقال في الحديث: ((فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة؛ فأنزل الله عز وجل: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:]، قالت عائشة: قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما؛ فليس لأحدٍ أن يترك الطواف بهما)).
رابعا: أنه نسكٌ في الحج والعمرة فكان ركناً فيهما كالطواف بالبيت.
المبحث الثاني: التطوع بالسعي بين الصفا والمروة
لا يشرع التطوع بالسعي بين الصفا والمروة لغير الحاج والمعتمر.
الدليل:
الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن حجر، والشنقيطي.
الفصل الرابع: الموالاة بين السعي والطواف
لا تجب الموالاة بين الطواف والسعي وإن كانت مستحبة، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية والحنابلة، وبه قال طائفةٌ من السلف.
وذلك للآتي:
أولاً: أن السعي عبادةٌ مستقلة، فإذا فُصِل بينها وبين غيرها بشيءٍ فلا يضر.
ثانياً: أن الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي، ففيما بينه وبين الطواف أولى.
الفصل الخامس: شروط السعي
الشرط الأول: استيعاب ما بين الصفا والمروة
يشترط في صحة كل شوطٍ من أشواط السعي، قطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فإن لم يقطعها كلها لم يصح، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: ((لتأخذوا مناسككم)).
ثانياً: أن المسافة للسعي محددةٌ من قبل الشرع، والنقص عن الحد مبطل.
الشرط الثاني: الترتيب بأن يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة
يشترط أن يبدأ سعيه بالصفا، وينتهي بالمروة، حتى يختم سعيه بالمروة، فإن بدأ بالمروة، ألغى هذا الشوط، وهذا باتفاق المذهبة الأربعة: الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((فبدأ بالصفا، فرقي عليه ... ثم نزل إلى المروة))، وقد قال ((لتأخذوا مناسككم)).
- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((أبدأ بما بدأ الله به))، وقد بدأ الله عز وجل بالصفا فقال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ [البقرة:].
الشرط الثالث: أن يكون سبعة أشواط
يشترط في صحة السعي بين الصفا والمروة، أن يكون سبعة أشواط، ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، ورجوعه من المروة إلى الصفا شوط، وهذا قول الجمهور: المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عمرو بن دينار قال: سألنا ابن عمر رضي الله عنهما عن رجلٍ طاف بالبيت في عمرة، ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته؟ فقال: ((قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، فطاف بين الصفا والمروة سبعاً لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:])).
فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: ((لتأخذوا مناسككم)).
ثانياً: أن عدد أشواط السعي محددةٌ من قبل الشرع، والنقص عن الحد مبطل، كما أن النقص عن عدد كل صلاةٍ عمداً مبطلٌ لها.
ثالثاً: أن عليه عمل الناس، كما نقل ذلك النووي.
الشرط الرابع: أن يكون بعد الطواف
اختلف أهل العلم في اشتراط تقدم الطواف على السعي على قولين:
القول الأول: يشترط في صحة السعي أن يقع بعد الطواف، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم، سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدِّم الطواف على السعي بدلالة كلمة (ثم) وقد قال: ((لتأخذوا مناسككم))، وفعلُهُ في المناسك يفيد الوجوب.
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((حاضت عائشة رضي الله عنها، فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت طافت بالبيت، قالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجةٍ وعمرة، وأنطلق بحج! فأمر عبدالرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج))، وفي روايةٍ عن عائشة رضي الله عنها: ((فقدمتُ مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة)).
وجه الدلالة:
أنه لولا اشتراط تقدم الطواف على السعي؛ لفعلت في السعي مثل ما فعلت في غيره من المناسك؛ فإنه يجوز لها السعي من غير طهارة.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك السرخسي، والماوردي، وأقره النووي.
ثالثاً: أن السعي تابعٌ للطواف ومتممٌ له، وتابعُ الشيء لا يتقدم عليه.
القول الثاني: لا يشترط لصحة السعي أن يسبقه طواف، وهذا مذهب الظاهرية، وروايةٌ عن أحمد، وبه قال بعض السلف، واختاره ابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر، فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: اذبح، ولا حرج، ثم جاءه رجل آخر، فقال: يا رسول الله، لم أشعر؛ فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: ارم، ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل، ولا حرج)).
وجه الدلالة:
عموم قوله: ((ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل، ولا حرج))، فيندرج فيه تقديم السعي على الطواف.
ثانياً: عن أسامة بن شَريك رضي الله عنه قال: ((خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجًّا، فكان الناسُ يأتونه، فمن قال: يا رسول الله، سعيتُ قبل أن أطوف، أو قدمتُ شيئا، أو أخرتُ شيئا، فكان يقول: لا حرج، لا حرج، إلا على رجلٍ اقترض عِرْضَ رجلٍ مسلم وهو ظالمٌ له، فذلك الذي حَرَجَ وهلك)).
ثالثاً: عن عائشة رضي الله عنها: ((أنها حاضت، وهي في طريقها إلى الحج، فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت)).
وجه الدلالة:
أنه نهاها عن الطواف بالبيت، وأمرها بأن تقضي المناسك كلها، ويدخل في هذا العموم، السعي بين الصفا والمروة.
الشرط الخامس: الموالاة بين أشواط السعي
اختلف أهل العلم في اشتراط الموالاة بين أشواط السعي على قولين
القول الأول: لا تشترط الموالاة بين أشواط السعي، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، وروايةٌ عن أحمد، واختاره ابن قدامة، وابن باز.
وذلك للآتي:
أولاً: أن مسمى السعي يحصل بالسعي بين الصفا والمروة سبع مرات، سواء كانت الأشواط متواليةً أو متفرقة.
ثانياً: أنه نسكٌ لا يتعلق بالبيت فلم تُشترَط له الموالاة، كالرمي والحلق.
القول الثاني: تُشترَط الموالاة بين أشواطه، وهو مذهب المالكية والحنابلة، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سعى سعياً متوالياً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لتأخذوا مناسككم)).
ثانياً: أن السعي عبادةٌ واحدة، فاشتُرِط فيه الموالاة كالصلاة والطواف.
مسألة:
لو أقيمت الصلاة أثناء السعي، قطع السعي وصلى، ثم أتمَّ الأشواط الباقية، وهو مذهب الجمهور: الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وعليه أكثر أهل العلم.
الأدلة:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) والطواف صلاة؛ فيدخل تحت عموم الخبر.
إذا ثبت ذلك في الطواف بالبيت مع تأكده؛ ففي السعي بين الصفا والمروة من باب أولى.
ثانياً: أن ما سبق بني على أساسٍ صحيح، وبمقتضى إذنٍ شرعي، فلا يمكن أن يكون باطلاً إلا بدليلٍ شرعي.
ثالثاً: أنه فرضٌ يخاف فوته، فأشبه خروج المعتكف لصلاة الجمعة.
الفصل السادس: ما لا يشترط في السعي
المبحث الأول: النية
لا تشترط النية في السعي عند جمهور أهل العلم من الحنفية، والمالكية، والشافعية.
وذلك للآتي:
أولاً: أنَّ السعي يعتبر جزءاً من عدة أجزاء من عبادةٍ واحدة، والنية في أولها كافيةٌ عن النية في بقية أجزائها؛ لأن الحج عبادةٌ مركبةٌ من هذه الأجزاء، فإذا نوى في أولها أجزأ عن الجميع، كما لو نوى الصلاة من أولها فلا يحتاج في كل ركوعٍ وسجودٍ من الصلاة إلى نيةٍ تخصه.
ثانياً: القياس على الوقوف بعرفة، فإنه لو وقف بها ناسياً أجزأه بالإجماع.
المبحث الثاني: الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر
لا تشترط الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر في السعي بين الصفا والمروة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول أكثر أهل العلم.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها وقد حاضت: ((افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع كل ما يفعله الحاج إلا الطواف بالبيت خاصة، فدل على أن السعي لا تشترط له الطهارة.
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن عائشة رضي الله عنها حاضت فنسكت المناسك كلها، غير أنها لم تطف بالبيت)).
ثانياً: أن السعي عبادةٌ لا تتعلق بالبيت؛ فأشبهت الوقوف بعرفة.
المبحث الثالث: ستر العورة:
لا يُشترط ستر العورة لصحة السعي، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة؛ وذلك لأنه إذا لم تُشترط الطهارة للسعي مع كونها آكد؛ فغيرها أولى.
الفصل السابع: سنن السعي
المبحث الأول: الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر عليهما وبينهما
يشرع إذا دنا من الصفا أن يقرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ [البقرة:]، ويقول: ((أبدأ بما بدأ الله به))، ويقتصر في قوله هذا على الصفا في المرة الأولى فقط، ويرتقي على الصفا حتى يرى الكعبة ويستقبلها، ويكبر ثلاثاً: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ويقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم يدعو بما تيسر، رافعاً يديه، ويكرر ذلك (ثلاث مرات)، ويقول ويفعل على المروة كما قال، وفعل على الصفا في الأشواط السبعة، ما عدا قراءة الآية، وقوله (نبدأ بما بدأ الله به).
ويكثر من الدعاء والذكر في سعيه، ومن ذلك: رب اغفر وارحم، إنك أنت الأعز الأكرم.
الأدلة:
- عن جابر رضي الله عنه أنه قال في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ [البقرة:] أبدأ بما بدأ الله به. فبدأ بالصفا فرقى عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحَّد الله، وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبَّت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا، مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا)).
- عن مسروق أن ابن مسعود لما هبط إلى الوادي سعى فقال: ((اللهم اغفر وارحم وأنت الأعز الأكرم)). وكذلك جاء عن ابن عمر أنه كان يقوله، وكان ابن عمر يدعو فيقول: ((اللهم إنك قلت ادعوني أستجب لكم وإنك لا تخلف الميعاد، وإني أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم)).
المبحث الثاني: السعي الشديد بين العلامتين الخضراوين
يسن المشي بين الصفا والمروة إلا ما كان بين العلامتين الخضراوين، فإنه يسن للرجال السعي الشديد بينهما، وذلك في الأشواط السبعة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- ((عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان صلى الله عليه وسلم يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة)).
- عن جابر رضي الله عنه قال: (( ... حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على استحبابه ابن عبدالبر والنووي.
المبحث الثالث: المشي بين الصفا والمروة للقادر عليه
المشي بين الصفا والمروة أفضل من الركوب إلا لمن كان له عذر.
الدليل:
الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك النووي وابن قدامة
مسألة: من سعى بين الصفا والمروة راكبا فله حالان:
الحال الأولى: أن يكون لعذر، فهذا جائز.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه فإن الناس غشوه)).
- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)).
ثانيا: الإجماع:
نقل الإجماع على جواز ذلك ابن عبدالبر وابن قدامة وابن القيم.
الحال الثانية: من سعى بين الصفا راكباً بدون عذر فلأهل العلم فيه قولان:
القول الأول: يجوز السعي راكباً، ولا شيء عليه، وهذا مذهب الشافعية، وهو قول طائفةٍ من السلف، واختاره ابن حزم، وابن قدامة، والشنقيطي، وابن باز.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- ((أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً وسعى راكباً))، وهو صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا ما يسوغ فعله.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد. حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه فلما كثر عليه ركب، والمشي والسعي أفضل)).
ثانياً: أن الله تعالى أمر بالسعي مطلقاً، فكيفما أتى به أجزأه، ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليل.
القول الثاني: لا يجوز السعي راكباً من غير عذر، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وبه قال الليث ابن سعد وأبو ثور، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: أن السعي بين الصفا والمروة فرض، فالقياس أن يجب المشي فيه إلا لعذر.
ثانياً: أنه لا دليل على جواز السعي راكباً، وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما كان لعذرٍ فلا يلحق به من لا عذر له.
الفصل الثامن: أنواع السعي في الحج
المبحث الأول: سعي المفرد والقارن
على المفرد والقارن سعي واحد للنسك، يقع بعد طواف القدوم، ولهما تأخيره إلى بعد طواف الإفاضة
المبحث الثاني: سعي المتمتع
على المتمتع سعيان: سعي لعمرته، وسعي لحجته بعد طواف الإفاضة: يبدأ أولاً بعمرة تامة في أشهر الحج: فيطوف ويسعى، ثم يحلق أو يقصر، ويتحلل منها، ثم يحرم بالحج، وبعد الوقوف بعرفة يأتي بطواف للحج وسعي له.
مسألة:
بعد انتهاء المتمتع من الطواف والسعي فإنه يحلق أو يقصر، والتقصير أفضل إن كان قريبا من زمن الحج، ثم يحل بذلك له التحلل كله حتى جماع النساء، أما المفرد والقارن فيبقيان على إحرامهما بعد سعي الحج، ولا يتحللون إلا يوم النحر: وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيءٍ حرم منه، حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي، فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر، وليحلل)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أنه سُئِلَ عن متعة الحج فقال: أهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلَّد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلَّد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهلَّ بالحج، فإذا فرغنا من المناسك، جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي)).
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ساق الهدي معه، وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحلوا من إحرامكم، فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصروا، وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة، قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما آمركم به، فإني لولا أني سقت الهدي، لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ولكن لا يحل مني حرام، حتى يبلغ الهدي محله)).
- عن نافع: ((أن ابن عمر أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير، فقيل له: إن الناس كائنٌ بينهم قتال، وإنا نخاف إن يصدوك، فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:] إذًا أصنع كما صنع رسول الله عليه وسلم، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت حجًا مع عمرتي، وأهدى هديًا اشتراه بقديد، ولم يزد على ذلك، فلم ينحر ولم يحل من شيءٍ حرم منه، ولم يحلق، ولم يقصر، حتى كان يوم النحر، فنحر، وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
ثانياً: أن سعي المتمتع هو سعيٌ لعمرته، فتعلق الحلق والتحلل بالانتهاء منها، أما سعي المفرد والقارن فإنما هو سعي الحج، وهو لا يتحلل به، وإنما يتحلَّل بأعمال يوم النحر، فلا معنى للحلق أو التحلُّل بعد هذا السعي.
تمهيد: التعريف بيوم التروية
يوم التروية (بفتح التاء المثناة) هو اليوم الثامن من ذي الحجة؛ وسمي بذلك لأنهم كانوا يتروون يتزودون بحمل الماء معهم من مكة إلى عرفات، ويسقون، ويستقون، وقيل غير ذلك.
ويسمى أيضاً يوم النقلة؛ لأن الناس ينقلون فيه من مكة إلى منى.
الفصل الأول: الإحرام في يوم التروية لمن كان حلالاً
يُستحَبُّ لمن كان بمكة متمتعاً واجداً الهدي أو كان من أهل مكة، أن يُحرم يوم التروية ويهل بالحج، ويفعل كما فعل عند الإحرام من الميقات؛ من الاغتسال والتطيب ولبس الإزار وغير ذلك، وهو قول الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وابن حزم من الظاهرية، وهو قول طائفة من السلف.
الأدلة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: ((فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج))
- وعنه رضي الله عنه قال: ((أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فما ندري أشيءٌ بلغه من السماء أم شيءٌ من قبل الناس؟ فقال: أيها الناس أحلوا فلولا الهدي الذي معي فعلت كما فعلتم، قال فأحللنا حتى وطئنا النساء، وفعلنا ما يفعل الحلال، حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج)).
- ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما ((أنه إذا كان بمكة يحرم بالحج يوم التروية، فقال له عبيد بن جريح في ذلك، فقال: إني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته)).
الفصل الثاني: الذهاب إلى منى
المبحث الأول: حكم الذهاب إلى منى في يوم التروية
يسن للحاج أن يخرج من مكة إلى منى يوم التروية بعد طلوع الشمس، فيصلي خمس صلوات وهي: الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر يوم التاسع.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
حديث جابر رضي الله عنه قال: ((فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى وأهلوا بالحج، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبةٍ من شعر تضرب له بنمرة))
ثانيا: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك: ابن المنذر، وابن قدامة، والنووي، وابن رشد.
المبحث الثاني: السنة أن يصلوا كل صلاة في وقتها قصرا بلا جمع
حكى ابن رشد الإجماع على ذلك.
الدليل:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعاً)).
المبحث الثالث: هل يقصر أهل مكة بمنى؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: يقصر أهل مكة بمنى، وهذا مذهب المالكية، وهو اختيار ابن تيمية، وابن باز.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعا)).
- عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقيل: ذلك لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فاسترجع، ثم قال: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس من أهل مكة وغيرهم بمنى وعرفة ومزدلفة قصراً، ولم يأمر أهل مكة بالإتمام، ولو كان واجباً عليهم لبينه لهم.
القول الثاني: يتم أهل مكة بمنى، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، واختاره ابن عثيمين احتياطاً.
الأدلة:
أولاً: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين، وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان صدراً من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعاً)).
وجه الدلالة:
أن من أوجه تفسير سبب إتمام عثمان رضي الله عنه بمنى أنه تأهل بمكة، فلم يكن مسافراً، فصلى صلاة المقيم، فدل على أن أهل مكة يتمون بمنى ولا يقصرون.
ثانياً: أن المكي غير مسافر، فحكمه حكم المقيم، فيتم الصلاة، ولا يقصر، وإنما يقصر من كان سفره سفراً تقصر في مثله الصلاة.
الفصل الثالث: حكم المبيت بمنى ليلة عرفة
يسن أن يبيت الحاج بمنى ليلة عرفة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولا: من السنة:
عن جابر رضي الله عنه قال: ((ثم مكث طويلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبةٍ من شعر تضرب له بنمرة))
ثانيا: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك النووي، وابن عبدالبر.
الفصل الأول: التعريف بيوم عرفة والفرق بينه وبين عرفات وسبب التسمية به
المبحث الأول: تعريف يوم عرفة:
يوم عرفة: هو التاسع من ذي الحجة.
وعرفة أو عرفات: موقف الحاج ذلك اليوم، وهي على نحو (كيلو متر تقريبا).
المبحث الثاني: الفرق بين عرفة وعرفات:
قال النيسابوري: عرفات جمع عرفة.
وقال الطبرسي: عرفات: اسمٌ للبقعة المعروفة التي يجب الوقوف بها، ويوم عرفة يوم الوقوف بها.
المبحث الثالث: سبب تسمية عرفات:
قيل: سميت بذلك لأن آدم عليه السلام عرف حواء فيها.
وقيل: لأن جبريل عليه السلام عرَّف إبراهيم عليه السلام فيها المناسك.
وقيل: لتعارف الناس فيها.
وقيل: هي مأخوذة من العَرْف وهو الطيب؛ لأنها مقدسة.
الفصل الثاني: فضل يوم عرفة
المبحث الأول: فضل يوم عرفة للحاج
أولا: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)).
ثانيا: عن عمر بن الخطاب، أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أي آية؟ قال: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:] قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائمٌ بعرفة يوم جمعة.
المبحث الثاني: فضل يوم عرفة لغير الحاج:
أولا: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده)).
ثانيا: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه))، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد، إلا رجلٌ خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)).
وجه الدلالة:
أن يوم عرفة هو اليوم التاسع من هذه الأيام العشر فيشمله ذلك الفضل.
الفصل الثالث: حكم الوقوف بعرفة
المبحث الأول: حكم الوقوف بعرفة
الوقوف بعرفة ركنٌ من أركان الحج، ولا يصح الحج إلا به، ومن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج.
الأدلة:
أولا: من القرآن
قال الله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن قوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ يدل على أن الوقوف بعرفة لا بد منه، وأنه أمرٌ مسلَّم وأن الوقوف بالمزدلفة إنما يكون بعد الوقوف بعرفة.
ثانيا: من السنة:
- عن عبدالرحمن بن يعمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الحج عرفة)).
- عن عروة بن مضرس الطائي قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبل طيء، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبلٍ إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد أتم حجه وقضى تفثه)).
ثالثا: الإجماع:
نقل الإجماع على ركنيته: ابن عبدالبر، وابن المنذر، وابن قدامة.
المبحث الثاني: ما المراد بالوقوف؟
المراد بالوقوف بعرفة: المكث فيها، لا الوقوف على القدمين
الدليل:
أولا: من السنة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة راكبًا، ومعلومٌ أن الراكب على البعير جالسٌ عليها وليس واقفاً عليها.
ثانيا: أن الوقوف قد يراد به السكون لا القيام.
الفصل الرابع: شروط الوقوف بعرفة
المبحث الأول: أن يكون الوقوف في أرض عرفات
تمهيد
يشترط أن يكون الوقوف في أرض عرفات لا في غيرها، وعرفة كلها موقف.
الدليل:
أولا: من السنة:
- فعله صلى الله عليه وسلم، وقوله: ((لتأخذوا مناسككم)).
- حديث جابر وفيه: (( ... وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف)).
ثانيا: فعل الصحابة رضي الله عنهم، ولم يثبت أن أحدًا منهم وقف خارج عرفات.
المطلب الأول: ما هي حدود عرفات؟
لعرفات أربعة حدود:
أحدها: ينتهي إلى حافة طريق المشرق.
والثاني: إلى حافات الجبل الذي وراء أرض عرفات.
والثالث: إلى البساتين التي تلي قرية عرفات، وهذه القرية على يسار مستقبل الكعبة إذا وَقَفَ بأرضِ عرفات.
والرابع: ينتهي إلى وادي عرنة ..
وقد وُضِعَت الآن علاماتٌ حول أرض عرفة تبين حدودها، ويجب على الحاج أن يتنبه لها؛ لئلا يقع وقوفه خارج عرفة، فيفوته الحج.
المطلب الثاني: حكم الوقوف بوادي عرنة.
لا يصح الوقوف بوادي عرنة، ولا المسجد المسمَّى: مسجد إبراهيم، ويقال له أيضاً: مسجد عرنة، بل هذه المواضع خارجة عن عرفات، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية في المشهور، والشافعية والحنابلة وحكى الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، والقاضي عياض، وسند، والزيلعي.
الدليل:
حديث: ((ارفعوا عن بطن عرنة))، فلا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقف به.
المطلب الثالث: هل نمرة من عرفة؟
نَمِرة ليست من عرفة، ولا من الحرم، وإنما يُستحبُّ النزول بها بعد طلوع الشمس قبل النزول بعرفة.
الدليل:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس)).
وجه الدلالة:
أن فيه استحباب النزول بنمرة اذا ذهبوا من منى؛ لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات، إلا بعد زوال الشمس وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعاً.
مسألة:
مسجد نمرة والذي كان يسمى مسجد إبراهيم، يقع مقدمته في عرنة خارج عرفات، والتي فيها محل الخطبة والصلاة، ويقع آخره في عرفة، وقد ميز بينهما بعلامات، وقد كان قديما يميز بينهما بصخراتٍ كبارٍ فرشت هناك.
المطلب الرابع: حكم من وقف بعرفة وهو لا يعلم أنه عرفة
من وقف بعرفة محرماً في زمن الوقوف وهو لا يعلم أنه بعرفة، فإنه يجزئه باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((وقد أتى عرفات، قبل ذلك ليلاً أو نهاراً))
ثانياً: أنه لا تشترط النية لصحة الوقوف بعرفة.
ثالثاً: أن الركن قد حصل وهو الوقوف ولا يمتنع ذلك بالإغماء والنوم كركن الصوم.
رابعاً: أنه وقف بها في زمن الوقوف وهو مكلف، فأشبه إذا علم أنها عرفة.
المطلب الخامس: حكم من وقف بغير أرض عرفات:
إن غلط الناس فوقفوا في غير أرض عرفات، يظنونها عرفات لم يجزئهم، ويلزمهم القضاء سواء كانوا جمعاً كثيراً أو قليلاً.
الأدلة:
أولاً: الإجماع:
نقله النووي.
ثانياً: أن الوقوف بأرض عرفات شرطٌ من شروط صحة الوقوف.
ثالثاً: لتفريطهم.
المبحث الثاني: أن يكون الوقوف في زمان الوقوف
تمهيد:
يشترط لصحة الوقوف بعرفة أن يكون في وقت الوقوف
الأدلة:
أولا: من السنة:
وقوفه صلى الله عليه وسلم في زمن الوقوف، وقوله: ((لتأخذوا مناسككم)).
ثانياً: الإجماع:
نقله ابن حزم.
المطلب الأول: أول وقت الوقوف بعرفة:
يبدأ الوقوف بعرفة من زوال الشمس يوم التاسع من ذي الحجة، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن أحمد. وحكى الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن حزم، والقرطبي.
الأدلة:
أولا: من السنة:
- فعله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: «فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس»، وقد قال: ((لتأخذوا مناسككم)).
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعد الزوال، وكذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم إلى اليوم، وما نُقِلَ أن أحدًا وقف قبل الزوال.
المطلب الثاني: آخر وقت الوقوف بعرفة:
ينتهي الوقوف بعرفة بطلوع فجر يوم النحر، فمن أتى إلى عرفة بعد فجر يوم النحر فقد فاته الحج
الأدلة:
أولا من السنة:
- عن عروة بن مضرس الطائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)).
ثانياً: الإجماع:
نقله ابن المنذر، وابن حزم، وابن عبدالبر، وابن قدامة.
المسألة الأولى: ما هو قدر الوقوف المجزئ؟
من وقف بعرفة ولو لحظة من زوال شمس يوم التاسع إلى فجر يوم العاشر، قائمًا كان أو جالسًا أو راكبًا فإنه يجزئه، وهو مذهب الجمهور: الحنفية، والشافعية والحنابلة.
الدليل:
عن عروة بن مضرس الطائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)).
ثانياً: أنه إذا وقف لحظةً في زمن الوقوف صدق عليه أنه وقف بعرفات.
المسألة الثانية: إلى متى يجب الوقوف بعرفة لمن وافاها نهارا؟
يجب الوقوف بعرفة لمن وافاها نهارًا إلى غروب الشمس، ولا يجوز له الدفع قبل الغروب، فإن دفع أجزأه الوقوف وعليه دم، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة وهو قول للمالكية، والشافعية، واختاره اللخمي وابن العربي، ومال إليه ابن عبدالبر وهو اختيار ابن باز واستحسنه ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
حديث جابر: ((حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء. فرحلت له. فأتي بطن الوادي. فخطب الناس ... ثم أذن. ثم أقام فصلى الظهر. ثم أقام فصلى العصر. ولم يصل بينهما شيئاً. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى أتى الموقف))
وجه الدلالة:
أن مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى الغروب مع كون الدفع بالنهار أرفق بالناس يدل على وجوبه لأنه لو كان جائزاً لاختاره النبي صلى الله عليه وسلم فإنه: ((ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)).
ثانياً: أن تأخير الرسول صلى الله عليه وسلم الدفع إلى ما بعد غروب الشمس، ثم مبادرته به قبل أن يصلي المغرب مع أن وقت المغرب قد دخل يدل على أنه لا بد من البقاء إلى هذا الوقت.
ثالثاً: أن في الدفع قبل الغروب مشابهة لأهل الجاهلية حيث يدفعون قبل غروب الشمس، إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال، كعمائم الرجال على رؤوس الرجال.
رابعاً: أنه لو كان جائزًا لرخص النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة أن يتقدموا من عرفة إلى مزدلفة قبل الغروب.
المسألة الثالثة: حكم من دفع قبل غروب شمس التاسع ثم عاد قبل فجر العاشر
من دفع قبل غروب شمس يوم التاسع ثم عاد قبل فجر يوم النحر أجزأه الوقوف, هولا شيء عليه، وهو قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول للحنفية، واختاره الكمال ابن الهمام.
وذلك للآتي:
أولا: أنه استدرك ما فاته وأتى بما عليه, لأن الواجب عليه الإفاضة بعد غروب الشمس, وقد أتى به فيسقط عنه الدم كمن جاوز الميقات حلالاً ثم عاد إلى الميقات وأحرم.
ثانياً: أنه لو وقف بها ليلاً دون النهار لم يجب عليه دم.
ثالثاً: أنه أتى بالواجب وهو الجمع بين الليل والنهار.
المسألة الرابعة: حكم من وقف بعرفة ليلا فقط
من لم يقف بعرفة إلا ليلة العاشر من ذي الحجة فإنه يجزئه ولا يلزمه شيء، ولكن فاتته الفضيلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فسألوه فأمر مناديا فنادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج)).
- عن عروة بن مضرس الطائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك: ابن المنذر , وابن عبدالبر، وابن قدامة , النووي.
المسألة الخامسة: الخطأ في زمن الوقوف
أولاً: الخطأ في زمن الوقوف بالتقديم
إذا كان الخطأ في التقديم: بأن أخطأ الناس جميعاً فوقفوا يوم الثامن يوم التروية وأمكن أن يقفوا في التاسع فإنه لا يجزئ، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية , والمالكية في المشهور، والشافعية، وذلك لأن التدارك ممكن في الجملة بأن يزول الاشتباه في يوم عرفة.
ثانياً: الخطأ في زمن الوقوف بالتأخير
إذا كان الخطأ في التأخير بأن أخطأ الناس فوقفوا يوم النحر
وكان الخطأ من الجميع أو الأكثر فحجهم صحيح باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. نقل النووي الاتفاق على ذلك.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
حديث: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون)
ثانياً: أن الهلال هو اسم لما اشتهر عند الناس وعملوا به لا لما يطلع في السماء.
ثالثاً: أن في القول بعد الإجزاء حرج شديد؛ لعموم البلوى به، وتعذر الاحتراز عنه، والتدارك غير ممكن، وفي الأمر بقضاء الحجيج كلهم حرج بين، فوجب أن يكتفى به عند الاشتباه.
رابعاً: أنهم فعلوا ما أمروا به، ومن فعل ما أمر به على وجه ما أمر به فإنه لا يلزمه القضاء؛ لأننا لو ألزمناه بالقضاء لأوجبنا عليه العبادة مرتين.
المبحث الثالث: أن يكون الواقف أهلاً للحج
يشترط في صحة الوقوف بعرفة أن يكون الواقف أهلاً للحج، وذلك كما يلي:
أولاً: أن يكون مسلماً؛ لأن غير المسلم لا يصح منه الحج.
ثانياً: أن يكون محرماً؛ لأن غير المحرم ليس أهلاً للحج، ولم يكن في إحرام حتى يصح منه الوقوف.
ثالثاً: أن يكون عاقلاً؛ لأن المجنون لا يصح وقوفه إذ إنه فاقد لعقله الذي هو مناط التكليف.
المبحث الرابع: حكم من وقف بعرفة على غير طهارة
يجزئ الوقوف بعرفة على غير طهارة، ولا شيء عليه ولكن يستحب له أن يكون على طهارة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: ((اصنعي كل ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)) ..
وجه الدلالة:
أن استثناء الطواف من عمل الحائض في الحج حتى تطهر، يدل على عدم اشتراط الطهارة لغيره من أعمال الحاج، ومن جملة ذلك الوقوف بعرفة.
- عن عروة بن مضرس الطائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارا ًفقد تم حجه وقضى تفثه)).
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث وغيره من أحاديث الوقوف بعرفة مطلق عن شرط الطهارة.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك: ابن المنذر، وابن قدامة.
المبحث الخامس: هل يشترط ستر العورة واستقبال القبلة للوقوف بعرفة؟
لا يشترط للواقف بعرفة أن يستر عورته أو أن يستقبل القبلة، وحكاه ابن قدامة إجماعًا.
المبحث السادس: حكم وقوف النائم
من وقف بعرفة وهو نائم فقد أدرك الحج باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
وذلك للآتي:
أولاً: أنه أتى بالقدر المفروض، وهو حصوله كائنا بعرفة.
ثانياً: أنه نسك غير متعلق بالبيت فلا تشترط له الطهارة، كرمي الجمار.
ثالثاً: أن النائم في حكم المستيقظ فهو من أهل العبادات، لذا فإنه إن نام في جميع النهار صح صومه.
المبحث السابع: حكم وقوف المغمى عليه
من وقف بعرفة وهو مغمى عليه فإنه يجزئه الوقوف، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، ووجه عند الشافعية، وتوقف فيه أحمد، واختاره الشنقيطي , وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عروة بن مضرس الطائي قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالموقف - يعني بجمع - فقلت: يا رسول الله, أهلكت مطيتي, واتعبت نفسي, والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه, فهل لي من حج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى قبل ذلك عرفات ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)).
وجه الدلالة:
أن من وقف بعرفة وهو مغمى عليه فقد أتى بالقدر المفروض، وهو حصوله كائناً بعرفة، فحصل الركن، ولا يمتنع ذلك بالإغماء والنوم كركن الصوم.
ثانياً: أن الوقوف ليس بعبادة مقصودة ولهذا لا يتنفل به، فوجود النية في أصل العبادة وهو الإحرام يغني عن اشتراطه في الوقوف.
ثالثاً: أن الوقفوف بعرفة لا يعتبر له نية ولا طهارة، ويصح من النائم، فصح من المغمى عليه، كالمبيت بمزدلفة.
الفصل الخامس: سنن ومستحبات الوقوف بعرفة
المبحث الأول: الغسل للوقوف بعرفة
يستحب الاغتسال للوقوف بعرفة، باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية , والمالكية , الشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: عن علي رضي الله عنه لما سئل عن الغسل قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر.
ثانياً: عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل لوقوفه عشية عرفة.
ثالثاً: أنه قربة يجتمع لها الخلق في موضع واحد فشرع لها الغسل كصلاة الجمعة والعيدين.
المبحث الثاني: السير من منى إلى عرفة صباحاً بعد طلوع شمس يوم عرفة.
يسن السير من منى إلى عرفة صباحًا بعد طلوع شمس يوم عرفة.
الدليل:
عن جابر عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة)).
المبحث الثالث: خطبة عرفة
المطلب الأول: تُسن خطبة عرفة
يسن للإمام أن يخطب بعرفة بعد الزوال قبل الصلاة، باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
الدليل:
عن جابر عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ... )).
المطلب الثاني: هل خطبة عرفة خطبتان أو خطبة واحدة؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أن خطبة عرفة خطبتان يفصل بينهما بجلسة خفيفة، وهو قول الجمهور من: الحنفية , والمالكية , والشافعية.
ودليل ذلك: القياس على خطبة الجمعة.
القول الثاني: أن خطبة عرفة خطبة واحدة، وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن القيم، وابن عثيمين.
الدليل:
عن جابر عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ... )).
وجه الدلالة:
أنه ليس فيه إلا خطبة واحدة.
المبحث الرابع: الجمع بين الصلاتين يوم عرفة
المطلب الأول: الجمع بين الصلاتين يوم عرفة
يسن للحاج الجمع بين الظهر والعصر بعرفة تقديمًا في وقت الظهر.
الدليل:
فعله صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر، وفيه: ((ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا)).
عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم، أن الحجاج بن يوسف، عام نزل بابن الزبير رضي الله عنهما، سأل عبدالله رضي الله عنه، كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: ((إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة، فقال عبدالله بن عمر: صدق، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة، فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال سالم: وهل تتبعون في ذلك إلا سنته)).
الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك: ابن المنذر، وابن عبدالبر، والنووي، وابن دقيق العيد، وابن تيمية.
المطلب الثاني: سبب الجمع بعرفة والمزدلفة
اختلف أهلُ العلم في سبب الجمع بعرفة والمزدلفة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن سبب الجمع بعرفة والمزدلفة السفر، فلا يجمع من كان دون مسافة قصر، كأهل مكة، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: نصوص جمع النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، ومنها:
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ((جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء)).
ثانياً: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة والمزدلفة:
عن جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً ... حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع، وهو مسافر، وهو وصف مناسبٌ ومعهود للجمع، ولا أثر للنسك في ذلك، بدليل عدم الجمع في منى.
القول الثاني: أن سبب ذلك النسك، فيجوز الجمع للحاج حتى لمن كان دون مسافة قصر، كأهل مكة، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية، وهو وجهٌ للشافعية، وقول للحنابلة، واختاره الطبري، وابن قدامة , وابن باز.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً ... حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع، فجمع معه من حضره من المكيين وغيرهم، ولم يأمرهم بترك الجمع، كما أمرهم بترك القصر حين قال: (أتموا، فإنا سفر)، ولو حرم الجمع لبينه لهم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا يقر النبي صلى الله عليه وسلم على الخطأ، كما أنه لم ينقل عن أحد من أهل مكة التخلف عن الصلاة معه صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن عثمان رضي الله عنه مع كونه أتم الصلاة؛ لأنه اتخذ أهلاً، إلا أنه لم يترك الجمع.
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على سنية الجمع بعرفة والمزدلفة جماعة من أهل العلم مما يدل على أن سبب الجمع النسك لا السفر: وممن نقله ابن المنذر، وابن عبدالبر، وابن رشد، وابن قدامة، وابن دقيق العيد، وابن تيمية، وابن جزي.
القول الثالث: أن سبب ذلك الحاجة ورفع الحرج، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن، واختاره ابن تيمية، وابن عثيمين. وذلك للآتي:
أولا أن الجمع بين الصلاتين لم يعلق بمجرد السفر في شيء من النصوص، بل النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وكان بمنى يقصر ولا يجمع، وكذلك في سائر سفر حجته، ولا يجمع لمجرد النسك، فإنه لو كان للنسك لجمع من حين أحرم.
ثانيا: أن الجمع بعرفة كان لمصلحة طول زمن الوقوف والدعاء، لأن الناس يتفرقون في الموقف, فإن اجتمعوا للصلاة شق عليهم، وإن صلوا متفرقين فاتت مصلحة كثرة الجمع، أما في مزدلفة فهم أحوج إلى الجمع، لأن الناس يدفعون من عرفة بعد الغروب فلو حبسوا لصلاة المغرب فيها لصلوها من غير خشوع, ولو أوقفوا لصلاتها في الطريق لكان ذلك أشق فكانت الحاجة داعية إلى تأخير المغرب لتجمع مع العشاء هناك، وفي هذا مصلحة في الجمع بين المحافظة على الخشوع في الصلاة ومراعاة أحوال العباد.
المطلب الثالث: هل يقصر المكي في عرفة والمزدلفة؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يقصر المكي، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية في الأصح، والحنابلة، وبه قال جمهور السلف، واختاره داود الظاهري.
ودليل ذلك:
أن المكي غير مسافر، فحكمه حكم المقيم، فيتم الصلاة، ولا يقصر، وإنما يقصر من كان سفره سفراً تقصر في مثله الصلاة، والمعروف أن عرفة، وهي أبعد المشاعر عن مكة ليست كذلك.
القول الثاني: يقصر أهل مكة، وهذا مذهب المالكية، وقولٌ للشافعية، ورواية عن أحمد، وبه قال طائفة من السلف، واختاره أبو الخطاب، وابن تيمية، وابن القيم، والشنقيطي،
وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً ... حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع من معه جمعوا وقصروا، ولم يثبت شيء يدل على أنهم أتموا صلاتهم بعد سلامه في منى، ولا مزدلفة، ولا عرفة، وسائر الأمراء هكذا لا يصلون إلا ركعتين فعلم أن ذلك سنة الموضع.
ثانياً: أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعاً وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة؛ بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصراً لنقل ذلك فكيف إذا أتموا الظهر أربعاً دون سائر المسلمين, وأيضاً فإنهم إذا أخذوا في إتمام الظهر والنبي صلى الله عليه وسلم قد شرع في العصر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام, وإما أن يفوتهم معه بعض العصر بل أكثرها؛ فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات؟.
ثالثاً: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((أنه لما قدم مكة صلى بهم ركعتين، ثم انصرف فقال: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر)).
وجه الدلالة:
أنه صلى بهم بعد ذلك بمنى ركعتين ولم يرو عنه أنه قال لأهل مكة شيئاً.
رابعاً: أن لهم الجمع، فكان لهم القصر كغيرهم.
خامساً: أن في تكرار مشاعر الحج ومناسكه مقدار المسافة التي فيها قصر الصلاة عند الجميع؛ فإن عمل الحج إنما يتم في أكثر من يوم وليلة مع لزوم الانتقال من محل لآخر فلفق بينها ما يحصل به مسافة القصر سواء كان التحديد بالمسافة أو بالزمن.
سادساً: أنها منازل السفر وإن لم تكن سفراً, تقصر فيه الصلاة، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بمكة إلى يوم التروية وذلك أربع ليال ثم خرج فقصر بمنى.
سابعاً: أن كل ما يطلق عليه اسم السفر لغة تقصر فيه الصلاة، أما تحديد مسافة القصر لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثامناً: أنه لو كان سبب الجمع والقصر النسك لكانوا إذا حلوا التحلل الثاني لم يحل لهم أن يقصروا في منى، ولو كان سببه النسك، لكانوا إذا أحرموا في مكة بحج أو عمرة جاز لهم الجمع والقصر.
المطلب الرابع: هل يجمع ويقصر من صلى وحده؟
من صلى الظهر والعصر منفردًا يجوز له أن يجمع ويقصر، وهو قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، واختاره الطحاوي.
الأدلة:
أولاً: عن نافع قال: ((أن ابن عمر كان إذا لم يدرك الإمام يوم عرفة جمع بين الظهر والعصر في منزله)).
وجه الدلالة:
ابن عمر رضي الله عنهما هو أحد من روى حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين, وكان مع ذلك يجمع وحده, فدل على أنه عرف أن الجمع لا يختص بالإمام.
ثانياً: أن الجمع بين الصلاتين يوم عرفة إنما كان للحاجة إلى امتداد الوقوف ليتفرغوا للدعاء لأنه موقف يقصد إليه من أطراف الأرض، فشرع الجمع لئلا يشتغل عن الدعاء، والمنفرد وغيره في هذه الحاجة, سواء فيستويان في جواز الجمع.
ثالثاً: أن كل جمع جاز مع الإمام جاز منفردًا؛ فإن الجماعة ليست شرطاً في الجمع ..
المطلب الخامس: صفة الأذان والإقامة للصلاتين
تكون الصلاة بأذان واحد وإقامتين، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وروي عن مالك، واختاره الطبري، وابن تيمية.
الدليل:
حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بأذان وإقامتين, وفيه: ((ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر)).
مسألة: هل يكون الأذان قبل الخطبة أو بعدها؟
الأمر في هذا واسع، لكن السنة أن يكون الأذان بعد الخطبة، وهو ظاهر مذهب الحنابلة، وقول للمالكية، وروي عن أبي يوسف، واختاره الشوكاني، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأتى بطن الوادي، فخطب الناس .... ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً)).
المطلب السادس: هل يجهر بالقراءة أم يسر؟
يسن الإسرار بالقراءة في صلاتي الظهر والعصر بعرفات، حتى لو وافق يوم الجمعة.
الأدلة:
أولاً: من السنة
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً)).
وجه الدلالة
أنه نص أنه صلى الظهر، وصلاة الظهر لا يجهر فيها بالقراءة، ويتأيد هذا بأنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهر فيها، فظاهر الحال الإسرار.
ثانياً: الإجماع
نقل الإجماع على ذلك: ابن المنذر، وابن عبدالبر، وابن رشد.
المبحث الخامس: الإكثار من عمل الخير يوم عرفة
يستحب في يوم عرفة الإكثار من أعمال الخير بأنواعها.
الدليل:
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه)). قالوا: ولا الجهاد قال: ((ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)).
المبحث السادس: الإكثار من الدعاء والذكر والتلبية يوم عرفة
يستحب في يوم عرفة الإكثار من الدعاء, والذكر, والتلبية.
الدليل:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس)).
المبحث السابع: الدفع إلى مزدلفة بعد غروب الشمس، وعليه السكينة والوقار
يسن أن يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة وعليه السكينة والوقار، فإذا وجد فجوة أسرع.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن جابر رضي الله عنه في حديثه: ((فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص, فأردف أسامة خلفه, ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة)) أخرجه مسلم. وقال أسامة رضي الله عنه: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص - يعني أسرع - قال هشام: النص فوق العنق)) أخرجه البخاري ومسلم.
ثانياً: أن هذا مشي إلى الصلاة لأنهم يأتون مزدلفة ليصلوا بها المغرب والعشاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة)) أخرجه مسلم.
المبحث الثامن: أن يدفع ملبياً ذاكراً لله عز وجل
يستحب للحاج أن يدفع من عرفة ملبيا ذاكرا لله تعالى.
الأدلة:
أولاً: من القرآن
قول الله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:]
ثانياً: من السنة:
عن الفضل بن العباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة).
ثالثاً: أن ذكر الله مستحب في كل الأوقات وهو في هذا الوقت أشد تأكيدًا.
رابعاً: أنه زمن الاستشعار بطاعة الله تعالى, والتلبس بعبادته, والسعي إلى شعائره، فناسب أن يكون مقروناً بذكر الله عز وجل.
الفصل السادس: ما يكره للحاج يوم عرفة
المبحث الأول: صوم يوم عرفة
يكره صيام يوم عرفة للحاج، ويستحب له الإفطار، وهو قول جمهور العلماء منهم: المالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها: (أن أناساً اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم. وقال بعضهم: ليس بصائم. فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشرب).
ثانياً: أن الدعاء في هذا اليوم يعظم ثوابه والصوم يضعفه فكان الفطر أفضل ..
المبحث الثاني: الإسراع في السير راكباً أو ماشياً إسراعاً يؤدي إلى الإيذاء
يكره الإسراع في السير راكباً, أو ماشياً, إسراعاً يؤدي إلى الإيذاء.
الدليل:
أولاً: من السنة:
لقوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالسكينة)).
ثانياً: أنه لا يجوز إيذاء المسلمين.
المبحث الثالث: التطوع بين صلاتي الظهر والعصر بعرفة
يكره التطوع بين صلاتي الظهر والعصر بعرفة، باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
الدليل:
من السنة:
حديث جابر رضي الله عنه، وفيه: (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً).
الفصل الأول: أسماء مزدلفة
- مزدلفة:
يقال: زلف إليه وازدلف وتزلف، أي: دنا منه، وأزلف الشيء: قربه، ومزدلفة والمزدلفة: موضع بمكة.
سبب التسمية بمزدلفة:
أ - لأنهم يقربون فيها من منى، والازدلاف التقريب، ومنه قوله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:] أي قربت.
ب - لأن الناس يجتمعون بها، والاجتماع الازدلاف، ومنه قوله تعالى: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ [الشعراء:].
- المشعر الحرام:
سمى الله المزدلفة بالمشعر الحرام، قال تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:]
والمشعر الحرام المذكور في القرآن هو جميع المزدلفة، وبه قال جمهور المفسرين وأصحاب الحديث والسير.
- جمع:
أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم على مزدلفة (جمع) فقال: ((ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف)).
سبب التسمية بـ (جمع):
سميت جمعاً؛ لأنها يجمع فيها بين الصلاتين، وقيل: وصفت بفعل أهلها؛ لأنهم يجتمعون بها ويزدلفون إلى الله أي: يتقربون إليه بالوقوف فيها.
الفصل الثاني: حد المزدلفة
حد المزدلفة: مابين المأزمين ووادي محسر، وليس الحدان منها، ويحصل المبيت بالمزدلفة بالحضور في أية بقعة منها.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر، فانحروا فى رحالكم، ووقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا، وجمع كلها موقف)).
ثانياً: أن كل ما بين المأزمين ووادي محسر يصدق عليه اسم مزدلفة.
الفصل الثالث: حكم الوقوف بالمزدلفة
الوقوف بالمزدلفة واجب من واجبات الحج، باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية في الأصح والحنابلة. وهو قول طائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:]
وجه الدلالة:
الأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل على صرفه عن الوجوب
ثانياً: من السنة:
- عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله، إني جئت من جبل طيء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله! ما تركت من حبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبلُ ليلاً أو نهاراً، فقد أتم حجه وقضى تفثه))
- حديث جابر رضي الله عنه: ((حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ... )).
الفصل الرابع: حكم من فاته الوقوف الواجب في مزدلفة
من فاته الوقوف الواجب بالمزدلفة صح حجه، وعليه دم إلا إن تركه لعذر فلا شيء عليه، باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة،
الدليل على وجوب الدم:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((من نسي شيئا من نسكه، أو تركه فليهرق دماً)).
وجه الدلالة:
أن مثله لا يقال بالرأي فله حكم الرفع، ولا مخالف له من الصحابة رضي الله عنهم، وعليه انعقدت فتاوى التابعين، وعامة الأمة.
الأدلة على سقوط الدم عمن ترك المبيت بالمزدلفة لعذر:
أولاً: من السنة:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص للرعاة في ترك المبيت؛ لحديث عدي رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى)).
- أن العباس بن عبدالمطلب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له.
وجه الدلالة:
أن العذر في المزدلفة كالعذر في منى من مشقة المبيت لأهل الأعذار.
ثانياً: أنها ليلة يرمى في غدها، فكان لهم ترك المبيت فيها، كليالي منى.
الفصل الخامس: صلاتا المغرب والعشاء في المزدلفة
المبحث الأول: الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في المزدلفة
يسن للحاج أن يجمع في مزدلفة بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة، وبه قال أبو يوسف من الحنفية، وهو قول طائفة من السلف. وحكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن عبدالبر، وابن رشد
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عمر، رضي الله عنهما قال: ((جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع كل واحدة منهما بإقامة ولم يسبح بينهما، ولا على إثر كل واحدة منهما)).
- عن أبي أيوب الأنصاري: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة)).
- عن كريب عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه سمعه يقول: ((دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة؟ فقال (الصلاة أمامك). فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما)).
المبحث الثاني: الجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين
يجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وبه قال زفر والطحاوي من الحنفية، وعبدالملك ابن الماجشون من المالكية، واختاره ابن المنذر، وابن حزم، وابن القيم، والشوكاني، والشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر وصلى الفجر)).
- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ فقلت له: الصلاة يا رسول الله، قال: الصلاة أمامك. فركب فلما جاء مزدلفة نزل، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى، ولم يصل بينهما)).
ثانياً: الاعتبار بالجمع بعرفة.
المبحث الثالث: صلاة الفجر في مزدلفة تصلى في أوَّل وقتها
يُشرع للحاج بعد بياته بمزدلفة أن يصلي صلاة الفجر في أوَّل وقتها، ويأتي المشعر الحرام (جبل قزح) ويقف عنده فيدعو الله سبحانه وتعالى، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر وفيه: ((حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله تعالى وكبره وهلله، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس)).
- عن عبدالله قال ((ما رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لميقاتها إلا المغرب والعشاء بجمع وصلاة الفجر يومئذ قبل ميقاتها)).
ثانياً: أنه يستحب الدعاء بعدها، فاستحب تقديمها ليكثر الدعاء.
ثالثاً: ليتسع الوقت لوظائف هذا اليوم من المناسك فإنها كثيرة في هذا اليوم، فليس في أيام الحج أكثر عملاً منه.
الفصل السادس: الدفع من مزدلفة
المبحث الأول: الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس
يستحب أن يدفع الحاج من مزدلفة قبل طلوع الشمس.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر وفيه: ((حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله تعالى وكبره وهلله، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس)).
- عن أبي إسحاق سمعت عمرو بن ميمون يقول: شهدت عمر، رضي الله عنه، صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس.
ثانياً: الإجماع:
ونقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن قدامة.
المبحث الثاني: تقديم النساء والضعفة من مزدلفة إلى منى
لا بأس بتقديم الضعفة والنساء قبل طلوع الفجر وبعد نصف الليل، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وهو قول طائفة من السلف، واختاره ابن باز، وابن عثيمين، وحكى ابن قدامة الإجماع على جواز تقديم ضعفة أهله في الجملة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- حديث عائشة قالت: ((استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل خطمة الناس، وكانت امرأة ثبطة فأذن لها))
- عن ابن عباس قال: ((أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله))
- عن ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول ((أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
- عن عبدالله مولى أسماء ((أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلى فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني، هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني، هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا. فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: ما أرانا إلا قد غلسنا. قالت: يا بني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن))
- عن أم حبيبة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل))
ثانياً: أن فيه رفقاً بهم، ودفعاً لمشقة الزحام عنهم، واقتداء بفعل نبيهم صلى الله عليه وسلم.
المبحث الرابع: الإسراع في وادي محسر
يُشرع الإسراع في وادي محسر، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه عمل طائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن جابر رضي الله عنه قال: ((أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة، وأوضع في وادي محسر ... ))
ثانياً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
- عن المسور بن مخرمة: ((أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يوضع ويقول: إليك تعدو قلقاً وضينها مخالف دين النصارى دينها)).
- عن نافع: ((أن عبدالله بن عمر كان يحرك راحلته في بطن محسر قدر رمية بحجر)).
المبحث الأول: معنى رمي الجمار
الجمار: جمع جمرة، وهي الحجار الصغار، وتطلق على المواضع التي يرمي فيها حصيات الجمار في مني، إما لأنها ترمى بالجمار، وإما لأنها مجمع الحصى التي يرمى بها، وإما لاجتماع الحجيج عندها.
ورمي الجمار في عرف الشرع: القذف بالحصى في زمان مخصوص، ومكان مخصوص، وعدد مخصوص.
المبحث الثاني: أنواع الجمرات
الجمرات التي ترمى ثلاثة، وهي:
الجمرة الأولى: وتسمى الصغرى، أو الدنيا، وهي أول جمرة بعد مسجد الخيف بمنى، سميت " دنيا " من الدنو؛ لأنها أقرب الجمرات إلى مسجد الخيف.
الجمرة الثانية: وتسمى الوسطى، بعد الجمرة الأولى، وقبل جمرة العقبة.
جمرة العقبة: وتسمى أيضاً (الجمرة الكبرى) وتقع في آخر منى تجاه مكة، وليست من منى.
المبحث الثالث: حكمة الرمي
أولاً: إقامة ذكر الله عز وجل:
حكمة الرمي في الجملة هي طاعة الله، فيما أمر به، وذكره بامتثال أمره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنه يدخل في الذكر المأمور به: رمي الجمار بدليل قوله بعده: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:]، فإن ذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله.
ثانياً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)).
ثانياً: الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان، ورميه، وعدم الانقياد إليه:
دليل ذلك:
عن ابن عباس مرفوعاً قال: ((لما أتى إبراهيم خليل الله عليه السلام المناسك، عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات، حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم تتبعون)).
المبحث الرابع: حكم رمي الجمار
رمي الجمار واجبٌ في الحج.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في هذا الحديث وفي أحاديث كثيرة أنه رمى الجمرة، والأصل في أفعاله في الحج الوجوب، لأن أفعاله فيها وقع بياناً لمجمل الكتاب، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((لتأخذوا مناسككم)).
- عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج)).
وجه الدلالة:
أنه أمر بالرمي، وظاهر الأمر يقتضي الوجوب.
ثانياً:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((من ترك شيئا من نسكه فليهرق دماً)).
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على وجوب الرمي: الكاساني، والنووي، وابن تيمية، والشنقيطي.
المبحث الخامس: شروط الرمي
الشرط الأول:
أن يكون المرمي حَجَراً؛ فيجزئ المرمي بكل ما يسمى حصى، وهي الحجارة الصغار، ولا يصح الرمي بالطين، والمعادن، والتراب عند الجمهور من المالكية , والشافعية والحنابلة.
الأدلة:
- ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر يصف رمي جمرة العقبة: ((فرماها بسبع حصيات - يكبر مع كل حصاة منها - مثل حصى الخذف)).
- أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى وأمر بالرمي بمثل حصى الخذف فلا يتناول غير الحصى، ويتناول جميع أنواعه فلا يجوز تخصيص بغير دليل ولا إلحاق غيره به.
- أنه أحوط.
الشرط الثاني: العدد المخصوص:
أن يكون عدد الحصيات سبعاً لكل جمرة وهو قول المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
الأدلة:
. حديث جابر وفيه: ((ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى لمنحر))
. عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلا، ويدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله)).
مسألة: لو ترك شيئاً من الحصى وفاته أن يتداركها
يجب استيفاء عدد حصيات الرمي السبع في كل جمرة، وهو المذهب عند المالكية , ورواية عند أحمد وبه قال الأوزاعي , والليث , وهو قول الشنقيطي وابن باز وابن عثيمين
الأدلة:
. حديث جابر وفيه: ((فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة)).
. حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ... )).
وجه الدلالة:
أن الروايات الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يرمي الجمار بسبع حصيات. مع قوله: ((لتأخذوا مناسككم)) فلا ينبغي العدول عن ذلك; لوضوح دليله وصحته، ولأن مقابله لم يقم عليه دليل يقارب دليله.
الشرط الثالث: أن يرمي الجمرة بالحصيات السبع متفرقات واحدة فواحدة
فلو رمى حصاتين معاً أو السبع جملة، فهي حصاة واحدة، ويلزمه أن يرمي بست سواها، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
أن المنصوص عليه تفريق الأفعال فيتقيد بالتفريق الوارد في السنة.
الشرط الرابع:
وقوع الحصى في الجمرة التي يجتمع فيها الحصى، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الشرط الخامس:
أن يقصد المرمى ويقع الحصى فيه بفعله فلو ضرب شخص يده فطارت الحصاة إلى المرمى وأصابته لم يصح وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)).
الشرط السادس:
أن يرمي الحصيات رمياً ولا يكتفي بوضعها وضعاً، وهذا هو قول اتفق عليه أصحاب المذاهب الأربعة من الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرات, وقد قال: ((لتأخذوا مناسككم))
. لأنه مأمور بالرمي فاشترط فيه ما يقع عليه اسم الرمي.
الشرط السابع: ترتيب الجمرات في رمي أيام التشريق
يشترط أن يرمي الجمار الثلاث على الترتيب: يرمي أولاً الجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم يرمي جمرة العقبة، وهو مذهب الجمهور من المالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
. أن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها في الرمي وقال ((لتأخذوا مناسككم)).
. ولأنه نسك متكرر فاشترط الترتيب فيه كالسعي
الشرط الثامن: أن يكون الرمي في زمن الرمي
المبحث السادس: سنن الرمي
المطلب الأول: أن يقف في بطن الوادي عند رمي جمرة العقبة وتكون منى عن يمينه ومكة عن يساره
الأفضل في موقف الرامي جمرة العقبة أن يقف في بطن الوادي وتكون منى عن يمينه ومكة عن يساره، وهو مذهب جماهير أهل العلم من الحنفية , والمالكية , والصحيح عند الشافعية , وقول جماعة من السلف , واختاره ابن تيمية , وابن القيم , والشنقيطي , وابن باز , وابن عثيمين.
الأدلة:
حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فعن عبدالرحمن بن يزيد: ((أنه حجَّ مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات يُكبِّر مع كل حصاة، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ثم قال: ((هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة))، وفي لفظ: ((أنه لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة)).
فرع: رمي جمرة العقبة من الجهات الأخرى
يجوز رمي جمرة العقبة من أي جهة كانت، من فوقها أو من أسفل منها، من أمامها، أو من خلفها، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية في الأظهر، والحنابلة، ونصَّ عليه الشافعي، واختاره ابن بطال، وابن عبدالبر، والكمال ابن الهمام، واختاره ابن باز، وابن عثيمين. وحكى الإجماع على ذلك: ابن عبدالبر، وابن رشد، والنووي.
الأدلة:
أولاً: أنه ثبت رمي خلق كثير في زمن الصحابة من أعلاها، ولم يأمروهم بالإعادة، ولا أعلنوا بالنداء بذلك في الناس.
ثانياً: أن رميه صلى الله عليه وسلم من أسفلها سنة، لا أنه المتعين، وكان وجه اختيار الرمي من الأسفل هو توقع الأذى إذا رموا من أعلاها لمن أسفلها فإنه لا يخلو من مرور الناس فيصيبهم الحصى، وقد انعدم هذا التخوف بإزالة الجبل الذي كان ملاصقاً للجمرة من الخلف، وصار الجميع يرمي في مستوى واحد.
ثالثا: أن ما حولها موضع النسك؛ فلو رماها من أي جهة أجزأه.
المطلب الثاني: أن يكون الرمي بمثل حصى الخذف
وهو قول الجمهور من الحنفية ,والمالكية , والشافعية , والحنابلة، وبه قال جماعة من السلف ,
الأدلة:
. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: ((القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل يقبضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)).
. حديث جابر رضي الله عنه وفيه: ((حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها ضحى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف))
المطلب الثالث: الموالاة بين الرميات السبع
الموالاة بين الرميات السبع مستحب وليس بشرط وهو قول الجمهور من الحنفية , والحنابلة ,والصحيح عند المالكية , والشافعية , واختاره ابن عثيمين.
المطلب الرابع: ألا يكون الحصى مما رمي به
يُفَضَّل ألا يكون الحجر مما رمي به فإن رمى بالحجر المستعمل أجزأه, وهو قول جمهور الفقهاء من الحنفية , والمالكية , والشافعية , وقول عن الحنابلة.
الأدلة:
. لأن اشتراط عدم الاستعمال ليس عليه دليل والأصل عدمه.
. لأن العبرة هي الرمي بحجر وقد وجد.
. قياساً على الثوب في ستر العورة فإنه يجوز أن يصلي في الثوب الواحد صلوات.
المطلب الخامس: طهارة الحصيات
يستحب أن يرمي بحصى طاهرة, وهو قول الجمهور من الحنفية , والمالكية , والشافعية , ووجه عند الحنابلة.
الأدلة:
. لصدق اسم الرمي على الرمي بالحجر النجس
. ولعدم النص على اشتراط طهارة الحصى
مسألة: هل يستحب غسل حصى الرمي
لا يستحب غسل الحصى إلا إذا رأى فيها نجاسة ظاهرة ولم يجد غيرها، فتغسل النجاسة؛ لئلا تتنجس اليد أو الثياب, وهو المذهب عند المالكية , والصحيح عند الحنابلة , وهو قول جماعة من أهل العلم , وقول ابن المنذر , واختاره الشنقيطي , وابن باز , وابن عثيمين , والألباني.
الأدلة:
. إن النبي صلى الله عليه وسلم لما لقطت له الحصى وهو راكب على بعيره جعل يقبضهن في يده لم يغسلهن.
. أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغلسهن.
. أنه لا يوجد معنى يقتضي غسله.
المطلب السادس: التكبير مع كل حصاة
يستحب أن يكبر مع كل حصاة, وهو قول كافة فقهاء المذاهب الأربعة من الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
حديث جابر رضي الله عنه وفيه: ((حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمي من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر)) رواه مسلم
. لما روت عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ((أفاض النبي - صلى الله عليه وسلم - من يومه حين صلى الظهر, ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمار إذا زالت الشمس, كل جمرة بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة, ويقف عند الأولى والثانية فيطيل المقام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها)).
مسألة:
إذا ترك التكبير عند رمي الجمار فليس عليه شيء بالإجماع, وممن نقل الإجماع على ذلك النووي نقله عن القاضي , وابن حجر.
المطلب السابع: قطع التلبية مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة يوم النحر
يستحب أن يقطع التلبية عند أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية , والشافعية , والحنابلة. وقول جماعة من السلف
الأدلة:
عن الفضل بن عباس رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة)).
وجه الدلالة:
- أن الفضل بن عباس رضي الله عنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وهو أعلم بحاله من غيره.
- في بعض ألفاظ حديث الفضل رضي الله عنه: ((حتى رمى جمرة العقبة قطع عند أول حصاة)).
المطلب الثامن: الدعاء الطويل عقب رمي الجمرة الصغرى والوسطى
يستحب الوقوف للدعاء إثر كل رمي بعده رمي آخر، فيقف للدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى والوسطى وقوفاً طويلاً يقدر بمدة ثلاثة أرباع الجزء من القرآن، وأدناه قدر عشرين آية, وهذا الدعاء مستحب باتفاق المذاهب الأربعة من الحنفية , والمالكية , والشافعية , والحنابلة.
الأدلة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً، ويدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله)).
المبحث السادس: الرمي يوم النحر
لا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع ابن المنذر، وابن عبدالبر.
المبحث السابع: زمن الرمي يوم النحر
يبدأ وقت رمي جمرة العقبة من منتصف ليلة النحر، ويسن أن يكون بعد طلوع الشمس، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره ابن باز.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال)).
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أَرْسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة النحر، فرمتْ الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت))
وجه الاستدلال: أن هذا لا يكون إلا وقد رمت قبل الفجر بساعة.
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة، أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها، فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه، فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة، أحب إلي من مفروح به)).
- عن عبدالله مولى أسماء بنت أبي بكر قال: ((دخلنا مع أسماء من جمع لما غاب القمر، وأتينا منى ورمينا وصلت الصبح في دارها، فقلت يا هنتاه رمينا قبل الفجر، فقالت: هكذا كنا نفعل أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أنه كان يقدِّم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الامام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم)) رواه البخاري ومسلم
ثانياً: أن النصوص علقت الرمي بما قبل الفجر، وهو تعبير صالح لجميع الليل، فجعل النصف ضابطاً له؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبل النصف.
ثالثاً: أن ما بعد نصف الليل من توابع النهار المستقبل، فوجب أن يكون حكمه في الرمي حكم النهار المستقبل.
رابعاً: أنه وقت للدفع من مزدلفة، فكان وقتاً للرمي، كبعد طلوع الشمس.
المبحث الثامن: رمي الجمار في الليل
يجوز الرمي ليلاً لمن لم يرم نهاراً، فيمتد وقت جواز رمي كل يوم إلى فجر اليوم التالي، وهذا مذهب الحنفية، وهو وجهٌ للشافعية، واختاره ابن المنذر، والنووي، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُسأل يوم النحر بمنى، فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ فقال: اذبح ولا حرج، وقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: لا حرج)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم صرّح بأن مَنْ رمى بعدما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل، وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ولفظ المساء عام لجزء من النهار، وجزء من الليل.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى؟ فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: لا حرج، فقال رجل: رميت بعدما أمسيت؟ قال: لا حرج)).
وجه الدلالة:
أن قوله في هذا الحديث الصحيح: أيام منى بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد، فهو صادق بحسب وضع اللغة، ببعض أيام التشريق، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل، لأن الرمي فيها لا يكون إلا بعد الزوال، وهو معلوم، فلا يسأل عنه صحابي، فتعين أن يكون السؤال عن الرمي في الليل.
ثانياً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
- عن نافع مولى ابن عمر: ((أن ابنة أخٍ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة، فتخلفت هي وصفية حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبدالله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئاً)).
وجه الدلالة:
أن ابن عمر رضي الله عنهما أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها برمي الجمرة بعد الغروب، ورأى أنه لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم: أن الرمي ليلاً جائز.
- عن ابن جريج عن عمرو قال: ((أخبرني من رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ترمي غربت الشمس أو لم تغرب))
ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقَّت أول الرمي وسكت عن آخره، والأصل بقاء الوقت، وليس هناك سنة تدل على أنه إذا غابت الشمس انتهى وقت الرمي، والليل يمكن أن يكون تابعاً للنهار كما في وقوف عرفة.
رابعاً: أنه إذا رخص في رميها في اليوم الثاني فالرمي بالليل أولى.
المبحث التاسع: لقط حصيات الرجم
لا خلاف أنه يجزئه أخذ الحصيات من حيث كان لان الاسم يقع عليه.
واختلفوا في موضع استحبابه على قولين:
القول الأول: يستحب للحاج أخذ حصى الجمار من مزدلفة، وهو مذهب المالكية، والشافعية، وبه قال بعض السلف.
الأدلة:
. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: ((القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف ... ))
. أن من السنة إذا أتى الحاج إلى منى أن لا يعرج على غير الرمي، فسن له أن يأخذ الحصى من مزدلفة حتى لا يشغله عنه، لأن الرمية تحية له كما أن الطواف تحية المسجد الحرام.
القول الثاني: يأخذه من مزدلفة أو من طريقه وحيث شاء، وهو مذهب الحنفية , والحنابلة، ونص عليه مالك في المدونة، وبه قال عطاء واختاره ابن المنذر وصححه ابن قدامة.
الأدلة:
. أن ابن عباس قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته ((القط لي حصى)) فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف فجعل يقبضهن في كفه ويقول: ((أمثال هؤلاء فارموا)) ثم قال: أيها الناس ((إياكم والغلو في الدين فانما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين))
وجه الدلالة:
أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس بلقط الحصى كان بمنى.
. أن عليه فعل المسلمين، وهو أحد نوعي الإجماع.
المبحث العاشر: النيابة (التوكيل) في الرمي
المطلب الأول: حكم التوكيل في الرمي للمعذور
من كان لا يستطيع الرمي بعلة لا يرجى زوالها قبل خروج وقت الرمي فإنه يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وأفتت به اللجنة الدائمة، واختاره الشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:].
وجه الدلالة:
أن الاستنابة في الرمي، هي غاية ما يقدر عليه.
ثانياً: أنه لما جازت النيابة عنه في أصل الحج فجوازها في أبعاضه أولى.
رابعاً: أن زمن الرمي مضيق ويفوت ولا يشرع قضاؤه، فجاز لهم أن يوكلوا بخلاف الطواف والسعي فإنهما لا يفوتان فلا تشرع النيابة فيهما.
المطلب الثاني: هل يشترط أن يكون النائب (الوكيل) قد رمى عن نفسه؟
اختلف أهل العلم في اشتراط أن يكون النائب قد رمى عن نفسه على قولين:
القول الأول: يشترط أن يكون النائب قد رمى عن نفسه الجمرات الثلاث، ثم يرمي عن موكله، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وهو قول للمالكية، وبه أفتت اللجنة الدائمة.
وذلك للآتي:
- أن الأصل عدم تداخل الأعمال البدنية.
- لا يجوز أن ينوب عن الغير وعليه فرض نفسه.
- أنه لو رمى عن غيره قبل أن يرمي عن نفسه فإنه يقع عن نفسه كأصل الحج.
القول الثاني: لا يشترط ذلك، وهذا مذهب المالكية، وهو وجهٌ للشافعية، واختاره ابن عثيمين.
وذلك للآتي:
أولاً: أن حكم الرمي أخف من سائر أركان الحج، فجاز أن يفعله عن المريض قبل فعله عن نفسه.
ثانياً: أن غاية الأمر أنه ترك التتابع بين الجمرات الثلاث وهو مندوب فقط، ثم إنه تفريق يسير.
المطلب الثالث: حكم سفر المعذور قبل رمي وكيله
من وكَّل على الرمي بعذرٍ شرعيٍّ، فلا يجوز له أن يسافر قبل رمي الوكيل، فإن نفر يوم النحر (أي لم يبت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر)، فعليه مع التوبة ثلاثة دماء: دم عن تركه المبيت بمنى، ودم عن تركه رمي الجمرات، ودم عن تركه طواف الوداع ولو طاف بالبيت قبل مغادرته؛ وذلك لوقوع طوافه في غير وقته؛ لأن طواف الوداع إنما يكون بعد انتهاء رمي الجمرات، وبذلك أفتت اللجنة الدائمة، وابن باز.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
عموم قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لتأخذوا مناسككم)) وقال: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفر من منى حتى رمى الجمار، ثم طاف للوداع.
ثالثاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق دماً)).
رابعاً: أنهم في حكم من لم يرم؛ لنفرهم قبل الرمي، وفي حكم من لم يودع؛ لوقوع طواف الوداع قبل إكمال مناسكهم.
المبحث الأول: ما هو الهدي؟
الهدي شاة، أو سُبْع بدنة، أو سُبْع بقرة، فإن نحر بدنة أو ذبح بقرة، فقد زاد خيراً، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله سبحانه وتعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن اسم الهدي يقع على الشاة, والبقرة, والبدنة.
ثانياً: من السنة:
عن أبي جمرة قال: ((سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن المتعة، فأمرني بها، وسألته عن الهدي فقال: فيها جزور, أو بقرة, أو شاة, أو شرك في دم)).
المبحث الثاني: حكم الاشتراك في الهدي
يجوز الاشتراك في الهدي في الإبل والبقر إلى حد سبعة أشخاص، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولا: الدليل من الكتاب:
قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن (من) للتبعيض، فجاز الاشتراك في الهدي بظاهر الآية.
ثانياً: الدليل من السنة:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال: ((نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية البدنة عن سبعة, والبقرة عن سبعة)).
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((فنحر عليه السلام ثلاثاً وستين, فأعطى علياً فنحر ما غبر, وأشركه في هديه)).
عن أبي جمرة قال: ((سألت ابن عباس رضي الله عنهما، عن المتعة فأمرني بها، وسألته عن الهدي، فقال: فيها جزور, أو بقرة, أو شاة, أو شرك في دم)).
ثالثاً: أنه ورد ذلك عن طائفة كبيرة من الصحابة رضي الله عنهم: منهم علي، وابن مسعود، وعائشة، وأنس، وإليه رجع ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
رابعاً: القياس على اشتراك أهل البيت في الأضحية.
مسألة: لا يجوز أن يستعاض عن ذبح الهدي بالتصدق بقيمته.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن الله جل وعلا أوجب على المتمتع الهدي في حال القدرة عليه، فإذا لم يجد هدياً أو ثمنه، فإنه ينتقل إلى الصيام، ولم يجعل الله واسطة بين الهدي والصيام، ولا بدلا عن الصيام عند العجز عنه.
ثانياً: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثم ليهل بالحج ويهدي, فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)).
ثالثاً: الإجماع:
أخذ الصحابة, والتابعون, ومن بعدهم من المجتهدين بما دل عليه القرآن, ودلت عليه السنة من وجوب الهدي على المتمتع والقارن, فإذا لم يجد هدياً أو لم يجد ثمنه فإنه يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
رابعاً: أن المقصود من هذه العبادة إراقة الدم وأما اللحوم فهي مقصودة بالقصد الثاني قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:]، وفي الاكتفاء بالتصدق بالثمن دون إراقة الدم إضاعة للقصد الأول.
خامساً: أن النسك عبادة مبنية على التوقيت، فلا يجوز العدول عن المشروع إلا بدليل شرعي موجب للعدول عنه, وكل تشريع مبني على التوقيت فإنه لا يدخله الاجتهاد, ومنه القول بالمصلحة المدعاة هنا.
المبحث الثالث: زمن الذبح
المطلب الأول: أول زمن الذبح
يبتدئ وقت ذبح الهدي يوم النحر، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وبه قال سفيان الثوري، واختاره ابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنه جاء في الآية الكريمة أن الحلق لا يكون إلا بعد أن يبلغ الهدي محله، ومعلوم أن الحلق لا يكون إلا يوم النحر.
قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا [الحج: -].
وجه الدلالة:
أن قضاء التفث يختص بيوم النحر، وقد جاء مرتباً على النحر والأكل منه.
ثانياً: من السنة:
عن حفصة رضي الله عنها أنها قالت: ((يا رسول الله، ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر)).
وجه الدلالة:
أنه علق الحل على النحر، ومعلوم أن الحل لا يكون إلا يوم النحر.
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا في عشر ذي الحجة، وقد بقيت الغنم والإبل التي معهم موقوفة حتى جاء يوم النحر، فلو كان ذبحها جائزاً قبل ذلك لبادر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليه في الأيام الأربعة التي أقاموها قبل خروجهم إلى عرفات؛ لأن الناس بحاجة إلى اللحوم في ذلك الوقت، فلما لم يفعل ذلك على عدم الإجزاء، وأن الذي ذبح قبل يوم النحر قد خالف السنة وأتى بشرع جديد فلا يجزئ؛ كمن صلى أو صام قبل الوقت.
أنه لو كان ذبح الهدي جائزًا قبل يوم العيد لفعله النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر أصحابه أن يحلوا من العمرة من لم يكن معه هدي، لأجل أن يطمئن أصحابه في التحلل من العمرة، فدل امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم من ذبح هديه قبل يوم النحر مع دعاء الحاجة إليه على أنه لا يجوز.
ثالثاً: أنه دم نسك، فلا يجوز قبل يوم النحر، كالأضحية.
المطلب الثاني: آخر زمن الذبح
اختلف أهل العلم في آخر زمن الذبح على أقوال، أشهرها قولان:
القول الأول: أن زمن الذبح يستمر إلى يومين بعد يوم النحر، فيكون مجموع أيام النحر ثلاثة أيام، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:]
وجه الدلالة:
أن الأيام المعلومات هي يوم النحر ويومان بعده، ويدل على ذلك أن لفظ: (المعلومات) جمع قلة، والمتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به.
ثانياً: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث)).
وجه الدلالة:
أنه أباح الأكل منها في أيام الذبح، ولو كان اليوم الرابع منها لكان قد حرم على من ذبح في ذلك اليوم أن يأكل من أضحيته، وليس هناك فرق بين الأضحية والهدي بالنسبة لزمن الذبح.
ثالثاً: أنه وَرَدَ عن الصحابة رضي الله عنهم تخصيصه بالعيد ويومين بعده، منهم عمر، وعلي، وابن عمر، وأبو هريرة، وأنس، وابن عباس رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف, ومثل هذا لا يقال بالرأي.
رابعاً: أنه قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق؛ ولو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق، وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر.
القول الثاني: أن وقت الذبح ينتهي بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق، وهذا مذهب الشافعي، وقولٌ للحنابلة، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن المنذر، وابن تيمية، وابن القيم، وابن باز، وابن عثيمين، وبه صدر قرار هيئة كبار العلماء.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:].
ثانياً: من السنة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه يوم النحر
وجه الدلالة ما ذكره الشافعي بقوله:
فلما لم يحظر على الناس أن ينحروا بعد يوم النحر بيوم أو يومين لم نجد اليوم الثالث مفارقاً لليومين قبله؛ لأنه ينسك فيه ويرمى كما ينسك ويرمى فيهما.
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح)).
وجه الدلالة:
أن الحديث نص في الدلالة على أن كل أيام منى أيام نحر.
ثالثاً: أن الثلاثة أيام تختص بكونها أيام منى، وأيام الرمي، وأيام التشريق، وأيام تكبير وإفطار، ويحرم صيامها، فهى إخوة فى هذه الأحكام، فكيف تفترق فى جواز الذبح بغير نص ولا إجماع؟.
مسألة:
السنة في وقت النحر أن يكون يوم العيد بعد أن يفرغ من الرمي وقبل الحلق أو التقصير.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى سبع حصيات من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك: ابن عبدالبر وابنُ رشد، وابنُ حجر.
المبحث الرابع: مكان الذبح
يجب أن يكون ذبح الهدي في الحرم ولا يختص بمنى وإن كان الأفضل أن يكون بمنى، وهذا مذهب جمهور الفقهاء: الحنفية، والشافعية، والحنابلة، واختاره ابن حزم، والشوكاني، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن محل الهدي الحرم عند القدرة على إيصاله.
قال الله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:].
وجه الدلالة:
أن النص جاء بأن شعائر الله تعالى محلها إلى البيت العتيق، وهذا عام في الهدايا.
قال تعالى في جزاء الصيد: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنه لو جاز ذبحه في غير الحرم لم يكن لذكر بلوغه الكعبة معنى، وهذا الحكم وإن كان في كفارة الصيد إلا أنه صار أصلاً في دماء النسك.
ثانياً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قد نحرت هنا، ومنى كلها منحر)).
وجه الدلالة:
يدل على أنه حيثما نحرت البدن, والإهداء من فجاج مكة ومنى والحرم كله فقد أصاب الناحر.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في منى وقال: ((لتأخذوا مناسككم)).
ثالثاً: أن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان الهدايا، ومكان الهدايا الحرم، وإضافة الهدايا إلى الحرم ثابتة بالإجماع.
رابعاً: أن هذا دم يجب للنسك، فوجب أن يكون في مكانه، وهو الحرم.
المبحث الخامس: الهدي على القارن
يجب الهدي على القارن إذا لم يكن من حاضري المسجد الحرام، واتفقت عليه المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف، واختاره أكثر الفقهاء.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن القارن متمتع بالعمرة إلى الحج بدليل فهم الصحابة رضي الله عنهم، يدل على ذلك ما يلي:
عن علي رضي الله عنه: ((أنه لما سمع عثمان رضي الله عنه ينهى عن المتعة: أهل بالعمرة والحج ليعلم الناس أنه ليس بمنهي عنه)).
ثانياً: أن الهدي إذا كان واجباً على المتمتع بنص القرآن والسنة والإجماع فإن القارن أولى لأمرين:
الأول: أن فعل المتمتع أكثر من فعل القارن فإذا لزمه الدم فالقارن أولى.
الثاني: أنه إذا وجب على التمتع لأنه جمع بين النسكين في وقت أحدهما فلأن يجب على القارن وقد جمع بينهما في الإحرام أولى ..
رابعاً: أن إيجاب الهدي على القارن هو إجماع من يعتد به من أهل العلم، نقله الشنقيطي، ووصف ابن حجر قول ابن حزم بعدم الوجوب بالشذوذ.
المبحث السادس: التطوع في الهدي
يسن التطوع بالهدي للمفرد والمتمتع والقارن وللحاج ولغير الحاج:
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها)).
وجه الدلالة:
أنه معلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع.
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنما))
- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشعرها وقلدها، أو قلدتها ثم بعث بها إلى البيت، وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حل))
ثانياً: الإجماع:
نقل القرافي الإجماع على ذلك.
المبحث السابع: الأكل من الهدي
المطلب الأول: الأكل من هدي التطوع
يسن لمن أهدى هديا تطوعاً أن يأكل منه إذا بلغ محله في الحرم.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قال الله عز وجل: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:].
- وقال عز وجل: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:].
وجه الدلالة من الآيتين:
أن فيهما الأمر بالأكل من الهدي وأقل أحوال الأمر الاستحباب.
ثانياً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها)).
وجه الدلالة:
أنه معلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعا.
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا، فأكلنا وتزودنا)).
ثالثاً: الإجماع:
الإجماع على جواز الأكل من هدي التطوع، نقله النووي، وابن عبدالبر، وابن حجر، والشنقيطي.
رابعاً: أنه دم نسك، ولا يتعين صرفه إلى الفقراء، والقاعدة أن ما لم يجب صرفه على الفقراء جاز الأكل منه.
المطلب الثاني: الأكل من هدي التمتع والقران
يستحب الأكل من هدي التمتع والقران، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وبه قال عطاء، واختاره الشوكاني، والشنقيطي.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قال الله عز وجل: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:].
وجه الدلالة:
أنه سبحانه أمر بالأكل من الهدي، فعم ولم يخص واجباً من تطوع، وهي من شعائر الله فلا يجب أن يمتنع من أكل شيء منها إلا بدليل لا معارض له أو بإجماع.
ثانياً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذَبَحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه)).
وجه الدلالة:
أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ذبح عنهن صلى الله عليه وسلم بقراً ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات، وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعا مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره صلى الله عليه وسلم، وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران.
ثالثاً: أنه دم نسك وشكران وسببه غير محظور ولم يسم للمساكين ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه هدي التطوع.
المطلب الثالث: الأكل من الهدي الذي وجب لترك نسك أو تأخيره، أو كان بسبب فسخ النسك
لا يجوز الأكل من الهدي الذي وجب لترك نسك أو تأخير، أو كان بسبب فسخ النسك، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحفية، والشافعية، والحنابلة.
وذلك للآتي:
أنها دماء كفارات، يجب التصدق بها على الفقراء، وفي الأكل منها تفويت لحقهم.
أنها غرم جناية، فإذا أكل منها لم يغرم.
المطلب الرابع: الأكل من هدي الكفارات
لا يجوز الأكل من هدي الكفارات الذي وجب لفعل محظور، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
وذلك للآتي:
- أنها دماء كفارات، يجب التصدق بها على الفقراء، وفي الأكل منها تفويت لحقهم.
- أنها عوض عن الترفه، فالجمع بين الأكل منها والترفه، كالجمع بين العوض والمعوض.
المبحث الثامن: من لم يقدر على الهدي
المطلب الأول: حكم من لم يقدر على الهدي
إذا لم يقدر المتمتع والقارن على الهدي بأن لم يجد هدياً في السوق، أو وجده لكن لم يجد معه ثمنه، فإنه يصوم عشرة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((تمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر، ثم ليهل بالحج ويهدي، فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله)).
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك: ابنُ المنذر وابن قدامة.
المطلب الثاني: وقت صيام الثلاثة أيام في الحج لمن لم يجد الهدي
من لم يجد الهدي فإنه يبتدئ الصيام من زمن إحرامه، سواءً كان بإحرامه بالعمرة إذا كان متمتعاً، أو كان بإحرامه بالحج والعمرة إذا كان قارناً، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنه جَعَلَ الحجَّ ظرفا للصوم، وأفعال الحج لا يصام فيها، وإنما يصام في أشهرها أو وقتها، فعرفنا أن المراد به وقت الحج، كما قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت العمرة في الحج)).
وجه الدلالة:
أنَّه يدل على جواز الصيام من الإحرام بالعمرة؛ وذلاك لأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة
ثالثاً: أنَّه لا بد من الحكم بجواز الصوم بعد الإحرام العمرة، وقبل الشروع في الحج إذ لو كان لا يجوز إلا بعد إحرامه بالحج لما أمكنه صيام الثلاثة أيَّام لأنه إنما يشرع له الإحرام بالحج يوم التروية فلا يتبق له ما يسع الصيام.
رابعاً: أنَّ صيام المتمتع قبل إحرامه بالحج هو من باب تقديم الواجب على وقت وجوبه إذا وجد سببه، وهو جائز كتقديم الكفارة على الحنث بعد اليمين.
خامساً: أن إحرام العمرة أحد إحرامي التمتع، فجاز الصوم بعده كإحرام الحج.
مسألة:
الأفضل أن يقدم صيام الثلاثة أيَّام على يوم عرفة، ليكون يوم عرفة مفطراً، وهذا مذهب الشافعية، وروي عن مالك، وهو قول للحنابلة، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة، وأرسلت إليه أم الفضل بلبن فشرب))
ثانياً: أن الفطر في هذا اليوم أقوى على العبادة، وأنشط له على الذكر والدعاء.
المطلب الثالث: صيام أيَّام التشريق لمن لم يجد الهدي
يجوز صوم أيَّام التشريق لمن لم يجد الهدي، ولم يكن قد صامها قبل يوم النحر، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، وقولٌ للشافعية، وبه قال طائفة من السلف، واختاره البخاري، وابن عبدالبر، وابن حجر، وابن باز، والألباني، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال تعالى: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن عموم قوله: فِي الْحَجِّ يعم ما قبل يوم النحر وما بعده، فيدخل أيام التشريق.
ثانياً: من السنة:
عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: ((لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي)).
وجه الدلالة:
أن قول الصحابي لم يرخص أو رخص لنا، أو ما أشبه ذلك يعتبر مرفوعاً حكماً.
ثالثاً: أن صومها في أيام التشريق صوم لها في أيام الحج؛ لأن أيام التشريق أيام للحج، ففيها رمي الجمرات في الحادي عشر والثاني عشر وكذلك الثالث عشر.
المطلب الرابع: من لم يصم الهدي قبل عرفة هل يسقط عنه أو يبقى في ذمته؟
من لم يصم الثلاثة أيام في الحج فإنه لا يسقط الصيام عنه، ويلزمه بعد ذلك القضاء، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
المطلب الخامس: من أخر صيام ثلاثة أيام التي في الحج حتى انتهى حجه، فهل تلزمه الفدية؟
من أخر صيام ثلاثة الأيام التي في الحج حتى انتهى حجه، فلا تلزمه الفدية، وهو مذهب المالكية، والشافعية، واختاره ابن عثيمين.
وذلك للآتي:
- أنه لما عدم الهدي صار الصيام واجبا في حقه، فإذا تأخر عن أدائه فإنه يقضى كرمضان.
- أن الصوم بدل عن الهدي، فلو وجب الدم لاجتمع البدل والمبدل معه، وهو خلاف الأصل.
المطلب السادس: حكم صيام السبعة أيام بمكة بعد فراغه من الحج
يجوز صيام السبعة أيام بمكة بعد فراغه من الحج، وإن كان الأفضل تأخيره إلى أن يرجع إلى أهله، وهذا مذهب جمهور الفقهاء: الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وهو قولٌ للشافعي.
الأدلة:
أولاً: أدلة جواز الصيام بعد فراغه من الحج
قوله تعالى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن المراد من الرجوع الفراغ من الحج؛ لأن الفراغ منه سبب الرجوع إلى أهله، فكان الأداء بعد حصول السبب، فيجوز.
أن كل صوم لزمه، وجاز في وطنه، جاز قبل ذلك، كسائر الفروض.
أنه صومٌ وجد من أهله بعد وجود سببه، فأجزأه، كصوم المسافر والمريض.
ثانياً: أدلة أفضلية الصيام بعد رجوعه إلى أهله:
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)).
وجه الدلالة:
أنه يدل أن الأصل في الصيام أن يكون بعد رجوعه إلى أهله، وفيه تفسير للآية الكريمة.
احتياطاً؛ لأنه اختلف في جوازه قبل ذلك، فيفعله على الوجه المجمع عليه أحسن.
المطلب السابع: هل يشترط أن يكون صيام الأيام متتابعة؟
يجوز صوم الثلاثة أيام في الحج، والسبعة إذا رجع إلى أهله متتابعة ومتفرقة باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وحكي في ذلك الإجماع.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال تعالى: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:].
ثانيا: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله)).
وجه الدلالة من الدليلين:
أنَّ الشارع أطلق الصيام ولم يشترط فيه التتابع، والواجب إطلاق ما أطلقه الله ورسوله.
الفصل الثالث: الحلق والتقصير
المبحث الأول: حكم الحلق والتقصير:
حلق شعر الرأس أو تقصيره واجبٌ من واجبات الحج والعمرة، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
الأدلة:
أولا: من الكتاب:
قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:].
وجه الدلالة:
أنَّ الله تعالى جعل الحلق والتقصير وصفاً للحج والعمرة، والقاعدة أنه إذا عبر بجزءٍ من العبادة عن العبادة، كان دليلاً على وجوبه فيها.
ثانياً: من السنة:
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية)). أخرجه البخاري.
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع)) أخرجه البخاري ومسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لتأخذوا مناسككم))، مع كون فعله وقع بياناً لمجمل الكتاب.
المبحث الثاني: القدر الواجب حلقه أو تقصيره
الواجب حلق جميع الرأس، أو تقصيره كله، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، واختاره ابن عبدالبر، وابن باز، وابن عثيمين وبه أفتت اللجنة الدائمة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
عموم قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:].
وجه الدلالة:
أنه عامٌّ في جميع شعر الرأس، فالرأس اسمٌ لجميعه.
ثانياً: من السنة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع.
وجه الدلالة:
أنه عامٌّ في جميع شعر الرأس؛ لأن الرأس اسمٌ لجميعه؛ فوجب الرجوع إليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم ((لتأخذوا مناسككم))، والأصل في الأمر الوجوب.
المبحث الثالث: الأفضل في حلق الرأس
حلق جميع الرأس أفضل من تقصيره
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
ظاهر قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:].
وجه الدلالة:
أنَّ الله عز وجل بدأ بالحلق، والعرب إنما تبدأ بالأهم والأفضل.
ثانياً: من السنة:
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم ارحم المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: والمقصرين))
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته)) أخرجه البخاري.
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، والنووي.
المبحث الرابع: هل يجزئ التقصير عن الحلق؟
يجزئ التقصير عن الحلق.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
ظاهر قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:].
ثانياً: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم ارحم المحلقين. قال في الرابعة: والمقصرين)).
ثالثاً: الإجماع:
فقد نقل ابن المنذر، والنووي وابن حجر الإجماع على ذلك.
المبحث الخامس: الحلق والتقصير للمرأة
المطلب الأول: حلق المرأة رأسها
لا تؤمر المرأة بالحلق بل تقصر.
الأدلة:
أولا: من السنة:
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس على النساء حلق، وإنما عليهن التقصير)).
ثانياً: الإجماع:
فقد نقل ابن المنذر، وابن عبدالبر، وابن قدامة، والنووي الإجماع على ذلك.
ثالثاً: أنَّ الحلق في حق النساء فيه مثلة؛ ولهذا لم تفعله نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: أن المرأة محتاجة إلى التجمل والتزين، والشعر جمال وزينة، ولذا شرع في حقهن التقصير فقط.
المطلب الثاني: مقدار تقصير شعر المرأة
تقصر المرأة من شعرها، قدر أنملة الأصبع -وهي مفصل الإصبع- فتمسك ضفائر رأسها، إن كان لها ضفائر، أو بأطرافه إن لم يكن لها ضفائر، وتقص قدر أنملة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وإنما كان الواجب بقدر الأنملة لئلا يجحف برأسها.
المبحث السادس: إمرار الموسى على من ليس على رأسه شعر
إذا لم يكن على رأسه شعر – كالأقرع ومن برأسه قروح – فقد اختلف أهل العلم فيه على أقوال، ومنها:
القول الأول: أنه يستحب له إمرار الموسى على رأسه، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، وهو قولٌ للحنفية.
الأدلة:
أولاً: أنه عبادة تتعلق بالشعر، فتنتقل للبشرة عند عدمه، كالمسح في الوضوء.
ثانياً: الإجماع على ذلك، وقد نقله ابن المنذر.
القول الثاني: أنه يجب إمرار الموسى، وهذا مذهب المالكية، والحنفية في الأصح. وذلك لأنها عبادة تتعلق بالشعر، فتنتقل للبشرة عند تعذره، كالمسح في الوضوء.
القول الثالث: لا يستحب له إمرار الموسى على رأسه، وهو مرويٌّ عن أبي بكر ابن داود، ومال إليه المرداوي، واختاره ابن عثيمين.
وذلك للآتي:
- أن الحلق محله الشعر فسقط بعدمه، كما سقط وجوب غسل العضو في الوضوء بفقده.
- أن القاعدة المتفق عليها أن الوسائل يسقط اعتبارها عند تعذر المقاصد، وإمرار الموسى وسيلةٌ لإزالة الشعر، وليست مقصودة بذاتها.
المبحث السابع: حكم التيامن في حلق الرأس
المطلب الأول: حكم التيامن في حلق الرأس
يستحب التيامن في حلق الرأس، فيقدم الشق الأيمن، ثم الشق الأيسر، فإن لم يفعل أجزأه، وحكي الإجماع على ذلك.
المطلب الثاني: بم يحصل التيامن في حلق الرأس؟
العبرة في التيامن في الحلق بيمين المحلوق، فيبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الشق الأيسر، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، واختاره ابن الهمام من الحنفية.
الأدلة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى البدن فنحرها، والحجام جالس. وقال بيده عن رأسه، فحلق شقه الأيمن فقسمه فيمن يليه، ثم قال: احلق الشق الآخر، فقال: أين أبو طلحة؟ فأعطاه إياه)) أخرجه مسلم.
وفي روايةٍ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما رمى- أي النبي عليه الصلاة والسلام- الجمرة ونحر نسكه وحلق، ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فقال: احلق: فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، فقال: اقسمه بين الناس)).
الفصل الرابع: طواف الإفاضة
المبحث الأول: تعريف طواف الإفاضة
الإفاضة لغة:
الإفاضة: الزحف والدفع في السير بكثرة، ولا يكون إلا عن تفرق وجمع. وأصل الإفاضة الصب فاستعيرت للدفع في السير ... ومنه طواف الإفاضة يوم النحر، يفيض من منى إلى مكة فيطوف ثم يرجع.
أسماء طواف الإفاضة
سمي طواف الإفاضة بعدة أسماء منها:
. طواف الإفاضة: وسمي بذلك لأنه يأتي بعد إفاضته من منى إلى مكة.
. طواف الزيارة: وذلك لأن الحاج يأتي من منى لزيارة البيت، ولا يقيم بمكة بل يرجع إلى منى.
. طواف الصَّدَر: لأنه يفعل بعد الرجوع, والصدر يطلق أيضاً على طواف الوداع.
. طواف الواجب وطواف الركن وطواف الفرض: وذلك باعتبار الحكم.
المبحث الثاني: حكم طواف الإفاضة
طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به، ولا ينوب عنه شيء.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
يقول الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:].
وجه الدلالة:
اتفق أهل التفسير أن المراد بالطواف المأمور به في هذه الآية هو طواف الإفاضة.
ثانياً: من السنة:
أن صفية بنت حيي، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: فلا إذا. وفي رواية لمسلم: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر، إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة. فقال: عقرى! حلقي! إنك لحابستنا. ثم قال لها: أكنت أفضت يوم النحر؟ قالت: نعم. قال: فانفري))
وجه الدلالة:
أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحابستنا هي؟)) يدل على أن هذا الطواف لا بد من الإتيان به, وأن عدم الإتيان به موجبٌ للحبس.
الإجماع:
نقل الإجماع على ركنية طواف الإفاضة: ابن المنذر ,وابن حزم ,وابن عبدالبر ,وابن رشد , وابن قدامة , والنووي , وابن تيمية وغيرهم.
المبحث الثالث: شروط طواف الإفاضة
يشترط لطواف الإفاضة شروط خاصة به سوى الشروط العامة للطواف وهذه الشروط الخاصة هي:
المطلب الأول: أن يسبقه الإحرام
يشترط أن يكون مسبوقاً بالإحرام، وذلك لأن جميع أعمال الحج يتوقف احتسابها على الإحرام.
المطلب الثاني: أن يسبقه الوقوف بعرفة
يشترط أن يسبقه الوقوف بعرفة, فلو طاف للإفاضة قبل الوقوف بعرفة لا يسقط به فرض الطواف.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:].
وجه الدلالة:
أنه لا يمكن قضاء التفث والوفاء بالنذر إلا بعد الوقوف بعرفة ومزدلفة.
ثانياً: من السنة:
- عن جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عمله بعد الوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة والرمي: ((ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر)).
- عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى)) قال نافع: ((فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله)).
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن تيمية.
المبحث الرابع: وقت طواف الإفاضة
المطلب الأول: متى يسن طواف الإفاضة؟
يسن أن يكون طواف الإفاضة في يوم النحر أول النهار، بعد الرمي والنحر، والحلق. وهو أفضل وقت لبدايته.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
. حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: ((أنه صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه, ثم أفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر)).
. عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى. قال نافع: فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى. ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله)).
ثانياً الإجماع:
نقل النووي الإجماع على ذلك.
المطلب الثاني: متى يبتدئ وقت جواز طواف الإفاضة؟
اختلف العلماء في تحديده على قولين:
القول الأول: أن أول وقت طواف الإفاضة بعد منتصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبله، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة , واختاره ابن باز.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم - تعني عندها))
- ما روى عن أسماء رضي الله عنها أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلى، فصلت ساعة، ثم قالت: ((يا بنى هل غاب القمر قلت لا. فصلت ساعة، ثم قالت هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا. فارتحلنا، ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح فى منزلها. فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا. قالت: يا بنى، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن))
وجه الدلالة من الحديثين:
أن ظاهر النص جواز الدفع من المزدلفة قبل منتصف الليل والرمي؛ لأن أم سلمة وأسماء رضي الله عنهما رمتا الجمرة قبل الصبح؛ فهذا دليل على جواز الرمي قبل الفجر، فإذا جاز رمي الجمرة قبل الفجر؛ جاز فعل بقية أعمال يوم التشريق؛ لأنها مترابطة.
ثانياً: قياس الطواف على الرمي بجامع أنهما من أسباب التحلل، فإنه بالرمي للجمار والذبح والحلق يحصل التحلل الأول، وبالطواف يحصل التحلل الأكبر، فكما أن وقت الرمي يبدأ عندهم بعد نصف الليل، فكذا وقت طواف الإفاضة.
القول الثاني: يبتدئ من طلوع الفجر الثاني يوم النحر، وهذا مذهب الحنفية , والمالكية , وهو رواية عن أحمد.
الأدلة:
أولا: من السنة:
- فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله: ((لتأخذوا مناسككم))؛ فقد طاف طواف الإفاضة يوم النحر.
- حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بنى عبدالمطلب على حُمُرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول «أبيني، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)).
وجه الدلالة:
أنه إذا نُهي الضعفة عن رمي الجمار قبل طلوع الشمس، فأولى ألا يجوز الإفاضة قبل ذلك؛ لأن الأصل في فعل طواف الإفاضة أن يكون بعد رمي الجمار والنحر والحلق.
ثانياً: أن ما قبل الفجر من الليل وقت الوقوف بعرفة، والطواف مرتب عليه، فلا يصح أن يتقدم ويشغل شيئاً من وقت الوقوف، فالوقت الواحد لا يكون وقتاً لركنين.
مسألة: أداء طواف الإفاضة أيام التشريق
إذا أخر طواف الإفاضة عن يوم النحر وأداه في أيام التشريق صح طوافه ولا شيء عليه بالإجماع, وقد نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر والنووي
المطلب الثالث: آخر وقت طواف الإفاضة
ليس لآخره حد معين لأدائه فرضاً، بل جميع الأيام والليالي وقته إجماعاً، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن قدامة.
وأما وقته الواجب فقد اختلف فيه أهل العلم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجب أداؤه في أيام النحر، فلو أخره حتى أداه بعدها صح، ووجب عليه دم جزاء تأخيره عنها، وهذا مذهب الحنفية.
الأدلة:
- أن الله تعالى عطف الطواف على الذبح في الحج، فقال: فَكُلُوا مِنْهَا، ثم قال: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:]، فكان وقتهما واحدا، فيكره تأخير الطواف عن أيام النحر، وينجبر بالدم.
- أن الطواف نسك يفعل في الحج فكان آخره محدد؛ كالوقوف والرمي.
- أنه أدخل نقصاناً بتأخير الطواف عن وقته، فيجبر بدم كتأخير أركان الصلاة.
القول الثاني: يجب أداؤه قبل خروج شهر ذي الحجة، فإذا خرج لزمه دم، وهذا مذهب المالكية.
الأدلة:
. قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [البقرة:] ,
وجه الدلالة:
في الآية دليل على أن الحج مؤقت بأشهر محددة لا يجوز تأخيره عنها, وتأخير الطواف إلى محرم، فعل للركن في غير أشهر الحج.
القول الثالث: لا يلزمه شيء بالتأخير أبداً، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن المنذر , وابن باز.
الدليل:
أن الله أمر بالطواف أمراً مطلقاً، ولم يرد دليل يؤقت طواف الإفاضة كغيره من الأعمال، والأصل في ذلك براءة الذمة، وعدم التحديد.
المطلب الرابع: الشرب من ماء زمزم والتضلع منه بعد الطواف
يشرع الشرب من ماء زمزم والتضلع منه عند الفراغ من طواف الإفاضة.
الأدلة:
. عن جابر رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط من الحجر، وصلى ركعتين، ثم عاد إلى الحجر، ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها، وصبَّ على رأسه، ثم رجع فاستلم الركن ... )).
- عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه قال: ((لما حجَّ معاوية رضي الله عنه حججنا معه، فلما طاف بالبيت، وصلى عند المقام ركعتين، ثم مرَّ بزمزم وهو خارج إلى الصفا، فقال: انزع لي منها دلواً يا غلام، فنزع له منها دلواً، فأتي به فشرب منه، وصب على وجهه ورأسه، وهو يقول: زمزم شفاء، وهي لما شرب له)).
الفصل الخامس: التحلل الأول
المبحث الأول: تعريف التحلل
التحلل لغة: يقال حلّ المحرم يحلُّ حلالًا وحلًّا، إذا حلّ له ما يحرم عليه من محظورات الحج، ورجلٌ حلال: أي غير محرم ولا متلبّس بأسباب الحج، وأحلَّ الرجل إذا خرج إلى الحلّ عن الحرم.
التحلل اصطلاحاً:
الخروج من الإحرام، وحل ما كان محظورا عليه وهو محرم.
المبحث الثاني: بم يحصل التحلل الأول:
اختلف أهل العلم في التحلل الأول بم يحصل على أقوال ثلاثة:
القول الأول:
أنه يحصل بفعل اثنين من ثلاثة وهي: الرمي، والحلق، والطواف. وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد في المشهور عنهما, واختاره ابن حجر , وابن باز.
الأدلة:
. عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها))
وجه الدلالة:
إخبار عائشة رضي الله عنها بأنها طيبت النبي صلى الله عليه وسلم حين أحل قبل أن يطوف، دليل على أن التحلل الأصغر حصل قبل الطواف، أي بعد الرمي والحلق.
ثانيا: أن الرمي والحلق نسكان يتعقبهما الحل، فكان حاصلاً بهما، كالطواف والسعي في العمرة.
القول الثاني:
أنه يحصل برمي جمرة العقبة؛ وهو مذهب المالكية، ووجه للشافعية، ورواية عن أحمد، وبه قال عطاء وأبو ثور، واختاره ابن قدامة , والألباني.
الأدلة:
. حديث أم سلمة رضي الله عنها وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا - يعني من كل ما حرمتم منه - إلا النساء)).
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة لحجة الوداع للحل والإحرام، حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر، قبل أن يطوف بالبيت)).
وجه الدلالة:
تعليق النبي صلى الله عليه وسلم الإحلال من الإحرام برمي جمرة العقبة، دليل على أن التحلل الأصغر يحصل برميها دون التوقف على أشياء أخر. وقد أبان عن ذلك فعله صلى الله عليه وسلم، كما أخبرت به عائشة رضي الله عنه، وأن تطييبها إياه كان عقب جمرة العقبة.
القول الثالث: يحصل بالحلق بعد الرمي، ولا يحل له بالرمي قبل الحلق شيء. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وهو اختيار الشنقيطي، وابن عثيمين.
الأدلة:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)).
وجه الدلالة:
أنه لا طواف بالبيت بالنسبة لفعل الرسول عليه الصلاة والسلام إلا بعد الرمي والحلق، ولو كان يتحلل قبل الحلق، لقالت عائشة: ولحله قبل أن يحلق، فلما قالت: ((قبل أن يطوف)) عُلم أنه لا يحل التحلل الأول إلا بالحلق.
- أن الحلق رتب عليه الحل في مسألة الإحصار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر في الحديبية أمرهم أن يحلقوا ثم يحلوا، ولا حل لمحصر إلا بعد الحلق.
المبحث الثالث: ما يترتب على التحلل الأول
من تحلل التحلل الأول حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء, وذهب إليه الجمهور من الحنفية , والشافعية , والحنابلة , وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن تيمية , والشوكاني , والشنقيطي , وابن باز والألباني، وابن عثيمين.
الأدلة:
- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها)).
وجه الدلالة:
أخبرت عائشة رضي الله عنها أنها طيبت الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أحل قبل أن يطوف، وفي هذا دلالة واضحة ونص صريح في إباحة الطيب بالتحلل الأول.
- حديث أم سلمة رضي عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة قبل أن تحلوا - يعني من كل ما حرمتم منه - إلا النساء)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من رمى الجمرة تحلل إلا من النساء, وهذا يدل على أن التحلل الأصغر يحل به كل شيء إلا النساء.
الفصل الأول المبيت بمنى ليالي أيام التشريق
المبحث الأول: المبيت بمنى ليالي التشريق وما يلزم من تركه
المطلب الأول: حكم المبيت بمنى ليالي التشريق
المبيت بمنى في ليالي أيام التشريق واجب، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
- أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بات في منى، وقد قال: ((لتأخذوا مناسككم)).
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أفاض رسول الله من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق))
- أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((رخص لعمه العباس أن يبيت في مكة ليالي التشريق من أجل السقاية)).
وجه الدلالة:
أن كلمة (رخص) تدل على أن الأصل الوجوب؛ لأن الرخصة لا تقال إلا في مقابل أمر واجب وعزيمة.
- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: ((لا يبيتن أحد من الحاج من وراء العقبة وكان يوكل بذلك رجالا لا يتركون أحدا من الحاج يبيت من وراء العقبة إلا أدخلوه)).
مسألة: حكم المبيت بمنى ليلة الثالث عشر للمتعجِّل
من تعجَّل فليس عليه سوى مبيت ليلتين فقط، ويسقط عنه المبيت ورمي الجمرة لليوم الثالث عشر.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام منى ثلاثة: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)).
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك الماوردي، وابن قدامة.
المطلب الثاني: حكم المتعجل إذا غربت عليه الشمس ثاني أيام التشريق
إذا غربت الشمس على المتعجل وهو بمنى لزمه المبيت والرمي من الغد، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو رواية عن أبي حنيفة، وبه قال أكثر أهل العلم، واختاره ابن المنذر، وابن تيمية، والشنقيطي، وابن باز.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن اليوم اسم للنهار دون الليل، فيكون من أدركه الليل لم يتعجل في يومين فإن في للظرفية، ولا بد أن يكون أوسع من المظروف، وعليه فلا بد أن يكون الخروج في نفس اليومين.
ثانياً: عن عبدالرحمن بن يعمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)).
ثالثاً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم::
- عن عمر رضي الله عنه قال: ((من أدركه المساء في اليوم الثاني بمنى فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس)).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: ((من غربت عليه الشمس في أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد)).
مسألة: إذا غربت الشمس قبل انفصاله من منى:
إذا غربت الشمس على المتعجل من منى وهو سائر فيها قبل انفصاله منها، فإنه يجوز له التعجل، نص على هذا فقهاء الشافعية، واختاره ابن عثيمين إذا حبسه المسير، لأن ذلك وقع بغير اختياره، ولما في تكليفه من حل الرحل والمتاع من المشقة عليه.
المطلب الثالث: بم يحصل المبيت؟
القدر الواجب لمبيت الحاج بمنى، هو أن يمكث أكثر الليل، وهو مذهب المالكية، والشافعية في الأصح، وذلك لأن مسمَّى المبيت لا يحصل إلا بمعظم الليل، كما لو حلف لا يبيت بمكان لم يحنث إلا بمعظم الليل.
المطلب الرابع: ما يلزم من ترك المبيت بمنى من غير أصحاب الأعذار
من بات ليلة واحدة في منى، وترك بقية الليالي منى فعليه أن يتصدق بما تيسَّر، وإن ترك مبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر فعليه دم، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، واختيار ابن باز، وابن عثيمين.
المطلب الخامس: سقوط المبيت عن أصحاب سقاية الحجيج ورعاة الإبل
يسقط المبيت عن أصحاب سقاية الحجيج ورعاة الإبل، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
ابن عمر أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له.
وحديث مالك: رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر
المطلب السادس: حكم المبيت خارج منى بسب أعذار أخرى غير أصحاب سقاية الحجيج ورعاة الإبل
يجوز المبيت خارج منى، لمن كان له عذر آخر غير السقاية والرعي، وتسقط عنه الفدية، والإثم، وذهب إلى ذلك الشافعية، وبعض الحنابلة، وهو اختيار ابن باز، وابن عثيمين.
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لأصحاب سقاية الحجيج ورعاة الإبل تنبيها على غيرهم, أو نقول: نص عليه لمعنى وُجِد في غيرهم , فوجب إلحاقه بهم.
المطلب السابع: حكم المبيت لمن لم يجد مكاناً مناسباً في منى
من لم يجد مكاناً مناسباً للمبيت في منى، اختلف فيه أهل العلم على قولين:
القول الأول: يجب عليه أن يبيت في أقرب مكان يلي منى، وهو قول ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:].
- قوله سبحانه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:]
ثانياً: القياس:
قياس امتلاء منى على امتلاء المسجد، فإن المسجد إذا امتلأ وجب على الناس أن يصلوا حوله لتتصل الصفوف حتى يكونوا جماعة واحدة والمبيت نظير هذا.
ثالثاً: المقصود من المبيت أن يكون الناس مجتمعين أمة واحدة، فالواجب أن يكون الإنسان عند آخر خيمة حتى يكون مع الحجيج.
القول الثاني: له أن يبيت خارج منى في مزدلفة أو العزيزية أو غيرهما، ولا شيء عليه، وهو قول ابن باز.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:]
ثانياً: من السنة:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)).
والحاج إذا اجتهد في التماس مكان في منى ليبيت فيه ليالي منى فلم يجد شيئاً، فلا حرج عليه أن ينزل في خارجها.
المبحث الثاني: ذكر الله عز وجل في أيام منى
يُسنُّ ذكر الله عز وجل في أيام منى.
الدليل:
عن نبيشة الهذلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)).
الفصل الثاني: رمي الجمار أيام التشريق
تمهيد
يرمي الحاجُ في أيام التشريق: الجمرة الصغرى، ثم الجمرى الوسطى، ثم الجمرى الكبرى، كل جمرة بسبع حصيات، وذلك في اليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر، واليوم الثالث عشر.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس)).
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالى أيام التشريق، يرمى الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمى الثالثة ولا يقف عندها)).
ثانياً: الإجماع:
نقله ابن عبدالبر، وابن رشد.
المبحث الأول: وقت الرمي في أيام التشريق
المطلب الأول أول وقت الرمي في أيام التشريق:
لا يصح الرمي في أيام التشريق قبل زوال الشمس، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو ظاهر المروي عن أبي حنفية في غير يوم النفر، واختاره الكمال ابن الهمام، والشنقيطي،
وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((رمى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال)).
وجه الدلالة:
أن في الرمي قبل الزوال مخالفة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه، والذي اعتضد بقوله: ((لتأخذوا مناسككم))، كما أن فعله صلى الله عليه وسلم في المناسك وقع بياناً لمجمل الكتاب فيكون واجباً، فلا يخرج عن ذلك إلا بدليل.
- عن عائشة قالت: ((أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالى أيام التشريق يرمى الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمى الثالثة ولا يقف عندها)).
وجه الدلالة:
أن هذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرتقب الزوال ارتقاباً تامًّا، فبادر من حين زالت الشمس قبل أن يصلي الظهر.
- عن وبرة، قال: سألت ابن عمر رضي الله عنهما، متى أرمي الجمار؟ قال: ((إذا رمى إمامك، فارمه))، فأعدت عليه المسألة، قال: ((كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا)).
وجه الدلالة:
أنه أعلم السائل بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يتحينون ذلك مما يدل على تحتمه ولزومه.
ثانياً: عن عبدالله بن عمر كان يقول: ((لا ترمى الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس)).
ثالثاً: أنه لو كان الرمي جائزاً قبل زوال الشمس لفعله النبيُّ عليه الصلاة والسلام، لما فيه مِنْ فعل العبادة في أول وقتها، ولما فيه من التيسير على العباد؛ فإن الرمي في الصباح أيسر على الأمة؛ لأنه بعد الزوال يشتد الحر، ويشق على الناس، فلا يمكن أن يختار النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأشد ويدع الأخف، فإنه ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
رابعاً: أن هذا بابٌ لا يعرف بالقياس، بل بالتوقيت من الشارع، فلا يجوز العدول عنه.
رابعاً: أنه كما لا يجزئ فعلُ الرمي في غير المكان الذي رمى فيه عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يجزئ كذلك في غير الوقت الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني تأخير الرمي:
يصح تأخير رمي كل يوم إلى اليوم الثاني إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وكذا تأخير الرمي كله إلى اليوم الثالث عشر، ويرميه مرتبا: رمي اليوم الأول، ثم رمي اليوم الثاني، وهكذا، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره الشنقيطي، وابن باز.
الأدلة:
أولاً من السنة:
عن عاصم بن عدي العجلاني رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل، أن يرموا يوماً، ويدعوا يوماً)) وفي لفظ: ((رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغداة ليومين، ثم يرمون يوم النفر)).
وجه الدلالة:
أن إذن النبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في وقت دليل على أن ذلك الوقت من أجزاء وقت تلك العبادة الموقتة; لأنه ليس من المعقول أن تكون هذه العبادة موقتة بوقت معين ينتهي بالإجماع في وقت معروف، ويأذن النبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في زمن ليس من أجزاء وقتها المعين لها.
ثانياً: أن أيام التشريق كلها وقت للرمي فإذا أخره عن أول وقته إلى آخره أجزأه، كتأخير وقوف بعرفة إلى آخر وقته.
ثالثاً: أنه لو كانت بقية الأيام غير صالحة للرمي لم يفترق الحال فيها بين المعذور وغيره كما في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة.
رابعاً: القياس على الصلاة فإن فعلها في آخر وقتها الضروري هو أداء، أما القضاء في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: فإنه لا يطلق إلا على ما فات وقته بالكلية.
المطلب الثالث: نهاية وقت الرمي:
ينتهي وقت الرمي أداء وقضاء بغروب شمس آخر يوم من أيام التشريق.
دليل ذلك:
الإجماع:
نقله ابن عبدالبر، وابن رشد، والنووي، والقرطبي، وابن تيمية، وحكاه أبو العباس السروجي عن الأئمة.
المبحث الثاني: النفر الأول إذا رمى الجمار ثاني أيام التشريق
إذا رمى الحاجُ الجمارَ ثاني أيام التشريق، فيجوز له أن ينفر إن أحب التعجل في الانصراف من منى، هذا هو النفر الأول، وبذلك يسقط عنه المبيت ورمي اليوم الأخير.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام منى ثلاثة: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)).
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن قدامة، والماوردي.
المبحث الثالث: النفر الثاني إذا رمى الجمار ثالث أيام التشريق:
التأخير إلى ثالث أيام التشريق أفضل، فإذا رمى الحاج الجمار في اليوم الثالث من أيام التشريق بعد الزوال انصرف من منى إلى مكة، ويسمى النفر الثاني، وهو آخر أيام التشريق، وبه تنتهي مناسك منى.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة، إذا زالت الشمس)).
- عن عبدالرحمن بن يعمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات قال: ((أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)).
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ((صلى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، ورقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت، فطاف به)).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أنه كان إذا أقبل بات بذي طوى حتى إذا أصبح دخل، وإذا نفر مر بذي طوى، وبات بها حتى يصبح. وكان يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك)).
وجه الدلالة من الحديثين:
أن ذلك إنما كان في ليلة الحصبة بعد النفر من منى.
ثالثاً: الإجماع: نقله الماوردي، وابن حزم، وابن عبدالبر، والنووي.
رابعاً: أن المقام مقام كمال؛ أما التعجيل فهو رخصة، وفيه ترفه بترك بعض الأعمال.
تمهيد
طواف الوداع أسماؤه وسبب تسميته
أولا: أسماء طواف الوداع
- طواف الوداع.
- طواف الصدر.
- طواف آخر العهد.
ثانيا: سبب التسمية
سمي طواف الوداع لأنه يودع به البيت، وسمي بطواف الصدر لأنه يصدر به عن البيت.
الفصل الأول: حكم طواف الوداع للحاج
طواف الوداع واجب عند الانتهاء من النسك، وقبل الخروج من مكة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والحنابلة، والشافعية في الأظهر، واختاره ابن تيمية، والشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
- عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض)).
- عن ابن عباس: ((قال كان الناس ينصرفون فى كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)).
الفصل الثاني شروط طواف الوداع
المبحث الأول: أن يكون من أهل الآفاق
يشترط أن يكون الحاج من أهل الآفاق، فلا يجب على المكي، ومن نوى الإقامة بمكة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، لأن الطواف وجب توديعاً للبيت، وهذا المعنى لا يوجد في أهل مكة؛ لأنهم في وطنهم.
المبحث الثاني: الطهارة من الحيض والنفاس
يشترط الطهارة من الحيض والنفاس؛ فلا يجب طواف الوداع على الحائض والنفساء، ولا يجب عليهما دم بتركه وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
- عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض)).
- حديث عائشة: ((أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت في حجة الوداع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحابستنا هي؟ فقلت: إنها قد أفاضت يا رسول الله وطافت بالبيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فلتنفر)).
فرع:
الحكم في النفساء كالحكم في الحائض؛ لأن أحكام النفاس كأحكام الحيض، فيما يوجب ويسقط.
فرع:
إذا طهرت الحائض أو النفساء بعد أن نفرت وقبل مفارقة بنيان مكة يلزمها الرجوع، أما إذا تجاوزت مكة فلا يلزمها الرجوع.
الدليل:
عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض)).
المبحث الثالث وقت طواف الوداع:
وقت طواف الوداع هو بعد فراغ المرء من جميع أموره؛ ليكون آخر عهده بالبيت، وهو قول الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الدليل:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت)).
فرع:
يغتفر له أن يشتغل بعد طواف الوداع بأسباب السفر، كشراء الزاد، وحمل الأمتعة أو انتظار رفقة ونحو ذلك ولا يعيده، وهذا مذهب الجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة، واختاره ابن باز وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة
عن أم سلمة، قالت: ((شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي قال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور)).
وجه الدلالة:
أنه عليه الصلاة والسلام صلى الفجر، وكان قد طاف للوداع قبل ذلك، ولم يكن ذلك مبطلاً لوداعه، فدل أن ما كان مثل ذلك لا يقطع طواف الوداع ..
ثانياً: أن ما كان مثل ذلك ليس بإقامة حتى يقطع طواف الوداع.
المبحث الرابع: هل يجزئ طواف الإفاضة عن طواف الوداع، إذا كان عند الخروج؟
يجزئ طواف الإفاضة عن طواف الوداع، إذا جعله الإنسان عند خروجه، وهذا مذهب المالكية، والحنابلة، وحكاه ابن رشد عن جمهور الفقهاء، واختاره ابن باز وابن عثيمين.
وذلك للآتي:
أولاً: أن طواف الوداع ليس مقصوداً لذاته بل ليكون آخر عهده من البيت الطواف، وقد حصل بطواف الإفاضة، فيكون مجزئاً عن طواف الوداع.
ثانياً: أن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه، كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة.
الفصل الأول: النيابة عن الحي
المبحث الأول: النيابة في الفرض عن القادر.
القادر على الحج لا يجوز أن يستنيب من يحج عنه حجة الفريضة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:].
ثانياً: الإجماع:
نقله ابن المنذر، وابن قدامة، وابن حجر.
ثالثاً: أن على القادر الحج ببدنه، فلا ينتقل الفرض إلى غيره إلا فيما وردت فيه الرخصة وهو إذا عجز عنه، أو كان ميتاً، وبقي فيما سواهما على الأصل، فلا تجوز النيابة عنه فيه.
المبحث الثاني: النيابة في الفرض عن غير القادر:
يجب على من أعجزه كبر، أو مرض لا يرجى برؤه أن يقيم من يحج عنه إن كان له مال، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقول صاحبيه، وذهب إليه طائفة من السلف، واختاره الكمال ابن الهمام، وابن حزم، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:].
وجه الدلالة:
عموم الآية، فمن استطاع الحج ببدنه وماله فقد وجب الحج في حقه، فإن كان عاجزاً عن الحج ببدنه، مستطيعاً بماله، فإنه يلزمه أن يقيم غيره مقامه.
ثانياً: من السنة:
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه جاءته امرأة من خثعم تستفتيه، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم)).
وجه الدلالة:
أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرَّ المرأة على وصف الحج عن أبيها بأنه فريضة، مع عجزه عنه ببدنه، ولو لم يجب عليه لم يقرها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يمكن أن يقر على خطأ، فدل على أن العاجز ببدنه القادر بماله يجب عليه أن ينيب.
ثالثاً: أن هذه عبادة تجب بإفسادها الكفارة، فجاز أن يقوم غيرُ فعله فيها مقامَ فعله، كالصوم إذا عجز عنه افتدى.
المبحث الثالث: إذا استناب للفريضة ثم برئ:
من استناب للحج ثم برئ قبل الموت فهل يجب الحج عليه أو يسقط عنه؟ فيه قولان لأهل العلم:
القول الأول: يجزئ عنه، ويسقط عنه الفرض، وهذا مذهب الحنابلة، والظاهرية، وبه قال إسحاق ابن راهويه. وذلك للآتي:
. أن المنيب أتى بما أُمِر به من إقامة غيره مقامه، ومن أتى بما أُمِر به برئت ذمته، وخرج من العهدة كما لو لم يبرأ.
. أنه فَعَلَ عبادة في وقت وجوبها يظن أنها الواجبة عليه فتجزئه، ولو تبين بعد ذلك أن الواجب كان غيرها.
. أن إيجاب الحج عليه يُفضي إلى إيجاب حجتين عليه، ولم يوجب الله عليه إلا حجة واحدة.
. القياس على المتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي فإنه يجزئ عنه.
القول الثاني: لا يجزئه عن حج الفريضة، وعليه الحج بنفسه، وهذا مذهب الحنفية، والشافعية في الأصح، واختاره ابن المنذر. وذلك للآتي:
. أن هذا الحج بدل إياس، فإذا برأ تبين أنه لم يكن مأيوساً منه، فلزمه الأصل.
. قياساً على الآيسة من الحيض إذا اعتدت بالشهور، ثم حاضت لا يجزئها تلك العدة.
. أن جواز الحج عن الغير ثبت بخلاف القياس، لضرورة العجز الذي لا يرجى زواله، فيتقيد الجواز به.
الفصل الثاني: النيابة عن الميت
المبحث الأول: من مات وعليه حج واجب:
من مات وعليه حجٌّ واجبٌ، بقي الحج في ذمته، ووَجَبَ الإحجاج عنه من رأس ماله، سواء أوصى به أم لا، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وقال به طائفة من السلف واختاره الشنقيطي، وابن باز.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى في المواريث: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:].
وجه الدلالة:
أنه عمَّ في الآية الديون كلها، ومن مات وبقي حج في ذمته؛ فإنه دين عليه، يجب قضاؤه عنه من ماله قبل قسمة التركة.
ثانياً: من السنة:
. عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: ((بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت قال: فقال: وجب أجرك وردها عليك الميراث، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها)) أخرجه مسلم.
. عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)).
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث وإن كان في نذر الحج، إلا أنه يدل على فريضة الحج من باب أولى؛ لأن وجوب حج الفريضة أعظم من وجوب الحج بالنذر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهها بدين الآدمي، والدين لا يسقط بالموت، فوجب أن يتساويا في الحكم.
ثالثاً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن امرأة أتته فقالت: إن أمي ماتت وعليها حجة، أفأحج عنها؟ فقال ابن عباس: هل كان على أمك دين؟ قالت: نعم؛ قال: فما صنعت؟ قالت قضيته عنها. قال ابن عباس: فالله خير غرمائك، حجي عن أمك)).
رابعاً: أنه حقٌّ تدخله النيابة، لزمه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كدين الآدمي.
المبحث الثاني: التبرع بالحج عن الميت:
يجوز التبرع بالحج عن الميت، سواء من الوارث أو من الأجنبي، وسواء أذن له الوارث أم لا، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة. واختيار ابن باز وبه أفتت اللجنة الدائمة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض الله فهو أحق بالقضاء)).
وجه الدلالة:
تشبيهه صلى الله عليه وسلم له بالدين، ثم إنه لم يستفصله أوارثه أو لا، فدل على صحة الحج عن الميت، وقد تقرر في الأصول: أن عدم الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ينزل منزلة العموم القولي.
ثانياً: القياس على جواز أن يتبرع بقضاء دينه بغير إذن الوارث، ويبرأ الميت به.
ثالثاً: القياس على صحة الصدقة عنه.
الفرع الأول:
من مات، ولم يكن له تركة لم يلزم أحدا أن يحج عنه، لكن يستحب لوارثه أن يحج عنه.
الفرع الثاني:
العمرة كالحج في القضاء.
الفصل الثالث: النيابة في حج النفل
اختلف أهلُ العلم في مشروعية النيابة في حج النفل على أقوال، أرجحها:
القول الأول: لا تجوز الاستنابة في حج النفل إلا عن الميت والحي المعضوب، وهذا مذهب الشافعية على الأصح، وهو رواية عن أحمد، واختاره الشنقيطي، وابن باز.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه جاءته امرأة من خثعم تستفتيه، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم)).
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)).
وجه الدلالة من الحديثين:
أن النيابة في الحج إنما شرعت للميت أو العاجز عن الحج، فما ثبت في الفرض ثبت في النفل.
ثانياً: أنه يتوسع في النفل ما لا يتوسع في الفرض، فإذا جازت النيابة في الفرض فلأن تجوز في النفل أولى.
ثالثاً: أنها حجة لا تلزمه بنفسه، فجاز أن يستنيب فيها.
رابعاً: أن حج النفل لم يجب عليه ببدنه ولا بماله، فإذا كان له تركهما كان له أن يتحمل إحداهما تقرباً إلى ربه عز وجل.
خامساً: أن النفل كالفرض، فلم يجز أن يستنيب فيه القادر على الحج بنفسه.
القول الثاني: عدم الجواز مطلقاً، وهذا قولٌ للمالكية، وقول عند الشافعية، واختاره ابن عثيمين.
وذلك لأنه إنما جاز الاستنابة في الفرض للضرورة، ولا ضرورة في غيره، فلم تجز الاستنابة فيه، كالصحيح.
الفصل الرابع: الاستئجار على الحج
يجوز الاستئجار على الحج، وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عن أحمد، واختاره ابن باز وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» رواه البخاري.
. عن أبي سعيد رضي الله عنه: ((أن رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقوا في سفرة سافروها، حتى نزلوا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ، فسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لراق، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق فجعل يتفل ويقرأ: الحمد لله رب العالمين حتى لكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي ما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم)).
وجه الدلالة:
أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا الجُعْل على الرقية بكتاب الله، وأخبروا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فصوبهم فيه، فدل على جوزا مثل ذلك، وأولى منه القرب التي تدخلها النيابة كالحج والعمرة.
ثانياً: أنه يجوز أخذ النفقة على النيابة في الحج، فجاز الاستئجار عليه، كبناء المساجد والقناطر.
ثالثاً: أن عليه عمل الناس، ولا يسعهم إلا القول به؛ لأن القول بمنعه يفضي إلى سد باب النيابة نهائيا؛ لندور النيابة على سبيل التبرع.
الفصل الخامس: ما يشترط في النائب
مبحث: أن يكون النائب قد حج عن نفسه حج الفريضة
يشترط في النائب أن يكون قد حج حجة الإسلام عن نفسه أولا، وإلا كانت الحجة عن نفسه، ولم تجزئ عن الأصيل، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وهو قول طائفة من السلف، واختاره الشنقيطي، وبه صدرت فتوى اللجنة الدائمة
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شُبْرُمة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قريب لي. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة))، وفي بعض ألفاظ الحديث: ((هذه عنك وحج عن شبرمة)).
ثانياً: أن النظر يقتضي أن يقدم الإنسان نفسه على غيره؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((ابدأ بنفسك))، ونفسك أحق من غيرك.
مسألة: نيابة المرأة في الحج:
تجوز النيابة في الحج سواء كان النائب رجلاً أو امرأة عند عامة أهل العلم.
الدليل
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه جاءته امرأة من خثعم تستفتيه، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم)).
وجه الدلالة:
أنه أذن للمرأة أن تحج عن أبيها مع أن إحرام الرجل أكمل من إحرام المرأة.
فائدة: ينبغي لمن أراد أن ينيب في الحج أن يتحرى في من يستنيبه أن يكون من أهل الدين والأمانة؛ حتى يطمئن إلى قيامه بالواجب.
فائدة: الأفضل أن يحج عن نفسه؛ لأنه الأصل، ويدعو لنفسه ولغيره من الأقارب وسائر المسلمين، إلا إذا كان أحد والديه أو كلاهما لم يحج الفريضة فله أن يحج عنهما بعد حجه عن نفسه، برًّا بهما وإحسانًا إليهما عند العجز أو الموت، على أن يحج أو يعتمر عن كل واحد على حدة، وليس له جمعهما بعمرة ولا حج.
فائدة: إذا كان مستحسناً أن يحج الإنسان عن أقاربه الأموات، فإنه يبدأ بأمه ثم أبيه، وإن كان أحدهما حج الفريضة فليبدأ بمن لم يحج منهما، ثم الأقرب فالأقرب؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك).
الفصل الأول: الفوات
تمهيد
معنى الفوات لغة واصطلاحاً
الفوات لغة: مصدر فاته يفوته فواتا وفوتا، أي ذهب عنه، وخرج وقت فعله
الفوات اصطلاحاً: خروج العمل المطلوب شرعاً عن وقته المحدد له شرعاً
المبحث الأول: فوات الحج
من فاته الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي: ((أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فسألوه فأمر منادياً فنادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج)) ..
ثانيا: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن عبدالبر، وابن قدامة، والنووي.
المبحث الثاني: فوات العمرة
العمرة لا يتصور فواتها باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة وذلك لأن جميع الزمان وقت لها.
المبحث الثالث: كيفية تحلل من فاته الحج.
من فاته الحج لزمه الطواف والسعي وحلق الرأس أو تقصيره، وبذلك يتحلل من الحج، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة وقول طائفة من السلف، وحكى ابن قدامة الإجماع في ذلك.
الدليل:
عن ابن عمر أنه قال ((من لم يدرك عرفة حتى طلع الفجر فقد فاته الحج، فليأت البيت فليطف به سبعاً، وليطوَّف بين الصفا والمروة سبعاً، ثم ليحلق أو يقصر إن شاء، وإن كان معه هدي فلينحره قبل أن يحلق، فإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو يقصر، ثم ليرجع إلى أهله، فإن أدركه الحج من قابل فليحج إن استطاع، وليهد في حجه، فإن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)).
المبحث الرابع: حكم التحلل
من فاته الحج فله الخيار إن شاء بقي على إحرامه للعام القابل، وإن شاء تحلل، والتحلل أفضل، وهو قول المالكية، والحنابلة، واختاره ابن عثيمين.
لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه، كالعمرة، والمحرم بالحج في غير أشهره.
المبحث الخامس: ما يلزم من فاته الحج
المطلب الأول: القضاء
الفرع الأول: حكم قضاء الحج الواجب
من فاته الحج الواجب لزمه القضاء.
الأدلة:
أولاً: الإجماع:
نقله الجصاص، وابن رشد، وبرهان الدين ابن مفلح، وابن نجيم.
ثانياً: أنه فرض ولم يأت به على وجهه، فلم يكن بد من الإتيان به ليخرج عن عهدته، وتسميته قضاء باعتبار الظاهر.
مسألة:
إذا قضى أجزأه القضاء عن الحجة الواجبة بالإجماع.
الفرع الثاني: حكم قضاء الحج النفل:
من فاته الحج النفل لزمه القضاء، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وحُكيَ فيه الإجماع.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
- قال الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن الآية تقتضي إيجاب النسك بالدخول فيه، فيلزمه القضاء بالخروج منه قبل إتمامه.
- قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:].
وجه الدلالة:
أنه لما شرع وأحرم بالنسك صار ذلك واجباً، كأنما نذره نذرا، وهذا هو معنى قوله: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:].
ثانياً: إجماع الصحابة، نقله الماوردي، وابن قدامة.
ومما ورد في الباب من الآثار:
- عن الأسود بن يزيد: ((أن رجلاً فاته الحج , فأمره عمر بن الخطاب أن يحل بعمرة , وعليه الحج من قابل))، وفي رواية: ((قال الأسود: مكثت عشرين سنة ثم سألت زيد بن ثابت عن ذلك؟ فقال: مثل قول عمر)).
- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال ((من لم يدرك عرفة حتى طلع الفجر فقد فاته الحج، فليأت البيت فليطف به سبعاً، وليطوَّف بين الصفا والمروة سبعاً، ثم ليحلق أو يقصر إن شاء، وإن كان معه هدي فلينحره قبل أن يحلق، فإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو يقصر، ثم ليرجع إلى أهله، فإن أدركه الحج من قابل فليحج إن استطاع، وليهد في حجه، فإن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)).
وجه الدلالة من هذه الآثار:
أن عمومها يشمل الفرض والنفل.
ثالثاً: أن الحج يلزم بالشروع فيه، فيصير كالمنذور بخلاف سائر التطوعات.
رابعاً: أن المانع من إجزاء الحج شيئان: فوات وفساد، فلما كان الفساد موجباً للقضاء وجب أن يكون الفوات موجباً للقضاء.
خامساً: أن الوقوف له وقت محدود يمكن في العادة أن لا يتأخر عنه، فتأخره يكون لجهله بالطريق أو بما بقي من الوقت أو لترك السير المعتاد، وكل ذلك تفريط منه، فيجب عليه القضاء لتفريطه.
المطلب الثاني: الهدي
من فاته الحج يلزمه هدي، وهو مذهب جمهور الفقهاء من: المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الدليل:
عن ابن عمر أنه قال ((من لم يدرك عرفة حتى طلع الفجر فقد فاته الحج، فليأت البيت فليطف به سبعاً، وليطوَّف بين الصفا والمروة سبعاً، ثم ليحلق أو يقصر إن شاء، وإن كان معه هدي فلينحره قبل أن يحلق، فإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو يقصر ثم ليرجع إلى أهله، فإن أدركه الحج من قابل فليحجج إن استطاع، وليهد في حجه، فإن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)).
- قول عمر لأبي أيوب لما فاته الحج: ((اصنع ما يصنع المعتمر ثم قد حللت، فإن أدركت الحج قابلاً فحج، وأهد ما تيسر من الهدي))
الفصل الثاني: الإحصار
تمهيد
معنى الإحصار لغة واصطلاحاً:
الإحصار في اللغة: المنع والحبس.
وفي الاصطلاح: هو منع المحرم من إتمام أركان الحج أو العمرة
المبحث الأول: ما يكون به الإحصار
المطلب الأول: الإحصار بالعدو
الإحصار يحصل بالعدو:
الأدلة:
أولاً: من القرآن:
قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أن سبب نزول الآية هو صد المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص.
كذلك فإن قوله تعالى بعد هذا: (فإذا أمنتم) يشير إلى أن المراد بالإحصار هنا صد العدو المحرم.
ثانياً: من السنة:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين أحصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلوا
ثالثاً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن قدامة، وابن تيمية.
المطلب الثاني: الإحصار بالمرض وغيره
الإحصار يكون بالمرض وذهاب النفقة وغير ذلك، وهو مذهب الحنفية ورواية عن أحمد، وقول طائفة من السلف، وهو قول ابن حزم واختيار ابن تيمية وابن القيم، وابن باز , وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من القرآن:
قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنَّ لفظ الإحصار عام يدخل فيه العدو والمرض ونحوه.
ثانياً: من السنة:
عن عكرمة قال: سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل)). قال عكرمة: سألت بن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق
ثالثا: أن المعنى الذي لأجله ثبت حق التحلل للمحصر بالعدو موجود كذلك في المرض.
المبحث الثاني: أنواع الإحصار
المطلب الأول: الإحصار عن الوقوف بعرفة
اختلف الفقهاء فيمن أحصر عن الوقوف بعرفة دون البيت إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه ليس بمحصر، وهو مذهب الحنفية. ورواية عن أحمد؛ لأنه إن قدر على الطواف له أن يتحلل به، فلا حاجة إلى التحلل بالهدي كفائت الحج.
القول الثاني: يعتبر محصراً، ويتحلل بأعمال العمرة، وهو مذهب المالكية، والشافعية. لأنه لما جاز أن يتحلل عن جميع الأركان كان إحلاله من بعضها أولى.
القول الثالث: يتحلل بعمرة، ولا شيء عليه إن كان قبل فوات وقت الوقوف، وهو مذهب الحنابلة، واختاره ابن عثيمين. لأنه يجوز لمن أحرم بالحج أن يجعله عمرة ولو بلا حصر، ما لم يقف بعرفة.
المطلب الثاني: الإحصار عن طواف الإفاضة
اختلف الفقهاء فيمن وقف بعرفة ثم أحصر عن البيت على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يكون محصرًا، وعليه القيام بأعمال الحج، ويظل محرماً في حق النساء حتى يطوف طواف الإفاضة، وهذا مذهب الحنفية، والمالكية.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عبدالرحمن بن يعمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الحج عرفة)).
وجه الدلالة:
أن المراد بكون الحج عرفة أنه الركن الذي إذا أدركه فقد أدرك الركن الذي يفوت الحج بفواته، ويسقط به الفرض.
ثانياً: أنه لما وقف بعرفة فقد فعل ما له حكم الكل، وأمكنه التحلل بالحلق يوم النحر عن كل محظور سوى النساء، فلم يلزم امتداد الإحرام الموجب للحرج، ولم يبق عليه إلا الإفاضة التي يصح الإتيان بها في أي وقت من الزمان، ولا يعجز المحصر عن ساعة من ليل أو نهار يجد بها فرصة قدر الطواف مختفياً في زمان قدر شهر، والمنع من النساء في هذا المقدار لا يستلزم حرجاً يبيح الإحلال مطلقاً بغير الطريق الأصلي.
القول الثاني: أنه يكون محصراً، ويتحلل، وهذا مذهب الشافعية في الأظهر.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:.]
وجه الدلالة:
أن عموم الآية يشمل من أحصر عن عرفة أو أحصر عن البيت.
ثانياً: أنه إحرام تام، فجاز له التحلل منه قياساً على ما قبل الوقوف بعرفة.
ثالثا: أنه لما جاز أن يتحلل بالإحصار من جميع الأركان، كان تحلله من بعضها أولى.
القول الثالث: أنه إن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة قبل رمي الجمرة فله التحلل، وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلل، وهذا مذهب الحنابلة.
ودليلهم في التفريق:
أن الإحصار كما يفيد عن جميع أعمال الحج فإنه يفيد عن بعض أركانه، لكن لم يحصل الإحصار بعد رمي جمرة؛ لأن إحرامه بعد الرمي إنما هو عن النساء، والشرع إنما ورد بالتحلل من الإحرام التام، الذي يحرم جميع محظوراته، فلا يثبت بما ليس مثله، فمتى ما زال الحصر أتى بالطواف، وقد تم حجه.
المطلب الثالث: الإحصار عن واجب من واجبات الحج
إذا أحصر عن واجب فلا يتحلل، باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة؛ لأنه يمكن جبره بالدم.
المطلب الرابع: الإحصار عن العمرة
يجوز للمحرم بالعمرة التحلل عند الإحصار، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وبعض المالكية. وحكى النووي الإجماع على ذلك.
الأدلة:
أولاً: من القرآن:
- قال تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:] عقيب قوله عز وجل وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ [البقرة:] فكان المراد منه فإن أحصرتم عن إتمامهما فما استيسر من الهدي.
ثانياً: من السنة:
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم حصروا بالحديبية، فحال كفار قريش بينهم وبين البيت، وكانوا معتمرين فنحروا هديهم وحلقوا رؤوسهم
ثالثاً: أن التحلل بالهدي في الحج لمعنى هو موجود في العمرة، وهو التضرر بامتداد الإحرام.
الفصل الثالث: التحلل من الإحصار
تمهيد: حكمة مشروعية التحلل
شرع الله التحلل لحاجة المحصر إليه، ورفعاً للحرج والضرر عنه، حتى لا يظل محرما إلى أن يندفع عنه المانع من إتمام الحج أو العمرة.
المبحث الأول: كيفية تحلل المحصر
المطلب الأول: نية التحلل
اختلف الفقهاء في نية التحلل للمحصر إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: تشترط نية التحلل عند ذبح الهدي وهو مذهب الشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
قوله صلى الله عليه وسلم ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).
ثانياً: لأنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها، فافتقر إلى قصده، ولأن الذبح قد يكون لغير الحل، فلم يتخصص إلا بقصده.
القول الثاني: نية التحلل وحدها هي ركن التحلل، وهو مذهب المالكية.
القول الثالث: التحلل معلق ببعث الهدي إلى الحرم وذبحه على إرادة التحلل، وهو مذهب الحنفية.
الدليل:
قوله تعالى وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:].
وجه الدلالة:
منعه الإحلال مع وجود الإحصار إلى وقت بلوغ الهدى محله، وهو ذبحه في الحرم.
المطلب الثاني: ذبح هدي الإحصار
الفرع الأول: مكان ذبح هدي الإحصار
المحصر يذبح الهدي في المكان الذي أحصر فيه، سواء كان في الحل أو في الحرم، وهو مذهب المالكية، والشافعية، ورواية عند الحنابلة، وهو قول أكثر أهل العلم، واختيار ابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية حيث أحصر، وهي خارج الحرم.
ثانياً: لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل، لتعذر وصول الهدي إلى محله.
الفرع الثاني: زمان ذبح هدي الإحصار
زمان ذبح الهدي هو مطلق الوقت، ولا يتوقت بيوم النحر، بل أي وقت شاء المحصر ذبح هديه، وهو مذهب جمهور الفقهاء من: الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
الدليل:
قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:].
وجه الدلالة:
أنه أطلق عندما ذكر الهدي ولم يوقته بزمان، والتقييد بالزمان نسخ أو تخصيص لنص الكتاب القطعي، وهذا لا يجوز إلا بدليل، وأيضا قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:] والمراد بمحله للعمرة هو الحرم دون الوقت، فصار كالمنطوق به فيه، فاقتضى ذلك جواز ذبحه في الحرم أي وقت شاء في العمرة، فكذلك هو للحج.
الفرع الثالث: العجز عن الهدي
اختلف الفقهاء فيما إذا عجز المحصر عن الهدي هل عليه بدل، إلى أقوال، منها:
القول الأول: أن من لم يجد الهدي ليس عليه بدل، وله أن يتحلل، وهو قول عند الشافعية، واختاره ابن عثيمين. وذلك للآتي:
أولا: لما سكت الله عزّ وجل عن الصيام في الإحصار، وأوجبه في التمتع لمن عدم الهدي، دل على أن من لم يجد الهدي من المحصرين ليس عليه شيء، فيحل بدون شيء.
ثانيا: أن الظاهر من حال كثير من الصحابة رضي الله عنهم أنهم فقراء، ولم ينقل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم بالصيام، والأصل براءة الذمة.
القول الثاني: من لم يجد الهدي يلزمه أن يصوم عشرة أيام ثم يحل، وهو مذهب الحنابلة، وأشهب من المالكية، وقول عند الشافعية، واختاره ابن باز.
الدليل:
أولاً: القياس:
لأنه دم واجب للإحرام، فكان له بدل، كدم التمتع والطيب واللباس، ويتعين الانتقال إلى صيام عشرة أيام، كبدل هدي التمتع.
ثانياً: المحصر ليس له أن يتحلل إلا بعد الصيام، كما لا يتحلل واجد الهدي إلا بنحره.
الفرع الرابع: ما يجب من الهدي على المحصر القارن
اختلف الفقهاء فيما يجب على المحصر القارن من الهدي إلى قولين:
القول الأول: يجب على المحصر القارن هدي واحد، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة. وذلك لأنه محرم بإحرام واحد ويدخل إحرام العمرة في الحجة، فيكفيه دم واحد.
القول الثاني: المحصر القارن عليه هديان، وهو مذهب الحنفية، وذلك لأنه محرم بإحرامين فلا يحل إلا بهديين.
المطلب الثالث: الحلق أو التقصير
الحلق أو التقصير واجب لتحلل المحصر من الإحرام، وهو مذهب المالكية، والأظهر عند الشافعية، وقول عند الحنابلة، ورواية عن أبي يوسف واختاره الطحاوي، والشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
الدليل:
فعله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فإنه حلق، وأمر أصحابه أن يحلقوا
المبحث الثاني: اشتراط التحلل من الإحصار
المطلب الأول: ما يلزم المحصر إذا اشترط
من اشترط قبل حجه وعمرته فإن أحصر تحلل ولم يلزمه شيء مطلقاً، وهو مذهب الحنابلة، والأصح من مذهب الشافعية، واختيار ابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج، وأنا شاكية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي، واشترطي أن محلي حيث حبستني)).
وجه الدلالة:
أنه لما أمرها بالاشتراط أفاد شيئين: أحدهما، أنه إذا عاقها عائق من عدو، أو مرض، أو ذهاب نفقة، ونحو ذلك، أن لها التحلل. والثاني، أنه متى حلت بذلك، فلا دم عليها ولا صوم.
ثانياً: الآثار عن السلف:
- عن سويد بن غفلة قال: ((قال لي عمر: يا أبا أمية، حج واشترط، فإن لك ما شرطت، ولله عليك ما اشترطت)).
- عن عائشة رضي الله عنها قالت لعروة: ((هل تستثني إذا حججت؟ فقال: ماذا أقول؟ قالت: قل: اللهم الحج أردت وله عمدت، فإن يسرته فهو الحج، وإن حبسني حابس فهو عمرة))
المطلب الثاني: حكم المحصر إذا وقع في بعض محظورات الإحرام قبل التحلل:
إذا لم يتحلل المحصر، ووقع في بعض محظورات الإحرام فإنه يجب عليه من الجزاء ما يجب على المحرم غير المحصر، باتفاق المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الدليل:
عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: ((أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية والقمل يتناثر على وجهي فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة)). وكان ذلك بعد الإحصار.
المطلب الثالث: القضاء على من أحصر
من تحلل بالإحصار فليس عليه القضاء، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، واختاره ابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [] البقرة: []
وجه الدلالة:
أن الله تعالى ذكر الهدي والحلق ولم يذكر شيئاً سوى ذلك؛ فدل على أنه لا قضاء على المحصر.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الذين أحصروا في غزوة الحديبية أن يقضوا تلك العمرة التي أحصروا عنها.
الفصل الأول: تعريف الأضحية ومشروعيتها وفضلها وحكمتها
المبحث الأول: تعريف الأضحية
الأضحية لغةً: اسمٌ لما يضحَّى بها أي: يذبح أيام عيد الأضحى، وجمعها: الأضاحي.
الأضحية اصطلاحاً: ما يذبح من بهيمة الأنعام في يوم الأضحى إلى آخر أيام التشريق تقربا إلى الله تعالى.
المبحث الثاني: مشروعية الأضحية
أجمع أهل العلم على مشروعيتها، ونقل ذلك: ابن قدامة، وابن دقيق العيد، وابن حجر، والشوكاني، والشنقيطي، وابن عثيمين.
المبحث الثالث: فضل الأضحية
أولاً: من الكتاب:
قوله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:].
وجه الدلالة:
أن الأضحية من شعائر الله تعالى ومعالمه.
ثانياً: من السنة:
عن البراء رضي الله عنه: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)).
ثالثاً: أن الذبح لله تعالى والتقرب إليه بالقرابين من أعظم العبادات، وأجل الطاعات، وقد قرن الله عز وجل الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه العظيم لبيان عظمه وكبير شأنه وعلو منزلته.
المبحث الرابع: حكمة مشروعيتها
شكر لله تعالى على نعمة الحياة.
إحياء سنة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين أمره الله عز اسمه بذبح الفداء عن ولده إسماعيل عليه الصلاة والسلام في يوم النحر، وأن يتذكر المؤمن أن صبر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإيثارهما طاعة الله ومحبته على محبة النفس والولد كانا سبب الفداء ورفع البلاء، فإذا تذكر المؤمن ذلك اقتدى بهما في الصبر على طاعة الله وتقديم محبته عز وجل على هوى النفس وشهوتها.
أن في ذلك وسيلة للتوسعة على النفس وأهل البيت، وإكرام الجار والضيف، والتصدق على الفقير، وهذه كلها مظاهر للفرح والسرور بما أنعم الله به على الإنسان، وهذا تحدث بنعمة الله تعالى كما قال عز اسمه: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:].
أن في الإراقة مبالغة في تصديق ما أخبر به الله عز وجل من أنه خلق الأنعام لنفع الإنسان، وأذن في ذبحها ونحرها لتكون طعاما له.
الفصل الثاني: حكم الأضحية، وطريقة تعيينها
المبحث الأول: حكم الأضحية
اختلف أهل العلم في حكم الأضحية على قولين:
القول الأول: الأضحية سنة مؤكدة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء: المالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، واختارهابن المنذر، والصنعاني، وابن باز، واللجنة الدائمة، وبه قال أكثر أهل العلم.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئا)).
وجه الدلالة:
أنه علق الأضحية بالإرادة، والواجب لا يعلق بالإرادة.
- عن عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد فأتي به ليضحي به. فقال لها: يا عائشة هلمي المدية. ثم قال: اشحذيها بحجر. ففعلت: ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: باسم الله. اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد. ثم ضحى به)).
وجه الدلالة:
أن تضحيته صلى الله عليه وسلم عن أمته وعن أهله تجزئ عن كل من لم يضح، سواء كان متمكنا من الأضحية أو غير متمكن.
ثانياً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
عن حذيفة بن أسيد قال: ((لقد رأيت أبا بكر وعمر رضى الله عنهما وما يضحيان عن أهلهما خشية أن يستن بهما فلما جئت بلدكم هذا حملني أهلي على الجفاء بعد ما علمت السنة)).
قال عكرمة: ((كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما، ويقول: من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس)).
عن تميم بن حويص يعنى المصري قال: (اشتريت شاة بمنى أضحية فضلت فسألت ابن عباس رضى الله عنهما عن ذلك فقال: لا يضرك)
عن أبى مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (إني لأدع الأضحى وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم علي) وفي رواية: ((لقد هممت أن أدع الأضحية وإني لمن أيسركم مخافة أن يحسب الناس أنها حتم واجب)).
عن سويد بن غفلة قال: ((قال لي بلال: ما كنت أبالي لو ضحيت بديك, ولأنْ آخذ ثمن الأضحية فأتصدق به على مسكين مقتر فهو أحب إلي من أن أضحي)).
ثالثاً: أنها أضحية لا تجب على المسافر فلم تجب على الحاضر.
رابعاً: أنها ذبيحة لم يجب تفريق لحمها، فلم تكن واجبة، كالعقيقة.
القول الثاني: أن الأضحية واجبة على الموسر وهذا مذهب الحنفية، وهو قول للمالكية، وقول مخرج في مذهب الحنابلة، وبه قال طائفة من السلف واختاره ابن تيمية والشوكاني، واستظهره ابن عثيمين
الأدلة:
أولاً: من القرآن:
قوله عز وجل فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:].
وجه الدلالة:
أن المراد بالنحر ذبح الأضحية، والأصل في الأمر الوجوب، ومتى وجب على النبي عليه الصلاة والسلام يجب على الأمة لأنه قدوة للأمة.
أحكام القرآن لابن العربي (ص).
ثانياً: من السنة:
- عن جندب بن سفيان البجلي قال: ((ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحية ذات يوم فإذا أناس قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة فلما انصرف رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد ذبحوا قبل الصلاة فقال من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعادة الذبح، ولولا أنه واجبٌ لما أمر بذلك.
- عن البراء بن عازب، قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة، فقال: من صلى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب سنة المسلمين، ومن نسك قبل الصلاة، فتلك شاة لحم، فقام أبو بردة بن نيار، فقال: يا رسول الله، والله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فتعجلت، وأكلت، وأطعمت أهلي، وجيراني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك شاة لحم قال: فإن عندي عناق جذعة هي خير من شاتي لحم، فهل تجزي عني؟ قال: نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك)).
وجه الدلالة:
أن قوله: ((ولن تجزي عن أحد بعدك)) أي لن تقضي، والقضاء لا يكون إلا عن واجب فقد اقتضى ذلك الوجوب.
المبحث الثاني: حكم الأضحية المنذورة
من نذر أن يضحي، فإنه يجب عليه الوفاء بنذره سواء كان النذر لأضحية معينة أو غير معينة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الدليل:
عن عائشة، رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه)).
وجه الدلالة:
أن التضحية قربة لله تعالى فتلزم بالنذر كسائر القرب.
هل تتعين الأضحية بالنية مع الشراء أو بالقول أو بالذبح؟
المبحث الثالث: بم يحصل تعيين الأضحية؟
اختلف الفقهاء في السبب الذي يحصل به تعيين الأضحية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تتعين الأضحية بالقول كأن يقول هذه أضحية، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: أنه إزالة ملك على وجه القربة فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف.
ثانياً: أن الشراء موجب للملك وكونها أضحية مزيل للملك، ولا يصح أن يكون الشيء الواحد في حالة واحدة موجبا لثبوت الملك وإزالته، فلما أفاد الشراء ثبوت الملك امتنع أن يزول به الملك.
القول الثاني: تتعين الأضحية بشراء الأضحية مع أالنية، وهو مذهب الحنفية، وقول للحنابلة، وبه قال ابن القاسم من للمالكية، واختاره ابن تيمية، واللجنة الدائمة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن عمر بن الخطاب رضي الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).
- عن أبي حصين أن ابن الزبير رأى هدياً له فيه ناقة عوراء فقال: إن كان أصابها بعدما اشتريتموها فأمضوها، وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فأبدلوها.
ثانياً: أن الفعل مع النية يقوم مقام اللفظ إذا كان الفعل يدل على المقصود كمن بنى مسجدا، وأذن في الصلاة.
ثالثاً: أنه مأمور بشراء أضحية، فإذا اشتراها بالنية وقعت عنه كالوكيل.
القول الثالث: لا تتعين الأضحية إلا بالذبح، وهذا مذهب المالكية في المشهور، واختاره الشوكاني.
دليل ذلك:
أنه ليس في اعتبار تعيين الأضحية بمجرد الشراء بالنية دليل يقوم به الحجة، والظاهر أنه إذا ذبحه بنية الأضحية وفى بما عليه وصار فاعلاً لما شرعه الله تعالى لعباده من الضحايا.
الفصل الثالث: شروط صحة الأضحية
المبحث الأول: الشرط الأول: أن تكون من الأنعام؛ وهي الإبل والبقر والغنم
يشترط أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام؛ وهي الإبل والبقر والغنم.
الأدلة:
أولاً: من القرآن:
قال تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:]
ثانياً: من السنة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه سلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ويسمي ويكبر ويضع رجله على صفاحهما)).
عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) ..
ثالثاً: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن رشد، والنووي، والصنعاني.
المبحث الثاني: الشرط الثاني: أن تكون قد بلغت السن المعتبرة شرعا
يشترط في الأضحية أن تكون قد بلغت السن المعتبرة شرعا، فلا تجزئ التضحية بما دون الثنية من غير الضأن، ولا بما دون الجذعة من الضأن.
الأدلة:
عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)).
ثانياً: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك: ابن عبدالبر، والنووي، والشنقيطي، وحكاه ابن حزم في إجزاء الثني من المعز، والترمذي في إجزاء الضأن من الجذع.
مطلب: معنى الثني من الإبل والبقر والغنم، والجذع من الضأن
الثني من الإبل ما أتم خمس سنين، ومن البقر ما أتم سنتين، ومن المعز ما أتم سنة، والجذع من الضأن ما أتم ستة أشهر، نص على هذا التفصيل: فقهاء الحنفية والحنابلة، واختاره ابن عثيمين، وأفتت به اللجنة الدائمة.
المبحث الثالث: الشرط الثالث: السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء
يشترط في الأضحية السلامة من العيوب المانعة من الإجزاء، فلا تجزئ التضحية بالعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقي.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن البراء بن عازب قال: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بأصابعه وأصابعي أقصر من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه يقول: لا يجوز من الضحايا العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تُنْقي)).
ثانياً: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن رشد، وابن قدامة، والنووي وابن حزم.
المبحث الرابع: الشرط الرابع: أن تكون التضحية في وقت الذبح
(ينظر أول وقت التضحية وآخر وقتها)
المبحث الخامس: الشرط الخامس: نية التضحية
يشترط على المضحي أن ينوي بها التضحية، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
ثانياً: أن الذبح قد يكون للحم وقد يكون للقربة والفعل لا يقع قربه بدون النية.
الفصل الرابع: وقت الأضحية
المبحث الأول: أول وقت التضحية
المطلب الأول: ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر يوم النحر
لا يجوز ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر في يوم النحر.
الأدلة:
عن البراء بن عازب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: ((إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا، ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)).
ثانياً: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن عبدالبر، والقرطبي.
المطلب الثاني: ذبح الأضحية قبل الصلاة
لا يجوز ذبح الأضحية قبل صلاة العيد.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
- عن البراء بن عازب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: ((إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا، ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)).
- عن جندب بن سفيان البجلي قال: ((ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحية ذات يوم فإذا أناس قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة فلما انصرف رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد ذبحوا قبل الصلاة فقال من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله)).
ثانياً: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك ابن عبدالبر والنووي، وابن رشد.
المطلب الثالث: أول وقت الأضحية
يبدأ وقت الأضحية بعد صلاة العيد، وهذا مذهب الحنفية، والحنابلة، واختاره الطحاوي، والشوكاني، وابن عثيمين.
الأدلة:
- عن البراء بن عازب قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: ((إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا، ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)).
- عن جندب بن سفيان البجلي قال: ((ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحية ذات يوم فإذا أناس قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة فلما انصرف رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد ذبحوا قبل الصلاة فقال من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله)).
وجه الدلالة:
أن الحديث يدل على أن من ذبح بعد الصلاة فله نسك، سواء انتهت الخطبة أو لم تنته، وسواء ذبح الإمام أم لم يذبح، وأن من ذبح قبل الصلاة فعليه أن يذبح أخرى مكانها.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ ذَبَحَ قبل الصلاة فليعد)) ..
المطلب الرابع: وقت الأضحية في غير أهل الأمصار
يبدأ وقت الأضحية لمن كان بمحل لا تصلى فيها صلاة العيد كأهل البوادي: بعد قدر فعل صلاة العيد بعد طلوع الشمس قيد رمح، وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن عثيمين؛ وذلك لأنه لا صلاة في حقهم تعتبر، فوجب الاعتبار بقدرها.
زمن التضحية:
المبحث الثاني: آخر وقت التضحية
اختلف الفقهاء في زمن التضحية على قولين:
القول الأول: أيام التضحية ثلاثة: يوم العيد واليومان الأولان من أيام التشريق، وهذا مذهب جمهور الفقهاء: الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث)) ..
وجه الدلالة:
أنه نهى عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، ولو كان اليوم الرابع يوم ذبح، لكان الذبح مشروعا في وقت يحرم فيه الأكل، ثم نسخ بعد ذلك تحريم الأكل، وبقي وقت الذبح بحاله.
ثانياً: أنه وَرَدَ عن الصحابة رضي الله عنهم تخصيصه بالعيد ويومين بعده، منهم عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف, ومثل هذا لا يقال بالرأي.
ثالثاً: أنه قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق؛ ولو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق، وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر.
القول الثاني: يبقى وقت التضحية إلى آخر أيام التشريق وهو مذهب الشافعية، وقول للحنابلة، وهو قول طائفة من السلف، واختاره ابن تيمية، وابن القيم والشوكاني، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح).
وجه الدلالة:
أن الحديث نص في الدلالة على أن كل أيام منى أيام نحر.
عن نبيشة الهذلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)).
ثانياً: أن الثلاثة أيام تختص بكونها أيام منى، وأيام الرمى، وأيام التشريق، وأيام تكبير وإفطار، ويحرم صيامها، فهى إخوة فى هذه الأحكام، فكيف تفترق فى جواز الذبح بغير نص ولا إجماع؟.
المبحث الثالث: التضحية في ليالي أيام النحر (ليلتا يومي التشريق)
اختلف الفقهاء في حكم التضحية في الليل إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا تجزئ التضحية في الليل، وهذا مذهب المالكية، وقول للحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قول الله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:]
وجه الدلالة:
أن الله خصصه بلفظ الأيام في قوله: فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك.
ثانياً: من السنة:
عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ((كل أيام التشريق ذبح)).
ثالثاً: أن الشرع ورد بالذبح في زمن مخصوص وطريق تعلق النحر والذبح بالأوقات الشرع لا طريق له غير ذلك فإذا ورد الشرع بتعلقه بوقت مخصوص، وقد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم أضحيته نهارا علمنا جواز ذلك نهارا ولم يجز أن نعديه إلى الليل إلا بدليل.
رابعاً: أنه ليل يوم يجوز الذبح فيه، فأشبه ليلة يوم النحر.
خامساً: أن الليل يتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب ولا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود.
القول الثاني: إن التضحية في الليل تجزئ مع الكراهة، وهو مذهب الحنفية والشافعية، وقول للحنابلة.
الأدلة:
أدلة إجزاء التضحية ليلاً
أولاً: من القرآن:
قول الله تعالى وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج:].
وجه الدلالة:
أن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي.
ثانياً: من السنة:
- عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ((كل أيام التشريق ذبح)).
وجه الدلالة:
ذكر الأيام في الحديث وإن دل على إخراج الليالي بمفهوم اللقب لكن التعبير بالأيام عن مجموع الأيام والليالي والعكس مشهور متداول بين أهل اللغة لا يكاد يتبادر غيره عن الإطلاق.
ثالثاً: أن الليل زمن يصح فيه الرمي، وداخل في مدة الذبح، فجاز فيه كالأيام.
أدلة كراهة التضحية ليلاً:
أولاً: أن الليل تتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب، فلا يفرق طريا، فيفوت بعض المقصود.
ثانياً: احتمال الغلط في ظلمة الليل.
ثالثا: الخروج من الخلاف.
رابعاً: أن في الذبح نهارا مطابقة للفظ القرآن وذبح النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الذبح ليلاً.
القول الثالث: جواز الذبح ليلا من غير كراهة، وهذا قول للحنابلة، وهو اختار ابن حزم والصنعاني، والشوكاني، وابن عثيمين.
أدلة الجواز:
سبق ذكرها في أدلة القول السابق.
أدلة عدم الكراهة:
أولاً: أن الله قد أباح ذبح الحيوان في أي وقت.
ثانياً: أن القول بالكراهية يحتاج إلى دليل.
المبحث الرابع: المبادرة إلى التضحية
يستحب المبادرة في ذبح الأضحية بعد دخول وقتها، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: ما فيه من المبادرة إلى الخير، والخروج من الخلاف.
ثانياً: أن الله جل شأنه أضاف عباده في هذه الأيام بلحوم القرابين فكانت التضحية في أول الوقت من باب سرعة الإجابة إلى ضيافة الله جل شأنه.
الفصل الخامس: من آداب التضحية وسننها
المبحث الأول: حكم حلق الشعر وتقليم الأظفار لمن أراد أن يضحي
اختلف الفقهاء في حكم حلق الشعر وتقليم الأظفار لمن أراد أن يضحي على قولين:
القول الأول: الجواز، وهذا مذهب الحنفية، وقول للمالكية، وبه قال الليث بن سعد، واختاره ابن عبدالبر، وحكاه عن سائر فقهاء المدينة والكوفة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن عائشة قالت: ((أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما أحله الله حتى نحر الهدي)).
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم عليه شيء يبعثه بهديه، والبعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليفعل ما نهى عنه.
ثانياً: أن إرادة التضحية إذا كانت لا تمنع من الجماع، وهو أغلظ ما يحرم بالإحرام, كانت أحرى أن لا تمنع مما دون ذلك.
ثالثاً: أنه لا يصح قياسه على المحرم، فإنه لا يحرم عليه الوطء واللباس والطيب، فلا يكره له حلق الشعر، وتقليم الأظفار.
القول الثاني: يحرم لمن أراد أن يضحي أن يحلق شعره ويقلم أظفاره حتى يضحي، وهو مذهب الحنابلة، ووجهٌ للشافعية، وهو قول طائفة من السلف، واختاره ابن حزم، وابن القيم، وابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان عنده ذبح يريد أن يذبحه فرأى هلال ذي الحجة فلا يمس من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي)).
وجه الدلالة:
أن مقتضى النهي التحريم، وهو خاص يجب تقديمه على عموم غيره.
القول الثالث: يكره لمن أراد أن يضحي أن يحلق شعره ويقلم أظفاره حتى يضحي، وهذامذهب المالكية، والشافعية وهو قولٌ للحنابلة.
دليل الكراهة:
الجمع بين نصوص الباب، بحمل نصوص النهي على الكراهة، ونصوص الإباحة على عدم التحريم.
مطلب: حكم الفدية لمن أراد أن يضحي فأخذ من شعره أو قلم أظفاره
لا فدية على من حلق شعره أو قلم أظفاره لمن أراد أن يضحي بالإجماع، نقله ابن قدامة، والمرداوي.
المبحث الثاني: استقبال القبلة عند الذبح
يستحب أن يكون الذابح مستقبل القبلة، وهذاباتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وحُكِي فيه الإجماع.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته)).
وجه الدلالة:
أنه أفرد ذكر استقبال القبلة بعد قوله: ((من صلى صلاتنا)) مع كونه داخلا فيها، لأنه من شرائطها، وذلك للتنبيه على تعظيم شأن القبلة وعظم فضل استقبالها، وهو غير مقتصر على حالة الصلاة، بل أعم من ذلك، ويدخل في ذلك الذبيحة.
ثانياً: عن نافع: ((أن ابن عمر كان يكره أن يأكل ذبيحة ذبحه لغير القبلة)).
وجه الدلالة:
أنه قول صحابي ولا مخالف له منهم.
ثالثاً: أنه لابد للذبح من جهة فكانت جهة القبلة أولى؛ لأنها أفضل الجهات، وهو مستحب في القربات التي يراد بها الله عز وجل تبركا بذلك.
رابعاً: أن أهل الجاهلية ربما كانوا يستقبلون بذبائحهم الأصنام فأمرنا باستقبال القبلة لتعظيم جهة القبلة.
المبحث الثالث: إحداد الشفرة قبل إضجاع الشاة
يستحب إحداد الشفرة قبل إضجاع الشاة، وهذاباتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية، والحنابلة.
دليل ذلك من السنة:
عن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)).
نحر البعير وذبح الشاة والبقر
يسن أن تنحر الإبل وتذبح الشاةويخير بين الذبح والنحر في البقر.
الأدلة:
أولاً: من القرآن:
قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:]
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [البقرة:].
ثانياً: من السنة:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنه قال: ((نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية البدنة عن سبعة, والبقرة عن سبعة)).
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((فنحر عليه السلام ثلاثا وستين, فأعطى عليا فنحر ما غبر, وأشركه في هديه)).
وجه الدلالة:
أنه ثبت في هذه النصوص وغيره أن هدي النبي صلى الله عليه كان نحر الإبل، وذبح الغنم.
ثالثاً: الإجماع:
حكى الإجماععلى النحر في الإبل، والذبح في الغنم: ابن حزم، وابن رشد، والقرطبي، وابن قدامة، والنووي، وحكى الإجماع على التخيير في البقر: ابن رشد، والقرطبي.
المبحث الرابع: التكبير عند الذبح
يستحب عند الذبح أن يكبر بعد التسمية.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:].
وقال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [الحج:].
ثانياً: من السنة:
عن أنس رضي الله عنه، قال: ((ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما)).
ثالثاً: الإجماع:
أجمع أهل العلم على استحباب التكبير بعد التسمية، حكاه ابن قدامة، والقاري، وحكى عمل الناس عليه: الترمذي، وجماعة من المالكية.
رابعاً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
عن حنش بن المعتمر، قال: ((صلى علي رضي الله عنه العيد في الجبانة ثم استقبل القبلة بكبشين ثم قال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، بسم الله، والله أكبر، ثم ذبحهما وقال: اللهم منك ولك اللهم تقبل)).
عن نافع: ((أن عبدالله بن عمر كان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره قال بسم الله والله أكبر)).
عن عبدالله بن عباس، رضي الله عنهما أنه قال: ((يقول الله تبارك وتعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:] قال: «قياما على ثلاث قوائم معقولة بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك)).
المبحث الخامس: أن يذبح بنفسه إذا استطاع
يستحب أن يذبح بنفسه إذا استطاع.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن أنس رضي الله عنه، قال: ((ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما)).
ثانياً: الإجماع:
حكى الإجماع على ذلك النووي.
ثالثاً: أنها قربة، وفعل القربة أولى من استنابته فيها.
المبحث السادس: الأكل والإطعام والإدخار من الأضحية
يجوز للمضحي أن يأكل من أضحيته ويطعم ويدخر، وهذاباتفاق المذاهب الفقهية: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من القرآن:
قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:].
ثانياً: من السنة:
عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ثم قال بعد: كلوا، وتزودوا، وادخروا)).
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ضحى أحدكم فليأكل من أضحيته)).
المبحث السابع: الاستنابة في ذبح الأضحية
يجوز للمضحي أن يستنيب في ذبح أضحيته إذا كان النائب مسلما، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية. والمالكية، والشافعية. والحنابلة، وحُكِيَ فيه الإجماع.
دليل ذلك من السنة:
عن جابر رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بدنة ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر منها)).
المبحث الثامن: أيهما أفضل ذبح الأضحية أو التصدق بثمنها؟
ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها، نص على هذا فقهاء الحنفية، والمالكية، والحنابلة، واختاره ابن باز، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: أن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى والخلفاء بعده، ولو علموا أن الصدقة أفضل لعدلوا إليها.
ثالثاً: أن الأضاحبي واجبة عند طائفة من الفقهاء، أما التصدق بثمنها فهو تطوع محض.
رابعاً: أن الأضاحي تفوت بفوات وقتها خلاف الصدقة بثمنها فإنه لا يفوت، نظير الطواف للآفاقي فإنه أفضل له من الصلاة لأن الطواف في حقه يفوت بخلاف المكي.
خامساً: أن فيها جمعاً بين التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم والتصدق، ولا شك أن الجمع بين القريتين أفضل.
المبحث التاسع: إعطاء الجزار من الأضحية ثمناً لذبحه
لا يجوز إعطاء الذابح من الأضحية ثمنا لذبحه، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن علي رضي الله عنه قال: ((أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها، قال: نحن نعطيه من عندنا)).
ثانياً: أن ما يدفعه إلى الجزار أجرة عوض عن عمله وجزارته، ولا تجوز المعاوضة بشيء منها.
المبحث العاشر: الأضحية عن الميت استقلالاً
لا تشرع الأضحية عن الميت استقلالاً، وهو مذهب الشافعية، واختاره ابن عثيمين، وكرهها المالكية.
الأدلة:
أولاً: من القرآن:
قوله تعالى: وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:].
ثانياً: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن أحد من السلف أنهم ضحوا عن الأموات استقلالا.
ثالثاً: أنها عبادة، والأصل أن لا تفعل عن الغير إلا ما خرج بدليل لا سيما مع عدم الإذن.
رابعاً: أن المقصود بذلك غالبا المباهاة والمفاخرة.
الفصل السادس: من شروط الذكاة
المبحث الأول: التسمية
اختلف أهل العلم في اشتراط التسمية في الذكاة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن التسمية شرط، لا تحل الذكاة بدونه، عمدا كان أو نسياناً، وهذا مذهب الظاهرية،، وهو رواية عن أحمد، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن تيمية، وابن عثيمين
الأدلة:
أولاً من الكتاب:
قال الله تعاالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:].
وجه الدلالة:
أن النهي يقتضي التحريم لاسيما مع وصف الفسق؛ فإن الذي يسمى فسقا في الشرع لابد أن يكون حراما.
ثانياً: من السنة:
عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكل)).
وجه الدلالة:
أنه علق الحل فيه بشرطين: بإنهار الدم، وذكر اسم الله على المذكى.
عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما صدتَ من كلبك المعلم فذكرتَ اسم الله عليه فكل)).
وجه الدلالة:
أنه وقف الإذن بالأكل على التسمية.
عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه، فكل)).
ثالثاً: أنا أمرنا بالتسمية عند الذبح مخالفة للمشركين؛ لأنهم كانوا يسمون آلهتهم عند الذبح، ومخالفتهم واجبة علينا، فالتسمية عند الذبح تكون واجبة أيضا.
القول الثاني: أنها واجبة مع الذكر وتسقط بالنسيان، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، واختارته اللجنة الدائمة.
الأدلة:
أولاً: أدلة الوجوب:
سبق في أدلة القول السابق.
ثانياً: أدلة سقوط الوجوب بالنسيان:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: ((ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفسق)).
وجه الدلاالة:
أن الناسي لا يسمى فاسقاً.
- قوله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:].
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إذا نسي أحدكم أن يُسمي على الذبيحة فليُسم وليأكل)).
ثالثاً: أن النسيان يسقط المؤاخذة، والجاهل مؤاخذ، ولذلك يفطر الجاهل بالأكل في الصوم دون الناسي.
رابعاً: أن إسقاط التسيمة في حال النسيان عليه إجماع السلف.
القول الثالث: أنها سنة مؤكدة، وهذا مذهب الشافعية، وهو رواية عن أحمد، وبه قال طائفة من السلف، واختاره ابن عبدالبر.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب:
قال الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنه أباح المذكَّى ولم يذكر التسمية.
الآية الثانية: قال الله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أن الله تعالى أباح ذبائحهم ولم يشترط التسمية.
ثانياً: من السنة:
عن عائشة رضي الله عنها: ((أن قوما قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا الله عليه وكلوه)).
وجه الدلالة:
أنه لو كان وجود التسمية شرطا لما رخص لهم بالأكل عند وقوع الشك فيها، كما في شرط حصول الذكاة، وكأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا.
- عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).
ثالثاً: أن التسمية لو كانت فرضا ما سقطت بالنسيان لأن النسيان لا يسقط ما وجب عمله من الفرائض.
رابعاً: إجماعهم في ذبيحة الكتابي أنها تؤكل وإن لم يسم الله عليها إذا لم يسم عليها غير الله، وإجماعهم كذلك: أن المجوسي والوثني لو سمى الله لم تؤكل ذبيحته، وفي ذلك بيان أن ذبيحة المسلم حلال على كل حال لأنه ذبح بدينه.
المبحث الثاني: إنهار الدم
أجمع أهل العلم على أن إنهار الدم يحصل بقطع أربعة أشياء: المرئ، والحلقوم، والودجين، نقل الإجماع على ذلك: ابن المنذر، وابن قدامة، وابن باز، وابن عثيمين.
المبحث الثالث: ما هو القدر الواجب الذي يكتفى به في حصول التذكية؟
اختلف الفقهاء في القدر الذي يشترط في حصول الذكاة به على أقوال كثيرة نذكر منها ما يلي:
القول الأول: يشترط قطع الجميع: الحلقوم والمرئ والودجين، وهذا قول للمالكية، ورواية عن أحمد، وبه قال الليث بن سعد، واختاره ابن ابن المنذر، وذلك لأنه لولا اشتراط قطع الأربع لما جاز له قطعها إذ كان فيه زيادة ألم بما ليس هو شرطا في صحة الذكاة، فثبت بذلك أن عليه قطع هذه الأربع.
القول الثاني: يشترط الودجين والحلقوم، وهو مذهب المالكية، ورواية عن أحمد، وذلك لأنه بالودجين يحصل إنهار الدم، ولا يوصل إلى قطع الودجين في الغالب إلا بعد قطعه الحلقوم لأنه قبلهما، أما المري فهو مجرى الطعام والشراب وهو وراء ذلك ملتصق بعظم القفا.
القول الثالث: الواجب قطع الحلقوم والمرئ، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره ابن باز.
الأدلة:
أولاً: أن مقصود الذكاة الإزهاق بما يوحى ولا يعذب، والغالب أن الودجين يقطعان بقطع الحلقوم والمرئ.
ثانياً: أنه قطع في محل الذبح ما لا تبقى الحياة مع قطعه فأشبه ما لو قطع الأربعة.
القول الرابع: يجب قطع ثلاثة من أربعة بدون تعيين، وهذا المشهور من مذهب الحنفية، ووجه للحنابلة، واختاره ابن تيمية.
الأدلة:
أولاً: أن ما هو المقصود منه يحصل به وهو إنهار الدم المسفوح، والتوحية في إخراج الروح لأنه لا يحيا بعد قطع المريء والحلقوم ويخرج الدم بقطع أحد الودجين.
ثانياً: أن الأكثر يقوم مقام الكل وأي ثلاث منها قطع فقد قطع الأكثر، ولا معنى لاشتراط الكل.
القول الخامس: الواجب قطع الودجين، وهذا وجه للحنابلة، واختاره ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
عن رافع بن خديج رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة))
وجه الدلالة:
أنه علق الحكم على إنهار الدم، ومن المعلوم أن أبلغ ما يكون به الإنهار قطع الودجين، فبقطعهما يخرج الدم.
ثانياً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كل ما أفرى الأوداج غير مترد)).
ثالثاً: أنه لو قطع الحلقوم والمريء ولم يقطع الودجين، فإن الدم سوف يكون باقيا لا يخرج؛ لأن الدم الذي يخرج من الحلقوم والمريء سيكون ضعيفا، ولا يخرج إلا كما يخرج من أي عرق يكون في اليد أو في الرجل، أو ما أشبه ذلك.
المبحث الأول: حكم قتل الصيد للمحرم
قتل الصيد من محظورات الإحرام.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
- قوله تعالى: يا أيُّها الذين آمنوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأنتم حُرُم [المائدة:].
- قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارة وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة:].
- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:].
ثانياً: من السنة
- عن الصَّعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: ((أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشيًّا، فَرَدَّه عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنَّا لم نردُّه عليك إلا أنَّا حرم)).
- عن أبي قتادة رضي الله عنه، قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنا المحرم، ومنا غير المحرم، فرأيت أصحابي يتراءون شيئاً، فنظرت، فإذا حمار وحشٍ يعني وقع سوطه، فقالوا: لا نعينك عليه بشيء، إنا محرمون، فتناولته، فأخذته، ثم أتيت الحمار من وراء أكمةٍ فعقرته، فأتيت به أصحابي، فقال بعضهم: كلوا، وقال بعضهم: لا تأكلوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمامنا، فسألته، فقال: كلوه، حلال)).
ثالثا: الإجماع
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن رشد، وابن قدامة، والنووي، وشمس الدين ابن مفلح.
المبحث الثاني: ضابط الصيد المحرَّم
الصيد الذي يحظر على المحرِم، هو الحيوان البري المتوحش المأكول اللحم، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وهو قول ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنَّ معنى الآية أنه أحل أكل بهيمة الأنعام الوحشية إلا الصيد في حال الإحرام؛ فدلَّ على أن المحظور على المحرم من الصيد هو ما كان وحشيًّا مأكولاً.
- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنَّ معنى الآية: لا تقتلوا الصيد، الذي بينتُ لكم، وهو صيد البر دون صيد البحر، وأنتم محرمون بحجٍّ أو عمرة.
- قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنه نصَّ على تحريم الصيد البري على المحرم.
المبحث الثالث: ما يباح للمحرم
المطلب الأول: ذبح بهيمة الأنعام ونحوها
يجوز للمحرم ذبح بهيمة الأنعام والدجاج ونحوها.
الدليل:
الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن حزم، وابن قدامة.
المطلب الثاني: صيد البحر
يجوز للمحرم اصطياد الحيوان البحري وأكله.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة:].
ثانياَ: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن قدامة.
المبحث الأول: كفارة قتل المحرم للصيد
المطلب الأول: حكم كفارة قتل الصيد
يجب الجزاء في قتل الصيد في الجملة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة:].
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك في الجملة، ابن المنذر، وابن رشد، وابن قدامة.
المطلب الثاني: كفارة قتل الصيد
يُخيَّر المحرم إذا قتل صيداً بين ذبح مثله، والتصدُّق به على المساكين، وبين أن يقوَّم الصيد، ويشتري بقيمته طعاماً لهم، وبين أن يصوم عن إطعام كل مدٍّ يوماً، أما إذا قتل المحرم ما لا يشبه شيئاً من النَّعم، فإنه يُخيَّر بين الإطعام والصيام، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الدليل:
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة:].
المطلب الثالث: مكان ذبح الهدي في جزاء الصيد
يجب أن يكون ذبح الهدي الواجب في جزاء الصيد، في الحرم، وهذا مذهب جمهور الفقهاء: الحنفية، والشافعية، والحنابلة، واختاره الطبري، وابن حزم، والشنقيطي، وابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى في جزاء الصيد: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنه لو جاز ذبحه في غير الحرم؛ لم يكن لذكر بلوغه الكعبة معنى.
ثانياً: من السنة
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر))، وعنه أيضاً مرفوعاً: ((هذا المنحر, وفجاج مكة كلها منحر)).
وجه الدلالة:
أنه حيثما نُحِرَت البدن, والإهداء من فجاج مكة ومنى والحرم كله، فقد أصاب الناحر.
ثالثاً: أن الهدي اسمٌ لما يهدى إلى مكان الهدايا، ومكان الهدايا الحرم؛ وإضافة الهدايا إلى الحرم ثابتةٌ بالإجماع.
رابعاً: أن هذا دمٌ يجب للنسك؛ فوجب أن يكون في مكانه وهو الحرم.
المطلب الرابع: توزيع الصدقة على مساكين الحرم
يُشتَرَط أن توزَّع الصدقة على مساكين الحرم، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة، واختاره الشنقيطي، وابن باز، وابن عثيمين.
الدليل:
قوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنَّ في حكم الهدي ما كان بدلاً عنه من الإطعام؛ فيجب أن يكون مثله كذلك، بالغ الكعبة.
المطلب الخامس: موضع الصيام
يجوز الصيام في أي موضع.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى: أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنه أطلق الصيام، ولم يقيده بشيء، والواجب البقاء على إطلاقات النصوص، وعدم التصرف بتقييدها من غير دليل.
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن عبدالبر، وابن قدامة.
ثالثاً: أن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد، فلا معنى لتخصيصه بمكان، بخلاف الهدي والإطعام، فإن نفعه يتعدى إلى من يُعطاه.
رابعاً: أن الصوم عبادةٌ تختص بالصائم لا حق فيها لمخلوق؛ فله فعلها في أي موضعٍ شاء.
المطلب السادس: اشتراط التتابع في الصيام
لا يشترط التتابع في الصيام.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى: أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنه أطلق الصيام، ولم يقيِّده بشيء، والواجب البقاء على إطلاقات النصوص، وعدم التصرف بتقييدها من غير دليل.
ثانياً: الإجماع
نقل النووي الإجماع على ذلك.
المبحث الثاني: الجزاء في الصيد
المطلب الأول: تعريف المثلي
المثلي ما كان له مِثْلٌ من النعم، أي مشابهٌ في الخِلْقة والصورة للإبل، أو البقر، أو الغنم، وهذا مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أن الذي يُتصوَّر أن يكون هدياً، هو ما كان مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يُتصور أن تكون هدياٌ، ولا جرى لها ذكرٌ في نفس الآية.
ثانياً: من السنة:
عن جابر رضي الله عنه قال: ((جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشاً)).
وجه الدلالة:
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم في الضبع بكبش, علمنا من ذلك أنَّ المماثلة إنما هي في القَدِّ وهيئة الجسم؛ لأن الكبش أشبه النعم بالضبع.
المطلب الثاني: ما قضى به الصحابة رضي الله عنهم من المِثْلي
ما قضى به الصحابة رضي الله عنهم من المثلي، فإنه يجب الأخذ به، وما لا نقل فيه عنهم، فإنه يحكم بمثله عدلان من أهل الخبرة، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة، وبه قال طائفةٌ من السلف، وهو اختيار ابن عثيمين.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنَّ ما تقدم فيه حكمٌ من عدلين من الصحابة، أو ممَّن بعدهم، فإنه يتبع حكمهم، ولا حاجة إلى نظر عدلين وحكمهما; لأن الله تعالى قال: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ، وقد حكما بأن هذا مثلٌ لهذا، وعدالتهم أوكد من عدالتنا؛ فوجب الأخذ بحكمهم.
ثانياً: من السنة:
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ)).
ثالثاً: أن الصحابة رضي الله عنهم إذا حكموا بشيءٍ، أو حكم بعضهم به، وسكت باقوهم عليه، صار إجماعاً، وما انعقد الإجماع عليه فلا يجوز الاجتهاد فيه؛ ولأن العدول عما قضوا به يؤدي إلى تخطئتهم.
رابعاً: أن الصحابة رضي الله عنهم شاهدوا الوحي، وحضروا التنزيل والتأويل، وهم أقرب إلى الصواب، وأبصر بالعلم، وأعرف بمواقع الخطاب؛ فكان حكمهم حجةً على غيرهم كالعالم مع العامِّي.
المطلب الثالث: ما يجب في صيد الدواب والطيور من الجزاء
الفرع الأول: ما يجب في صيد الدواب
في النعامة بدنة، وفي بقر الوحش وحمار الوحش بقرةٌ إنسية، وفي الضبع كبش، وفي الغزال عنز، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة، وفي الضبِّ جدي، وما لا مثل له، فإنه يحكم بمثله حكمان عدلان، وهذا مذهب الشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
أدلة أن في النعامة بدنة
أولاً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، قالوا في النعامة قتلها المحرم، بدنةٌ من الإبل)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إن قتل نعامةً فعليه بدنةٌ من الإبل)).
- عن عطاء: ((أن ابن عباس, ومعاوية, قالا: في النعامة بدنة يعني من الإبل)).
ثانياً: أنه لا شيء أشبه بالنعامة من الناقة في طول العنق, والهيئة والصورة.
أدلة أن في بقرة الوحش وحمار الوحش بقرة:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((وفي البقرة بقرة، وفي الحمار بقرة)).
ثانياً: أن حمار الوحش وبقرة الوحش أشبه بالبقرة؛ لأنهما ذوا شعرٍ وذنبٍ سابغ؛ وليس لهما سنام؛ فوجب الحكم بالبقرة لقوة المماثلة، أما الناقة فليست كذلك؛ فهي ذات وبرٍ وذنبٍ قصيرٍ وسنام.
أدلة أن في الضبع كبش:
أولاً: من السنة:
عن جابر رضي الله عنه قال: ((سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع، فقال: هو صيد، ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم))، وفي رواية: ((جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشاً)).
ثانياً: الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش)).
- عن علي بن أبي طالب: ((في الضبع كبش)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((في الضبع كبش)).
- وبه قضى: وابن عمر, وجابر, وقد بلغ ابن الزبير قول عمر فلم يخالفه، رضي الله عنهم جميعاً.
أدلة أن في الظبي عنز:
- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش، وفى الغزال بعنز)).
- عن محمد بن سيرين: ((أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجريت أنا وصاحبٌ لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبياً ونحن محرمان، فماذا ترى؟ فقال عمر لرجلٍ إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت، قال فحكما عليه بعنز، فولَّى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلاً يحكم معه، فسمع عمر قول الرجل فدعاه، فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا، فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة؛ لأوجعتك ضرباً، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:]. وهذا عبدالرحمن بن عوف))، وفي روايةٍ عن عمر رضي الله عنه: ((أنه حكم هو وعبدالرحمن بن عوف في ظبيٍ بعنز)).
- عن جابر رضي الله عنه: ((أن عمر قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز)).
أدلة أن في الأرنب عناق:
- عن جابر رضي الله عنهما: ((أن عمر قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق)) ..
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أنه قضى في الأرنب بعناق، وقال: هي تمشي على أربع، والعناق كذلك، وهي تأكل الشجر، والعناق كذلك، وهي تجتر، والعناق كذلك)).
- وجاء أيضاً: عن عبدالله بن عمرو بن العاص, وعمرو بن حبشي، وعطاء.
أدلة أن في اليربوع جفرة:
- عن جابر: ((أن عمر قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة)).
- عن ابن مسعود رضي الله عنه: ((أنه قضى في اليربوع بجفرٍ أو جفرة)).
- وجاء ذلك أيضاً: عن ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال عطاء.
دليل أن في الضب جدي:
عن طارق قال: ((خرجنا حجاجاً، فأوطأ رجلٌ يُقال له أربد، ضبًّا ففزر ظهره، فقدمنا على عمر، فسأله أربد فقال عمر: احكم يا أربد، فقال أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم، فقال عمر: إنما أمرتك أن تحكم فيه، ولم آمرك أن تزكيني، فقال أربد: أرى فيه جدياً قد جمع الماء والشجر، فقال عمر بذلك فيه)).
الفرع الثاني: ما يجب في صيد الطيور
في أنواع الحمام شاةٌ، عند أكثر أهل العلم، وما عداه فإنَّه تجب فيه القيمة، سواء كان أصغر منه أو أكبر، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة.
أدلة أنَّ في أنواع الحمامة شاة:
أولاً: آثار الصحابة رضي الله عنهم:
- عن عمر رضي الله عنه: ((أنه حكم في الحمامة شاة)).
- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((في حمامة الحرم شاة)).
- وجاء ذلك: عن عثمان وابن عمر ونافع بن عبدالحرث رضي الله عنهم، وبه قال عطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير وقتادة.
أدلة أن ما كان أكبر أو أصغر من الحمام فإن فيه قيمته:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((في كل طيرٍ دون الحمام قيمته)).
ثالثاً: أن ما كان أصغر من الحمام أو أكبر فيضمن بالقيمة؛ لأنه لا مثل له من النعم.
المبحث الثالث: صيد الحرم
يحرم الصيد في الحرم على المحرم، وعلى الحلال.
الأدلة:
أولاً: من السنة
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط إلا من عرفها، ولا يُختلى خلاها)).
ثانياً: الإجماع:
نقل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المنذر، والنووي.
المبحث الرابع: ما لا يدخل في الصيد
المطلب الأول: الهوام والحشرات
لا تدخل الهوام والحشرات، في تحريم الصيد عند جمهور الفقهاء، من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
وذلك للآتي:
أولاً: أنه لم يأت في تحريم صيدها على المحرم شيء.
ثانياً: أن أصلها لا يُضمن لا بمثلها ولا بقيمتها.
المطلب الثاني: قتل الفواسق الخمس
للمحرم قتل الفواسق الخمس: الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور، في الحل والحرم.
الأدلة:
أولاً: من السنة
- عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خمس فواسق، يُقتلنَ في الحرم: الفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والكلب العقور)).
- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قالت حفصة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خمسٌ من الدواب لا حرج على من قتلهن: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور)).
ثانياً: من الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، والبغوي، وحكاه ابن عبدالبر في الجملة.
المطلب الثالث: قتل المؤذيات
للمحرم قتل كل ما آذاه، سواء كان من طبعه الأذى أو لم يكن.
الأدلة:
أولاً: من السنة
عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((خمس فواسق، يُقتلنَ في الحرم: الفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والكلب العقور)).
وجه الدلالة:
أن الخبر نصَّ من كل جنسٍ على صورة من أدناه، تنبيهاً على ما هو أعلى منها، ودلالةً على ما كان في معناها، فنصه على الحدأة والغراب تنبيهٌ على البازي ونحوه، وعلى الفأرة تنبيهٌ على ما يؤذي من الحشرات، وعلى العقرب تنبيهٌ على الحية، وعلى الكلب العقور تنبيهٌ على السباع التي هي أعلى منه.
ثانيا: الإجماع:
نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر، وابن حزم.
ثالثا: أن كل مدفوعٍ لأذاه فلا حرمة له.
المبحث الخامس: أحكام الأكل من الصيد، والدلالة عليه
المطلب الأول: من صيد لأجله
من صيد لأجله، فإنه يحرم عليه أكله، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، واختاره داود الظاهري، وبه قال بعض السلف.
الأدلة:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما ((أن الصعب بن جثامة الليثي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشيًّا، وهو بالأبواء أو بودَّان، فردَّه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُم)).
- عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال: ((رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه بالعرج في يومٍ صائف، وهو محرم وقد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أُتيَ بلحم صيدٍ، فقال لأصحابه: كلوا، قالوا: ألا تأكل أنت؟ قال: إني لست كهيأتكم، إنما صيد من أجلي)).
المطلب الثاني: إذا صاد المحل صيدا وأطعمه المحرم، فهل يكون حلالا للمحرم؟
إذا صاد المحل صيداً، وأطعمه المحرم دون أن يعينه بشيءٍ على صيده، فإنه يحل للمحرم أكله، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وحكاه الكاساني عن عامَّة العلماء.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:].
وجه الدلالة:
أن كلمة: صيد، مصدر، أي: حُرِّم عليكم أن تصيدوا صيد البر، وليس بمعنى مصيد.
ثانياً: من السنة
- عن أبي قتادة رضي الله عنه، قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنا المحرم، ومنا غير المحرم، فرأيت أصحابي يتراءون شيئا، فنظرت، فإذا حمار وحش يعني وقع سوطه، فقالوا: لا نعينك عليه بشيء، إنا محرمون، فتناولته، فأخذته ثم أتيت الحمار من وراء أكمة، فعقرته، فأتيت به أصحابي، فقال بعضهم: كلوا، وقال بعضهم: لا تأكلوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمامنا، فسألته، فقال: كلوه، حلال)).
ثالثاً: أن المحرِم ليس له أثرٌ في هذا الصيد، لا دلالة، ولا إعانة، ولا مشاركة، ولا استقلالاً، ولا صيد من أجله؛ فلم يُمنع منه.
المطلب الثالث: الدلالة على الصيد
الفرع الأول: إذا دلَّ المحرمُ حلالاً على صيدٍ فقتله:
اختلف الفقهاء فيما إذا دلَّ المحرمُ حلالاً على صيدٍ فقتله، على قولين:
القول الأول: إذا دلَّ المحرم حلالاً على صيدٍ فقتله، يلزم المحرم جزاؤه، وهو مذهب الحنفية، والحنابلة، وبه قال طائفةٌ من السلف، وهو اختيار ابن تيمية، والشنقيطي، وحُكيَ فيه الإجماع.
الأدلة:
أولاً: من السنة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب أبي قتادة رضي الله عنهم: ((هل منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟)).
وجه الدلالة:
أنه علَّق الحلَّ على عدم الإشارة؛ فأحرى أن لا يحل إذا دلَّه باللفظ، فقال هناك صيدٌ ونحوه.
ثانياً: أنَّه قول عليٍّ وابن عباس رضي الله عنهما، ولا يُعرَف لهما مخالفٌ من الصحابة رضي الله عنهم.
ثالثاً: أنَّه سببٌ يُتوصَّلُ به إلى إتلاف الصيد؛ فتعلَّق به الضمان؛ فإنَّ تحريم الشيء تحريمٌ لأسبابه.
القول الثاني: إذا دلَّ المحرمُ حلالاً على صيدٍ، فإنه يكون مُسيئاً، ولا جزاء عليه، وهو مذهب المالكية، والشافعية.
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
ظاهر قوله تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أنَّه علَّق الجزاء بالقتل؛ فاقتضى ألا يجب الجزاء بعدم القتل.
ثانياً: أنها نفسٌ مضمونةٌ بالجناية؛ فوجب ألاَّ تُضمنَ بالدلالة كالآدمي.
ثالثاً: أنَّ الصيد لا يُضمَن إلا بأحد ثلاثة أشياء: إما باليد، أو بالمباشرة، أو بالتسبب، فاليد أن يأخذ صيداً فيموت في يده فيضمن، والمباشرة أن يباشر قتله فيضمنه، والتسبُّب أن يحفر بئراً، فيقع فيها الصيد فيضمن، والدلالة ليست يداً ولا مباشرةً ولا سبباً.
رابعاً: أنَّ القاتل انفرد بقتله باختياره، مع انفصال الدال عنه، فصار كمن دل محرماً أو صائماً على امرأة فوطئها، فإنه يأثم بالدلالة، ولا تلزمه كفارة، ولا يفطر بذلك.
الفرع الثاني: إذا دلَّ المحرمُ محرماً على صيدٍ فقتله:
اختلف الفقهاء فيما إذا دلَّ المحرمُ محرماً على صيدٍ فقتله، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا دلَّ المحرم محرماً على صيدٍ فقتله، فعلى كل واحدٍ منهما جزاءٌ كامل، وهو مذهب الحنفية، وقول طائفةٍ من السلف؛ وذلك لأنَّ الدلالة من محظورات الإحرام، فتوجب ما يوجبه القتل.
القول الثاني: إذا دلَّ المحرم محرماً على صيدٍ فقتله، فالجزاء بينهما، وهو مذهب الحنابلة، وهو قول بعض السلف، واختاره ابن تيمية؛ وذلك لأن الواجب جزاء المتلف، وهو واحد؛ فيكون الجزاء واحداً.
القول الثالث: إذا دلَّ المحرمُ محرماً على صيد فقتله فالدال مسيء ولا جزاء عليه، وهو قول المالكية، والشافعية، واختاره الشنقيطي.
الدليل:
ظاهر قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:].
وجه الدلالة:
أوجب الجزاء على القاتل وحده، فلا يجب على غيره، ولا يُلحَق به غيره؛ لأنه ليس في معناه.