بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي إذا أتَى الحكمةَ أحدًا من عبادِهِ فقدْ نالَ خيرًا كثيرا، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنَا محمدٍ صلى الله عليه وسلمَ المبعوثِ بشيرًا ونذيرا، وعلى آلِهِ الذينَ أرادَ اللهُ ليُذْهِبَ عنهمُ الرِّجْسَ ويطهِّرَهمْ تطهيرا، أما بعدُ:
فهذا تأليفٌ في الطَّبَعِيَّاتِ والإلهياتِ، مُقْتَبَسٌ من هدايةِ الحكمةِ للمُحَقِّقِ أثيرِ الدينِ مُفضَّلِ بنِ عمرَ الأبْهَري رحمه اللُه تعالى، موسومٌ بــ
(تَدَارُكِ الغَوايَةِ بِخُلَاصَةِ الهِدَايَةِ)
مقدمة الشارح
بسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله مولى النعمة ومؤتي الحكمة والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبي الرحمة وشفيع الأمة وعلى آله الطاهرين وصحبه الفائزين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد: فهذا شرح تدارك الغواية الذي التقطته من كتاب الهداية للمحقق الفاضل أثير الدين مفضل بن عمر الأبهري سمّيته تحريك الرغبة إلى الحكمة من الطلبة مشيرا بمعجم صدره إلى عام التأليف إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مقدمة : اعلم أنه اختلف في واضع علم الحكمة والفلسفة ففي الإفاضة القدسيّة لمحمد شريف المصطفى آبادي أنه اختلف علماء الأمم في أول من تكلّم بالحكمة وأركانها من الرّياضي والمنطق والطبعي والإلهي فكل فرقة ذكر الأوّل عندها وليس ذلك هو الأول على الحقيقة
ولما أمعن الناظرون النظر رأوا أنها كانت وحيا أنزل على إدريس النبي عليه السلام فهو منبع العلوم الحكمية وأستاذ الكلّ فيها ولد بمصر وسموه هرمس الهرامسة واسمه الأصلي عند العبرانيين هنوخ فعرب اخنوخ وسماه الله في كتابه إدريس لكثرة دراسته كتاب الله تعالى
وقيل إنّ معلمه كان الغوثانيمون أو اغثاذيمون المصري ولم يذكروا ممن كان هذا الرجل إلا أنهم قالوا أنه كان أحد الأنبياء اليونانيين والمصريين وقالت فرقة إن إدريس ولد وهم ببابل ونشأ بها وإنّه أخذ في أوّل عمره بعلم شيث بن آدم عليهما الصلاة والسلام
وقال أبو الفتح محمد عبد الكريم الشهرستاني المتوفي سنة خمسمائة وثمان وأربعين في كتابه الملل والنحل إن اغثاذيمون هو شيث عليه السلام ولما كبر إدريس أعطاه الله النبوة فنهى المفسدين عن مخالفة شريعة آدم وشيث عليهما السّلام فأطاعه بعضهم وخالفه جلهم فنوى الرّحلة عنهم فأمر المصلحين بها فثقل عليهم الرحيل عن أوطانهم وقالوا أي مكان نجد إذا رحلنا مثل بابل قال إذا هاجرنا الله رزقنا غيره فخرج هو فأقاموا بمصر يدعو الخلق إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فهو أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم وانذر الناس بالطوفان وأول من ألف القصائد والأشعار وصوّر جميع العلوم والصناعات وآلاتها خشية أن يذهب رسمها بالطوفان وعلّم النّاس الحكمة وعرفهم السياسة المدنية فبنت كل فرقة مدنا في أرضها وكانت عدّة المدن التي عمرت في زمانه مائة وثمانية وثمانين وأقام للأمم سننا ووعد أهل ملته بأنبياء يأتون بعده وعرفهم صفة نبينا صلى الله عليه وسلّم
ثم جاء الطوفان في زمن نوح عليه السلام ثمّ لما كثر العمران البشري انتشرت العلوم الحكمية بين الناس وصاروا فرقتين من اعتنى بالعلم ومن لم يعتن به وكانت عناية بني إسرائيل بعلوم الشرائع وسير الأنبياء فكان أحبارهم اعلم الناس لكنهم لم يشتهروا بعلم الفلسفة
وكان في العرب من لهم مذهب في أحكام النجوم ولم يكن فيهم حكيم معروف وكانت أديانهم مختلفة حتى جاء الإسلام وعلمهم الذي كانوا يفتخرون به علم لسانهم ونظم الأشعار وعلم الأخبار ومعرفة السير
وأهل يونان كانت عامتهم صابئة عبدة الأصنام وعلماؤهم يسمّون فلاسفة وكانوا ارفع الناس طبقة وأجلّهم منزلة لما لهم من الاعتناء الصحيح بفنون الحكمة وأعظمهم خمسة يقال لهم أساطين الحكمة ابيذ قليس ويقال له انباذ قلس هو أول الخمسة وأقدمهم زمانا وكان في زمن نبي الله داود عليه السلام وقيل إنه أخذ الحكمة من لقمن الحكيم بالشام
ثمّ فيثاغورس اخذ الحكمة من أصحاب سليمان بن داود عليهما السّلام وكان أخذ الهندسة قبل ذلك من المصريين ثم رجع إلى بلاد يونان واستخرج بذكائه علم الألحان ثمّ سقراط اقتبس الحكمة من فيثاغورس وغيره
ثم أفلاطون اخذ الحكمة عن فيثاغورس وشارك سقراط في الأخذ عنه ولم يشتهر ذكره إلا بعد موت سقراط وقيل إنّه أخذها عن سقراط ولازم دروسه سنوات وكان يعلم الطلبة ماشيا معهم ولذلك سمّى بعضهم بالمشائين وأخذت. عنه أيضا في التعليم طريقة أخرى وهي إنّ الوصول إلى المطلوب لا يحصل بالنظر بل المطالب العرفانية إنّما تشرق على النفوس بالرياضة والفكر اللطيف وقد تبعه في ذلك بعض تلامذته وهم الإشراقيون
ثم أرسطا طاليس تلميذ أفلاطون لازمه سنوات وهو أوّل من خلّص صناعة البرهان من سائر الصناعات المنطقية وجعلها آلة للعلوم النظرية حتى لقب بالمعلم الأوّل بصناعة المنطق
فهؤلاء هم المجمع على استحقاقهم الحكمة عند اليونانيين فهم كانوا زهادا عبادا معرضين عن الدنيا
وأما ما اشتهر عنهم من القول بقدم العالم ونحوه فكلّ ذلك نشأ بعدهم لتحريف الحكمة والعدول عن سيرتهم فالحكمة الحقة غير مخالفة للشرائع الإلهية اهـ بحذف وزيادة
ويؤيده ما ذكره الشهرستاني أن الحكماء السبعة الذين هم أساطين الحكمة فأسماؤهم تاليس الملطي وانكسا غورس وانكسيمانس وانباد قليس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وتبعهم جماعة من الحكماء مثل فلوطرخيس وبقراط وديمقريطس والشعراء والنساك وإنما يدور كلامهم في الفلسفة على ذكر وحدانية الباري تعالى وإحاطته علما بالكائنات كيف هي؟ وفي الإبداع وتكوين العالم وأن المبادي والأول ما هي وكم هي وأن المعاد ما هو ومتى هو وربما تكلموا في الباري تعالي بنوع حركة وسكون
وقد أغفل المتأخرون من فلاسفة الإسلام ذكرهم وذكر مقالاتهم رأسا إلا نكتة نادرة ونحن تتبعناها نقدا وألقينا زمام الاختيار إليك في المطالعة والمناظرة بين كلام الأوائل والأواخر ثم بين رأي كل واحد منهم فراجعها اهـ
فإنكار المتكلمين لعلم الحكمة كما سيأتي مبني على ما دخل فيه فليتأمل.
ولكن الإمام الغزالي ألزمهم الكفر حيث قال في كتابه المنقذ من الضلال ما حاصله أن أهل الفلسفة ثلثة أقسام
أحدها الدهرية وهم طائفة من الأقدمين جحدوا الصانع المدبر وزعموا أن العالم لم يزل موجودا بنفسه وهم الزنادقة
والثاني الطبيعيون وهم قوم أكثروا البحث عن عالم الطبيعة وعجائب الحيوانات وتشريح أعضائها فرأوا فيها عجائب صنع الله فاضطروا إلى الاعتراف بقادر حكيم إلا انه ظهر لهم الاعتدال المزاج تأثير عظيم فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضا وأنها تبطل بيطلاته فيتعدم ثم لا يعقل إعادته فذهبوا إلى إنكار الآخرة وهؤلاء أيضا زنادقة
والثالث الإلهيون وهم المتأخرون فمنهم سقراط وتلميذه أفلاطون وتلميذه أرسطا طاليس وهم ردوا على الأولين ردا الغنوا به غيرهم ثمّ ردّ ارسطا طاليس على أفلاطون وسقراط ومن قبله إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم بقايا لم يوفقوا للتزوع منها فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وغيرهما اهـ
وقال العلامة عبد الله اليزدي في شرحه على تهذيب التفتازاني أنّ مؤلّف قوانين المنطق والفلسفة هو الحكيم العظيم أرسطو دونها بأمر اسكندر ذي القرنين ولهذا لقب بالمعلم الأول وقيل للمنطق اله ميراث ذي القرنين لكونه الباعث عليه ثم لما نقل المترجمون تلك الفلسفيّات من لغة يونان إلى لغة العرب هذبها ورتبها وأتقنها ثانيا المعلم الثاني الحكيم أبو نصر الفارابي وقد فصلها وحررها بعد إضاعة كتب أبي نصر الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا شكر الله مساعيهم الجميلة اهـ.
والفارابي هو أكبر الفلاسفة الإسلاميين فلم يكن فيهم من بلغ رتبته وكان في زمن السلطان سيف الدولة بن حمدان وكان نابغا في فنون الموسيقي
(حكى) أنه في إحدى مجالسه مع سيف الدولة لم يعجبه عزف العازفين الذين عزفوا إمامه وأظهر أخطاء فنية كثيرة لكل واحد منهم فتعجب سيف الدولة من ذلك وسأله إن كان يحسن هذه الفنون فأجاب ثم اخرج من وسطه خريطة ففتحها واخرج عيدانا وركبها ثم عزف بها فضحك كل من في المجلس ثم فكها وركبها تركيبا آخر وضرب بها فيكي كلهم ثم فكها وغير تركيبها وضرب بها فنام كلهم حتى البواب فتركهم نياما وخرج.
واسم هذا العلم هو علم الحكمة المنقسمة إلى الطبعية والرياضية والإلهية ونسبته إلى سائر العلوم هو أنه مما يشتغل به بعد علم فروض الأعيان وتحقيق العقائد بالأدلة العقلية الخالصة عن الوهمية بمعونة النقلية وقدر من الكفايات التي لها زيادة تعلّق بالشرعيات
ولجهل هذا الترتيب أو لعدم التنبه له غلط فيها كثير من النّاس حيث ظنوا أن هذه الأبحاث التي تقولها الحكماء مما لا يسع مخالفته كالعلوم الشرعيات حتى أن فيهم من يعتقد أن الذي يدعيه أهل الحكمة الجديدة أنهم وصلوا إلى القمر و ما فوقه مخالف للإسلام لا يجوز تصديقه استدلالا بما قاله قدماء الحكماء إن بين الهواء وفلك القمر كرة نارية وأن القمر مركوز في جرم الفلك الأدنى وان خرق الأفلاك والتيامها ممتنع إلى غير ذلك من الخرافات التي تمجها الآذان وتقيثها الأذهان ولم يتنبهوا إلى أن ذلك مخالف للإسلام حيث ورد الشرع بإن في السماوات أبوابا تفتح وتغلق وقت دخول الملكة وخروجهم
وحاول بعضهم الجمع بينهما بإن مراد الحكماء امتناع الحرق والالتيام الجسمانيين ومراد الشرع الأبواب التي يمكن دخول الملئكة وخروجهم فيها ولا يحصل يفتحها خرق في الأفلاك لكونهم نورانيين والنور لا يحجبه الأجسام الثقافة كما لا تحجب السموات الثلاث نور الشمس المركوزة في الفلك الرابع عندهم عن وجه الأرض وكما لا تحجب زجاجة البيكة النور الكهربي الذي فيها عن النفوذ إلى الخارج فلمّا كانت الأفلاك كلّها شفّافة والملئكة نورانية كانت غير حاجبة عن نفوذهم فالمراد بالأبواب الواردة في الشرع أبواب غير معقولة لنا كما أن الملئكة كذلك
غفلوا عن وقوع المعراج الجسماني لرسول الله صلى الله عليه وسلّم الثابت بالأحاديث الصحيحة وعن كون هذه المسئلة تهدم المعاد الجسماني الثابت بالقرآن من حيث أن عرض الجنة السموات والأرض فلابد من زيادة طولها عليها وظاهر أن هذه الجنة لا تحويها السماء الدنيا فلابد أن تكون في خارجها فإذا كانت كذلك فكيف يصل إليها من في الأرض على تقدير امتناع الخرق والالتيام
ولذا قال الإمام الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة أنه لابد من تكفير الحكماء في ثلاث مسائل إحداها قدم العالم والثانية قولهم إن الله لا يحيط علما بالجزئيات الحادثة والثالثة إنكارهم بعث الأجساد وحشرها فهذه المسائل لا تلائم الإسلام ومعتقدها معتقد كذب الأنبياء عليهم السلام اهـ.
وأما قول الدكتور سليمان دنيا في تحقيقه على التهافت في المسئلة الأولى معترضا على الإمام الغزالي هذه مسئلة عويصة حارت فيها العقول فلا ينبغي تكفيرهم فيها على أن الدواني قال في شرح العقائد العضدية وقد قال بالقدم الجنسي بان يكون فرد من أفراد العالم لا يزال على سبيل التعاقب موجودا بعض المحدثين المتأخرين وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول به في العرش
بل إن بعض العلماء جوز القول بقدم العالم ولم ير فيه خطرا على العقيدة وهو المولى الخيالي وعبد الحكيم السيالكوتي إذ يقرر التفتازاني في شرح العقائد النسفية أن القدم ينا في العدم لأن القديم إن كان واجبا لذاته فظاهر وإلا لزم استناده إليه بطريق الإيجاب إذ الصادر عن الشيء بالقصد والاختيار يكون حادثا بالضرورة فلا يرضى الخيالي على قول السّعد الصادر عن الشيء بالقصد والاختيار يكون حادثا ويقول واعترض عليه بجواز أن يكون تقدم القصد الكامل على الإيجاد كتقدّم الإيجاد على الوجود في انه بحسب الذات لا الزمان فيكون مقارنا للوجود زمانا اهـ
ويقول عبد الحكيم على وجهة نظر الخيالي فيصوّرها تصويرا واضحا ولا يعقب عليها بنقد اهـ بحذف فمردود بأن ابن تيمية لما حمل قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ونحوه على الظاهر وخالف في ذلك جميع أهل السنة والجماعة السلف القائلين بالتفويض والخلف القائلين بالتأويل لزمه ما لزمه فلا اعتبار بقوله في هذه المسئلة ونحوها
وأما قوله إن الخيالي وعبد الحكيم جوزا القول بقدم العالم ولم يريا فيه خطرا على العقيدة فمردود فإنّ ما كتبه الخيالي تحت ذلك القول هو كما نقله ولكنّه لا يدلّ على زعمه كما لا يخفى لأن الاعتراض على الدليل بل إبطاله لا يستلزم إبطال المدلول كما هو مقرر في محله ولذلك لم يعقب عليه عبد الحكيم
وأما عدم استدلالهما على المدلول بدليل آخر فلعله للاعتماد على ما يأتي لهما في برهان التطبيق فقد كتب الخيالي تحت قول الشارح هناك وهذا التطبيق إنما يمكن فيما دخل تحت الوجود دون ما هو وهمي محض اهـ ما نصه قوله فيما دخل تحت الوجود أي في الجملة ولو متعاقبة فتجري في مثل الحركات الفلكية اهـ وأوضحه عبد الحكيم وأقره.
وقال الإمام الغزالي أيضا الخلاف بينهم وبين غيرهم ثلثة أقسام قسم يرجع إلى مجرّد اللّفظ كتسميتهم الصانع جوهرا مع تفسير الجوهر بأنه الموجود لا في موضوع أي القائم بنفسه ولسنا نخوض في إبطال هذا لأن معنى القيام بالنفس إذا صار متفقا عليه رجع البحث عن جواز التعبير عنه باسم الجوهر كالبحث عن جواز فعل من الأفعال
والثاني ما لا يصدم أصلا من أصول الدين كقولهم إنّ الكسوف القمري عبارة عن المحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس وأنّ الأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب وان كسوف الشمس وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس وهذا أيضا لسنا نخوض في إبطاله
ومن ظنّ أنّ المناظرة في إبطاله من الدين فقد جنى على الدين وضعف أمره فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية لا يبقى معها ربية فمن اطلع عليها وتحقق أدلتها حتى تغير بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره من يطعن فيه بطريقه كما قيل عدوّ عاقل خير من صديق جاهل
فإن قيل قال صلى الله عليه وسلّم إن الشمس والقمر لآيتان من آيات الله لا يخسفان الموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة فكيف يلائم هذا ما قالوه قلنا ليس في هذا ما يناقض ما قالوه إذ ليس فيه إلا نفي وقوع الكسوف لموت أحد أو حياته والأمر بالصلاة عنده والشرع الذي أمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطّلوع من أين يبعد منه أن يأمر بها عند الكسوف استحبابا فإن قيل فقد روى أنه قال في آخر الحديث ولكن الله إذا تجلى لشيء خضع له فيدل على أن الكسوف خضوع بسبب التجلي قلنا هذه الزيادة لم يصح نقلها وإنّما المروي ما ذكرناه كيف ولو كان صحيحا لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية
وأعظم ما يفرح به الملاحدة أن يصرح ناصر و الشرع بان هذا وأمثاله على خلاف الشرع فيسهل عليهم طريق إبطال الشرع وهذا لأن البحث في العالم عن كونه حادثا أو قديما ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة أو مبسوطا أو مسلسا أو مثمنا وسواء كانت السماوات وما تحتها ثلاث عشرة طبقة كما قالوا أو أقل أو أكثر فنسبة النظر فيه إلى البحث الإلهي كنسبة النظر في طبقات البصلة وعددها وعدد حب الرّمان فالمقصود كونه من فعل الله فقط كيفما كان
والقسم الثالث ما يتعلّق النزاع فيه بأصل من أصول الدين كالقول في حدوث العالم وصفات الصانع وحشر الأجساد والأبدان وقد أنكروا جميع ذلك فهذا الفنّ ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه اهـ.
وقال المصطفى آبادي في نسيم الكلام وما كان غرض علماء الإسلام من علم الكلام إنكار كلّ علم منسوب إلى الفلاسفة بل جميع ما أنكر المسلمون من مسائل الفلاسفة الإلهيين أشد الإنكار ثلاث مسائل إحداها أن الأجساد لا تحشر وإنما المثاب والمعاقب هو الأرواح المجردة والعقوبات روحانية لا جسمانية ولقد صدقوا في إثبات الروحانية فإنها كائنة أيضا ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية التي نطقت بها السنة الشرائع والكتب الإلهية كلّها ثانيتها قولهم إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات فهو أيضا صريح البطلان فإنّه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ثالثها قولهم إنّ العالم قديم أزلي والحق أنه كان الله ولم يكن معه شيء
ووقع لهم هذه الأغلاط لأن كلامهم في الإلهيات تخميني بل في الطبيعيات أيضا في بعض المسائل اهـ وقال في الإفاضة القدسيّة بعد كلام وأما الرياضية فتتعلّق بعلم الحساب والهندسة والهيئة وليس في هذه شيء يتعلق بالعلوم الدينية نفيا ولا إثباتا بل هي أمور برهانية لا حاجة لنا إلى جحدها بعد فهمها ولكنها توصل إلى آفة ضارة وذلك أن الناظر فيها إذا رأى دقائقها وقواطع أدلتها ظن أن جميع علوم الحكمة في الإيقان كهي فيضل وليس الأمر كذلك اهـ.
وقال الطرابلسي إن من الجهالة زعم بعضهم أن الشمس تغرب حقيقة في العين تمسكا بقوله تعالى (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنِ حَمِمَّة) لأن أمثال هذه الدعوى مما يجعل الإسلام والقرآن عرضة لتهمة الجاهلين فإنّ كون الشَّمس أكبر من الأرض بأضعاف كثيرة مشهور مسلّم بين أهل الرّصد فدعوى أنّ في القرآن خلاف ذلك سبب لطعن الجاهلين فيه فمعنى الآية أن ذا القرنين لما بلغ ذلك المكان من بلاد المغرب وجد الشمس بحسب رؤيته تغرب في عين حمئة
قال قد سمعت عن بعض الضعفاء أنه لا يجوز في الإسلام اعتقاد وجود أمريكا لأن اعتقاده يستلزم اعتقاد كروية الأرض وهو خلاف الاعتقاد الإسلامي فهذا المسكين قد كلّف بجهله أهل الإسلام أن يكابروا بالمحسوس ويجعلوا دينهم سخرية بين الأمم وحاشا الدين الإسلامي أن يكون بهذه المثابة اهـ.
وأما أن الشمس وكذا سائر الكواكب مركوزة في أجرام الأفلاك أو هي تحتها بين السّماء والأرض فمسألة خلافية فقال بالأوّل اكثر المفسرين تبعا للفلاسفة وبالثاني بعضهم قال الطرابلسي والأول قول جمهور المفسرين كما نقله في مناهج الفكر للوراق وقال آخرون هي دون السماء بينها وبين الأرض كما نقله القاضي الصنهاجي في كنز الأسرار وان صاحب بهجة النفوس نقله عن وهب ونقله في مختصر الهيئة السنية عن كثير من المفسرين وغيرهم وذكر مثله الشيخ مرعي الحنبلي المقدسي في عجائب المخلوقات ونقل حديثا يدلّ عليه وكذلك نقل هذا الحديث أبو جعفر محمد ابن عبد الله الكسائي في كتاب الملكوت اهـ.
ونقل الإمام الرازي أثرا عن كعب في تفسير سورة القدر صريحا في أن الشمس دون السماء الدنيا وأما التي دلّت عليه الأدلة الشرعية فهو أن الله تعالى خلق الكواكب وجعلها زينة للسماء الدنيا وأنّه جعلها رجوما للشياطين وعلامات يهتدي بها سواء كانت مركوزة في الأفلاك أو تحتها مشدودا بعضها إلى بعض برباط الجذب أولا وبالجملة لا حرج في اعتقاد كونها مركوزة أو غير مركوزة.
وأما زعم بعضهم أن ليس فوقنا فلك ولا سماء فممنوع بأنه مخالف لظواهر النصوص قال تعالى (وَالسَّمَاءَ بِنَاء خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا كُلَّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) إلى غير ذلك فإنها وان أمكن تأويلها إما بمعنى العلو أو السحب أو الكواكب أو الشهب أو غيرها إلا أنه لا داعي له ثمّ إن استدلوا عليه بدليل عقلي أو نقلي فهو المطلوب أو بالاستكشاف فنقول إن استكشافهم إما أن يصل إلى ما لانهاية له من الفوق أولا فان قالوا بالأول فهو بديهي البطلان أو بالثاني فنقول إن السماء الواردة موجودة فوق ما وصل إليه استكشافهم هذا.
ثم اعلم أن الحكمة كما قيل متعلمة أبدا فكل كمال وصلت إليه فلها بعده كمال منتظر حتى حكى أن ديوجنس الحكيم بلغه عن أفلاطون انه عرف الإنسان بأنه حيوان ذو رجلين لا ريش له فاخذ ديكا ونتف ریشه فجاء به مكتب أفلاطون فطرحه وصاح هذا إنسان أفلاطون فزاد في تعريفه قوله ذو أظفار عريضة فهذا حال أفلاطون فالاعتراض بشيء من الحكمة على الشرعيّات الكاملات التي ليس لها كمال منتظر بنص قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) الآية قصور أي قصور.
وأما غاية هذا العلم فأمران لأن الحكمة قسمان عملية ونظرية فغاية الأولى العلم بأمور وجودها بقدرتنا واختيارنا لتعمل وتخرج من الإمكان إلى الوجود ومن القوّة إلى الفعل كالزراعة والعبادة وتهذيب الأخلاق وتدبير المنازل والمدارس ونحوها وسياسة المدن بتدبير أهلها
وغاية الثانية العلم بأمور ليس وجودها بقدرتنا واختيارنا لنيل الكمال بسعادة الحياتين ولكنّ غرضنا الأهم منها معاشر علماء الشريعة بعد قيام الملة الحنيفية بمعظم هذه الأمور وتصدّى قوم من علماء الدنيا مستفرغين في ذلك جهدهم أمور منها أن الحكمة لما نقلت من اليونانية إلى العربية وخاض فيها الإسلاميون حاول مشايخنا الرّدّ عليها فيما خالفت الشريعة فخلطوا بعلم الكلام كثيرا من الفلسفة ليحققوا مقاصدها فيتمكنوا من إبطالها إلى أن أدرجوا فيه معظم الطبعيات والإلهيات وخاضوا في الرياضيات كما قاله التفتازاني فلا يمكننا فهم عباراتهم وتحقيق ردودهم إلا بمعرفتها.
ومنها أن تعلّمها والنظر فيها يثمر ملكة يقتدر بها على تحقيق الحق وإبطال الباطل حتى في الفلسفيّات الجديدة وكذا البدعيات
ومنها أنا إذا سمعنا مسئلة من مسائل الحكمة أو سئلنا عنها نضطر إلى تسليمها جميعا أو إنكارها جميعا وفي كليهما خطر فلا بد من تسليم بعضها وإنكار بعضها ولا يمكن التفريق بينهما إلا بمعرفتهما ولذا دخل فيها الإمام الغزالي وغيره حتى مهروا فيها ثم ردوا منها المردود.
وأما حدها فعرفها بعضهم بخروج النّفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم والعمل وبعضهم بأنها علم بأحوال الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية وبعضهم قيد الموجودات بالأعيان فقال علم بأحوال أعيان الموجودات إلى آخر ما تقدم وهو المشهور بين الجمهور وعليه لا يكون المنطق داخلا فيها لأن موضوعه الذي هو المعقولات الثانية ليس من الموجودات العينية وأما على الأولين فيدخل فيها كسائر العلوم العقلية والنقلية بل يكون العمل الصالح أيضا داخلا فيها على الأول
فما قيل أنه خرج بقيد نفس الأمر النحو والصرف وأمثالهما مما هو موجود بوضع الواضع فيه نظر لأنهم فسروا الموجود في الخارج بما هو اعم من أن يكون موجودا فيه حقيقة ومن أن يكون موجودا فيه بحسب منشأ الانتزاع قالوا فدخل الحساب والهندسة ولأنهم عدوا المنطق منها وأما من أخرجه فإنما هو بقيد الأعيان فتأمل.
ولما كانت الحكمة عبارة عن العلم بأحوال الموجودات على ما تقدم والموجودات إما أن يكون وجودها بقدرتنا واختيارنا كالزراعة والتجارة أولا كالسماء والأرض انقسمت إلى قسمين
فما يتعلق بالأول كالعلم بحسن العدل والصدق وبقبح الظلم والكذب يسمّى حكمة عملية
وما يتعلق بالثاني كالعلم بأحوال السّماء والأرض وما فيهما يسمى حكمة نظرية
ثمّ ينقسم كلّ منهما إلى ثلثة أقسام لأن الأولى إما متعلقة بمصالح شخص ليتخلّى عن الرذائل ويتحلى بالفضائل فتسمى تهذيب الأخلاق أو بمصالح جماعة مشتركة في المنزل ونحوه كالوالد وأولاده والمعلم وطلابه فتسمّى تدبير المنازل أو جماعة مشتركة في المدينة ونحوها فتسمى السياسة المدنية
وكذا النظرية لأنها إما متعلقة بأمور تفتقر في وجودها الخارجي والذهني إلى المادة كالإنسان والحيوان والجسم الطبعي فتسمى الحكمة الطبعية أو بأمور تفتقر إليها في الوجود الخارجي فقط كالكرة والجسم التعليمي والمثلث والعدد فتسمى الحكمة الرياضية أو بأمور لا تفتقر إليها في الوجودين كالإمكان والوجود والعقل والنفس فتسمى الحكمة الإلهية.
وقد أعرض صاحب الهداية عن العمليّة لأن الشريعة الغراء قد قضت الوطر منها على اكمل وجه وأتقنه
وعن الرياضية من النظرية قيل لأنها في الأكثر مبنية على الأمور الموهومة كالدوائر والأقطاب والمدارات وغيرها والأظهر لكون كل قسم منها منفردا بالتأليف فإنها كما صرح به الشيخ محمد فضل الحق أربعة أقسام الحساب والهندسة والهيئة والموسيقي قد ألف في كل منها تأليف عديدة لأن الحساب لابد منه في الأمور الدينية والدنيوية وكذا الهيئة لتوقف معرفة القبلة وأوقات العبادات في الغالب عليها وكذا تسيير الطيارات والسفن وأجراؤها ومثلهما الهندسة لكونها أس صناعة الأبنية ومقدّمة علم الهيئة
وبالجملة بقيت من علوم الحكمة الطبعية والإلهية مفتقرتين إلى البحث عنهما فجعل القسم الثاني من كتابه فيهما فتبعناه والتقطنا الأهم منه فقلنا.
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله الذي إذا أتى الحكمة أحدا من عباده فقد نال خيرا كثيرا والصلاة والسّلام على سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم المبعوث بشيرا ونذيرا وعلى آله الذين أراد الله ليذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا)
(أما بعد: فهذا تأليف في الطبعيات والإلهيات مقتبس من هداية الحكمة للمحقق) الكامل والمدقق الفاضل (أثير الدين) لقب المصنف المختار على حذف مضاف أي مختار أهل الدين (مفضل بن عمر بمعني الأبهري) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الهاء نسبة إلي قرية من قري زنجان أو إصبهان وقيل بهمزة وموحدة مفتوحتين فهاء ساكنة نسبة إلي قبيلة أبهر (رحمه الله تعالى)
ثم اعلم أن المصنف ألف كتابه هذا وجعله على قسمين القسم الأول في فن المنطق والقسم الثاني في الطبيعي والإلهي جريا على طريقة الحكماء الإسلاميين كابن سينا في الشفاء والإشارات أن المنطق مقدمة لعلم الحكمة أو جزء منها وقد شرح القسم الأول كثير من الفضلاء المشهور منها بين الطلبة شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في الديار المصرية والشامية وشرح القسم الثاني أيضا جماعة من الفضلاء كالحسين الميبذي والقسم الثاني هو المشهور بالهداية كما قاله الشيخ حسن العطار في حاشيته على شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري على متن ايساغوجي
(موسوم بتدارك الغواية بخلاصة الهداية)