إنتاج النفط في القرن الحادي والعشرين

كاتب التقرير : Roger N. Anderson

منسق الموضوع : م.رشيد الخولي

طريقة الأتصال بالكاتب : مدير أبحاث تقانة النفط في مركز الطاقة بجامعة كولومبيا.

إنتاج النفط في القرن الحادي والعشرين

إن المستجدات في تصوير باطن الأرض والحَفر الموجه وفي إنتاج النفط من تحت المياه العميقة، ستسمح باستخراجٍ متزايدٍ لما هو كامن في الأعماق.

على ما يظهر، فإن الصورة المعهودة للنفط (المادة الخام الرخيصة والسهلة الاستثمار والتي تشكِّل أكثر من 95% من النفط المنتج حتى الآن) تبدو قاتمة. ولكن تبعا للتوقعات في عام 2010، ستحتاج اقتصاديات العالم المتعطشة للنفط إلى نحو عشرة بلايين برميل من النفط، زيادة على ما ستكون الصناعة النفطية قادرة على إنتاجه حينذاك. وهذا يعني نقصا في الإمداد بالنفط، يساوي نحو نصف إنتاج العالم منه عام 1997، قد يقود إلى هزات عنيفة في الأسعار وركود اقتصادي، وقد يؤدي أيضا إلى صراعات مسلحة.

ولكن هناك لحسن الحظ، أربعة تجديدات تقانية رئيسية جاهزة لملء الجزء الأكبر من هذه الفجوة، وذلك عبر تسريع الاستكشاف لمكامن نفطية جديدة، وعبر زيادة مؤثرة في نسبة النفط الذي يمكن استخراجه من الحقول الحالية بفائدة اقتصادية مقبولة، وهي النسبة المعروفة بمعامل الاستخراج recovery factor؛ فبحلول عام 2010، يمكن لهذه التقانات رفع معدلات إنتاج النفط في العالم إلى أكثر من %2، وذلك في حال تطبيقها، حسب ما هو مخطط لها، على أكبر الحقول النفطية خلال الثلاث إلى الخمس السنوات المقبلة. ولكن مثل هذا التبني السريع يمكن أن يبدو طموحا بالنسبة إلى صناعة، احتاجت تقليديا إلى ما بين 10 و 20 عاما لإدخال تقانات جديدة في الاستخدام. لذا يجب، في مثل هذه الحالة، دفع تغيير كهذا بقوى اقتصادية هائلة.

يعرض المسح السيزمي صورة مجسّمة (ثلاثية الأبعاد) للطبقات الصخرية تحت سطح الأرض كمقطع شاقولي واحد في زمن معين، حيث ترتد الأمواج الصوتية، المتولدة على سطح الأرض، عند السطوح الفاصلة بين الصخور العادية وتلك الحاملة للنفط (بني غامق) أو الماء (أزرق) أو الغاز (أصفر). ويتم التقاط الصوت المرتد بوساطة مشكاك من المكبرات، تُترجم الحواسيب مردودها لاحقا إلى صور، وفي النهاية إلى نماذج توجه أعمال حفر الآبار.

كان الحفر الأفقي مستحيلا عندما كانت أبراج الحفر النفطية تدير كامل أنبوبة الحفر، التي يصل طولها إلى 5800 متر، من أجل تحريك رأس الحفر كي يشق الصخر في قاع البئر. أما اليوم فقد انتشرت الآبار التي تنحرف بنحو 90 درجة في مجال لا يزيد على 100 متر، وذلك بفضل تطوير المحركات القادرة على العمل في أعماق الأرض، حيث يتصل جذع الحركة التابع للمحرك برأس الحفر عبر ناقل للحركة في جزء ملتو من الأنبوبة، وحيث يحدد مقدار الالتواء مقدار تحدب المنحني الذي سينحته رأس الحفر؛ إذ يستطيع الحفار فتل كامل أنبوبة الحفر للتحكم في اتجاه الانحراف.

إن الحقن بثنائي أكسيد الكربون السائل يمكن أن يحيي حقول النفط الميتة، وذلك بضخه بضغط عال من صهاريج في الآبار المتوقٍّفة عن إنتاج النفط، حيث يجري ثنائي أكسيد الكربون عبر الطبقة الصخرية الخازنة ويدفع، إذا جرى كل شيء على ما يرام، النفط المتبقي نحو الأسفل إلى الآبار القريبة النشيطة. وكذلك يُستخدم أحيانا بخار الماء والغاز الطبيعي لهذا الغرض، حيث يتم، وبالتناوب، حقن الماء إلى الأسفل من جيوب النفط المتروكة، بهدف دفع النفط نحو البئر المنتجة. وفي المستقبل ستكون الآبار البارعة smart wells، التي يجري تطويرها حاليا، قادرة، بآن معا، على استخراج النفط من بعض تفرعات البئر، وضخ المياه خارج مجرى النفط عبر تفرعات أخرى، وحقنها ثانية في الطبقة الصخرية التي جاءت منها.

عبر عملية ضخ النفط من الآبار الإنتاجية غالبا ما تسحب هذه الآبار المياه من الأسفل والغاز من الأعلى، فتملأ مسامات في الطبقة الخازنة كانت قبل ذلك مشبعة بالنفط، مما يبقي جيوبا معزولة من النفط بعيدة عن الآبار المنتجة. وهذا يجعل الآبار المحفورة بالتقانات التقليدية تخسر حتى ثلثي كميات النفط الموجودة في الطبقة الخازنة. ولكن المسوح السيزمية المتكررة ـ ويمكن حاليا جمعها تحت نموذج رباعي الأبعاد ـ تستطيع، ليس فقط تحديد مواقع النفط والغاز والماء في الحقل النفطي، بل تستطيع أيضا التنبؤ باتجاهات حركتها المقبلة. وهكذا يؤدي المسح السيزمي المتقدم دوره بشكل جيد فيما يقرب من نصف حقول العالم النفطية؛ ولكنه يخفق عندما يكون النفط مدفونا في الصخور القاسية جدا أو تحت طبقات الملح الصخري (طبقة سميكة بيضاء).

ففي العامين الماضيين مثلا، استطاعت شركة النفط الفرنسية إلف ELF استكشاف توضعات نفطية عملاقة في عرض البحر، مقابل شواطئ غرب أفريقيا. وفي الوقت نفسه تضاعف سعر أسهمها عندما توقَّع المحلّلون الاقتصاديون ازدياد معدل إنتاجها بنسبة %8 في عام 2001. وإذا ما حذا منتجون نفطيون آخرون حذوها بسرعة، فسيكونون قادرين بحلول عام 2010 على تزويد الاقتصاد العالمي بخمسة بلايين برميل من النفط سنويا. وهذا قد يغطي حينذاك نصف الفجوة بين العرض والطلب على النفط في العالم.

ستتناول هذه المقالة على التوالي المستجدات الأربعة في استخراج متزايد لما هو كامن من النفط في الأعماق، بدءا بأسلوب جديد في تتبع النفط المخفي في أعماق الأرض.

1- تتبُّع النفط بالأبعاد الأربعة:

بعد عام 1927، صار اكتشاف النفط أكثر فاعلية، عندما استطاع الجيولوجيون بنجاح، ولأول مرة، ترجمة الانعكاسات الصوتية إلى مقاطع تفصيلية للقشرة الأرضية. وتعلّم السيسمولوجيون (علماء الزلازل) seismologists بعدها كيف يربطون بين هذه اللقطات المنفصلة لتكوين نماذج ثلاثية الأبعاد (مُجسمة) للنفط المحاصر داخل طبقات من الصخور المسامية. ومع أن هذه التقنية، المسماة التحليل السيزمي الثلاثي الأبعاد 3-D seismics، احتاجت إلى أكثر من عقد من الزمن لتصبح تطبيقا معياريا، فلها الفضل الآن في ازدياد الكشوف النفطية ورفع معدل الإنتاج بنسبة %20.

في عام 1992، أخذ جريان النفط من طبقة خازنة في أكبر حقل، يقع مقابل ساحل لويزيانا، يستعيد نشاطه، بعد فترة وجيزة من استخدام تقنية الرصد السيزمي الرباعي الأبعاد، حيث أمكن الكشف عن مكامن للنفط كانت محجوبة قبل ذلك.

وفي السنوات الأخيرة، طوّر العلماء تقنيات أكثر فعالية، سمحت بتتبع حركة النفط والغاز والماء أثناء قيام الآبار المحفورة باستنزاف مخزون الطبقات تحت الأرضية من هذه الموائع، وذلك عبر مخطط رباعي الأبعاد 4-D scheme، يتضمن الزمن كبعد إضافي.و يستفاد عندها من هذه المعلومات لوضع تحليل حول ما سيكون حال الحقل النفطي، ولتصميم السبل اللازمة لاستخراج أكثر وقت من النفط بأسرع ما يمكن وبأقل التكاليف.

إن قمرة الحفار تُمكن المهندس الموجود على السطح من التحكم في المحسات القريبة من رأس الحفر، والتي تُشعره بوصول رأس الحفر إلى النفط أو إلى الماء. وهذا يسمح بتوجيه الحفر إلى المواقع ذات الإنتاج الأمثل.

تستطيع المحسات القريبة من رأس الحفر اكتشاف النفط والماء والغاز؛ إذ يقيس أحدها مسامية الصخر المحيط عبر إرسال النيوترونات، التي تتناثر عند اصطدامها بنوى الهيدروجين، في حين يقرأ محس آخر كثافة الصخر عبر قذفه بأشعة گاما التي تتفاعل مع الإلكترونات الموجودة في المادة الصخرية المجاورة. كذلك يؤثر النفط والماء في المقاومة الكهربائية المقيسة بتيار كهربائي يمر عبر رأس الحفر إلى الصخر، ثم إلى المساري (الإلكترودات) electrodes القريبة.

يمكن تحليل القياسات الجيولوجية التي تجمعها المحسات بالقرب من قاع أنبوبة الحفر في موقع البئر، أو يمكن إرسالها عبر السواتل (الأقمار الصنعية) إلى المهندسين في أي مكان في العالم. وتكشف الخصائص العديدة للصخر المحيط برأس الحفر وجود النفط والغاز (في اليسار). ويتجمع النفط عادة في الصخور الخفيفة نسبياً وذات المسامية العالية. وهكذا تهتم، على سبيل المثال، بعض أنظمة توجيه الحفر geosteering بحساب كثافة الصخر في الطبقة القريبة، في حين يقيس بعضها الآخر المقاومة الكهربائية للأرض حول رأس الحفر. وتكون الطبقات المشبعة بالمياه المالحة أقل مقاومة بكثير من تلك الغنية بالنفط.

و تقوم أجهزة تحليل الغاز (كروماتوگراف) gas chromatograph، الموجودة على السطح بتحليل تيار الطين المُزلِّق الراجع من أجل الغاز الطبيعي الذي جلبه معه أثناء رحلته.

في المستقبل القريب، ستستخدمُ الآبار البارعة الحواسيب وراصدات المياه water monitors قرب قاع البئر لاكتشاف مدى اختلاط النفط الجاري بالمياه. وستقوم فواصل هيدروليكية (separators) نابذة بتحويل الماء نحو فرع منفصل من فروع البئر، لينفرغ في أسفل المكمن النفطي.

تَستخدم تقنيات الحفر المتقدمة الطين المحقون في داخل أنبوبة الحفر من أجل إدارة رأس الحفر، ولنقل قياسات المحسات، ولإخراج فتات الصخر من البئر. وفي طريقه نحو الأسفل يدخل الطين أولا في الصمام الدوار (rotating valve)، الذي يحوّل البيانات المُرْسَلة راديويا إلى رأس الحفر بوساطة المحسات المختلفة، إلى تموجات في جريان الطين (يتم على السطح تحويل هذه النبضات ثانية إلى إشارة رقمية تصل إلى 10 بتات في الثانية.) بعدها يجري الطين إلى المحرّك، حيث يدخل جذع الحركة الحلزوني داخل جدار المحرِّك اللولبي بشكل تنشأ فيه حجرات . وعندما تمتلئ الفجوات بالطين، يدور الجذع كي يخفف الضغط الهيدروليكي وفي النهاية يخرج الطين عبر رأس الحفر الدوار، ويعود ثانية إلى السطح حاملا الفتات الجديدة المنحوتة من الصخر المجاور لرأس الحفر.

تستطيع الآبار المتفرعة (الشوكية) forked wells استخراج النفط من عدة طبقات حاملة للنفط بآن معاً، حيث توفر الاختناقات (chokes) المولجة في أنبوبة البئر، الجريان الأمثل للنفط نحو سطح الأرض.

ومقارنة بما سبق، يمكن القول إن تقنية الأبعاد الأربعة 4-D أعطت ثمارها بسرعة، إذ تضاعفت الحقول المستفيدة منها في كل سنة من السنوات الأربع الماضية، لتصبح اليوم بحدود 60 حقلاً. كما أن مثل هذا التحكم في الإنتاج سيعطي دفعاً لمعدلات الاستثمار، يصل إلى 10 وحتى 15 نقطة مئوية. ولكن مع الأسف فإن هذه التقنية لا تطبق حالياً إلا في نصف عدد حقول النفط الكبيرة في العالم، وحيث تكون الصخور المشبعة بالنفط والغاز طرية نسبياً.

عندما بدأ الجيولوجيون بدراسة القياسات الجديدة المنفَّذة بطريقة الفواصل الزمنية time-lapse، دهشوا لاكتشافهم أن إحدى أكثر النظريات الأساسية حول حركة النفط، والتي تقول إنه يتوضع طبيعياً بين الغاز الخفيف الواقع فوقه والمياه الجوفية الأثقل الواقعة تحته، تُبسِّط كثيرا السلوك الحقيقي السائد في حقول النفط. ففي الحقيقة، تولّد معظم الآبار أشكالاً معقدة من الجريان تسبب امتزاج النفط بالغاز والماء، لذا يعرف ذوو الاختصاص أن التقنية المعهودة في نضح بئر نفطية إلى أن يبطؤ تدفقها وتبدأ بالتقطير، يترك غالباً وراءه نحو %60 أو أكثر من النفط.

إن حقن الغاز الطبيعي أو البخار أو غاز ثنائي أكسيد الكربون السائل في الآبار المهجورة (الميتة) يعتبر الاستراتيجية الأكثر فاعلية، حيث تنتشرعملية الحقن نحو الأسفل عبر مسامات الصخور لتدفع، في حال تم التخطيط لها جيداً، بالنفط الذي كان سيُهْمَل تجاه الآبار المجاورة. كذلك غالبا ما تُحقن المياه، تحت النفط بهدف زيادة ضغطه ومساعدته على الجريان نحو سطح الأرض.

لقد أثبت الحقن بالبخار أو بثنائي أُكسيد الكربون مقدرته على رفع معاملات الاستخراج بمقدار يتراوح ما بين 10 و 15 بالمئة ، لكنه ـ ولسوء الحظ ـ يرفع أيضاً تكاليف إنتاج النفط بنسبة تتراوح ما بين 50 و 100 في المئة، تضاف إليها تكاليف المسح السيزمي seismic monitoring الرباعي الأبعاد 4-D، التي تتراوح ما بين 10 و 25 في المئة. وهكذا، وما لم يصبح غاز ثنائي أكسيد الكربون أرخص بكثير مما هو عليه الآن (ربما بسبب تقييد انبثاقاته وذلك عبر اتفاقات الحدّ من احترار (تسخين الكرة الأرضية!)، فمن المحتمل أن تبقى هذه التقنيات السهم الأخير في جعبة صناعة استخراج النفط.

2- التوجه نحو النفط المتروك:

هناك تقدم تقاني رئيسي ثالث، معروف باسم الحفر الموجّه، يستطيع استخراج التوضعات النفطية المهجورة بتكاليف أقل من تلك اللازمة للحقن، حيث يمكن لمهندسي النفط استخدام العديد من التجهيزات الجديدة القادرة على توجيه محور البئر، وعلى عمق عدة كيلومترات من سطح الأرض، من الوضع الشاقولي إلى الوضع الأفقي الكامل داخل الطبقة الخازنة.

ففي الحالات التقليدية، كان الحفارون يديرون أنابيب الحفر الفولاذية الطويلة، التي تصل بين برج الحفر على سطح الأرض ورأس الحفر bit في قاع البئر. وكانت هذه الطريقة تفشل إذا التوت أنبوبة الحفر حول زاوية، حيث يؤدي الالتواء إلى تحطّم أنبوبة الحفر الدوّارة. وهكذا فإن أنابيب أو وصلات الحفر القابلة للتوجيه لا تدور، وعوضا عن ذلك، يدير محرك مثبت بالقرب من رأس الحفر، يدفعه سائل الحفر الطيني، أسناناً مرصعة بالألماس، تقوم بعملية الحفر، في حين يتحكم كوع من الأنابيب، مثبت بين المحرك (الطيني) المذكور ورأس الحفر في توجيه الحفر.

يُعَد تثقيب perforation البئر، في قطاع نفطي نموذجي بسماكة تبلغ 30 متراً وعلى بعد عدة كيلومترات من سطح الأرض، عملا دقيقاً للغاية. وقد طوّرت شركة شلومبرگر Schlumberger وشركة هاليبورتن Halliburton وغيرهما من الشركات العالمية مُحسّات sensors معقدة، تُحسِّن دقة حفر الآبار النفطية تحسينا بالغ الأهمية. فهذه المحسّات ـ القادرة على العمل حتى في أعماق تصل إلى 6000 متر وفي درجات حرارة عالية تصل إلى 200 درجة سيلزيوس ـ تُعلّق بأنبوبة الحفر فوق أو تحت المحرك الطيني، ليقيس بعضها المقاومة الكهربائية للطبقة الصخرية المحيطة؛ في حين يرشق بعضها الآخر الصخر المحيط بالنيوترونات أو بأشعة گاما، ليقيس عدد المتناثر والراجع منها، بعد تفاعلها مع مادة الصخر والموائع التي تشبع مساماته. ويتم إيصال البيانات المقيسة والموقع اللحظي لرأس الحفر (محسوبا بوساطة نظام التوجيه بالعطالة inertia) إلى سطح الأرض ثانية عبر نبضات في سائل الحفر السميك، الذي يدير المحرّك الطيني ويُشحِّم ثقب البئر، حيث يستطيع المهندسون تبعا لهذه البيانات، ضبط مسار الحفر وتسديد طريقهم في الطبقة الصخرية نحو الجزء الأكثر غنيً بالنفط.

يقوم الحفّارون، بعد إتمام أعمال الحفر، بتركيب تجهيزات الإنتاج فوق رأس البئر. ولكن عدداً من الشركات تطور حالياً محسات، تستطيع الكشف عن مزيج النفط والغاز والماء في نقطة دخوله إلى البئر من الطبقة الخازنة. وتستطيع الآبار «الذكية» Smart wells، المجهزة بهذه المحسات، فصل المياه عن مجرى البئر، بحيث لا تخرج أبداً إلى السطح، بل تحقنها ثانية في الطبقة الصخرية وفي سويّة أدنى من سوية النفط، وذلك بوساطة مضخة يتحكم فيها حاسوب مثبت بأنبوبة الحفر.

تم حديثاً تطوير ثلاث طرق جديدة لاستثمار حقول النفط الواقعة في الأعماق تحت المياه: فحقل هيبرنيا Hibernia ، الذي بدأ في الشهر11/1997 بإنتاج النفط من تحت مياه البحر التي يبلغ عمقها 80 متراً وذلك مقابل شاطئ نيوفاوندلاند بكندا (في يسار الصورة)، استغرق إنجازه سبعة أعوام بتكلفة زادت على 4 بلايين دولار، بعد أن تم تصميم قاعدته المكونة من 450000 طن من الخرسانة المسلحة لتقاوم التصادم مع جبل جليدي من فئة المليون طن. ومن المتوقع أن ينتج حقل هيبرنيا 615 مليون برميل من النفط على مدى 18 عاما بتطبيق تقانة حقن الماء والغاز. وسيتم تخزين ما قيمته 1.3 مليون برميل من النفط في الخزانات الموجودة في القاعدة، قبل أن يتم نقلها إلى الشاطئ عبر ناقلات النفط المكوكية، مع أن معظم منصات المياه العميقة تقوم بإرسال النفط إلى الشواطئ عبر أنابيب النفط تحت البحرية.

أما منصة رام-پويل Ram-powell (في وسط الصورة)، التي أنشأتها شركات: شل للنفط وأموكو Amoco وإكسون Exxon، فبدأت بالإنتاج في خليج المكسيك في الشهر9/1999، وتتألف من سطيحة ذات 46 طابقا، ترتكز على أعمدة، وزن كل منها 270 طناً، مثبتة في قاع المحيط على عمق 980 متراً. وهي مزودة باثني عشر وترا tendons بقطر 71 سم، تعطيها مقاومة كافية لتتحمل أمواجا بارتفاع 22 مترا ورياحا عاصفة بسرعة 225 كم في الساعة. وتستطيع هذه المنشأة، التي كلفت بليون دولار، حفر الآبار النفطية لأعماق تصل إلى 6000 متر في قاع البحر للحصول على 125 مليون برميل من النفط القابل للاستثمار، وهو الاحتياطي المتوقع لهذا الحقل؛ وسينقلها أنبوب بقطر 30 سم إلى منصات مياه ضحلة موجودة على بعد 40 كم. تعد منصة رام پويل الثالثة من فئة المنصات مجهدة الساق tension leg، التي أنجزتها شركة شل في السنوات الثلاث الماضية. وفي السنة القادمة ستقوم شل بإنشاء منصة أكبر بكثير باسم: أورسا Ursa للبدء بضخ كميات من النفط، تزيد بمرتين ونصف المرة، عما تنتجه منصة رام پويل، وفي مياه يزيد عمقها على 1226 مترا.

ولكن البئر النفطية الأعمق حالياً ومازالت منتجة بنشاط (في أعلى الصورة)، فتغطي أكثر من 1709 أمتار تحت المحيط الأطلسي الجنوبي في حقل مارليم Marlim مقابل شاطئ كامپوس Campos (البرازيل)؛ حيث يعتقد أن الجزء الجنوبي وحده من هذا الحقل يحوي 10.6 بليون برميل من النفط. وقد كانت مثل هذه المكامن بعيدة المنال حتى فترة وجيزة، في حين تقوم الآن غواصات تعمل بالتوجيه عن بعد، بتوفير التسهيلات والمعدات اللازمة للإنتاج في قاع المحيط نفسه. ويمكن عندها ضخ النفط بالأنابيب إلى منصة أقل عمقا قد تُشاد في المنطقة القريبة، أو يمكن تخزين النفط على سفينة راسية في الموقع إلى أن تصل ناقلات النفط المكوكية، كما هي الحال في البئر رقم 3B الحاملة للرقم القياسي في جنوب حقل مارليم. والتحدي هنا هو إبقاء السفينة ثابتة فوق البئر، فالمراسي تحقق ذلك حتى عمق 1500 متر؛ أما إذا تخطت الأعماق هذا الحد، فعلى السفن استخدام الدافعات الأوتوماتيكية المرتبطة بنظام تحديد الموقع على الكرة الأرضية Global Positioning System والمنارات (beacons) المثبتة في قاع المحيط، للمحافظة النشيطة على مواقعها. وفي المستقبل القريب ستسمح هذه التقنيات باستثمار حقول النفط على أعماق تزيد على 3000 متر من المياه.

3- الخوض في الأعماق:

ربما يكمن الأمل الأكبر الأخير للصناعة النفطية في المياه العميقة، أي في الحقول النفطية الواقعة دون الألف متر أو أكثر تحت سطح البحر، حيث كان يبدو النفط في هذه الأعماق بعيد المنال، ولكن ليس طويلاً، إذ أصبحت الغواصات، ذات التحكم الإنساني عن بعد remotely controlled robot، قادرة الآن على إشادة التجهيزات المعقَّدة واللازمة للحماية من الانفجارات، وللتحكم في جريان النفط تحت الضغوط العالية السائدة في قيعان البحار ولمنع الغاز الطبيعي من التجمد متسبباً في انسداد خطوط الأنابيب. وستربط هذه المجمّعات تحت البحرية شبكات من الآبار الأفقية، لتقود النفط المُنتج منها إلى الخزانات الواقعة فوقها مباشرة وإلى المنصات الموجودة في المياه الضحلة عبر أنابيب طويلة تحت بحرية. ويتم التخطيط الآن لإشادة هذه المنشآت تحت البحرية في السنوات الثلاث المقبلة في خليج المكسيك ومقابل شواطئ كل من النرويج والبرازيل وغرب أفريقيا.

ليست المياه العميقة وحدها هي التي تقف حائلا دون استثمار حقول النفط والغاز الواقعة في البحار، بل هناك طبقات الملح الصخري والصبات البازلتية (صخور اندفاعية) الأفقية والمترامية، التي تتوضع أحيانا تحت قاع المحيط مباشرة في المياه العميقة وفي الهوامش القارية، والتي تبدد كامل الطاقة الصوتية تقريباً في المسوح السيزمية التقليدية، مما يجعل حقول النفط الواقعة تحتها خفية عن الأنظار. ولكن ثمة تقانة ـ رفعت عنها البحرية الأمريكية حديثا صفة السرية ـ تعمل على قياس التغيرات الطفيفة في شدة الثقالة الأرضية واتجاهها، تسمح حالياً ـ عبر مزاوجتها بالإمكانات الهائلة المتنامية للحواسيب العملاقة للجيوفيزيائيين ـ بالرؤية تحت هذه الأغطية المؤلفة من الملح الصخري أو البازلت.

إن استخراج النفط من تحت المحيطات العميقة مازال مكلفاً للغاية، ولكن التجديدات والحاجة قادت إلى موجة جديدة من الاستكشافات في هذا المجال. فحتى الآن، استطاعت عشر شركات نفطية كبيرة، تعمل في المياه العميقة، اكتشاف حقول جديدة، ستضيف %5 إلى الاحتياطيات النفطية المشتركة لهذه الحقول. هذا ولم تنعكس هذه الزيادة بعد في تقديرات الاحتياطي العالمي.

ستستمر تقانة استكشاف وإنتاج النفط بالسير قُدُمًا في القرن الحادي والعشرين، مع أنه من غير المحتمل أن تلغي هذه التقانات كلياً التهديد بالعجز في الإمداد بالنفط الخام، ولكنها ستوفر وقتاً حرجاً وضرورياً لانتقال نظامي إلى عالم يعتمد على مصادر أخرى للطاقة.

عبر مراكز القيادة، كالذي تعرضه هذه الصورة والواقع في نيوأورليانز، يمكن للجيولوجيين والمهندسين رصد تجهيزات الحفر والإنتاج وحتى التحكم فيها عن بعد في حقول النفط النائية، وذلك عبر السواتل (الأقمار الصنعية) والاتصالات بالموديم modem connections. وهكذا تستطيع شركات النفط اليوم عبر الاتصالات الرقمية المعماة (المشفَّرة) encrypted، تشخيص المشكلات المتعلقة بعملية الإنتاج بشكل أسرع، وتوفير التكاليف المرتبطة بانتقال الخبراء جوا حول العالم.