المادة الخفية في الكون

أغسطس2000 / المجلد 16

المادة الخفية في الكون(*)

إن نحو تسعين في المئة من مادة الكون غير مرئي؛ فاكتشاف هذه

المادة الخفية سيساعد الفلكيين على فهم مصير الكون فهمًا أفضل.

 

تخيل لبرهة من الزمن أنك أفقت فجأة في إحدى الليالي من حلم ورحت، بعد استعادتك لوعيك، تغمض عينيك وتفتحهما باتجاه الظلام، فوجدت مستغربًا أنك تقف وحيدًا في كهف واسع شديد الظلمة، فتساءلت متعجبًا من حالتك المربكة هذه، أين أنا؟ ما هذا الفضاء؟ ما أبعاده؟

 ولدى تلمُّسك طريقك في الظلام، تعثرت بعلبة لأعواد ثقاب رطبة، فقدحت أحدها، وما إن توهج بسرعة حتى انطفأ؛ حاولت ثانية، وثانيةً توهج سريع وانطفاء، ولكنك أدركت في هذه اللحظة أنك تستطيع أن تلمح جزءًا صغيرًا من محيطك، فجعلك قدح عود آخر تستشعر بوجود جدران باهتة بعيدة جدا، كما كشف توهج تالٍ شبحًا غريبًا يوحي بوجود شيء ضخم. ثم أوحى إليك توهج آخر بأنك تتحرك، أو أن الغرفة لا أنت، هي التي تتحرك بالنسبة إليك. وهكذا صرت مع كل توهج آني تتعرف جزءًا جديدًا من محيطك.

 يذكرنا هذا الموقف، بمعنى ما، بورطتنا المحيرة على هذه الأرض. فنحن اليوم وطوال قرون مضت نحدق من منصتنا الكوكبية في سماء الليل، ونتساءل أين نحن في هذا الكون المتكهف. إن فيه نقاطًا تضع بين أيدينا مفاتيح تفضي إلى أشياء ضخمة في الفضاء.. وما نتبينه من حركة هذه الأشياء وأطيافها الظاهرة، يدلنا على أن هناك المزيد منها مما ليس باستطاعتنا بعد أن نراه.

 

 

إننا نكافح للحصول على معلومات من كل فوتون نلتقطه حتى من أبعد نقاط الكون، إذ إن علم الفلك هو دراسة الضوء الوارد إلى الأرض من السماوات. ولكن مهمتنا لا تقتصر على التقاط أكبر قدر ممكن من الضوء بوساطة المقاريب المقامة على الأرض أو في الفضاء، بل هي استخدام ما يمكن أن نراه في السماوات من أجل فهم أفضل لما لا نستطيع أن نراه، ومع ذلك نعلم أنه لابد موجود.

 يعتقد معظم الفلكيين، استنادًا إلى الأرصاد التي جمعت خلال خمسين عامًا عن حركة المجرات وتوسع الكون، أن تسعين في المئة من المادة المشكِّلة للكون قد تكون أجرامًا أو جسيمات لا يمكن رؤيتها. وبتعبير آخر، إن معظم مادة الكون غير مشع، بمعنى أنها لا تعطي توهجًا نستطيع اكتشافه في الطيف الكهرمغنطيسي. في البدء ومنذ نحو ستين عامًا، افترض الفلكي <F. زويكي> أن هذه المادة الموسومة بالضائعة كما كان يظن، موجودة داخل حشود المجرات. ولكننا نفضل اليوم أن نسمي هذه المادة الضائعة «مادة خفية»، لأن المفقود هو الضوء وليس المادة.

 وقد عرض الفلكيون والفيزيائيون عدة تفسيرات لهذه المادة الخفية. فمن جهة، قد تكون مجرد مادة عادية، كأن تكون نجومًا باهتة جدا أو ثقوبًا سوداء كبيرة أو صغيرة، أو غازات باردة، أو غبارًا متناثرًا حول الكون ـ بحيث إن كلا منها يبعث أو يعكس إشعاعًا أضعف من أن تكشفه وسائلنا. وقد تكون أيضا فئة من الأجرام السماوية، تدعى ماشوهات MACHOs، التي تتوارى غير منظورة في الهالات المحيطة بالمجرات وبحشود المجرات. وقد تكون هذه المادة الخفية، من جهة ثانية، مكونة من جسيمات غريبة وغير مألوفة، لدرجة أننا لا نعرف كيف نرصدها. ولكن الفيزيائيين يضعون نظريات حول وجود هذه الجسيمات، مع أن التجارب لم تثبت بعد هذا الوجود. وهناك احتمال ثالث، وهو أن فهمنا للتثاقل gravitation يحتاج إلى إعادة نظر شاملة. ولكن معظم الفيزيائيين لا ينظرون إلى هذا الخيار نظرة جدية.(1)

 لقد أصبح جهلنا بخواص المادة الخفية مرتبطا بصورة ما ارتباطا لا فكاك منه بمسائل أخرى بارزة في الكوسمولوجيا، من ذلك مثلا: كم من المادة يحوي الكون؟ كيف تكونت المجرات؟ وهل سيتوسع الكون إلى الأبد أو لا؟ فلهذه المادة الخفية إذًا أهميتها في فهمنا لحجم الكون وهيئته ومصيره النهائي، حتى إن البحث عنها سيهيمن على الأرجح على الدراسات الفلكية لعدة عقود مقبلة.

 

رصد اللامرئي

إن فهم شيء لا نستطيع رؤيته أمر صعب، ولكنه ليس مستحيلا. كما ليس الأمر بالمفاجئ أن الفلكيين درجوا على دراسة المادة الخفية من تأثيراتها في المادة المضيئة التي نرصدها. فمثلا، عندما نراقب نجما قريبا يهتز اهتزازات يمكن توقعها، نستدل بالحساب أن هناك «كوكبًا خفيا» يدور حوله، كما نستدل من تطبيق مبادئ مماثلة على المجرات الحلزونية، على وجود مادة خفية، لأن وجودها يفسر الحركات الغريبة غير المفهومة للنجوم داخل المجرات.

 

وعندما نرصد مسارات نجوم أو غيومٍ من الغازات عند دورانها حول مراكز المجرات الحلزونية، نجد أنها تتحرك مسرعة جدا. إن هذه السرعات المرتفعة ارتفاعا غير متوقع، تدل على أن الجذب التثاقلي يمارسه شيء يزيد كثيرا على ما في المجرة من مادة مرئية. ونستنتج من القياسات المفصلة للسرعات أن كميات هائلة من المادة اللامرئية تؤثر بقوة تثاقلية تُبْقي هذه النجوم والغيوم الغازية دائرة بسرعات كبيرة في مداراتها. نخلص من ذلك إلى أن هناك مادة خفية منتشرة حول المجرة، وتصل إلى ما وراء طرف المجرة المرئي منتفخة إلى ما فوق وما تحت الجزء الآخر المسطح المضيء. وكتقريب غير دقيق لهذه الصورة، حاول أن تتخيل مجرة حلزونية نموذجية كمجرتنا درب التبانة (الطريق اللبني)، فهي مثل قرص مسطح نسبيا ومتوهج ومطمور في هالة كروية من المادة اللامرئية ـ أي كأنها تقريبا، غيمة منتشرة انتشارا واسعا جدا.

 

عندما ينظر الفلكيون إلى مجرة بمفردها، لا يرون ضمن نصف قطرها (مسافة تقرب من 000 50 سنة ضوئية) سوى مايقرب من عُشر الكتلة التثاقلية الكلية اللازمة لأن تحدد سرعة دوران كل نجم بمفرده حول محور المجرة.

 

وقد وجد فلكيو الأشعة السينية، عندما حاولوا اكتشاف كمية المادة الخفية وتوزيعها في حشد من المجرات، أن المجرات داخل الحشود تحوِّم مغمورة في غيوم واسعة الانتشار جدا من غاز تبلغ حرارته 100 مليون درجة ـ غاز غني جدا بالطاقة، ولكن من الصعب اكتشافه. وقد تعلم الراصدون استخدام حرارة الغاز الذي يطلق أشعة سينية، ووسعوا على هذا النحو تقريبا مدى الطريقة نفسها التي يستخدم فيها فلكيو المراصد البصرية سرعات النجوم في مجرة من المجرات.. ففي كلتا الحالتين تعطي البيانات ما يمكّننا من التوصل إلى معرفة طبيعة المادة غير المرئية وموضعها.

 

وفي حالة حشد من المجرات، نستطيع بمعرفة امتداد المنطقة المرسلة للأشعة السينية وحرارة الغاز، تقدير المادة الجاذبة ضمن نصف قطر الحشد الذي يقرب قياسه من 100 مليون سنة ضوئية. وعندما نجمع، في حالة نموذجية، المادة المضيئة مع الغاز الحار المرسل للأشعة السينية، يصبح بإمكاننا استشعار ما بين 20 و30 في المئة من مادة الحشد الجاذبة الكلية. أما ما تبقى، وهو مادة خفية، فيظل بعيدا عن متناول وسائلنا الحالية.

 

ولقد ظهرت حديثا طرق أدق لاكتشاف المادة الخفية، منها طريقة ذكية يُستعان فيها بحلقات أو بأقواس تحيط بحشود المجرات، تسمى «حلقات آينشتاين»، وتظهر نتيجة لتأثيرٍ يعرف باسم التعدس التثاقلي gravitational lensing، ويحدث هذا حين تحني ثقالةُ جرمٍ ضخمِ الكتلةِ الضوءَ المار بجواره. فمثلا عندما يعيق حشد من المجرات رؤيتنا لمجرة أخرى خلفه، تعمل ثقالة الحشد على لف الضوء الآتي من المجرة الأبعد، مكونة بذلك حلقات أو أقواسا، يتوقف شكلها على الهندسة geometry التي تدخل في هذا المضمار. والطريف في الأمر أن الحشد الأقرب يقوم بدور مقراب طبيعي، فيحني الضوء نحو مكاشيفنا، هذا الضوء الذي كان من دون ذلك سيرتحل إلى مكان آخر من الكون. وهكذا يمكن يوما أن نستفيد من هذه المقاريب الطبيعية في تفحص أبعد الأجرام في الكون.

 

كما نستطيع باستخدام النماذج الحاسوبية، حساب كتلة الحشد المعترض، وذلك بتقدير كمية المادة اللامرئية التي يجب أن توجد لكي تُحدث الانعطافات الهندسية المشاهدة. وحسابات كهذه تؤكد أن الحشود تحتوي على كتلة أكبر بكثير مما توحي به المادة المضيئة.

 

ولا يقتصر الأمر على حشود المجرات. فحتى الأجرام الخفية (المظلمة) المرصوصة compact الموجودة في مجرتنا يمكن أن تعمل للضوء عمل عدسة تثاقلية. فعندما تحجب الأجرام التي تقع في جهتنا نجما خلفها، يلتوي الضوء الوارد من هذا النجم على شكل حلقة صغيرة يفوق سطوعها بكثير السطوع المعتاد للنجم. لذلك نلاحظ تزايدا، ومن ثم تناقصا، في سطوع النجم الخلفي. وهكذا يمكن أن يؤدي تحليل تغيرات الضوء تحليلا متأنيا، إلى استخراج كتلة الجرم السماوي الخلفي المتقدم الذي عمل عدسةً.

 

أين توجد المادة الخفية؟

تقوم فرق عديدة ليليا بالبحث عن أحداث تعديس قريبة، تسببها ماشوهات غير مرئية في هالة مجرة درب التبانة. وقد غطى البحث عنها ملايين النجوم الموجودة في غيوم ماجلان وفي مجرة المرأة المسلسلة (أندروميدا). وفي نهاية المطاف سيحدد البحث كمية المادة الخفية الموجودة في هالة مجرتنا.

 ويتساءل الفلكيون الآن بعد أن أصبح لديهم دليل قوي على أن المجرات الحلزونية والبيضوية غارقة في وسط هالات ضخمة من المادة الخفية: تُرى أين تتوضع المادة اللامرئية وما كميتها وما توزعها؟

 وللإجابة عن هذه الأسئلة، يقارن الباحثون ويقابلون بين أرصاد لمجرات قريبة معينة. من ذلك مثلا أننا علمنا من حركات الغيوم الماجلانية أن مجرتين تابعتين لمجرتنا ومرئيتين بصورة رائعة، تقعان في النصف الجنوبي من القبة السماوية، وتدوران في داخل هالة مجرتنا درب التبانة، وأن هذه الهالة تستمر إلى ما وراء الغيوم ممتدة حتى مسافة 000 300 سنة ضوئية تقريبا. والواقع إن حركات أبعد الأجسام التابعة لمجرتنا توحي بأن هالتها قد تكون ممتدة إلى ضعف تلك المسافة، أي إلى 000 600 سنة ضوئية.

 

ولما كانت أقرب مجرة حلزونية إلينا، وهي المرأة المسلسلة، تبعد عنا نحو مليوني سنة ضوئية، لذا ندرك الآن، أن هالة مجرتنا يمكن أن تكون ممتدة إلى مسافة تُمثل نسبة كبيرة من المسافة التي تفصلنا عن المرأة المسلسلة وهالتها. ولقد تحققنا أيضا أن حشودا من المجرات تقبع مطمورة في منظومات من المادة الخفية أضخم حتى من ذلك. وعند أبعد المسافات التي نستطيع عندها استنتاج كتل المجرات، تبدو المادة الخفية بالنسبة إلى المادة المضيئة القزمة، أكبر منها بعشرة أضعاف على الأقل، بل ربما بمئة ضعف.

 وعلى العموم، نعتقد أن المادة الخفية تترافق ترافقا ضعيفا مع المادة المضيئة، لأن الاثنتين تظهران معا في أغلب الأحيان. ولكننا لا ننكر بأن هذا الاستنتاج قد يكون نابعا من أرصاد منحازة، لأن المادة المضيئة كما هو معهود هي التي تمكننا من إيجاد المادة الخفية.

 ولقد تحقق الفلكيون، بعد دراستهم المتأنية جدا لأشكال المجرات وحركاتها عبر عقود من الزمن، أن كل مجرة بمفردها تتطور تطورا نشيطا، وذلك إلى حد كبير بسبب الجذب التثاقلي المتبادل للمجرات المجاورة لها. أما النجوم في داخل المجرات فتظل بعيدة جدا بعضها عن بعض بالنسبة إلى أقطارها. لذلك يكون التأثير التثاقلي لإحداها في الأخرى ضعيفا. فالمسافة الفاصلة مثلا بين الشمس وأقرب جاراتها، وهي پروكسيما سنتوري Proxima Centauri كبيرة إلى درجة أن 30 مليون شمس يمكن أن توضع في نسق بين الاثنتين. أما المجرات، فبالعكس، تكون متقاربة نسبيا مقارنة بأقطارها ـ إذ إنها كلها تقريبا، لها جيران في نطاق عدد قليل من أقطارها. لذلك تُعدِّل المجرات إحداها الأخرى تثاقليا، كما أن ثقالة المادة الخفية تسهم إسهاما رئيسيا في هذا التأثير المتبادل.

 ولما كنا نراقب عددا من المجرات، التي بعضها ينمو، والآخر ينكمش أو يتحول أو يصطدم، لذلك ندرك أننا لن نتمكن من تعليل الحركات المجرية من دون أخذ المادة الخفية في الحسبان. ففي جوار مجرتنا نفسها مثلا، نرى هذه التأثيرات المتبادلة جارية. كما أن الغيوم الماجلانية التي هي ثاني أقرب مجرة إلينا، تمر عبر مستوي مجرتنا كل بليون سنة، وعندئذ تخلف وراءها ما يشير إلى مساراتها، وهو ذيل مدِّي من الغاز وربما أيضا من النجوم. وبالفعل إنها تخسر، كلما مرت، شيئا من طاقتها ومن تحلزنها إلى الداخل. وفي أقل من عشرة بلايين سنة ستتجزأ وتندمج في درب التبانة.

 وقد تعرف الفلكيون حديثا مجرةً أقرب إلينا حتى من غيمة ماجلان، وهي القزم القوسي Sagittarius dwarf، وتقع عند الطرف الأبعد لدرب التبانة، بالقرب من حافتها القصوى (وعند النظر إلى هذه المجرة القزمة من الأرض تظهر لنا عند كوكبة القوس Sagittarius.) ووفق ما تبين، فإن ثقالة مجرتنا تعمل على تمزيق المجرة القزمة، التي لن تبقى كيانا منفصلا بعد عدة دورات، بل ستمحى من الوجود. وهكذا ربما كانت مجرتنا نفسها قد تشكلت سابقا من عشرات من مثل هذه المكتسبات.

 وبالمثل، تندفع المجرتان M31 ودرب التبانة إحداهما نحو الأخرى بخطوات نشيطة تبلغ 130 كم في الثانية. وما علينا نحن المشاهدين المتلهفين إلا أن نترقب هذا اللقاء خلال عقود قليلة من الزمن لكي نعرف ما إذا كانت M31 سترتطم بمجرتنا أم ستنزلق من جانبها فقط. فإذا اصطدمتا كان بذلك ضياعنا، لأن مجرة درب التبانة ستندمج في المجرة M31 الأكبر منها كتلة. وتتنبأ النماذج الحاسوبية بأن هاتين المجرتين ستصبحان خلال نحو أربعة بلايين سنة مجرة كروانية(2). وبالطبع ستكون شمسنا عندئذ قد انطفأت ـ وسيستمتع آخرون في الكون بمشاهدة هذا المهرجان الناري.

 إن مجرتنا، ككل المجرات الضخمة، تتصرف بطرق شتى تصرُّف الجار غير اللطيف. فهي تلتهم الرفاق القريبين منها وتطحنهم ليكونوا قوالب بناء لنموها بالذات. وكما أن قارات الأرض تنزلق تحت أقدامنا، كذلك مجرتنا أيضا، فهي تتطور من حولنا. وقد استطاع الفلكيون بعد دراستهم للحركات المدومة والمتلوية والدورانية للكثير من المجرات، وكذلك دراسة بنى هذه المجرات وهي مندفعة في الفضاء، أن يتخيلوا القوى التثاقلية اللازمة للمحافظة على هذه الحركات، وكذلك كمية المادة الخفية التي يجب أن تحويها هذه المجرات.

 تُرى، كم يحوي الكون من المادة الخفية؟ إن مصيره متوقف على معامل (وسيط، پارامتر)(3) آخر مازال مجهولا، وهو كتلة الكون الكلية. فإذا كنا نعيش في كون «مغلق» أو عالي الكثافة، عندئذ سيتوقف هذا الكون أخيرا عن التوسع نتيجة للتجاذب التثاقلي المتبادل، وسيدفعه هذا التجاذب للانكماش الذي يُختتم بانفجار عظيم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا كنا نعيش في كون «مفتوح»، أو منخفض الكثافة، عندئذ سيظل هذا الكون يتوسع إلى الأبد.

 تدل الأرصاد حتى الآن، على أن الكون ـ أو على الأقل المنطقة التي يمكننا رصدها ـ مفتوح ويتوسع إلى الأبد. وعندما نضيف كل المادة المضيئة التي نستطيع رصدها، إلى المادة الخفية التي نستدل عليها من أرصادنا، نجد أن المجموع مازال يشكل جزءا ـ وربما 20 في المئة ـ من الكثافة اللازمة لإيقاف الكون عن التوسع إلى الأبد.

 سأكون راضيا إن أنهيت القصة هنا، إلا أن الكوسمولوجيين يحلمون غالبا بكون كثافته حرجة، ويضعون له نموذجا على هذا الأساس. والكثافة الحرجة هي كثافة وسطى تَعدِل بدقة بين كثافتين: مرتفعة ومنخفضة. ففي هذا الكون تكون الكثافة محكمة تماما، بحيث توجد مادة كافية لإبطاء توسعه المستمر، أي بحيث يدنو أخيرا مما يقرب من التوقف. على أن هذا النموذج لا يصف الكون الذي نقيسه فعلا. فأنا بصفتي راصدا، أعترف بأن من الممكن الكشف يوما ما عن مزيد من المادة، ولكن ذلك لن يكون سببا كافيا لي لأن أتبنى نموذجا كوسمولوجيا لم تستلزم الأرصاد وجوده بعد.

 ثمة عامل آخر يُعقِّد المسألة ويجب أخذه في الحسبان، وهو أنه قد توجد منظومات خفية كليا ـ بمعنى أنه قد توجد تجمعات للمادة الخفية لم تنفذ إليها المادة المضيئة قط؛ فنحن حاليا وبكل بساطة، لا نعرف إن كانت هذه المنظومات الخفية كليا موجودة، لأننا لا نملك بيانات رصدية سواء لتؤكد وجودها أو لتنفيه.

 

ما هي المادة الخفية؟

مهما تكن المادة الخفية التي تبين لنا وجودها، فنحن على يقين من أن الكون يحتوي منها على كميات كبيرة. فمقابل كل غرام من المادة المتوهجة، نستطيع اكتشاف أن من الجائز وجود عشرات الغرامات من المادة الخفية. وحاليا مازال المُحكَّمون فيما يتعلق بالكوسمولوجيا عاجزين عن معرفة مما تتكون المادة الخفية بالتحديد. وفي الحقيقة من الممكن القول إننا مازلنا في مرحلة قريبة من استطلاع الأمر. فهناك آراء مرشحة لتفسير الكتلة اللامرئية، بعضها عادي نسبيا، وبعضها الآخر غريب.

 

ومع ذلك، يوجد نظام معين علينا أن نعمل في إطاره. فالتركيب النكليوني nucleosynthesis، الذي يحاول تفسير نشأة العناصر بعد الانفجار الأعظم، يضع حدا لعدد البريونات التي يمكن أن توجد في الكون. وهذا الحد يتطلب وجوده النموذج القياسي Standard Model للكون في بدايته، الذي له وسيط حر وحيد، وهو نسبة عدد الباريونات إلى عدد الفوتونات.(4)

والآن، أصبح عدد الفوتونات معروفا من قياس درجة حرارة الموجات المكروية الخلفية للكون. فلكي نعين عدد البريونات، ما علينا إلا أن نرصد النجوم والمجرات لكي نعرف وفرة النوى الضوئية light nuclei، وهي العناصر الوحيدة التي تكونت بعد الانفجار الأعظم مباشرة.

يمكننا أن نضع نموذجا مقبولا لكون مفتوح كثافته منخفضة من دون أن نتجاوز الحدود التي يتطلبها التركيب النكليوني. ففي هذا النموذج نأخذ كميتين متساويتين تقريبا من البريونات ومن المادة الغريبة (أي جسيمات غير بريونية)، ولكن بكميات تبلغ فقط 20 في المئة من الكتلة المطلوبة لإغلاق الكون. إن هذا الكون النموذجي ينسجم مع جميع أرصادنا الحالية. كما أن نموذج كون مفتوح مختلف قليلا عن سابقه ومادته كلها بريونية، سيتفق أيضا مع الأرصاد. ولكن للأسف فإن هذا النموذج البديل يحتوي على العديد من البريونات، خارقا بذلك حدود التركيب النكليوني. لذلك فإن خواص أي كون منخفض الكثافة ومقبول، ستكون غريبة؛ لأن معظم بريونات الكون قد تظل غير مرئية، وطبيعتها مجهولة؛ كما أن الكثير من مادة الكون سيكون في معظم النماذج غريبا غير مألوف.

 

الجسيمات الغريبة

ولكي يفسر النظريون طبيعة المادة الخفية، وضعوا تشكيلة افتراضية من الأشياء؛ على أن العديد منهم وقع فريسة التعارض مع الأرصاد. ومن بين الأجسام المحتملة التي رشحت لتكون مادة خفية بريونية، هناك ثقوب سوداء (كبيرة وصغيرة)وأقزام بُنيّة (وهي نجوم باردة جدا وباهتة بحيث لا تشع) و«ماشوهات» بحجم الشمس وغازات باردة ومجرات خفية وحشود خفية، وما ذكرناه ليس سوى القليل.

 

 

أما مدى الجسيمات التي يمكن أن تتكون منها المادة الخفية اللابريونية، فلا يكاد يقف فيها خيال النظريين عند حد. فهذه الجسيمات تتضمن من بين الكثير غيرها، فوتينوهات photinos ونيوترينوات neutrinos، وكراڤيتينوهات gravitinos وأكسيونات axions، ووحيدات قطب مغنطيسية magneticmonopoles. ولم يكتشف الباحثون من هذه الجسيمات سوى النيوترينوات. ولكن هل للنيوترينوات كتلة أو لا، فهذا مازال مجهولا. وثمة تجارب جارية لاكتشاف جسيمات أخرى غريبة. فإذا وجدوا مثل هذه الجسيمات، وكان لأحدها كتلة في المدى المناسب، فعندئذ يمكن لهذا الجسيم أن يعم الكون وأن يشكل مادة خفية، ولكن هذا كله ليس سوى افتراضات مشروطة ب«إذا» كبيرة جدا.

 

إن تطور المجرات وحشودها، بكل تفاصيله، مرتبط إلى حد بعيد بخواص موجودة في المادة الخفية. فمن دون هذه الخواص، من الصعب أن نشرح كيف تطورت المجرات إلى هذه البنى التي نرصدها اليوم. ومع تعمق معرفتنا عن بداية الكون، فإنني باق على تفاؤلي بأننا سنعرف عما قريب الكثير عن تكون كل من المجرات والمادة الخفية معا.

 

إن ما نخفق في رؤيته بأعيننا أو بمكاشيفنا، نستطيع أحيانا أن نكتشفه بعقولنا. وتساعدنا على ذلك المخططات الحاسوبية. فالحواسيب تقوم اليوم بدور رئيسي في البحث عن المادة الخفية. لقد كان الفلكيون فيما مضى يركزون جميع جهودهم على الأرصاد والمشاهدات؛ أما الآن فقد تحوَّل مجالهم إلى علم تجريبي. فالمجربون الفلكيون، لا يجلسون اليوم على مقاعد المختبر أو وراء المقاريب، بل يجلسون أمام شاشات الحواسيب ولوحات مفاتيحها. إنهم ينعمون النظر في محاكيات الكون، التي فيها عشرات الآلاف من النقط الممثلة للنجوم والغازات والمادة الخفية، وهي تتآثر تثاقليا فيما بينها على امتداد حياة المجرة التي تضمها. وبإمكان الكوسمولوجي أن يضبط المحاكاة المطلوبة بإحكام معاملات المادة الخفية، وأن يراقب بعدئذ ما يحدث حين تتطور المجرات الافتراضية بمفردها أو في كون مزدحم أكثر واقعية.

 

وهكذا يمكن للنماذج الحاسوبية أن تتنبأ بسلوك المجرات. فمثلا، حين تتعرض مجرتان لمقابلة متراصة أو لاندماج عنيف، تتطاير منهما أحيانا ذيول مدّية tidal طويلة. ونعرف حاليا من النماذج الحاسوبية أن هذه الذيول لا تظهر إلا عندما تكون المادة الخفية لكل من هالتي المجرتين أكبر بما يراوح بين ثلاث وعشر مرات من مادتهما المضيئة. والهالات الأكثر ثقلا تنتج ذيولا أقصر وأثخن. فالتحققات التي تمت عن طريق النمذجة ساعدت إذًا فلكيي المراصد على تأويل ما يرونه وعلى فهم المزيد عن المادة الخفية التي لا يستطيعون رؤيتها. فلأول مرة في تاريخ الكوسمولوجيا تقوم المحاكيات الحاسوبية فعليا بتوجيه الأرصاد.

 

إن الحواسيب إذًا أدوات لا تقل عن طرق جديدة في التفكير، وتمنحنا بصيرة نافذة في بنية السماوات. فمنذ أقل من 400 سنة وضع گاليليو عدسة صغيرة في إحدى نهايتي أنبوب كرتوني، ووضع دماغا كبيرا في الطرف الآخر. فعرف بعمله هذا أن الشريط الباهت الذي يعبر السماء والذي يدعى درب التبانة (الطريق اللبني) يحتوي في الواقع على ملايين النجوم الفردية والحشود النجمية. وهكذا فهم كائن بشري فجأة ما هي المجرة. فلعل دماغا كبيرا آخر لم يولد بعد، سيضع في القرن الحادي والعشرين عينه أمام أداة ذكية جديدة ويجيب أخيرا عن السؤال: ما هي المادة الخفية؟

 

 المؤلفة

Vera Rubin

عضو بارز في قسم المغنطيسية الأرضية بمعهد كارنيگي في واشنطن، وهي تعمل في هذه الهيئة منذ عام 1965، وفي هذا العام نفسه، أصبحت أول امرأة أتيح لها أن تزاول الرصد في مرصد بالومار. نشرت ما يزيد على 200 بحث، تناولت فيها بنية درب التبانة، والحركات داخل المجرات وتلك التي على نطاق واسع في الكون. وفي عام 1999 نالت جائزة ديكسون التي تمنحها جامعة كارنيگي ملون للعلم. كما منحتها الجمعية الفلكية الملكية في عام 1996 الميدالية الذهبية. وفي عام 1993 منحها الرئيس كلينتون الميدالية الوطنية للعلم، ثم عينها في عام 1995 في اللجنة الرئاسية المشرفة على الميدالية الوطنية للعلم.

(*) Dark Matter in the Universe

 

(1) جمع: ماشو MACHO وهذه اختصار لـ Massive Compact Hal Object أي: أجرام سماوية هاليّة متراصة وبالغة الضخامة.

(2) spheroidal شبه كروية.

(3) parameter

(4) baryons، جسيمات.

 

روابط تتحدث عن المؤلّفة "فيرا روبن " و إنجازاتها العلمية :

المجرة الحلزونية NGC 2997 واقعة في غيمة أنتليا Antlia cloud الجنوبية، وهي على الأرجح تشبه مجرتنا. كما أنها، ككل المجرات، مطمورة في هالة خفية حرة منتشرة ممتدة، وتركيبها أيضا مازال مجهولا.

غيمة ماجلانية ضخمة: هي أحد التوابع الأقرب إلى مجرتنا درب التبانة، وتقع على بعد 000 180 سنة ضوئية عن الأرض، وستندمج أخيرا كجميع المجرات الصغيرة الأخرى في درب التبانة، وتصير بذلك إحدى لبنات بناء مجرتنا. ولما كنا نشاهد الغيمة من الأرض، فبعض الأجسام الخفية الموجودة في هالة درب التبانة تعمل عمل عدسة تثاقلية بالنسبة إلى بعض نجوم الغيمة موفرة بذلك معلومات عن وجود مادة خفية في هالة مجرتنا.

 

اصطدام مجرتين في القسم المدموج من استطالتيهما، وهاتان المجرتان هما من المجرات ذات الهوائيات the antennae galaxies المعروفة بِ NGC 4028/39. يعرض هذا الاصطدام ألعابا نارية نجومية وينتج أكثر من 1000 حشد نجمي جديد. تكتسب المجرتان اسميهما من ذيليهما المضيئين الطويلين، والمكونين عند التقائهما بتأثير قوى مَدّية تثاقلية؛ فهما أشبه بقرني استشعار حشرة. وهاتان المجرتان، تُشاهدان في نصف الكرة الجنوبي، وتبعدان عن الأرض مسافة 63 مليون سنة ضوئية. ويجمع الشكل (في هذه الصفحة) بين صورتين. الزاوية الواسعة (في اليسار) التقطها مقراب مثبت على الأرض في تشيلي، أما المنظر التفصيلي (في اليمين) فقد التقطه مقراب هبل الفضائي

منظر لمجرتنا من داخلها، وهو يُرى هنا بإشعاعه القريب من تحت الأحمر. ومصدر البيانات هو تجربة انتشار خلفية تحت حمراء DIRBE، التي هي جزء من برنامج مستكشف الخلفية الكونية COBE. ولدى مشاهدة DIRBE لدرب التبانة، وبخاصة الانتفاخ المركزي لهذه المجرة والقرص المحيط بها، من داخل هذا القرص، تلتقط سطوع السماء المتغير كما يُرصد عند أطوال الموجات 1.2، 2.3، 3.5 مكرون (الأزرق والأخضر والأحمر على الترتيب). وتقع شمسنا على بعد نحو 000 28 سنة ضوئية عن مركز مجرتنا. وهذه البيانات تساعد الفلكيين على فهم بنية مجرة درب التبانة وتطورها على نطاق واسع.