بسم الله الرحمن الرحيم-
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2010-10-01
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حقّ الجهاد، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
حقيقة الدنيا والآخرة من خلال القرآن الكريم :
أيها الأخوة الكرام، يحتاج الإنسان أحياناً إلى موضوعات فيها أدق الجزئيات، وفي أحيان كثيرة أيضاً يحتاج إلى موضوعات فيها معظم الكليات، فنحن نعيش في الحياة الدنيا وقد أخبرنا الله أن بعد هذه الحياة الدنيا حياة آخرة، موضوع الخطبة اليوم ما حقيقة الحياة الدنيا من خلال القرآن الكريم؟ وما حقيقة الحياة الآخرة من خلال القرآن الكريم؟ فالله عز وجل يصف الحياة الدنيا بأنها ذات عمر قصير، ومتاع قليل، قال تعالى:
﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾
[ سورة الروم: 55]
رياضياً أي رقم مهما يكن كبيراً تصور واحداً في الأرض و أصفاراً للشمس، وكل مليمتر صفراً، كم هذا الرقم؟ هذا الرقم إذا وضع صورة لكسر عشري والمخرج لا نهاية فقيمته صفر، الدنيا لا شيء أمام الآخرة، الآية الكريمة:
﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾
[ سورة الروم: 55]
تعريفات للحياة الدنيا من خلال كتاب الله عز وجل :
1 ـ الدنيا ذات عمر قصير ومتاع قليل :
إذاً أيعقل أن تضحي بالأبد من أجل عمر قصير مفعم بالمتاعب؟ آية ثانية:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
[ سورة النساء: 77]
إله يخبرك أن متاع الدنيا قليل:
﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾
[ سورة النساء: 77]
إذاً الدنيا ذات عمر قصير ومتاع قليل:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
[ سورة النساء: 77]
2 ـ الدنيا دار لهو ولعب وزينة وتفاخر :
تعريف آخر للدنيا من خلال القرآن الكريم، دار لهو، ولعب، وزينة، وتفاخر، قال تعالى:
﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ِ ﴾
[ سورة الحديد: 20]
هذا كلام رب العالمين، كلام خالق الأكوان.
(( فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ))
[الترمذي عن أبي سعيد ]
إخبار الله لنا.
3 ـ الدنيا دار غرور :
تعريف ثالث، دار غرور، الشيء الذي فيه الغرور له حجم كبير، وواقع ضئيل، قال تعالى:
﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾
[ سورة لقمان: 33 ]
قال تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾
[ سورة فاطر: 5 ]
هذا تعريف ثالث.
4 ـ الدنيا دار ترف واستمتاع :
تعريف رابع، دار ترف واستمتاع، يؤتيها الله عز وجل لمن يحب ولمن لا يحب، الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيه ملك عادل، قال تعالى:
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ ﴾
[ سورة المؤمنون: 33 ]
دقق:
﴿ وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
[ سورة المؤمنون: 33 ]
في ثماني آيات ارتبط الكفر مع الترف، لا مع الإنفاق المعتدل، في ثماني آيات في كتاب الله، ارتبط الكفر مع الترف:
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾
[ سورة المؤمنون: 33 ]
5 ـ الدنيا دار إغواء :
تعريف آخر، هي دار إغواء، الدنيا هي الميدان الذي يحاول الشيطان فيها حسداً وكيداً أن يغوي الإنسان بالشهوات الحسية، والأهواء النفسية، لمن لم يكن من عباد اللّه المخلصين، قال تعالى:
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾
[ سورة الحجر الآية : 42 ]
لمن لم يكن من عباد اللّه المخلصين، يقول الله تعالى:
﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا*َالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا*َاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾
[ سورة الإسراء: 62-64]
أي الدنيا كأرض والدنيا كزمن ظرفان لإغواء الشيطان لابن آدم، وهذا من خصائص الحياة الدنيا.
6 ـ الدنيا دار ضلال وطغيان لمن يفتن بها :
هي أيضاً دار ضلال وطغيان لمن يفتن بها، يقول اللّه عزّ وجلّ: ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾
[ سورة الكهف: 104]
﴿ فَأَمَّا مَنْ طَغَى*َآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
[ سورة النازعات: 37-39]
7 ـ الدنيا دار خزي ولعنة للمعاندين :
التعريف السابع في القرآن الكريم، دار خزي ولعنة للمعاندين، قال تعالى:
﴿ فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة الزمر: 26]
﴿ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ ﴾
[ سورة القصص: 42]
8 ـ الدنيا دار لاكتساب الحسنات والمعيشة الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً :
التعريف ثامن قرآني، هي دار لاكتساب الحسنات والمعيشة الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً:
﴿ قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
[ سورة الزمر: 10]
إذاً هي دار لاكتساب الحسنات والمعيشة الطيبة، الآية الثانية:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
[ سورة النحل: 97 ]
هذا الوعد زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين:
﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
[ سورة النحل: 97 ]
9 ـ الدنيا دار ابتلاء :
التعريف التاسع القرآني، هي دار ابتلاء:
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾
[ سورة الملك: 1-2]
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾
[سورة الكهف: 7]
تسعة تعريفات للحياة الدنيا من خلال كتاب الله، فمن هو المؤمن؟ الذي هو يصدق كلام الله، من هو المؤمن؟ الذي يأتي تصوره عن الحياة الدنيا موافقاً لما في القرآن الكريم، من هو المؤمن؟ من يرى الدنيا مطية للآخرة، من هو المؤمن؟ من يرى الدنيا دار عمل ودار تكليف، ويرى الآخرة دار تشريف.
بطولة المؤمن أن تأتي تصوراته عن الحياة الدنيا وفق وَصْفها في القرآن الكريم :
أيها الأخوة الكرام، هذا إخبار خالق الأكوان عن حقيقة الحياة الدنيا، من هو الخاطئ أشد الخطأ؟ الذي يتصور الحياة الدنيا بخلاف هذه التعريفات، يظنها مغنماً كبيراً، يظن الغني فيها سعيداً جداً، يظن القوي فيها سعيداً جداً، بطولتك أيها المؤمن أن تأتي تصوراتك عن الحياة الدنيا وفق وصفها في القرآن الكريم:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
[ سورة النساء: 77]
أي المال الوفير، الصحة، المكانة، السلطة أحياناً، متوقفة على نبض القلب، فإذا توقف القلب انتهى كل شيء، كل هذا المال ليس لك، كل هذا العلم فقدته، كل هذه الأعمال التي تتباهى بها لا قيمة لها عند مغادرة الدنيا.
أيها الأخوة الكرام، مرة ثانية كما أننا بحاجة أحياناً إلى أدق التفاصيل كي تغني أفكارنا الأساسية، نحن بحاجات كثيرة إلى العموميات، إلى الكليات، حقيقة الكون، وحقيقة الحياة الدنيا، وحقيقة الآخرة، وحقيقة الإنسان.
الدنيا دار عمل وابتلاء والآخرة دار حساب وجزاء :
أما الحياة الآخرة فهي دار حساب وجزاء، الدنيا دار عمل وابتلاء، أما الآخرة فدار حساب وجزاء، في الآخرة تظهر نتيجة هذا الابتلاء، يلقى الإنسان في الآخرة جزاء عمله:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
[ سورة الزلزلة:7-8 ]
أحد الأعراب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله عظني ولا تطل، فتلا عليه قوله تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
[ سورة الزلزلة:7-8 ]
فقال له: كفيت"، هي دار بقاء:
﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة العنكبوت: 64 ]