خط مدى: جسرٌ بين التراث والحداثة
خط مدى: جسرٌ بين التراث والحداثة
يُعدّ خط "مدى" (Mada Typeface) أحد أبرز الإنجازات البارزة في مجال الخط العربي الرقمي، ليس فقط لجماله البصري، بل لعمقه الفكري ودقته التقنية. إن "مدى" ليس مجرد خط طباعي، بل مشروع بصري طموح يجسّد رؤية متكاملة لتطوير الحرف العربي ليواكب العصر دون أن يفقد هويته.
تم بناء خط "مدى" على أسس متينة من الخط النسخ السطري، بانسيابيته ووضوحه، لكنه لم يتوقف عند المحاكاة. بل ارتقى بها إلى مستوى جديد من التجديد، مستلهمًا روح الطباعة العربية في حقبة السبعينيات والثمانينيات — تلك الفترة الذهبية التي شهدت ازدهار الصحف والمجلات العربية بمظهرها المميز.
ما يميّز "مدى" هو قدرته على الجمع بين الألفة والجِدة: فهو يبدو مألوفًا للعين العربية، كأنه صديق قديم، وفي الوقت نفسه حديث وواثق، كأنه وليد اللحظة. لقد أصبح هذا الخط، عبر سنوات من الاستخدام الواسع من قبل مئات المصممين حول العالم، رمزًا للجمال الدائم في التصميم الطباعي.
كل حرف في "مدى" يحمل شخصية فريدة، كأنه مشهد من قصة قديمة أعيد سردها بأسلوب عصري. نسب الحروف دقيقة، وتوزيع المسافات بينها متناغم، ما يمنح النص كله وحدة بصرية عالية، ويخلق إيقاعًا بصريًا يشبه الشعر المنظور.
لا يقتصر تميز "مدى" على الشكل الخارجي، بل يمتد إلى البنية التقنية الذكية التي تحكمه. فهو لا يكتفي بأن يكون جميلًا، بل يجب أن يكون فعّالًا ومرنًا في الاستخدام.
يضم الخط حلولًا تيبوغرافية متطورة تسمح للحروف بالتكيف تلقائيًا مع بعضها البعض، لتحقيق توازن بصري دقيق حتى في الكثافة العالية أو الأحجام الصغيرة. كما يتيح للمصممين تحكمًا دقيقًا في تراكيب الحروف وامتداداتها، مع وجود امتدادات جمالية محسوبة تربط الكلمات وعلامات التشكيل بانسيابية طبيعية.
من الناحية الفنية، يُظهر الخط أداءً متميزًا في برامج التصميم الاحترافية مثل Adobe InDesign، كما يعمل بكفاءة في بيئات Microsoft Office والويب، مما يجعله خيارًا عمليًا إلى جانب قيمته الجمالية.
منذ إطلاقه الأول عام 2016، لم يتوقف خط "مدى" عن التطور. فالنسخة الجديدة (2024)، التي صممها سلطان المقطري بنفس الرؤية الثاقبة، تُعدّ قفزة نوعية في الدقة والانسيابية.
ركز التحديث على:
· تنقيح المنحنيات لتصبح أكثر طلاقة وانسجامًا.
· تقليص امتداد الحروف لتحسين الكفاءة المكانية، ما يجعله أنسب للاستخدام في التصاميم الضيقة أو المتعددة الأعمدة.
· إضافة وزنين وسطيين بين الأوزان الأصلية، ما يوسع نطاق استخدام الخط في السياقات التحريرية والإبداعية المختلفة.
اليوم، يتوفر "مدى" بإصدارين: الأصلي (2016) والجديد (2024)، وكل منهما يشمل أربعة أوزان — من العادي إلى الأسود — مما يمنح المصممين مرونة غير مسبوقة.
لم يعد "مدى" مجرد خط عربي. فقد توسّع ليصبح نظامًا طباعيًا شاملًا يدعم:
· اللغة العربية كاملة.
· اللغات الفارسية، الكردية، والأوردية.
· مجموعة واسعة من علامات التشكيل والرموز الدولية.
· وأهم من ذلك: نسخة لاتينية صمّمها سلطان المقطري بنفسه، بحيث تنسجم بصريًا وفكريًا مع الخط العربي، وليس مجرد إضافة آلية.
هذه الشمولية جعلت من "مدى" أحد أكثر خطوط سلسلة "خطوط سلطان" انتشارًا، وأكثرها مبيعًا على منصة MyFonts العالمية، ما يؤكد قبوله العالمي وثقته العالية بين المحترفين.
إن خط "مدى" هو أكثر من مجرد أداة تصميم — إنه خلاصة تجربة طويلة في فهم الحرف العربي، وقراءة تاريخه، واستشراف مستقبله. إنه جسرٌ حي بين الماضي العريق والحاضر الرقمي، يجمع بين الأصالة والابتكار، وبين الجمال والوظيفة.
في عالمٍ يتسارع نحو التكنولوجيا، يأتي "مدى" ليذكّرنا أن الجمال الحقيقي لا يُستورد، بل يُبنى — بعناية، وبصبر، وبقلبٍ يحب لغتنا وثقافتنا.