ماذا يفعل الرؤساء والملوك في اجتماعات الأمم المتحدة؟
الدكتور عزت السيد أحمد
هذه المقالة فصل من كتابي: انهيار شرعية الأمم المتحدة
سنويًّا، منذ تأسيس هيئة الأمم المتَّحدة، ينعقد اجتماع الهيئة العامة العموميَّة ما يسمَّىٰ الاجتماعي السنوي الذي يجتمع فيه قادة الدُّول من المستوىٰ الأولىٰ أو من ينوب عنهم علىٰ أن لا يقل عن مستوىٰ مندوب الدَّولة في هيئة الأمم المتَّحدة... ولن يكون أقلَّ منه إلا العاطل عن العمل. فالمندوب مندوب من دون شروط في الكفاءة ولا العمر ولا الخبرة ولا الشهادات...
السُّؤال الذي سيبرز الآن، وهو الذي لم يطرحه أحدٌ من قبل فيما أعلم، علىٰ الأقل في إطار التَّحليل السِّياسي للأحداث، قد يبدو كوميديًّا أو منطوياً علىٰ شيء من السُّخرية، وهو: ماذا يفعل الرُّؤساء والملوك في الاجتماعات السَّنويَّة للهيئة العامة للأم المتَّحدة المسمَّاة باجتماع الهيئة العموميَّة السَّنويَّة لهيئة الأمم المتَّحدة؟
حقًّا يبدو كوميديًّا، فماذا يفعل المجتمعون في مؤتمر ما؟
لا أريد الدخول في فلسفة المؤتمرات وموضوعاها وجلساتها وما يحدث فيها، والفرق بَيْنَ مؤتمرات الغرب والشرق والجنوب... فتلك رحلة فيها من الكوميديا السوداء ما فيها؛ فيها كوميديا من شَتَّىٰ ، الأشكال، وفيها مآس من شَتَّىٰ الأنواع والمستويات... فلنبتعد عن هٰذه المعمعة هنا، ولنبق مع السادة الرُّؤساء والملوك في اجتماع الهيئة العموميَّة لهيئة الأمم المتَّحدة، ولننظر فيما يفعلون هناك سنويًّا.
حَتَّىٰ نعرف ماذا يفعلون يجب أن نعرف هٰذه الحقائق المفتاحيَّة التي تكشف لنا عن حقيقة ذهابهم إلىٰ اجتماع الهيئة العموميَّة السَّنوي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
أولاً: طبيعة الأمم المتَّحدة، وحقيقتها، وقدراتها، وأهدافها... أمور مفضوحة منذ عشرات السنين وليس من اكتشافي اليوم أو اكتشاف غيري. منذ عشرات السنين لا يجهل محلل سياسي ولا مفكر أنَّ الأمم المتَّحدة في أحسن الظنون فيها عاجزة مشلولة غير قادرة علىٰ فعل أيِّ شيء إيجابي أو سلبي، وغير قادرة علىٰ فرض أو تنفيذ أي قرار تتخذه أكان إيجابيًّا أم سلبيًّا، أن الأمم المتَّحدة ليست لها أي أدوات تنفيذيَّة لإنفاذ قرارتها أو سلطتها، وإنَّمَا جهازها التَّنفيذي هو الجيش الأمريكي ومن يقبل أن يسير تحت أمرة الجيش الأمريكي، في حال احتياج جيش لتنفيذ القرارات، وفي حال كون القرارات غير عسكريَّة فليس للأمم المتَّحدة أي سلطة تجبر الدُّول علىٰ الالتزام بتنفيذ قراراتها، إلا إذ تطوعت الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وقامت بتهديد من يخالف هٰذا القرار أو ذاك.
ثانياً: هٰذا في أحسن الظُّنون في هيئة الأمم المتَّحدة، أي إذا افتراضنا أَنَّهَا فعلاً حسنة النَّوايا والأهداف والسِّيرة والسُّلوك. فماذا لو كانت الظُّنون فيها جملة وتفصيلاً سيئة أصلاً؟ وكيف لو كانت شرعيتها بالمجمل والتَّفصيل مطعوناً فيها؟
بعيداً عن أي ضرب من ضروب الافتراء أو التَّهويل أو المبالغة فإنَّ الأدوار المشبوهة لهيئة الأمم المتَّحدة لم تعد سرًّا ولم تكن مستورة طيلة عشرات السنين المنصرمة، علىٰ الأقل بعد إنشائها بنحو أربعين سنة. علىٰ الأقل منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي أي قبل نحو أربعين سنة أيضاً بدأت علامات الاستفهام توضع أما سلوك الأمم المتَّحدة وتطلعاها وأهدافها. إذا كنا أحسنا الزن فيها كما قلت قبل قليل فهي عالة علىٰ الأمم والشُّعوب باستثناء الخمسة الكبار.
تبدو مشاريع الأمم المتَّحدة مجللة بالرَّأفة ملفلفة بالرَّحمة موشَّاة بالإنسانيَّة مزخرفة بالشمخاشاخية مثل؛ حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الطفولة، حقوق الحيوان، الحريات العامة... ولٰكنَّ هٰذه العناوين البرَّاقة الرَّقراقة فيها من السُّموم القاتلة ما فيها مما يكفي لإبادة أمم شَتَّىٰ. والحديث في ذٰلك طويل وفيه الكثير من التَّفاصيل والملابسات والتَّعقيدات... فلا أطيل الوقوف عنده مع ما يتسم به من أهميَّة وخطورة.
ثالثاً: ذٰلك كله، وكثير من تفاصيله وبياناته ليس سرًّا اليوم، وأكثره لم يكن مجهولاً من قبل، حَتَّىٰ بعد سنين قليلة من إنشاء هيئة الأمم المتَّحدة. لا أبالغ إذا قلت إنَّ كثيراً من عوام الناس منذ عشرات الناس يدركون هٰذه الحقائق وإن لم تكن لديهم وثائق. فما بالك بالمفكرين والمحللين السياسيين والاقتصاديين؛ من دون أن ننسىٰ صندوق النقد الدُّولي ومهمته التَّخريبيَّة من خلال الشروط التي يفرضها علىٰ القروض... المهم أنَّ المفكرين والمحللين المهتمين بموضوع الأمم المتَّحدة علىٰ بينة من هٰذه الحقائق تتراوح ما بَيْنَ المعلومات الموثقة، والمتناقلة، والمنقولة، والاستنتاجيَّة، ومن خلال المقايسة وهلم جرًّا من طرق التَّفكير وأدواته. وهٰذا الباب هو مفتاحنا للباب الرَّابع القادم.
رابعاً: الفرق بَيْنَ السلاطين ملوكاً ورؤساء من جهتهم، وكبار المفكرين والفلاسفة والحكماء والمجللين السياسيين والاقتصاديين.... وأضرابهم، أنَّ السلاطين لديهم معرفة حقيقيَّة دقيقة بالخفايا التي لا يعرفها الفلاسفة والحكماء والمحللين، تأتيهم بطرق متعددة إن لم تكن من قوة استخباراتهم فمن استخبارات أصدقائهم، وما ينقصهم يأتيهم من استخبارات أعدائهم. لا تنصدموا بهذه المعلومة، ولا تعجبوا منها.
الفلاسفة والمفكرون والمحللون يفكرون ويصلون إلىٰ الحقائق بمقاطعات استدلاليَّة واستنتاجيَّة وحدسيَّة... يقتربون منها قليلاً أو كثيراً حسب قدراتهم وما يتوافر لهم من معلومات، وما يستطيعون إدارته بطرائق تفكيرهم. الفلاسفة والمفكرون علىٰ سبيل المثال يعرفون استدلاليًّا وقياسيًّا وحدسيًّا أنَّ هٰذا الحاكم أو ذاك خائن، أو أَنَّهُ فعل هٰذا أو ذاك من الأفعال، ولٰكنَّهُم لا يمتلكون الدليل القاطع، بَيْنَما الحاكم ذاته يعرف لأَنَّهُ الفاعل، والسلاطين الآخرون المرتبطون يعرفون هٰذه الحقائق، ولٰكنَّ أحداً منهم لا يعلن ذٰلك، ولا يقوله. ويتصرَّفون مع هٰذا الحاكم علىٰ أساس معرفته؛ فيعادونه، ويصالحونه، ويسبونه، ويمدحونه علىٰ ضوء احتياجات المرحلة.
خامساً: من المقابلة بَيْنَ المفتاحين الثالث والرَّابع نتساءل: أيعقل أنَّ المفكرين والمحللين وحَتَّىٰ عوام النَّاس يعلمون تلك الحقائق عن الأمم المتَّحدة ولو من باب التَّخمين والتَّقدير ولا يعلمها الزُّعماء القادة؛ قادة الدُّول الذين يذهبون إلىٰ اجتماع الهيئة العموميَّة السَّنوي للأمم المتَّحدة؟!
أيعقل أَنَّهُم لا يعلمون عجز هيئة الأمم المتَّحدة عن فعل أي شيء لا تريده الولايات المتَّحدة؟!
أيعقل أَنَّهُم لا يعلمون أن هٰذه الهيئة الدُّوليَّة هيئة شكليَّة باسم الأمم ولا تستطيع سوَىٰ أن تحمي مصالح الدُّول الكبرىٰ بالطريقة التي تريدها الدُّول الكبرىٰ علىٰ حساب سائر دول العالم وعلىٰ حساب مصالح صائر دول العالم، وحساب كرامة سائر دول العالم؟
أيعقل أَنَّهُم لا يعلمون أنَّ لا أحد يشيلهم عن الأرض إذا مر بهم وهم علىٰ الأرض مسطوحين مثل المعفَّسِ من التِّين؟
أيعقل أَنَّهُم لا يعلمون أنَّ استغاثاتهم ونداءاتهم ومناشداتهم وتهديداتهم، إن استطاعوا التَّهديد، وتوصيفاتهم وتصويراتهم لحقوق شعوبهم وأممهم... ومطالباتهم ونقِّهم كل أنواع النَّق لإحقاق الحق... كلها لا تجدي، ولا أحد يسمعها ولا أحد يقيم لها وزناً؟
أيعقل ويعقل ويعقل ويعقل أَنَّهُم لا يعلمون.
من المحال ذٰلك، إلا لحاكم حمار بإرادة وإصرار، وبشهادة من المختار.
إن كانوا لا يعلمون فتلكم مصيبة كبرىٰ؛ مصيبة كبرىٰ أن يكون الحاكمون جهلة لا يعلمون ما يعلمه العوام بحدوسهم وتحليلاتهم علىٰ جهلهم.
وإن كانوا يعلمون فذلكم عين العهر والفجور. أعتذر عن قسوة التَّعبير، ولٰكن من الصعوبة بمكان إيجاد وصف مناسب أكثر.
سأخبركم لماذا يذهبون وماذا يفعلون.
الكل اليوم با عارفاً بأنَّ هناك خطاب في السِّر وخطاب في العلن من قبل كل سلاطين العالم والناطقين باسم الحكومات، وهٰذا ينطبق علىٰ الدُّول الكُبرىٰ الكُبرىٰ والدُّول الصُّغرىٰ الصُّغرىٰ، وما بَيْنَهُما. مهما كان السُّلطان أو الحاكم صادقاً مع شعبه، وشفَّافاً في التَّصريح من دون لفٍّ أو دوران.
وفي سياق الأمر ذاته فإنَّ العلاقات بَيْنَ الدُّول، من خلال السَّلاطين بطبيعة الحال، مهما كان بَيْنَها من عداء وصراع وحَتَّىٰ حروب فإنَّ قنوات التَّواصل بَيْنَ الزعماء لا تتوقف ولا تنقطع. هٰذا في كون الصراع جدِّيًّا وحقيقيًّا.
أمَّا إذا كان الصِّراع والعداء تمثيلاً وإيهاماً وخداعاً وتضليلاً فحدِّث ولا حرج.
عندما يكون العداء بَيْنَ سلطتين لا دوليتين عداء وهميًّا، فإن النظامين الحاكمين يمارسان الكذب والخداع والتَّضليل علىٰ الشَّعب وقل الشَّعبين؛ كلاهما يسب الآخر ويلعنه ويحرض عليه أشكالاً ألواناً، بينما هما في الحقيقة أحباب؛ واحد منهما سيد الآخر بالضَّرورة لا بالمجاز كما هو الحال اليوم مع أمريكا والغرب من جهة وسلاطين العرب وأكثر سلاطين بلاد المسلمين، الذي هم عملاء زرعتهم الدُّول الغربيَّة علىٰ رأس هٰذه الدُّول ليقوموا بما تريد أن تقوم به الدُّول الاستعماري في محاربة الوحدة والإسلام ونهب خيرات الوطن لجيوب هٰؤلاء السلاطين الموجودة أصلاً في بنوك الغرب، أو لخزائن الدُّول المستعمرة مباشرة مع أجرة التَّيسير للحكام.
الآن بات واضحاً أو من السهل إيضاح لماذا يذهب الرُّؤساء والملوك سنويًّا إلىٰ اجتماع الجمعيَّة العموميَّة لهيئة الأمم المتَّحدة.
اليوم في ظلِّ الإعلام المباشر وعدم إمكان التَّستر علىٰ ما يقال علىٰ منبر الأمم المتَّحدة يذهب هٰؤلاء الرُّؤساء والملوك للصياح بنبرة انفعاليَّة حادة تهديداً للاستعمار والعدوان علىٰ حقوقهم وملاحقة المعتدين علىٰ حقوق الشعوب؛ القضيَّة الفلسطينيَّة لحكامنا... علىٰ نحو يبدو مقنعاً جدًّا، حَتَّىٰ يتداول الذباب الإلكتروني الخاص بهم هٰذه الخطبة الرَّنَّانة الصَّنَّانة ويمجِّدون بهذ الحاكم... كما نتابع في هٰذه الأيام من تمجيدات لأمثال هٰؤلاء الذين ربَّمَا لا يجهل أحد أَنَّهُم وكلاء مفضوحون لحماية مصالح أمريكا وفرنسا وبركانيا وإسرائيل...
قبل هٰذا العصر الإلكتروني والنقل الحي القسري غير المستور لما في العلن يدور كان يذهب الرَّئيس أو الملك ولا أحد يعرف ماذا فعل، وعندما يعو أو قبل أن يعود يبدأ التلفزيون المحلي ببث مسلسل بطولات الزعيم وصلاته وجولاته في الدفاع عن القضيَّة، وإعلاء صوت الوطن، واللقاءات الثنائيَّة التي يراد إعلانها... وكثير من البهارات والتَّوابل من الأخبار غير المصوَّرة التي ينشرها الذُّباب الإلكتروني القديم... الذُّباب الإلكتروني موجود دائماً، فلا تحسبوا ذٰلك أمراً جديداً.
وفي الحالين كليهما؛ القديم والمعاصر، فهٰذه الزِّيارة فرصة تاريخيَّة لزيارة العتبات المقدَّسة الأمريكيَّة، واللقاءات الثُّنائيَّة الخاصة بالإعلان والإعلام، واللقاءات الثُّنائيَّة السِّريَّة التي لا تخص غير المجتمعين سرًّا. والتقاط الصُّور التَّذكاريَّة التي تظلُّ تعرض في التِّلفزيونات المحليَّة طوال فترة بقاء الرَّئيس أو الملك في السُّلطة فيما لو لن يذهب مرَّة ثانية، وأكثر الرُّؤساء لا يذهبون إلا مرة واحدة أو مرتين، إلا للضرورة، فواحدة تكفي، فهي مثل الحج عندهم، يأخذون جرعة تكفيهم طيلة بقائهم في السُّلطة
هم يعرفون تماماً أن هيئة الأمم المتَّحدة مشلولة وعاجزة ولا ترىٰ ولا تسمع ولٰكنَّهَا فقط تتكلم. ويعرفون بل يعلمون أَنَّهُم بخطاباتهم الرَّنَّانة الطَّنَّانة الصَّنَّانة يضحكون علىٰ لحىٰ شعوبهم وحسب... ويحصل المحتاج منهم علىٰ المعلوم من المعلومات، والمعلوم من غير المعلومات... ومن كان صادقاً نظيفاً غير مشبوه فإن ذهب فلا يجهل غالباً ما سبق، ولا يطمع أن يغير قناعات العالم، فقناعات الدُّول لا تتغير بخطابات الرُّؤساء علىٰ منبر الأمم المتَّحدة، وإنَّمَا يريد الاستعراض لغاية أو أُخْرَىٰ قد تكون نفيسة وقد تكون خسيسة.