قصص قصيرة
قصص قصيرة
قبلَ أن يختلفا ويتنازعا ويشتبكا ويتشَاجَرا شجارًا يَستحضران فيه الماضيَ البعيدَ إلى حاضرِهما الذي لا ينقُصُهُ حطَبٌ ليشتعلَ، قطَّب حاجبَيْه الأبيضينِ وهو يتذكَّرُ وجهَ (كريم) وعينيْه اللَّتين دمعتا فرَحًا بفوز روايتِها: (مدينة الحكايات) في الجامعةِ بالمرتبةِ الأولى حتى قرَّرَت إدارة الجامعةِ طباعتَها على حسابِها.
في ذلكَ اليومِ، شقَّ (كريم) طريقَهُ بين عشراتِ الطُّلَّاب والأساتِذَة إليها، وعانَقَها على مسرحِ الجامعةِ، شادًّا إياها إليه لدقيقةٍ أو أكثرَ، ثم طبعَ قبلةً طويلةً على جبينِها، فكادَتُ تطير من الفرَحِ وهي تمسك كفَّه ولا تتركُها إلا عندما تسلَّمَت الجائزةَ ورفعَتْها شاكرةً.
لم يشأْ (عامر) وقتها- ولم يكن قد فاتحَها بموضوعِ الزّواجِ بعدُ- أن يسألَها عن (كريم) هذا.
ولماذا يسألُ عنه فيعطيه حجمًا أكبرَ من حجمِهِ، ويضع نفسَه في مقارنَةٍ سخيفةٍ مع صاحبِ الشَّعرِ الطَّويل المربوطِ هذا، صاحبِ نظريةِ "الإبداع أهم من الأكاديميا" التي يكرس لها كلَّ نشاطاتِهِ الجامعية، فيشجعها كما يشجعُ الرِّوايةَ وصاحبتَها بهذه الحركاتِ الاستعراضيَّةِ على المسرحِ؟
لماذا يسألُ عنه، وكلُّ فتاةٍ جامعيَّة في الثّلاثينياتِ، لا بدَّ وأنها مرَّت بقصصِ حبٍّ وزمالةٍ وصداقةٍ. وقد كررَتْ أكثر من مرةٍ أمامَهُ أنَّ (كريم) من فئةِ "الأصْدقاءِ الأثيرينَ" الذينَ اكتشفَ فيما بعد أن عددَهُم- حتى هذا اليوم- "واحدٌ" فقطْ.
وخطرَ له- لولا الخوفُ من اشتعالِ حَربٍ ضَروسٍ بينهما- أن يسألَها الآنَ، بعدَ أكثر من أربعين عامًا ونيّف عنه؛ لكنَّهُ أجَّلَ السُّؤالَ وهو يتمتمُ:
تبًّا لِحَجْرِ الكورونا!
بفخرٍ استقبلَت- لأولِ مرةٍ- المحاميةُ الشَّابَّةُ التي تخرجَت حديثًا زميلتَها المحاميةَ الأربعينيّةَ التي تتدرَّج عندَها. وبعدَ أن أزاحَتْ لوحَ الخشبِ المتآكِلِ الذي يغلِقُ مدخلَ السّطَيْحَة الخلفيَّة للبناءِ المكونِ من ستَّةِ طوابقَ، والتي تصرُّ المحامية المتخرجةُ على تسميَتِها “حديقةً”، فتَحَتْ بابَ الغُرفةِ الأولى الممدودة أرضها بسجادةٍ كبيرةٍ تغطِّي كاملَ البلاطِ، وحولها صُفَّتْ طراريحُ معرَّقَةٌ خلفَها مساندُ من القَشِّ الملبَّسِ بقماشِ الطّراريحِ نفسِهِ.
وعلى امتدادِ جدارِ بابِ الغرفةِ وُضِعَتْ خزانةٌ بنّيَّةٌ كبيرةٌ وصلَتْ حتى السّقفِ. وكانَت الغرفةُ الثَّانية تشبه الأولى، وإن اختلفَ لَوْن ستائرِ نافذتيهما المطلّتينِ على “الحديقةِ”، فالأولى ستائرُها بيضاءُ ناصعةٌ طُرِّزَت بخيوطٍ DMC زرقاء، والثَّانية ستائرُها “الفوال” لونُها بيج فاتح من دونِ تطريزٍ. ولم يكنِ المطبخُ الذي بنيَ في “الحديقةِ”- ولا تتجاوز مساحتُه مترين مربَّعين- ليتَّسِع لأكثر من شخصٍ كان صديقتها التي أخرجَتْ من البرَّادِ ضيافة
“الخبيصة البيروتية”، وهي عبارة عن مهلبية النِّشاء بالماءِ والسُّكر وماء الزَّهر، ولكنْ من دونِ مكسَّراتٍ، وقدمتْها للضَّيفة التي أجَلَسَتْها على كرسيٍّ بلاستيكيٍّ أحمرَ، وجلسَت قبالتها على كرسيٍّ بلاستيكيٍّ مختلفِ الشَّكلِ واللَّونِ والحجمِ، ما بدا واضحًا أنها كراسٍ مُستعارةٌ أو مأخوذةٌ من أَماكنَ متعددَةٍ، خاصة أن الطَّاولة البلاستيكيَة الملصَقة إحدى رِجْليْها كانت بنيَّةِ اللَّونِ. وبغبطةٍ قالَت:
هنا نعيش مذ وُلدنا: أربَعُ صبايا كلُّهن تخرَّجْن أو يَكَدْنَ، وأمِّي طبعًا.
وأشارَت إلى تَنَكاتِ الحليبِ المصطفَّةِ حولَ جدرانِ السّطَيْحَةِ، والتي زرعَتْ وردًا وعطرةً، وقالَت:
وهذه مزروعاتُ أمي، تعتني بها وتحبُّها كما بناتها.
وفجأةً، دخلَ رجلٌ ثمانينيٌّ قصيرُ القامةِ، أصلَعُ الرَّأسِ، كبيرُه، قديمُ الثِّيَاب نظيفُها، فألقى تحيَّةً سريعَةً على الضَّيفةِ، وانسحبَ إلى إحدى الغرفتينِ وأغلقَ بابَها وراءَه. وبعدَه مباشرةً دخلَت سيدةٌ سبعينيَّةٌ بيضاءُ ممشوقةُ القامةِ، على وجهِها بقايا جمالٍ لافتٍ، رحَّبَت أيضًا بالضَّيفةِ، ثم اعتذرَت منها لتلحق بالرَّجل، فسارعَت إلى التّعليقِ:
إنها أمي!
فردَّدَت الضَّيفة:
جميلةٌ جدًّا.
وباعتزازٍ قالَتِ الشّابَّةُ:
كان يُضْرَب المثَل بجمالِها في الضَّيْعة. حتى إِن أبي، وكانَ من أثرى أثرياءِ القريةِ، لم يحلمْ رغمَ فقرِها أن تقبلَ بالزَّواجِ منه، ولكنها وافقَتْ. ولكنه- بكل أسف- كان عاقرًا، فخيَّرها بعد سنواتٍ بين أن تظلَّ زوجتَه أو يطلقَها. ففضَّلَت أن تكونَ أُمًّا على أنْ تكون زوجةً. وهكذا كان!
وتابَعَت بعد توقُّفِ لحظة:
صحيح أن والدي كان غنيًّا جدًّا، وزوجها الثَّاني- الّذي دخلَ قبلَ قليلٍ- يعملُ ناطورًا لهذه البنايةِ مذ غادرَ الضّيعَةَ إلى بيروتَ قبل ثلاثينَ سنةً، لكنَّها حققَّت حلمَها بالإِنجابِ.
غصَّتِ الضَّيفة بـ”الخبيصَةِ”، وفشلَتْ في فهْم حكايةِ زميلتِها، لكنَّها لم تسألْها عنْها أي سؤالٍ.
نزل من سيارتِه بسرعةٍ بشعره المجعد الأسود المنكوشِ ولحيته الطّويلةِ الكثيفةِ، وكان يحمل في يده كيسَ مشمشٍ حلوٍ، فاكهته الصّيفية المفضلة.
ومن دون أن يأبهَ للماء المنسابِ من خزّان سطح البناية منذ أكثر من سنتين مرورًا بالدّرجِ ووصولًا إلى المدخل فالشّارعِ، بسبب تعطل (موتور) الماءِ، ومن غير أن يأبه إلى أكياس التّشيبس الفارغة وأوراق البسكويت بالشُّوكولا المزروعة منذ أسبوع في المدخلِ، ومن غير أن ينتبه للجرذ الكبير الذي ما إن رآه حتى اختبأ في غرفة الكهرباء الموجودة في المدخل، صعدَ بفرحٍ إلى بيته ليستغلَّ فرصة غيابِ زوجته وأطفاله، ويدوس حوالي عشر خطواتٍ من الطّين نحو صديقِه البيانو الأبيضِ الذي اشتراهُ بسعرٍ “لَقْطَة” قُبَيْل حَجْر الكورونا، أي قبيل أن يعطي محاضراته الجامعية (On line)، وراح بسعادةٍ يعزفُ كالعادة: بيتهوفن.
على صحن الدَّرج الحديدي الأحمر الذي تظلله أشجار كثيفة معمرةٌ، ويصل حديقة البيت العلوي بحديقة السُّفلي؛ همست القطة الأم وقد لمس بطنها المليء بقططٍ على وشك الولادة في أذن ابنِها (حبَّةِ المُشْمُشِ) الذي لم يتجاوز عمره ثلاثة أشهر:
صحن الدّرج هذا موقعٌ استراتيجيٌّ مهمٌّ؛ فمنه يمكنك مراقبة باب مطبخ البيت السّفلي كما باب المطبخ العلوي. والمطبخ السُّفلي لا طعام فيه قبل أن يستيقظ مذيع الأخبار اللّيلية في حوالي السَّادسة ليعدَّ طعامًا سريعًا غالبًا ما يكون من اللُّحوم السَّريعة التّحضير استعدادًا للذَّهاب إلى عمله. أما العلويُّ، فثمة أطفال وعائلة؛ يعني: تستيقظ ربة الأسرة مع الفجر لتعد أطايب الطَّعام.
وإذ هز (حبَّةُ المُشْمُشِ) الصَّغيرُ رأسَه دليل فهمٍ، استدركَت محاولةً أن تكونَ نصائحُها أكثر واقعيةً:
على أن أطايب طعام البشرِ تختلف عن أطايب طعامِنا نحن القطط، ففيه من الأرز والبرغل والخضار ما لا يستهوينا كما تستهوينا اللُّحوم. ولكن، لا بأسَ أحيانًا من قبول ما هو موجود ريثما يأتي الأفضلُ.
وتمددت على تراب شجرة التّوت الرَّطبِ الذي أشبِعَ ماءً اللَّيلة السَّابقة، ونادت صغيرَها، فلبى النِّداء وتمدد قربها.
لحست رأسه الصَّغير، ثم همسَت:
قد أغيبُ أيامًا، لكنَّك تعرف مكاني، فأنا وإخوتُك الصّغارُ الذين ستتفتح عيونهم على الحياةِ اليوم أو غدًا على مرمى حجرٍ من هنا؛ أي في حديقة القصر الأبيضِ المجاور، حيث الهر الأسود الكبير الرأس، والهرة الوقحة المرقَّطة التي لا تكف عن المواء، وحيث جدّنا الأكبرُ المُشمُشيُّ الذي تشبهه لونًا وجمالًا وهيبةً، وحيث قفصُ السَّلاحفِ.
وعادت فلحسَت رأسه الصَّغير مغدقةً عليه كثيرًا من حنان المحِبّ الذي قررَ الفِراقَ دائمًا كانَ أو مؤقتًا:
على أنه، يا حبيبي، عليك أن تتذكر أنهم- فوق وتحت، وفي أصغر الحدائق وأكبرها- يستقبلوننا لأننا هررة برّية، قوية، قادرة على اصطيادِ أصغرِ الحشرات وصولًا إلى القوارضِ، إن لم أقل إلى شِرارِ الحيَّاتِ، تلك الرّقشاء الدّقيقة الأعناق، القاتلة السُّمِّ.
وقلقَ الصّغيرُ وانتابتْهُ رعشةٌ وقتَ ذكرَتِ الأمُّ النّوعَ الأخيرَ من الصّيدِ، فطمأنته:
طبعًا ما زلتَ صغيرًا على صيد الرّقشاءِ، ولكنك لست صغيرًا على صيد سِحليَّةٍ من هنا ودودةٍ من هناك، وصُرصورٍ من هنالك، كي يعرف سكان البيتين أهميتَكَ، فلا تتعرضَ لاستخفافٍ أو إهانةٍ أو طردٍ.
وابتسم الصّغير مستعيدًا بعضَ معنوياتِهِ، وإن حاولَ أن يدلي بوجهة نظره التي فهمتها أمُّه قبل أن يقولها، فابتسمَتْ بحنان:
أعرف أنَّك تحب عرائس الجبن واللَّبن واللُّحوم المطبوخة، ويسيلُ لعابُكَ أمام طعامِ القططِ الجاهز الذي يخُصُّك المذيعُ به أحيانًا، وأعرف أن أهمية طعامِهِم تكمن في كونه لا يحتاج إلى انتظارٍ وقفزٍ وعِضٍّ وإنشابِ مخالبَ، ولكننا- معشرَ الهررةِ- نحبُّ الصّيدَ ونعتبرُه رياضةً جسديةً وروحيةً.
وابتسم بفخرٍ وهو يفكر بصيدٍ يجلِبه قريبًا لأحد أفرادِ سكان البيتينِ، ففرحت لالتقاطه الفكرة، وقبَّلته هامسةً بآخر نصيحةٍ من نصائحِ ما قبل الولادة:
وعلى كل حالٍ، يا حبيبي يا (حبَّةَ المُشْمُشِ)، ولكي لا يستخفّوا يومًا بقدراتِكَ؛ لا تقترب من أحدِهم كما الهررةُ الأليفةُ، بل انظرْ إليهم دائمًا- حتى لو نادوك ليقدموا لك طعامًا شهيًّا- نظرة فيها كثير من الغضبِ والشَّكّ والرَّيْب، وذكّرهم بأنك هرّ برّي شرسٌ بكلمتين اثنتين لا ثالثَ لهما: مياوْ، بخْ!
(ماءُ زَهْرٍ، شُغْلُ بيتٍ)
سألَتِ السّيدةُ الصَّيدلانيَّةَ في الضَّيعةِ عن قطرةٍ عينيَّةٍ، وحبوبِ مغنيزيوم، وحبوبٍ للحساسيَّةِ؛ فكان جوابُها- كما اعتيد سماعُه مذ اختفى الدَّواء في لبنانَ، النَّفْيَ، فالنَّفيَ، فالنّفْيَ!
وقبل أن تغادرَ السّيّدة، أشارَتِ الصّيدلانيةُ إلى رفٍّ على يمينها اصطفَّت عليه عشراتُ زجاجاتِ ماء الزّهرِ، وابتسمَتْ ابتسامةً واسعةً:
-"شِغِلْ بَيْت، بيجننوا، جرِّبي واحدة"!
وتمَّتِ الصَّفَقَةُ، وبيعَتْ زجاجتانِ. ولولا ترَدُّدُ "الزّبونةِ" وخجلُها، لسألَتِ "البائعةَ" إن كانَت تبيع رُبَّ الرُّمّانِ أو المكدوسَ أو المُرَبَّيات.
23\8\2021
في الوقت الذي كان الشَّقيقان الصَّغيران ينتحبان راكِضَيْنِ باتِّجاه بوابةِ حديقةِ منزلِهما القرويّ، يريدان إخبارَ والدِهما أنهما وجدا- بعد ساعَتَيّ بحثٍ قرب شجرةِ السَّرْو المعمِّرة في فناءِ حديقةِ بيتِ الجيرانِ المهجورِ المُلاصِق لبيتهما جثةَ القطِّ العجوزِ الأشقرِ بعد اختفائِه لثلاثة أيامٍ- متوقِّعَيْنِ أنه سينتحبُ معهما لشدَّةِ تعلُّقِهِ به، كان رجالُ الشّرطةِ يسدّون عليهما منافذَ البيتِ، ليمنعوهما من الاقترابِ مِن جثةِ والدِهما المُكَوَّمةِ على الأرض بفعلِ طلقاتٍ ناريَّة غاضبةٍ أرداهُ فيها شقيقُه الأصْغَر قبل ربع ساعةٍ بسببِ خلافٍ على إرثٍ.
[الدامور 2\11\2021]
انتساب اختياريّ
وقفَت مديرةُ المدرسة الثَّانوية في الباحةِ تبتسمُ، وقلَّما تفعَلُ، مخاطبةً جموع الطَّالبات والطُّلَّاب الجُدُدَ وقد اصطفُّوا استعدادًا لسماعِ كلمةٍ مهمةٍ قُبَيْلَ الالتحاق بصفوفِهم:
-أرحِّب أولًا بالطَّالبات والطُّلاب الجُدُد، وأتمنى منهم توقيعَ أوراقِ الانْتِساب إلى الحزب الذي سيعقِد أولَ اجتماعاتِهِ بدءًا من الأُسبوع الثَّاني من الدَّوام المدرسيِّ.
وصمتَتْ هُنَيْهَة، ثم أَعادَتْ رسْمَ ابتسامتها وهي تركِّز نظراتِها على الوجوه الجديدة التي فاقَتِ المئة، وتابعَت:
-الانتسابُ اختياريٌّ طبعًا؛ تنفيذًا لأوَّل مبادئ الحزْب، وهو: الدِّيمقراطية؛ لذا أتمنى ممَّن يودُّ التَّسجيلَ المرور إلى مكتب الحزب الملاصِقِ للإدارة وتسجيل اسْمِه اليوم وغدًا.
والتقطَتْ صبيَّتَان جديدتان كلمَتَيّ: "اختياريّ"، و"الدِّيمقراطية"، وأضافتا إليهما بعد أن راجعتا قول المديرةِ كلمة "يَوَدُّ" المفْعَمَةَ بالتَّمني اللّطيف والحُبِّ، فلم تمرَّا خلال اليومين المُحَدَّدَيْنِ إلى مكتب الحزبِ.
ولم تتوقعا أن تُطْلَبا إلى مكتب المديرة في اليوم الثَّالثِ والتي طلبَتْ إليهما الجلوسَ على الكرسيين قُبَالَتَها وقد ارْتَدَتْ ابتسامَةً أكثر تقلُّصًا من سابقَتِها:
-انتما صديقتان؟
-نعم!
قالتا بصوتٍ واحدٍ من غير أن تشرَحا؛ فالمديرةُ ابنةُ الضَّيْعةِ نفسِها، وتعرفُ أنَّ الفتاتَينِ ابنتا بيتَين مُلاصِقَين، تمامًا كما تعرف عدد زَهْرِ أحواضِ حدائقِ بيوتِ القرية وثمارِ أشجارها. والتفتَتْ فجأة إلى إحداهما:
-أنتِ، لماذا لم تنتسبي؟
-لأن الاجتماعَ بعد دوام آخِرِ يومٍ من كلِّ أُسبوع لا يناسبني، إذ أحتاج إلى تعويض ساعات النّومِ التي خسرتُها بسببِ الدَّوامِ، و...
وقاطَعَتْها المديرةُ بحزم:
-كفى! هذا كلام لا يمتُّ إلى التَّهذيب بِصِلَة. أقصد... إلى الثَّقافة والعِلْم؛ فالمحاضرات المُلْقَاة عليكم تزيد ثقافَتَكُم وتنمِّي شعورَكم الوطنيَّ والقوميَّ.
ولم تنتظرْ ردَّ الفتاةِ التي أَطرقَتْ عاضَّةً شفتَها السُّفلى بأسنانِها، بل نظرَتْ إلى الثَّانية:
-وحضرتك؟
أرادَت الفتاةُ أن تبدوَ أكثرَ "تهذيبًا" وتمسكًا بـ"العلم والثَّقافة والوطنيَّة والقوميَّة؛ فقالت:
-أنا لم أُسجِّل اسمي تطبيقًا لمبدإ الدِّيمقراطيَّة الذي...
ووقفَتِ المديرةُ وقد استبدلَتْ بقيةَ ابتسامَتِها بنظراتٍ ناريَّة كادَت تحرُقُها:
-اخرسي، وبلا فلسفة!
ورمَتْ إليهما ورقَتَيّ طَلَبَيّ انتسابٍ، أتبعَتْهما بقولها:
-وقِّعا آخِرَ الورقةِ، ولا تنسيا موعدَ الاجتماعِ الأولِ آخِرَ الأسبوعِ القادمِ.
ثم نظَرَت إليهما بعد أن وقَّعَتَا، وأمرَتْهما بحزمٍ:
-انصراف!
[الدامور: 30\9\2021]
شرَّح قضايا العالم الكبرى والصُّغرى، وأعطى آراءَه الدَّاعمةَ أو المعاديةَ إزاء كل خَبَر مرَّ به في السُّوشال ميديا، وغضبَ، وانحازَ، وشتمَ، وهلَّل، وهاتفَ أصدقاءه داعيًا إياهم إلى متابعة مواقفه. وعندما سأله صغيرُه، بعد أن وقف طويلًا أمام البراد الفارغِ عما سيأكل، تذكَّر أن ليس في جيبِهِ ثمن ربطة خُبْز.
طبيبُ الكوابيسِ الماكرَةِ
مذ قررَ أن يُخضِعَ الحكومةَ التي ما فتئت ترجو مواطنيها- وهي لا تفعل هذا عادة- إلى شروطِه هو في اختيار نوع الطُّعم وزمانه ومكانه وتوقيته، صباحًا أو بعد القيلولة أو في السّهرة، وهو يتلقى عرضًا إثرَ عرضٍ، فيرفع كتفيه بدلالٍ، ويقرر أن ينتظرَ بعدُ، خاصة وأن موسم كورونا الذي تطاولَ فسرقَ من النّاس صحتَهم وأوراحهم لم يجرؤ أن يقترب منه، فما زال- رغم تجاوزه الثّمانين- يتمتع بصحة جيدة، ويجالسُ أصدقاءه في حديقةِ بيتِه المشرَّعةِ البوّابةِ ليلَ نهار، فيلعب معهم الورقَ أو طاولة الزّهر، ويضحك ضحكةً شرّيرة من تحت كَمامته إن خسر اللّعبةَ أحدُهم وحرد مغادِرًا، تاركًا له منصبَ الفائزِ الأول الذي مازال يكرّسه منصبُه كـ "مدير أكبر مدرسةٍ في القرية"، كما يحبُّ أن يعرّفَ بنفسِه، متعمِّدًا الإطاحة بصفتِيها الرّئيستين: أنها مدرسة ابتدائية- إعدادية، ووحيدة في القرية.
لكنه، وبعد أن تلقى كل أصدقائه طعومَهم، وأزالوا كِماماتهِم، وتفاخروا بما فعلوا أمام الجموع، طلب من حفيدِه- ممتعِضًا- أن يسجل له اسمه على المنصّة.
وبعد أسبوعين اثنين من إرسال "الحكومة" رسالة "شخصية" له ترجوه فيها أن يختار وقتًا يناسبه، اختارَه عند التَّاسعة صباحًا؛ إذ لا داعي أن يزعجَ نفسه بالذَّهاب إلى المستشفى منذ الثَّامنة، خاصة وأنه يتوقع أن طوابيرَ انتظار تلقّي الطُّعمِ قد تقلَّصَتْ في كل المستشفياتِ بعد أن نال معظم أفراد الشّعب العظيم شرفَ تلقّيه، على عكسِ طوابيرِ التّنقيبِ عن البنزينِ وزيتِ القليِ والسّلة المدعومةِ والبُنِّ والخبزِ.
ورغم أن حفيدَهُ وباقي أفراد العائلة صفقوا له كما يُصفَّقُ لتلميذ مجتهد، لم يستطع أن يبتسم، ولم تلمع عيناه الخبيثتان؛ بل لزم الصَّمت، وغرق في نوم طويل طوال بعض الظّهر.
وتقلصت بطةُ ساقِه اليمنى، فكزَّ أسنانَهُ، وتأوَّه إلى أن فُكَّ التّقلّصُ. ولكن، وما إن مضت دقائقُ، حتى تقلَّصت بطة ساقِهِ اليُسرى، فكزَّ أسنانَه من جديد، وتأوَّه إلى أن فُكَّ التّقلّصُ الثّاني.
ورغم الوجع الشّديدِ، لم يستيقظ؛ بل تابع نومه الذي تخللَتْهُ كوابيسُ تدورُ كلُّها حول تشخيصِ طبيبِ الكوابيسِ- بشعرِهِ الأزرقِ المنكوشِ وعينيه المتناهيتين في الصّغَرِ وكتفيه العريضتينِ- حالةَ تقلُّصِ بطَّتي ساقيْهِ بأنها بسببِ تلقّيهِ الطُّعْم من دونِ أن يأخذ "ثلاثينَ" حبة أسبرين يوميًّا قبل النّومِ دَرْءًا لهجومِ التَّجلّط.
ولكن، ما حدثَ قد حدثَ، كما قال له الطّبيبُ، "أكانَ سببه الأسبرين، أو مخططاتٍ تُطبَخُ في مطابخَ سرّيَّةٍ يشيطُ بعضُها فتنبئُ رائحة شِياطِهِ عن شيءٍ مُريبٍ ما".
-المهم...
أردفَ طبيبُ الكوابيسِ مُقْنِعًا إياهُ بأن عليه أن يتعايشَ والتّنقلَ على كرسيِّ الإعاقةِ الجسديَّةِ.
ثم تنهد رابتًا كتفَه، قائلًا بصوتٍ ممعِنٍ في الحنانِ:
-وضعُكَ أفضلُ من وضعِ غيرِكَ على كل حال؛ على الأقل، يمكنك التَّحركُ، بينما كل الأشجار في حديقتكَ واقفةٌ ببلاهة مكانها منذ عشراتِ السّنينِ رغم اعتراضِها المتواصلِ سواء من خلال التّعري أو محاولة البحث من خلال مدّ جذورها تحت الأرض بحثًا عن منفَذٍ.
والتفتَ إليه وقد ترافقَ صوتُهُ بإيقاعٍ موسيقيٍّ أخّاذٍ:
-هذا إذا لم نُشِر إلى الشَّبابيكِ والأبوابِ والجدرانِ؛ فكلُّها واقفة، لا تستطيع حتى أخذ قيلولة على أسرّتها اللّينةِ النّاعمةِ المهجورة. كما أنها لا تستطيع إلقاء رؤوسِها على وسائدِها المحشوة بالرّيشِ الوثير.
ثم همسَ:
-على كل حال، لقد ألغَتِ المحكمة العليا في الولايات المتحدة الصهيو- أمريكية التّطعيم الشّاملَ معلنةً عن فضيحةٍ شنيعةٍ مفادها أن الطُّعمَ يعيد برمجةَ حمض المُتَلَقّي النّووي الطّبيعي.
فدهش:
-يعني؟
-يعني، لا علاقةَ لهذا الطّعم باللَّقاحات التّقليدية.
-يعني؟
-يعني أن اللَّقاح سلاحٌ جينيٌّ خُطِّطَ من خلاله لقتل أبناء الأرض، ومَنْ ينجُ يصبحْ كائنًا معدَّلًا وراثيًّا!
-يعني؟
-عليكَ أن تتصالحَ وعواقبَ تلقّي اللَّقاحِ، إذ لا يمكنني أنا أو أي معالِجٍ آخَر أن يساعدَكَ؛ لأن الضّررَ النّاجمَ عن هذا الطُّعم لا رجعةَ فيه وراثيًّا.
-وماذا عن طبيبِ الكوابيسِ الأخضرِ الشّعر ذي العينينِ الجرئيتينِ الواقفِ هناكَ خلفَ المستنقعِ؟ ألا يستطيعُ إلغاءَ تعديلي وراثيًّا؟
وغضبَ طبيبُ الكوابيسِ الأزرقِ لمجردِ أن قورِنَتْ مهارتُهُ بمهارةِ زميلٍ له، فعَلَتْ نبرةُ صوتِهِ، وانسحبَ منها كل أثرٍ من موسيقا، بل مالَتْ إلى لهجةٍ أستاذيَّةٍ فوقيَّةٍ لم تخلُ من تهديدٍ مبطَّنٍ:
-يا حبيبي، يا حبيبي، الأمرُ أكبرُ بكثير من قدرةِ أطباءِ الكوابيسِ الملونين. ولن أخفي عليكَ أن تسريبًا خطيرًا وصلَني شخصيًّا من أحد أهمِّ أعضاء الدّول المؤثرة في المحور الاقتصادي العالمي أن اتّفاقًا بالتّخلص من أكثر من نصف البشرية قد تم من خلال التّطعيمِ، خاصة وأن فايروس كورونا قد فشلَ من بلوغِ هذا الهدفِ.
-وما علاقتي أنا بالمحور الاقتصادي العالمي؟
-علاقتُكَ به توثقت مذ أخذتَ الطُّعْمَ.
-ولكنني لم أُردْ أن آخذَهُ.
-مَن أرادَ إذن؟
-هُم.
-مَن؟
-كلُّهُم.
-لا تُعَمِّمْ!
-أهل الضّيعة.
-هؤلاء خِرافٌ.
-وأنا؟
-أنتَ خروفٌ أيضًا، ولو لم تكن، ما أخذتَ اللَّقاحَ ثم تهرّبْتَ من مسؤولية فعلِكَ.
-أنا لم أسجل شخصيًّا اسمي على المنصة.
-مَن فعلَ؟
-هو.
-مَن؟
-حفيدي.
-يا سلام! أنتَ خروفُ حفيدِكَ إذن!
-لا!
-بلى!
وفتحَ عينيه لاهثًا، ثم قفز فجأةً من سريره مذعورًا والعرق يتصببُ من جبينِهِ، فتلمَّسَ بطّتي ساقيهِ، ثم حركَ برشاقةٍ ساقيْهِ: "فوقْ، تحتْ، فوقْ، تحتْ"، عشرات المرات، غير مهتمٍّ بما قد يصدرُ عن جارتِهِ التي يدعوها بـ"دجاجة الأرض" من صراخٍ ولو شقَّ عنانَ السّماءِ طالبًا منه الكفَّ عن القفز كالقرودِ فوق سطحِ غرفتِها، لاعنةً للمرةِ المليون اختيارَه اللّعين الذي ثبَّتَ منذ خمسينَ سنةً غرفته فوق غرفتِها.
وللتَّأكد من حصول ما حصَلَ أو عدمِ حصولِهِ، فتحَ أبوابَ خزانته المغلقَةِ باحثًا عن كرسيِّ المُقْعَدينَ، فلم يجده، ولم يجد طبيبَ الكوابيسِ الأزرق في كل أدراجِ الخزانةِ وبينَ الثّيابِ المعلّقةِ. ولما لم يجدهما، نادى حفيدَه بأعلى صوتِه:
- ألغِ لي موعدَ الطّعمِ!
انتهت
21\6\2021
الدامور-لبنان
فتحَ عينيْه على خبَرٍ في "تويتر"؛ فنهضَ من سريرِه كالمجنونِ وهو يسحبُ من تحتِ اللِّحافِ مِعْطفَ الجوخِ الإنكليزي الموروثِ عن أبيهِ عن جدِّهِ، والذي اختبرَ قدرتَه السِّحريَّةَ على بثِّ الدِّفءِ في سريرِه بعد وفاةِ زوجتِهِ منذ عشرِ سنواتٍ.
فتحَ زرَّ جيبِه الدَّاخليِّ من جهةِ صدرِهِ، واستلَّ بطاقةَ هويتِهِ التي لا يغادرُ بيتَهُ- مذ بدأتِ الجائحةُ- من دونِها، وراح يدقِّقُ في تاريخِ مولدِه.
ثم ما لبثَ أن شعرَ بدفقةٍ من البهجةِ، تلاها شعورٌ غمرَ جسدَهُ وعقلَه ومشاعرَه بحيويةِ الشَّبابِ إذ تأكدَ أن سنةً وثلاثةَ أشهرٍ تفصِلُه عن سنِّ السّتينَ الذي قررَتِ الدَّولةُ اللّبنانيةُ بدءًا من الأسبوعِ الأولِ من شهرِ شُباطَ منعَ بالغيها من الخروجِ والتَّنقلِ مشيًا على الأقدامِ، أو قيادةَ سياراتهم، وحتى الذَّهاب إلى أعمالِهم خشيةً على أجسادِهم مِن اجتياحِ الكورونا.
وطفحَتْ هيئتُه كلُّها بالغبطةِ وهو يختارُ قميصًا زهريَّ اللّونِ من خزانتِهِ وفوقَهُ لبسَ كنزةً بيضاءَ قطنيَّةً يلبسها عادةً في الرّبيعِ، وفوقَها- كالعادة- لبسَ معطفَه نفسَه بعدَ أن مشطَ شعرَهُ الفضّيَّ الكثيفَ النّاعمَ وتعطّرَ، وانطلقَ مشيًا على قدميهِ من أسفلِ القريةِ حيث بيتُه إلى قمَّتِها صعودًا، متَّجهًا إلى "منْجَرةِ" والدهِ التي حوَّلها- مع بداياتِ الجائحةِ إلى بقاليةٍ هرَبًا بها من الإقفالاتِ المتكررةِ الطَّويلة التي طالَتْ كثيرًا من المصالحِ الاقتصاديةِ، ومنها المؤسسةُ التي يعمل فيها مصمِّمَ إعلاناتٍ.
ولأولِ مرةٍ لم يشعرْ بحاجتِهِ إلى رفعِ قَبّةِ معطفِهِ ليغطي عنقَهُ وأنفَه وفمَه مستعيضًا عن الكِمامةِ به، بل اكتفى بأنْ تلمَّسَ الكِمامةَ في جيبِ معطفِهِ ليستلَّها ويلبسَها إن صودفَ مرورُ أحدُ أعضاءِ البلديةِ بهِ، وتذكَّرَ أنه يجب أن يمرَّ في طريقِ العودةِ إلى خياطِ الضَّيْعةِ ليخيطَ الثُّقب الذي ابتلعَ ثلاثَ كماماتٍ حتى الآن وسحبَها إلى أسفلِ المعطفِ بين بِطانتِهِ وظِهارتِهِ.
لكنَّه عادَ فاستخدمَ علمَ الرّياضياتِ، وحسبَ فوقَ عمرِهِ ثلاثينَ سنةً- كون الخياط من عمرِ والدِهِ المرحومِ بالضّبطِ- فقاربَ الرّقمُ التّسعينَ، وارتجفَ قلبُهُ خوفًا، ثم همسَ لنفسِهِ: "يجب أن يكون هناكَ قرارٌ دائمٌ وحازمٌ وجازمٌ تصدرهُ الدَّولةُ ويمنَعُ بموجبِهِ أبناءُ التّسعين من مزاولةِ أعمالِهمِ منعًا باتًّا".
وخطرَ ببالِه وهو يخلعُ معطفَهُ ويحملُه على ذراعِهِ نافخًا صدرَهُ، مستعرِضًا ألوانَ ثيابِهِ الزّاهيةَ أن يغني وهو يتأملُ الشّمسَ الهاربةَ من أيامِ الصّيفِ: "طلعِتْ يا محلا نورها شمس الشّموسِهْ"؛ فغنى، وشعرَ شعورًا صادقًا أن صوتَه أحلى من صَوْتِ فيروز. وعزا ذلك إلى فَرْقِ العُمرِ؛ فأصواتُ "الشَّبابِ" أكثرُ قدرةً على الامتدادِ، وحناجرُهم أكثر صفاءً.
وطوالَ النَّهارِ، كانَ يبيعُ زبائنَه من أهلِ القريةِ راسمًا على شفتيْه- على غيرِ عادتِه- ابتسامةً واسعةً، واثقةً، حيويةً، ويهمِسُ في أذنِ كلِّ مَن يشكُّ في تجاوزِه السِّتين أنَّ حاجزًا طيارًا قد يولَدُ في أيةِ لحظةٍ، في أيِّ زاروبٍ، وقربَ أيِّ دكانٍ. ويسحبُ بعدَ تهديدِهِ المُبَطَّنِ من جيبِ معطفِه الدّاخليِّ من جهةِ صدرِهِ بطاقةَ هويتِه يلوِّحُ بها، متمنيًا أن يسحبَها أحدُهم ويدققَ بالأرقامِ، ثم يهمِسُ بخبثٍ: "وجودُ الهويةِ ضروريٌّ دائمًا، ليسَ فقط لأصحابِ المصالحِ مثلي، بل ضروريٌّ أكثرَ هذه الأيامِ بالذّاتِ، فالحكومةُ تريدُ مصلحةَ كبارِ السّنِّ!".
ويتأكدُ مِن هرولةِ مَن يهرولُ أنَّه تجاوزَ السِّتين، فيضحك في سرِّهِ ويكتبُ على الصَّفحةِ الأخيرةِ من دفترِ الدّكانِ اسْمَ المهروِلِ، وإنْ صادفَ صعوبةً في تسجيلِ اسمِ أية سيدةٍ، فجميعهنَّ واثقاتٌ من أعمارِهنَّ، مبتسماتٌ بخبثٍ أكبر من خبثِهِ، رغم أنه يعرفُ أولادهنَّ الذين تجاوزَتْ أعمارُهم الأربعينَ، ويعرفُ اثنتينِ كانتا في السّنةِ الثّالثةِ في الجامعةِ عندما كانَ في السَّنةِ الأولى، بينما ثالثةٌ منهنَّ كانَتْ قد فتحَتْ عيادَتَها المجاورةَ لدكانِهِ عندما كانَ في السّنةِ الثّانيةِ.
وعندما حلَّ المساءُ، أغلقَ الدّكانَ وعادَ فحملَ معطَفَه على ذراعِهِ كأنه يقدِّمُ عرضَ أزياءٍ رغمَ أن نسمةً باردةً لفحَتْ وجنتيْهِ، وعادَ نازلًا نحو بيتِهِ، مغنيًا الأغنيةَ ذاتَها حتى بعد أن وصلَ إلى بيتِهِ واستحمَّ ولبسَ ثيابَ نومِهِ وتمددَ على سريرِه العريضِ باحثًا عن برنامجٍ سياسيٍّ- صحِّي في شاشِة تلفازِه المعلَّقِ على الجدارِ قبالةَ سريرِهِ، بعدَ أن عادَ فوضعَ معطفهَ كعادتِهِ كل مساءٍ تحتَ لحافِه متذكرًا بابتسامةٍ واسعةٍ هرولةَ الزَّبائنِ، ثم رفعَ فروَ معطفِهِ فغطى أنفَه قائلًا بينه وبين نفسِهِ: "حتى اليومِ كنتُ ضدَّ كلِّ ما تتخذُه الحكومةُ من قراراتٍ. لكنني اليومَ أعذِرُها، فالعجائزُ منتشرونَ في كل مكانٍ، ويتجاوزون القانونَ، وحصيلةُ يومٍ واحدٍ في دفترِ دكاني وحدِه أكثرُ من دزينةِ مُخالِفٍ، هذا عدا المُخالِفاتِ!".
حِرباء وتُفَّاحة ومِرْقاق
(حِرباء وتفاحة ومِرْقاق)
قصة قصيرة، بقلم: د. إيمان بقاعي
28\12\2021
انطلق طلاب صفِّ الأول متوسط من صفوفِهم الكثيرة كبركان قذف حممه. جموع بشرية تُعدُّ بالمئات وأصوات تُطلِقُ هديرًا كهدير الطّائرات.
مشت الأمُّ المُستدعاةُ يلاصق كتفُها الجدارَ، تفتِّش بنظراتها عن لوحة النِّظَارة، ولم تنجُ من تعليقات صبيانية وأسئلة عما تريد أو عمَّن تريد لم تجبْ عن واحد منها.
تذكرت هروبها من تدريس أحد صفوف الصّبية في المرحلة الإعدادية السّنة الماضية بعد شهر واحد قضَتْه في محاولة ضَبْط صفٍّ فاشلة، نجَتْ منها كمَن ينجو بنفسه من جَهَنَّم وسوء المصير.
والآن، وفي هذه اللّحظات بالذّات، تعود فتشكر الله من جديد- وكما في كلّ مرة تتذكر فيها "حادث التَّدريس"- على نجاتها.
-أريد، من فضلكِ، مقابلة معلمة الفرنسي من أجل ابني.
قالت هذا وهي واقفة أمام النَّاظرة ذات الشَّعْر الأشقر النَّاعم القصير، والجالسة أمام مدفأة المازوت تلفّ ساقًا فوق ساق، وتضع راحتيها مفتوحتين تكادان تلاصقان حديد المدفأة رغم جوَّ الغرفة خانق.
تأملت النَّاظرة الأربعينية السَّيدة بنظرة شاملة متفحصة سريعة، ثم سألت:
-أنتِ أم الطَّالب...
-نعم.
-ابنكِ مهذب، ولكن لديه استعداد لأنْ يكون غير مهذب.
قالت الأم:
-مثلما كل الصّبيان في مثل عمره.
-معلمة الفرنسي تشكو منه وتقول عنه "إنَّه ثرثار".
-نعم! وقد طلبَتْ منه أن يكتب قِصاصًا درس الفرنسي مائة مرة ولم يكن لديه الوقت الكافي بسبب امتحان التَّاريخ اليوم.
قالت الأم هذا، وسكتت عن السّبب الثّاني، وهو اجتياح رفاقه البيتَ مساء؛ لأنها تؤمن أن جماعة الأتراب تساعد المراهق على النّمو الاجتماعي وتهيئ له الجو الملائم ليتدرب على الحوار الاجتماعي، ولينمي علاقاته الاجتماعية ومهاراته كما يقول علماء التّربية النّفس الّذين ما زالت تحتفظ بكتب الجامعة على أرفف مكتباتها وترجع إليها كلما صادفتها مشكلة تربوية.
ثم عادت لتخاطب نفسها:
"ليتدرب على الحوار الاجتماعي، لا على الثَّرثرة ... على كل حال، يجب أن أتلمّس المشكلة من كلّ وجوهها".
النَّاظرة النّحيلةُ ذات الشَّعْر القصير الأشقر والمتدثّرة بمعطف قديم بنيّ من الفرو الاصطناعي، قدَّمت للسَّيدة كرسيًّا:
-تفضلي اجلسي!
وألحّت، داعمةً إلحاحَها بمنطق لا يُرفَض:
-خرج الطّلَّاب في هذه اللّحظة إلى الباحة، ومعلمة الفرنسي تأتي بعد الفرصة، وحين تصل سوف أستدعيها. تفضلي بالجلوس، فأنا أصْنع القهوة، وقد تكون قهوة اليوم آخر قهوة نشربها قبل رمضان الآتي غدًا كما يتوقعون.
جلسَت الأم شاكرة لطف الأستاذة، ناظرة إلى ساعتها الَّتي يمر وقتها سارقًا أثمن اللّحظات المقتطعة من تبييض محاضرتها الَّتي ستلقيها مساء في المجمع النّسائي الخاص بأهل قريتِها، والَّتي تتحدث فيها عن كيفية تطوير المجتمع القروي النّسائي، وقد اختارت موضوعًا مهمًّا عن: (كيف نتخلص من الشّعوذة).
وقطع أفكارَها صوت النَّاظرة تحرِّك بالملعقة ذات اليد الطَّويلة البن في الرّكوة وتعلن:
-الأولاد في هذا السِّن متعِبون!
كان الوقت بحاجة إلى ملء بحديث ما ريثما تأتي معلمة الفرنسي. والنَّاظرة- كما يبدو- اجتماعية وطيبة.
وضعت الأم حقيبةَ يدِها على كرسيٍّ مجاور، وعلَّقت:
-للزِّيادة السَّريعة في نمو الأولاد في هذا السِّن تأثير كبير في سلوك الأولاد اجتماعيًّا وعقليًّا ومدرسيًّا أيضًا.
-صحيح!
-طبعًا أنا أقدّر جدًّا شعور الأولاد بذاتهم وحساسيتهم لها وسرعة تقلبهم الانفعالي النَّاتج عن التَّغيرات البيولوجية المرتبطة بالنّضج الجنسي، أو إلى الخلْط الّذي يتعرض له المراهق فيما يتعلق بهويته، هل هو طفل أم راشد...
-صحيح!
-وأعتقد أن الأساتذة يعاملون الأولاد كراشدين.
-صحيح!
وحرّكَت القهوة، ثم نظرت إلى الأم الَّتي تابعت:
-أنا، في البيت، أقدّر أن ابني يشعر أحيانًا بنقص في الثِّقة بنفسه ناتج عن أننا، كأسرة، نتوقع منه القيام ببعض المسؤوليات الَّتي لا تتناسب وقدراتِه ومستوى نموِّه، كوننا لم نعد ننظر إليه كطفل كما في السَّابق. وهذا ما يجعله، كما بقية مَن في عمره طبعًا، يلجأ إلى إخفاء هذا القُصور أو النَّقص إلى الصَّخب والصِّياح، وهي مرحلة مؤقَّتة لها حلولها.
وبنظرةٍ فاحصة سريعة، خمّنَت النَّاظرة أنَّها أمام متخصصة في علم النّفس أو علم الاجتماع، أو... لكنَّها لم تشأ أن تدخل في متاهات هذا العلم الّذي لا تعرف عنه إلّا اسمه، فعلَّقت:
-صحيح! تفضلي اشربي القهوة.
وشربت الأم الرَّشفة الأولى:
-على كل حال، يا أستاذة، يمكننا أن نحتوي أولادنا إذا قرأنا اتِّجاهات نموِّهم عند علماء متخصصين كأريكسون وبياجيه وبرونر وغيرهم.
-صحيح! هل تريدين سكرًا؟
-لا؛ إذ أرى أنَّ القهوة تفقِد نكهتها المميَّزة عندما نضيف إليها السُّكّر.
واشتعل الاهتمام في عيني النَّاظرة فجأة:
-يبدو أنَّك تشربين الكثير منها.
-نعم ... نعم … إنَّها تعني لي الصَّحْو و...
-وماذا عن التَّبصير؟
سألَت النَّاظرة بصوت أشبه بمواء قطة، فابتلعَت الأم ما في حلقها من قهوة ساخنة سعَلَت في إثْرِها:
-التَّبصير؟
-يبدو أنَّك تبصّرين بشكل جيد.
-أنا؟
ضحكَت الأم وهي تحاول أن تجد في شكلِها شيئًا يدل على أنَّها تمارس التَّبصير، وفسَّرت النَّاظرة الضّحكة وهي تشربُ بقية فِنْجانها بسرعة وتقلِبه على طرف الصَّحْن:
-بلى! بلى!
-يا أستاذة، يا أستاذة، أنا..
قاطعتها النَّاظرة:
-معنا عشر دقائق.
وقدَّمَت إليها الفِنْجان. أرادت السَّيدة أن ... آه ... لا ... لا مجال للاعتراض؛ لذا
قربَت الفِنْجان إلى عينيها.
وبدَتْ أشبه بطفل طُلِب منه أن يقرأ صفحة كاملة وهو لا يعرف حرفًا واحدًا من الأبجدية.
"كيف تُقرأُ الفَنَاجين يا تُرى؟
لو يدخل أحد الأساتذة!
لو تبكّر معلمة الفرنسي في القدوم!
تبييض المحاضرة مؤجَّلٌ، وأنا هنا أبصِّر، أقرأُ الفِنْجان، وأصبِحُ قارئة فِنْجان".
تأمَّلَت الخطوط السَّوداء والبَيْضاء، والفُسُحات السَّوداء والبَيْضاء، وزفرَتْ:
"يجب أن آخذَ وقتي، فإن انتهيْتُ بسرعة، ربما مدَّتْ لي كفّها فأصبح قارئة كفٍّ! يا إلهي! ما أجملَ أن أصبحَ قارئة فِنْجان وقارئةَ كَفٍّ"!
وغزاها الرّعب:
"وماذا لو دخل أحدٌ ما إلى الغرفة ورآني حاملة فِنْجان القهوة أقرؤه؟".
وسمعَتْ بالفعلِ أصوات أقدام تقترب، فسارعَتْ إلى وضع الفِنْجان على الطّاولة لئلَّا تُمسَك بالجرم المشهود. لكنّ وقْعَ الأقدامِ ابتعدَ، فحملت الفِنْجان مدعّمًا بنظرة استجْداء منتظِرة.
عبثًا حاولَت القراءة.
كأنَّها تقف أمام لغة سنسكريتية أو كتابة مسجودية أو هيروغليفية أو فينيقية قديمة.
"كيف تُقْرأ الفَنَاجين؟"
وتذكرَت فجأةً محاضرَتها اليوم، فلمعَت في ذهنها فكرة، واستدعت الكتب الَّتي قرأتها مؤخرًا من أجل أن تدعم محاضرتَها، فإذا بفِقَر وجُمَلٍ تتراكضُ إليها لإنقاذِها. آه!
نظرَت داخل الفِنْجان معتمدة على ذاكرتها الَّتي تشبه جهاز كومبيوتر متطور والَّتي لا تخونها أبدًا، فانفرجت أساريرُها. وقبل أن تبدأ التّبصيرَ، حانَت منها التفاتةٌ مُتَشَفِّيَةٌ إلى وجه النّاظرة اللّعينِ والّذي صارت قَسَماتُه كلُّها مستجدِية، منتظرِة.
وفجأةً، اكتشفت في قعرِ الفِنْجان نخلةً:
-عندَك نخْلة.
-صحيح؟
-صحيح، وهي تعني الازْدهار والخصْب.
وفرحَت النّاظِرةُ، فتابعَتِ الأمُّ بلهْجَة فوقيّة:
-تعرفين أن النَّخيل ذُكر عشرين مرة في القرآن الكريم، وتعرفين أن النَّخْلَة في القديم كانت من الأشجار المقدسة؛ فقد وحّد الفينيقيون بين النَّخْلَة الَّتي اعتبرها السَّاميون شجرة الحياة في جنة عَدْن وبين إلهة الخصب عشتروت. كما جعل العرب من النَّخْلَة، في العصر الجاهلي، إلهًا. أما سمعتِ كيف عبدوا في نجْرانَ نخلة طويلة واحتفلوا بها كل عام؟
-بلى!
قالت رغم أنَّها تسمع هذه المعلومة للمرة الأولى. وتابعت البصَّارة:
-وكانت النَّخْلَة هي الشَّجرة المقدَّسة عند الكاهنة والشَّاعرة العبْرية (دبوره). كذلك من التَّمر جاء اسْم الإله (تامور)، الّذي عُثر على آثاره في جزر البحر المتوسط الَّتي استعمرَها الفينيقيون، ومن هنا اسْم (الدَّامور)، المنطقة اللُّبْنانيّة جنوبي بَيْروت. كما لا بدَّ أن أذكِّرك أنَّه كان يُصَكّ، على النّقود شكل نخلة.
ابتسمَت النَّاظرة ابتسامة واسعة فيها الكثير من الاعتزاز، وعادت تنتظر المزيد.
وعادت الأمُّ تستقرئ الفِنْجان: خيوط بيضاء، خيوط سوداء، خط أسود متعرج وحيد وبعيد عن البقية، يشبه... وهتفَت فجأة:
-في فِنْجانِكِ حية.
-أعوذ بالله!
وتأملَتْ قارئة الفِنْجان الحيَّة، وقلّبَت صفحات ذاكرتها:
-تعرفين أن الحيَّة رمز للشَّر والعداوة والكراهية. ألم تتوحد بالشَّيطان حين تسلل إبليس إلى الجنة داخل أفعى؟
-بلى!
-ألم يستجب آدم لإغراء حواء فهبطا من الجنة إلى الأرض بسببِها؟
-بلى!
-ألم تعاقَب الحيَّة بأن تزحف على بطنها بعد أن كانت دابَّة جميلة من ذوات الأقدام الأربعة؟
-بلى عوقبتْ فزحفَتْ.
قالت النَّاظرة بتشفٍّ واضح، مما شجع البصَّارة على المتابعة محذِّرة:
-حسنًا، واجهي إذن الشَّرور المحيطة بك. واجهي الحيَّة الَّتي ستُهزَم بالتَّأكيد، فالشَّر مهزومٌ.
وزفرت النَّاظرة:
-أعوذ بالله، أعوذ بالله!
وعادَت إلى جلستها المنتظِرة، بينما قارئة الفِنْجان ما زالَت تفكّ طلاسمه: خطوط قهوة جافة، بعضُها طويلٌ وبعضها قصير، بعضها عريض وبعضُها رفيع، و....فراغ متطاول أبيض يشبه، يشبِهُ، يشبِهُ... وهتفَتْ:
-في فِنجانِك سيْف!
وأشرقَت أسارير النَّاظرة:
-السَّيْف جيد!
-نعم جيد، نعم جيد؛ فالسَّيف لا يكون إلَّا في أيدي الأبطال والفُرسان.
ورفعت النَّاظرة رأسها عاليًا حتى كاد يصلُ إلى سقفِ غرفةِ النّظارة:
-طبعًا!
-وهو علامة طبَقِيَّة مقتصِرة على النُّبلاء.
وما إن سمعَت كلمة "النُّبَلاءِ"، حتى كادَ رأسها يخرق السّقفَ:
-طبعًا!
-وتعرفين أنَّ للسَّيف عند العرب أكثر من ثلاثمائة اسْم ولقَب.
-ثلاثمائة؟ آه! طبعًا أعرف.
وزفرت قارئة الفِنْجان متنهِّدة بينها وبين نفسها: "والله لا تعرفين شيئًا".
ثم تابعت:
-وللسَّيف، يا أستاذة، تقاليد كثيرة ارتبطَت به مع الزَّمَن، فقد استُخدِم لإبعاد الأمراض الشَّيطانية عن بعض القبائل البدائية، وكان يُقَدَّم للعروس يوم زفافها كتهديد لها وإنذار بألَّا تقع في الخيانة. وكان يُمَدّ عبر المدخل للحيلولة مِن دون دخول العروس بيت زوجها، أيضًا، لتهديد الزَّوجة بالعقوبة إنْ لم تخلِص.
واستنكرَت النَّاظرة:
-والزَّوج؟
ورفعت الأمّ كتفيها:
-الزَّوج يُمد له "الشَّوْبَك".
-الشَّوْبَك؟
-يعني: المرِقاق، مِرقاق العجين.
وأطلقت النّاظرة ضحكة شبه هستيرية لم تجد الأُمّ لها معنى في هذا الموقف، ما أَكّد لها شكوكها في إصابتِها بقصور عقلي. وما لبثت النّاظرة أن رجَتِ الضّيفةَ:
-نعود إلى السَّيف!
-نعود!
-من التَّقاليد الشّائعة في الفُتوح الإسلامية، أن يتَّكئ خطيب الجامع على العَصا إذا كان البلد قد فُتح صُلْحًا، ويتَّكئ على السَّيف للدَّلالة على أن الحكم بين الطَّرفين هو حَدّ السَّيْف، وكان، في بعض الأحيان، يقدَّم للمنتصِر كدلالة على خضوعِ المغلوب.
فتحت الأستاذة عينيها على وسعهما معلِّقة:
-ياه، ياه!
ولم تعرف قارئة الفِنْجان ماذا عنَت "ياه" النّاظِرة، لكنَّها رمت الفِنْجان جانبًا بسرعة وقْتَ سمعَت طَرْقًا على الباب ما لبث أن توقفَ من دونِ أن يدخل أحد، فعلقت النَّاظرة وهي تعيد الفِنْجان السَّاحر إلى يد القارئة وتعود إلى جلستها المنصِتة:
-لعلَّه أحد الطَّلبة "الزّعران"، أكملي!
ونظرت القارئة في صفحة الفِنْجان وهي تدعو الله أن تكون معلمة الفرنسي قد وصلت إلى باحة المدرسة. وكثَّفت دعاءها وهي تتذكر تبييض المحاضرة، ثم عادت لتسير بين الخطوط البَيْضاء والسَّوداء والنّقاط:
-ثمة كفّ في فِنْجانك.
قالت، ففتحت النَّاظرة كفَّها وقربت رأسها من الأم:
-هيه؟!
-الكفّ، وما أدراكِ ما الكفُّ.
- كف الحسَدِ كما أعرف وكما أنبأتني العرَّافات من قبلِك.
"العرّافات"؟ يا سلام! ها قد صرْتُ عرّافةً! لم لا؟ ليس معيبًا أن يكون المرءُ عرّافًا، فالعرّافات الشّهيرات- من عرّافة دلفي، إلى عرّافة الإله "زيوس" في بلدة "دودونا"، إلى عرّافات "أبوللو" في آسيا، إلى عرّافة معبد "كلاروس" لا تنقصهنّ الشّهْرةُ، والشّهرةُ جميلةٌ ومربحة وتتقاطعُ مع علم النّفس.
وعادت إلى الكفِّ تشرح:
-الشُّعوب البدائية، مرورًا بالسّومريين والإغريق والفينيقيين جميعًا آمنوا بالعين الشّريرة. كذلك اليهود والعرب والأوربيون، فرمزُ الكفِّ كان ضد شر العين واللّسان في العهد الرّوماني وكان له عمل سحريٌّ عند الأوربيين.
-ضد السّحر، نعم.
-هل تؤمنين بالسّحر؟
-أحيانًا.
وقبل أن تشرح آراءَها القيّمة، عادَت "العرّافة" إلى التّنبّؤ:
-اسمعي، صحيح أن الخمسة كانت علامة شؤم عند الشّعوب القديمة، ومن هنا جاء القول: "خمسة بعيون الشّيطان"، لكن، إسلاميًّا، الرَّقم "خمسة" مبارَك وعظيم؛ لأن أصول الدِّين الإسلامي خمسة، والصّلوات اليومية عددها خمسة.
-وأولادي خمسة.
-الله "يخليكِ" على رؤوسِهم.
-شكرًا. تفضلي تابعي.
فتشَت "العرَّافة" عن عين، فلا بد مِن عين تكون مع الكفّ، لكنَّها لم تجد عينًا.
ماذا تفعل؟ هل تكذب عليها؟ وفتشت بعْد، فوجدت هناك في أسفل الفِنْجان ما يشبه العين وقالت:
-عندك عين.
-أعوذ بالله... حسد أيضًا.
-حسَد زائل، ثم... لو لم تكوني ناجحة، لم تثيري الحسَد.
كشرَت النَّاظرة:
-يا أختي لا أريد أن أكون ناجحة ولا أن أُحسَد.
-حسنًا، خففي إذن من مظاهر نجاحكِ، خبّئيه، لا تُظهريه للنَّاس وخاصة مَن تجدين فيهم مظاهر حسَد.
قالت النَّاظرة كمن تبوح بسرٍّ:
-ومَن قال لك إنَّني لا أفعل؟
-تفعلين؟
-طبعًا!
وزفرَت الأم هامسة لنفسها:
-الله "يبعت" لي معلمة الفرنسي.
وعادت إلى الفِنْجان، ويبدو أنَّها صارت خبيرة قراءة:
-اسمعي، اسمعي: عندَكِ سمكتان.
-السَّمكةُ خير.
-أحسنْتِ. السَّمكة، يا أستاذة، رمز قديم دخل المسيحية وأصبح مِن أهم رموزها. وهو يعني التَّجدد والخير والعيش الرّغيد. والأدلة في الميثولوجيا قاطعة؛ ففي الأساطير العربية والحضارات السَّامية والمعتقدات الدّينية السّماوية غالبًا ما يدل هذا المخلوق على الانبعاث.
هتفت النَّاظرة بفرح:
-ممتاز جدًّا، أكملي، أكملي!
-وثمة عصفور.
-العصفور فألٌ حسَن.
-طبعًا، وخاصّةً إذا كان بجانبه حمامةٌ.
وقفزت النّاظرةُ فرَحًا:
-وعصفوري بجانبِهِ حمامةٌ؟
-طبعًا.
-والحمامةُ...
قاطعتْها:
-رمز السَّلام.
-طبعًا رمزُ السّلام، وأنا أعرف هذا من زمان.
-ألم تَعُد وفي منقارها غصن زيتون دلَّ نوحًا عليه السَّلام أن الماء قد انحسر، وأن شاطئ السَّلام بات قريبًا وهو ما عجز عنه الغُراب؟
- وهل في فم حمامةِ فِنْجاني غصن زيتون؟
ولما أرادَتِ العرّافة أن تبحث عن غصن الزّيتون، لم تجد الحمامة! أين الحمامة؟ أهذه هي الحمامة، أم هو العصفور؟ ضاعت الحمامة، بل ها هي ذي، وفي فمها ما يشبه العود، بل في فمها غصن. وقالت للنّاظرة مؤكدة:
-والله، "يا ستي"، في فمها غصن زيتون، فلكِ البشرى.
وانفرجَت أسارير الأستاذة، وأطلقت ضحكة رنانة:
-الله يبشرك بالخير، والله كادَت دقّات قلبي تتوقف ذُعْرًا. أخبريني بعد؟
-ثمة طاووس؛ أي: حظ سعيد.
-وبعد؟
-قطة سوداء؛ فأل خيرٍ أيضًا.
-وبعدُ؟
-وتفاحة؛ رمز الأنوثة.
-وبعدُ؟
-وحرباء.
-إنَّها أم سليم، متغيّرة مثل الحرباية.
-ومربع هندسي ذو أضلاع متساوية.
-ماذا؟
-المربع جيد، فهو يعني التَّوازن والقدسية ويحقق علاقات متوازنة حول المركز.
-آه!
-ودائرة.
-هل مِن داعٍ أن نستعين بأستاذ الرّياضيات؟
-لا، لا، فالدّائرة تعني القدسية أيضًا: الشَّمس، القمر، الدَّوران للطّوفان حول الكعبة في موسم الحج.
-نعم، نعم!
ورنَّ الجرس؛ فتركت "العرَّافة" الفِنْجان متنفسة الصّعداء. ولما دُقَّ الباب، واقترب فرَجُ مجيء معلمة الفرنسي، فوجئت العرّافة بالنَّاظر العام يعلنُ:
-معلمة الفرنسي ستتأخر عشر دقائق. أرجو، حضرةَ النَّاظرة، إخبار صف الأول متوسط- الشّعبة الثَّالثة.
وكمد لون الأمّ، بينما أشرقَتْ أسارير النَّاظرة الَّتي دفعَت بالفِنْجان، بعد أن غادر النَّاظر، إلى يد السَّيدة الَّتي نهضت حاملة حقيبةَ يدِها غاضبةً:
-أَستأذن.
واعترضت النَّاظرة متوسِّلة:
-ابقي من فضلِكِ، عشر دقائق وتصل معلمة اللّغة الفرنسية!
-معلمة اللّغة الفرنسية؟ لماذا؟
-لتقابليها مِن أجل ابنك.
-ابني؟
-نعم!
-مَن ابني؟
وصُعقَت النَّاظرة:
-بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. ابنك الّذي جئتِ لمقابلةِ معلمة اللُّغة الفرنسية من أجله.
-لا أولاد عندي، ولستُ متزوجةً أصلًا!
-ماذا؟ كنت تضحكين عليّ إذن؟ وكلّ ما تنبَّأتِه لي كان كذبًا تمامًا ككذبة ابنِكِ؟
وركضَت الأم خارج المدرسة، وركضَت النَّاظرة خلفَها حتى البوابة السّوداء الكبيرة وهي تسألها بأعلى صوتها:
-لستِ عرّافة؟
لكنَّ صوت المديرِ أوقفَ النّاظرة بصوته الحازم:
-حضرة النَّاظرة، ما القضية؟
وضربت النَّاظرة رأسَها بقبضة يدِها:
-مصيبةٌ كبيرة، أكبر مما تتصور!
[انتهت]
حِرباء وتُفَّاحة ومِرْقاق
(تبًّا للصَّيْد!)
قصة قصيرة، بقلم: د. إيمان بقاعي
28\12\21\2021
تمدد على الأريكةِ واضعًا ذراعه اليُسرى تحت رأسه بعد أن أسند ظهره إلى مخدتين صغيرتين، وقرَّب الطّاولة الصَّغيرة الَّتي وُضعت عليها مدفأة الكهرباء طلبًا لمزيدٍ من دفء غادر أصابع كفيه وقدميه كما غادر جسده وعقله وقلبه، بل وحياته كلها. ثم لفَّ جسده الضَّخم بحِرام صوفيٍّ برتقالي سميكٍ قديم تآكلت أطرافه "السّاتان" حتى بدا وكأنَّه موروث من أيام أقدم جدّات زوجته الَّتي عاشت في العصر الحجري والّذي أصرّت أن تنقله معها إلى بيتهما الزّوجي مع ما سمّته بجهاز العروس.
أما زوجته، فقد غاصت في كرسيّها مُستغرِقةً في قراءة كتاب لا يقلّ قِدَمًا عن الحِرام البرتقالي. وكانت عيناها تركضان خلف الكلمات برشاقة غزالٍ رغم مسحة اللّا مبالاة الَّتي تتميزان بها عادةً. وبدا شعرها الأسود منفوشًا كشعر ساحرةٍ شريرة خرجَت للتّوِ من معركةٍ شرسةٍ، وقد خلت عيناها وشفتاها من أي أثر للزِّينة. وطالما تساءل- في الشُّهور الأخيرة- إن كان قد رأى على سحنتها الشَّاحبة التُّرابية لونًا غير هذا "البيج المصفرّ" الكئيب.
وفجأةً، توقفتْ نظراتها عن الرّكض، وتمطَّت ولما تُشر السَّاعة إلى التَّاسعة مساء، وأعداه تثاؤبها، ففتح فاه على وسعه، واسترقَ نظرة سريعة إليها، ثم علَّق:
-ما سر التَّثاؤب يجتاحُنا هذه الأيام باكرًا؟
وأجابته بإعادةِ فتح كتابِها على الصّفحة الَّتي توقفت عندها قبَيْل التّثاؤب، وبركضِ عينيها من جديد خلف الكلمات، فأغمض عينيه الخضراوين بكسل، ثم فتحهما نصف فتحة، وأجاب بنفسه عن تساؤله:
-ربما لأنَّه لا يوجد "صيْد"؟
وبدت لها اللّفظة غريبة، فتوقفت نظراتها عن الرّكض، وتوجهت إلى شفتيه متسائلة باستغراب وقد لمعت عيناها السَّوداوان:
-صَيْد؟
ابتسمَ لأنَّه استطاع أخيرًا أن يستحوذ على انتباهها:
-الصَّيدُ قد اصطيد!
وقبل أن تعودَ عيناها إلى الرّكض خلف الكلمات، شرح بكسل، مِن دون أن يغير جلسته أو يبذل عناء تحريك يديه وعضلة من عضلات وجهه أو حتى يفتح عينيه أكثر:
-قبلَ أن نتزوج كنْتُ نشيطًا. آه! ستسألينني كيف؟ وسأجيبكِ: كنت أعدّ نفسي للذَّهاب إليك، أعدّ ملابسي، عطري، مهاراتي، كلماتي.. كتبت ديوان شعر في شهر، ورواية في شهرينِ، لأنَّهم قالوا: المرأة الَّتي تحبُّها تهوى الشَّعْر والأدب. نعم! نعم! كان ثمة دافع يجعلني نشيطًا، منشدًا. وأنتِ…
وحسَّن جلستَه، ووجَّهَ سَبَّابته المرفوعةَ إليها، ثم قطب حاجبيه الكثيفين وقد لمعت فيهما نظرة مليئة بالشَّك المفعم بالضّيق والمضض:
-كنْتِ مختلفة، كنْتِ منتظِرة، وكانت عيناكِ كحيلتين، وشفتاك ورديتين، وكانَ- يا إلهي- كان كل شيء فيك متألقًا.
ونظرَ باشمئزاز إلى شعرها، وعلّقَ:
-حتى شعرك كان حريريًّا منسدلًا.
وتوقعَ أن تتفحصَ خصلاتِ شعرها أو- على الأقل- تربطها، فلم تفعل؛ فتابع:
-وكان لديك ابتسامة. ولن أقول ابتسامة ربيعية أو ابتسامة ساحرة، بل ابتسامة، مجرد ابتسامة.
وتنهدَ بوجع:
-وكنتِ…آه! كنتِ جميلة!
وتركت الكتاب جانبًا، وراحت تصغي إلى أقواله من دون أن تشاركه الحوار ولو بنظرة استحسانٍ أو بنظرة استنكار؛ فتابع:
-كنتِ جميلةً! وكانت حيويتك تجعلك كالشَّمس في بهائِها. أتعرفين لماذا؟
ولم تكلف نفسها حتى عناء هزّ رأسها؛ فأكملَ:
-وقتهالم تكوني قد امتِلْكَتِني بعد؛ فكانت طاقاتُك كلّها موجهة إلى الكينونة والعطاء وتنشيط المشاعر.
ابتسمت ابتسامة هادئة أرفقتها بومضة من ومضات عينيها الَّتي كان يومًا يحبها، فنهضَ من وضعه الاستلقائي، وجلس متسائلًا بوجع:
-ما الّذي تغير؟ كم سنة مضت على زواجنا؟ مائة سنة؟ مائتان؟ مليون سنة؟ مليونان؟
وضرب كفًّا بكف، ثم همس كمن يرجوها أن تساعده على التَّفكير، وكانَ- في هذه اللّحظات بالذّات- مستعدًّا للإنصات:
-أليسا عامين فقط؟ ما الّذي حدث في هذين العامينِ؟ أخبريني!
ولما لم تساعدْهُ؛ قال:
-لقد امتِلْكَنا الحبّ! نعم! لقد صار مُلكية مضمونة حتى لم يعد من شيء يستحق أن نبذل من أجله الجهد؛ فضاعت- ويا لَلهول- كلماتي ومهاراتي وضاعت إصغاءاتك وحيويتكِ.
وأعلنَ بشراسةٍ:
-تبًّا للزَّواج!
واعتقد أنَّها قد تثورُ، وقد تدافعُ عن هذه المؤسسةِ كما كانتْ تفعل قبلَ زواجهما، ولكنَّها كانت جامدةَ النَّظراتِ، غبيَّتَها؛ فتابع باستسلام:
-كنت أعرف أن هذا ما سوف يحدث لي، تمامًا كما حدث لكل أصدقائي المساكين من قبلي، ولكنَّك أصرّيت على أن نتزوج كما تصر النّساء، كل النّساء.
وزفر، ثم قال:
-أتعرفين؟ أعتقد أننا…
وقبل أن يكمل، نهضَت وكأنَّها سمعت تقريرًا قديمًا ليس فيه فكرة مشوقة واحدة، وليس فيه أي اكتشاف. انتعلَتْ خفَّها، وشدَّت شعرها أكثر إلى الخلف، ثم قالت:
-أطفئ المدفأة والضَّوء؛ فأنا ذاهبة لأنام!
امتعاض
امتعاض
بحُكْم فارق السِّن وعشرين كتابًا خطَّها قبل كتابها الأول الذي قرأه وكتب لها عنه في أكبر صحف البلد، وحده تكلم- في لقائهما الأول والثَّاني والثَّالث...- في السّياسة، والاقتصاد، والدّين، والحضارات، وصاغَ آراءَه واضحةً، شجاعةً، نبيلةً، على عكس ما اعتادتْ سماعَه من آراءِ مُدَوِّري الزَّوايا من المفكرين المختبئين خلف جُمَلٍ مبهَمةٍ وُلِدَتْ من رحم التَّأويل.
وأصغَتْ حتى صار إصغاؤها إدمانًا، فإعجابًا، ما لبث أن تحول إلى امتعاض وقت أعطاها- بعد شهرين من زواجهما- ديوانًا لشاعر مبتدئ طلب منها أن تكتب عنه، ولم يُطلِعْها حتى على عناوين الكتب التي سيتناولها هو بالنَّقْد والتّحليل، واصفًا- ببساطة تامة- الكتبَ التي اصطفاها لنفسه بأنها "أعمق من أن تفهمها"!
[الدامور: 28\11\2021]