🏠︎ الرئيسة » كتابات » مقالات » بين يدَي «المعجم العربي والترتيب الاشتقاقي»
👤 أ. د. حسن حمزة | 🗓 01-01-2024
تقديم كتاب «المعجم العربي والترتيب الاشتقاقي: المنهج والنموذج»
شغلت قضيةُ الترتيب في المعجم صُنَّاع المعاجم العربية، ولا تزال تشغلهم إلى اليوم. ولئن كانت هذه القضية قد خرجت من دائرة الاهتمام عند الباحثين الأوروبيين منذ زمان طويل، فإنَّها لا تزال همًّا من هموم البحث في أيامنا. وهو همٌّ على مستويين اثنين:
المستوى الأول هو الاختيار بين بنية بسيطة وبنية مركَّبة لمداخل المعجم. وليس هذا الاختيارُ مطروحًا في المعاجم الأوروبية؛ لأنَّ بنيةَ المداخلِ فيها بنيةٌ بسيطة قائمة على الترتيب الألفبائي لألفاظها، بل إنَّ الترتيب الألفبائي صار عنصرًا من عناصر تعريف لفظ «المعجم» في اللغات الأوروبية. وأمَّا في العربية فلا يزال النقاشُ دائرًا بين الباحثين حول مسألة الاختيار بين ترتيب الجذور الموروث عن المعاجم العربية القديمة، والترتيب الألفبائي للألفاظ. ولا ريب في أنَّ هذا النقاش في العربية ليس نقاشًا في فراغ، بل هو مرتبطٌ بالإشكالات الكثيرة التي يُثيرُها كلُّ واحدٍ منهما، وإنْ كان الباحثون العرب لم ينظروا عمومًا إلا في ما يترتَّبُ على الترتيب الجذري من صعوبات في الوصول إلى المادَّة، وعلى الترتيب الألفبائي من ضررٍ في تشتيتها. ولا ريبَ في أنَّ حدَّةَ النقاش حول هذه المسألة قد بدأت بالخفوت نسبيًّا مع تطوُّر صناعة المعجم الإلكتروني الذي يسمح بالوصول إلى اللفظ كيفما كان ترتيبه، وإن كان لا يستطيع أن يُعيد جمْعَ شتاتِ المادَّة المُمزَّقة؛
المستوى الثاني هو ترتيب الألفاظ تحت الجذور. أمَّا المعاجم الألفبائية فلا يعنيها هذا المستوى لأنَّ الألفاظَ فيها مبنيَّةٌ على مستوى واحد، لا فرقَ فيها بين عربِيٍّ ومُقترَض، وبين اسمٍ وفعل، وبين مُشتَقٍّ ومُشتَقٍّ منه. وأمَّا المعاجم التي تعتمد البنية المركَّبة لمداخلها فتُرتِّبُ الجذورَ في المستوى الأول، ثم تنتقل إلى ترتيب الألفاظ تحت الجذر الواحد في المستوى الثاني؛ فشأنُها مختلفٌ جدًّا لأنَّها قد تعتمدُ في ترتيبها للألفاظ على علاقات التصريف، أو التأريخ، أو الدلالة، أو غير ذلك. وهذه مجالاتٌ مفتوحةٌ للنظر والاجتهاد؛ فلا يُتوقَّعُ أن ينتهي النقاشُ فيها سريعًا، ولا يُتوقَّعُ إذن أن يكون لكل لفظٍ موضعٌ مُحدَّدٌ لا يتخلَّفُ تحت الجذر الذي ينتمي إليه، بخلاف ما عليه الأمرُ في الترتيب الألفبائي الذي يَحكُمُ كُلَّ موقعٍ فيه توالي حروف الكلمة دون نظرٍ في تصريفها ودلالاتها واشتقاقها. وربما كان المعجم الوسيط من أوائل المعاجم التي سعت إلى اتِّباع منهجٍ يجعلُ لكلِّ لفْظٍ تحت الجذر موضعًا ثابتًا يُفترَضُ أن يجده المستخدم فيه لا في سواه. ولمَّا لم يكن هذا ممكنًا في جميع الألفاظ، فصلَ الوسيطُ الأفعالَ عن غيرِها لانتظام تصاريفِها؛ فجعلَها أولًا، وجعلَ غيرَها من أقسام الكلام ثانيًا، ثم رتَّبَ الأفعال في ما بينها مُجرَّدةً فمزيدة، وأنهى بترتيب أقسام الكلام الأخرى على الترتيب الألفبائي لأنَّه لم يجد لها ترتيبًا ثابتًا على أساس التصريف والدلالة؛ فجاء نظامُ الترتيبِ هجينًا بالضرورة.
يُشيرُ نظامُ الترتيب الهجين في المعجم الوسيط إلى أنَّ قضية ترتيب الألفاظ في المعجم الجذري قضية شائكة، لأنَّها تتراوح بين حدَّين من مقتضيات العمل في المعجم المبنيِّ على الجذور:
أولهما ضرورةُ ترتيبٍ سهلٍ ومنتظمٍ للألفاظ ليستطيع المستخدمُ العاديُّ الوصولَ إليها بأيْسرِ الطرق وأقربها؛
وثانيهما ضرورةُ ترتيبٍ اشتقاقيٍّ للألفاظ ليُسلِمَ اللفظُ الأولُ إلى اللفظِ الثاني المشتقِّ منه بحُكم علاقة النَّسَبِ التي تجمع بين أفراد الأسرة الواحدة.
أمَّا الحدُّ الأول، وهو ضرورةُ تقديم مادَّة منتظمة بأسهل الطرق وأيسرها، فأمرُه واضحٌ لا لبسَ فيه. وأسهلُ أنواعِه الترتيبُ الألفبائيُّ للألفاظ تحت الجذر. ولكن سلوك هذا السبيل يُغري بالمُضيِّ فيه إلى نهاياته؛ أي إلى اعتماد بنية بسيطةٍ قائمةٍ على ترتيبِ الألفاظِ، لا على ترتيب الجذور، في المعجم كلِّه. وقد مضى عددٌ من المعاجم العربية الحديثة في هذا الاتجاه بحُجَّة التسهيل تقليدًا للنموذج المُتَّبَع في المعجم الأوروبي، وإنْ زيَّنَ صنيعَه وسوَّغه بما جرى في معاجمَ عربيةٍ في التراث، كلُّها معاجمُ مختصَّةٌ تُرتِّبُ مصطلحات العلوم أو الفنون، ولا تُرتِّبُ ألفاظَ اللغة العامَّة؛ فالقياس عليها قياسٌ مع الفارق. ويُقدِّمُ هذا الترتيبُ الألفبائي حلًّا حاسمًا لقضية التنظيم، لأنَّه يجعلُها قضيةً تقنيةً ليس غيرُ. أمَّا علاقةُ النسَب التي بين ألفاظ الجذر الواحد فغائبةٌ تمامًا؛ إذ ليس ما يجمعُ بين اللفظِ واللفظِ الذي يليه سوى ما يفرضُه ترتيبُ حروف الهجاء على هذا الشكل المخصوص دون ذاك. وترتيبُ الألفاظ على هذه الصورة في المعجم أشبهُ ما يكون بترتيب الأسماء في دليل الهاتف؛ إذ تتوالى في الدليل أسماء المشاركين دون أن يكون بين الاسم وسابقِه أو لاحقِه علاقةُ نسَب. غيرَ أنَّ هذا الترتيب سهلُ التطبيق، وهو منتظمٌ لا يتخلَّف. وهذا هو سرُّ قوَّته وانتشاره.
وأمَّا الحدُّ الثاني، وهو ضرورةُ ترتيبٍ اشتقاقيٍّ للألفاظ باعتبار العلاقة التي تربطُ بعضَها ببعض، فشأنُه مختلفٌ جدًّا. وليس هذا الترتيبُ مسألةً تقنيةً على غرار الترتيب الألفبائي، وإنَّما هو مسألةٌ علميةٌ لا يستطيعُ أن يُفتي فيها سوى أصحاب الاختصاص، لأنَّها قائمةٌ على النظر في علاقات التصريف والدلالة، وفي توالُدِ الألفاظ وتناسُلِها ليكون اللاحقُ منها مبنيًّا على السابِق، ويكونَ التوالي بينهما دليلًا على علاقةٍ جامعةٍ تُشبِه العلاقةَ التي في سلسلة النَّسَب. وليس هذا بحالٍ من الأحوال ما هو حاصلٌ في توالي الألفاظ في الترتيب الألفبائي؛ إذ هو توالٍ اعتباطي، ويمكنُ في أيِّ لحظةٍ أن يأتي قادمٌ جديد يُحشَرُ بين اللفظِ وما يليه باعتبار ما يُمليه توالي حروفه دون أن تكون له أدنى علاقةٍ بهذا أو بذاك.
في هذا الإطار يقعُ الكتاب، وهو في الأصل رسالة ماجستير أعدَّها صاحبُها الأستاذ محمد أحمد البكري حين كان يتابعُ دروسي في مُقرَّر علم المعجم والصناعة المعجمية في برنامج اللسانيات والمعجمية العربية بمعهد الدوحة للدراسات العليا. ويقومُ العملُ على محاولةٍ للتوسُّطِ بين الحدَّين وللجمع بين الحُسْنيَين في ترتيبٍ يراعي علاقات الاشتقاق بين الألفاظ وينتظمُ فلا يتخلَّف. وكان المعجمُ الوسيطُ في سعيه إلى هذا الجمع قد اضطُرَّ إلى اتباعِ الاشتقاق حينًا وإلى اتباعِ ترتيبٍ آخر هو النقيضُ لمبدأ الاشتقاق حينًا آخر؛ فقد اعتمد على التصريف في فصل الأفعال عن غيرها، وفي تمييزه بين الثلاثي والرباعي، وبين المُجرَّد والمزيد، وإن بدا واضحًا في ترتيبه للمزيدات أنَّه أقربُ إلى اعتماد الرسم الإملائي للكلمة منه إلى التصريف. غير أنَّ الوسيط يتخلَّى عن التصريف والاشتقاق حين ينتهي من الأفعال، ولا يجدُ سوى ترتيبٍ ألفبائيٍّ للأسماء والصفات.
كان اعتمادُ ترتيبٍ قائم على التصريف في ألفاظ المادة كلِّها –فلا يُنتقلُ من نمطٍ إلى نمطٍ آخر في ترتيبِ ألفاظ الجذر الواحد– في أصل فكرة مشروع الرسالة، وكانت حماسةُ الشبابِ تغلبُ حكمة الشيوخ في البدايات في السعي إلى منافسة الترتيب الألفبائي، ثم هدأت بعد أن اطمأنَّت إلى أنَّ الترتيب الاشتقاقيَّ لا يمكن أن يكون منافسًا للترتيب الألفبائي في بساطته، فتلك قضيَّةٌ خاسرةٌ بالضرورة؛ إذ لا نظام يعدلُ النظام الألفبائيَّ في سهولته وانتظامه، وإن لم تكن لهذا الترتيب الألفبائي في ما وراءَ ذلك قيمةٌ على الإطلاق، واطمأنَّت إلى أنَّ أقصى ما يمكنُ أن يُطمَح إليه هو القيامُ بتقديم نموذجٍ لترتيبٍ اشتقاقيٍّ متناسقٍ قائمٍ على التصريفِ والدلالة، لا ينثرُ الألفاظ تحت الجذر دون نظام، ولا يتذبذبُ في ترتيبٍ في إحدى الموادِّ وترتيبٍ مغايرٍ في مادَّة أخرى، ولا يُقدِّمُ نظامَين مختلفَين ويجمع بين المتناقضات في المادَّة الواحدة، وهذا عملٌ جليل. أمَّا ما وراءَ ذلك فغايةٌ لا تُدرَك؛ لأنَّه لا يمكنُ ترتيبُ جميع المشتقَّات في ما بينها على وجه اليقين، ولا بدَّ في بعضٍ منها من قدْرٍ من الاعتباط.
وفي هذا الكتاب جهدٌ حقيقي ومعرفة واسعة بالتراث العربي وبالأعمال المعجمية القديمة والحديثة؛ إذ يُقدِّمُ صاحبُه فيه عددًا من نماذج الترتيب في المعاجم العربية الحديثة، ويقوم بدراستها وتحليلها تحليلًا يدلُّ على معرفةٍ نقديَّةٍ لا تكتفي بعرض أفكار السابقين، بل تنفذ إلى جوهرها لتناقشها على أسسِ استدلالٍ متين في سبيل تقديم نموذج آخر مبنيٍّ على ترتيبٍ صرفيٍّ اشتقاقيٍّ للألفاظ تحت الجذور. ويدلُّ هذا النموذج على معرفة جيدة بالصرف وعلم المعجم، وهي معرفةٌ تصحبُها خبرةٌ واسعة في بناء تطبيقات منسجمة مبنية على قواعد المنهج التحليلي الذي يحصر الجزئيات تمهيدًا للانتقال إلى الكلِّيات.
وفي الكتاب أخيرًا أسلوبٌ آسِرٌ في تقديم النماذج وفي تحليلها ونقدها وتدبُّر المخارج لها، وطلاوةٌ في العرض تُغري بقراءة الكتاب دفعةً واحدةً من ألِفِه إلى يائِه.
أ. د. حسن حمزة
الأستاذ الفخريّ بجامعة ليون2– فرنسا
والرئيس السابق لبرنامج اللسانيات والمعجمية العربية وأستاذ الدراسات المعجمية بمعهد الدوحة للدراسات العليا
ونائب رئيس المجلس العلميّ لمعجم الدوحة التاريخيّ للُّغة العربية