كتبهاHacen Khelifa ، في 29 يوليو 2007 الساعة: 08:05 ص
عندنا في الجزائر أكثر من 600 مخبر بحث وأكثر من 12000 باحث …ولكن ؟
حاوره: حسن خليفة
الحديث في الشؤون العلمية والأكاديمية، وقضايا البحث البحث العلمي حديث ذو شجون في مختلف انحاء العالم العربي؛ وليس أدل على ذلك من "الهزال" الذي تبدو عليه المنظومات الجامعية والتعليمية بصفة عامة..والاقتراب – حينئذ – من المهتمين والممارسين للبحث العلمي من شأنه أن يكشف الكثير من الحقائق ..وكان هذا هدف الحوارمع الدكتور عبد القادر النويري المتخصص في الفيزياء ، وهو بالمناسبة واحد من أصغر الباحثين العرب في مجاله, أما مسيرته التعليمية فتتميز بخصوصية يحسن الإحاطة بها، …التقينا معه وكان هذاالحوار الذي بدأناه بالسؤال عن تلك المسيرة التعليمية الأولى الغريبة بعض الشيء.
س: قد يكون من المفيد أن نبدأ حوارنا من حيث يجب ..وهو أن يتعرف القاريء عليكم بشكل مفصل . نشأتكم وبداياتكم التعليمية؛ خاصة وأن هناك الكثير مما يستحق الذكر في مجال دراستكم في المراحل الأولى ..؟
ج. من الصعب أن يتكلم الإنسان عن شخصه، ومع ذلك يمكنني القول أنني ولدت سنة 1962 ونشأت في إحدى القرى الريفية التابعة لبلدية برهوم (ولاية المسيلة). تلقيت التعليم القرآني في الكُتاب على يد أحد المشايخ وهو الشيخ عبد الله حفاف (أتمنى له العمر المديد)، وفي تلك الفترة لم تكن في قريتنا مدرسة ابتدائية فحرمت من التعليم النظامي. تم بناء المدارس في تلك المنطقة في سنة 1972 وكان عمري آنذاك 10 سنوات فرفض مدير المدرسة تسجيلي بحجة كبر السن، فواصلت التعليم القرآني إلى غاية 1974 ، وخلال تلك الفترة كنت أرى أبناء قريتي يذهبون إلى المدرسة بينما أنا محروم منها، فتولدت لدي رغبة جامحة في مواصلة تعليمي، خاصة أنني كنت أساعد أبناء قريتي على فهم دروسهم رغم أنني لم أدخل المدرسة. وبعد أن اشتد إلحاحي على والدتي (أتمنى لها العمر المديد أيضا ) أرسلتني إلى أخوالي الذين يسكنون في قرية أخرى على بعد حولى 10 كلم، فقام خالي الشيخ الهواري برباش (رحمه الله) بالإتصال بمدير مدرستهم وسجلني في السنة الثانية ابتدائي، فمكثت عند أخوالي سنتين، بعدها علمت من مدير المدرسة أنني سوف لن أجتاز امتحان السنة السادسة لأن المدرسة وقتذاك كانت حديثة العهد وكانت أول دفعة للتلاميذ تدرس في السنة الرابعة. حاول مدير المدرسة تسجيلي في مدرسة أخرى قديمة وبها قسم للسنة السادسة ولكنه لم يفلح بحجة أن عمري كبير (14 سنة). بعد فشل تلك المحاولات قررت التسجيل في المرحلة المتوسطة عن طريق التعليم الشعبي المسائي، فسافرت سنة 1976 إلى مدينة بريكة(50 كلم) ، وبعد أربع سنوات تحصلت على شهادة التعليم المتوسط كمترشح حر سنة 1980، وكنت الفائز الوحيد في تلك الدفعة من تلاميذ التعليم الشعبي. بعدها قمت بعدة محاولات لمتابعة المرحلة الثانوية فكتبت رسالة إلى مدير ثانوية بن بعطوش (بريكة)، وجاء الرد بالرفض لأن المترشحين الأحرار لا يمكن قبولهم في الثانوية. بعدها اتصلت بالمركز الوطني لتعميم التعليم بقسنطينة والذي يسمى حاليا بمركز التعليم عن بعد، فتابعت دراستي الثانوية بالمراسلة وتحصلت على شهادة البكالوريا سنة 1984 . عندها تنفست الصعداء لأن شهادة البكالوريافتحت لي أبواب الجامعة على مصاريعها . سجلت في العلوم الدقيقة تم اخترت فرع الفيزياء وتحصلت على دبلوم الدراسات العليا (الليسانس) سنة 1988 ، ثم واصلت الدراسات العليا فتحصلت على شهادة الماجستير سنة 1993، ثم على شهادة دكتوراه الدولة سنة 2000 .
س. مساركم المهني؟
ج. من غرائب الأمور أن مساري المهني يبدأ من المدرسة التي حرمت منها في طفولتي، حيث أنه تم تعييني كمعلم سنة 1980 بعد حصولي على شهادة التعليم المتوسط. والأغرب من ذلك أنني كنت أصغر معلم حينها (18 سنة) في حين أنه تم رفض تسجيلي سنة 1972 بحجة كبر سني. عملت كمعلم من سنة 1980 إلى سنة 1984 بمدرسة أولاد مرزوق ببلدية برهوم (المسيلة). عملت كذلك كأستاذ في التعليم المتوسط في قسنطينة وذلك أثناء متابعتي للدراسات العليا. وفي سنة 1989 تم قبولي في الجامعة كمعيد وبقيت أعمل كأستاذ جامعي إلى يومنا هذا بحيث تدرجت في الترقيات إلى أن وصلت إلى أعلى رتبة وهي أستاذ التعليم العالي (بروفيسور) سنة 2006.
بالرغم من كل العقبات التي صادفتكم فقد "تحصلتم "تقريبا على كل الشهادات ؟
ج. يضحك ..أي نعم : تحصلت على كل الشهادات المقررة في المنظومة التعليمية، الإبتدائية والمتوسطة والبكالوريا (عن طريق الترشح الحر)، الليسانس والماجستير والدكتوراه (شهادت جامعية). بالإضافة إلى شهادات أخرى وهي شهادة الثقافة العامة المهنية وشهادة الكفاءة التربوية وشهادة في الإعلام الآلي وشهادة في اللغة الإنجلزية.
س. دعنا نولي وجهتنا شطر موضوع التعليم العالي بصفة خاصة . يمكن القول أن ثمة إجماعا على أن الجامعة الجزائرية تعيش واحدة من أسوأ المراحل في مسيرتها. مارأيك؟
ج. من الصعب إصدار حكم بالمطلق وبهذه القساوة. فالأمر يحتاج لبعض التفصيل. فعلى مستوى الكم نستطيع القول أن الجامعة الجزائرية توفر التعليم لكل أبناء الشعب وهذا ما لا نجده في كثير من البلدان، حتى أصبح لدينا فائض في عدد حاملي الشهادات الجامعية وهناك أعداد كبيرة من الجامعيين البطالين. أما بالنسبة للنوعية، فالقضية تتفاوت من مكان لآخر ومن شعبة لأخرى، فبالنسبة للعلوم مثلا قد نجد مستوى مقبولا في الأمور النظرية ولكن هناك تدني ملحوظ على المستوى التطبيقي، وهذا في رأيي ناتج عن قلة المخابر من جهة وعن إنعزال الجامعة عن المحيط الصناعي والاجتماعي من جهة أخرى. بالنسبة للفروع الأخرى، الأدبية والإنسانية والإجتماعية والإقتصادية، فأتصور أن الكم الزائد لعدد الطلبة ومحدودية الإمكانيات والوسائل مثل المكتبة والإنترنيت أثرت بشكل ملحوظ على المستوى التعليمي. وعلى العموم فإن الإكتظاظ وظروف العمل المزرية التي يعيشها الطالب والأستاذ تجعل الجامعة في خطر إن لم نتدارك الأمور في أسرع وقت.
س. ماهو توصيفك لمنظومتنا التكوينية؟ بمعنى آخر كيف تراها؟
ج. كما قلت سابقا فإن الجامعة التي تكون معزولة عن المحيط الصناعي والإجتماعي والإقتصادي وحتى السياسي تكون شبه مشلولة ويصبح الإطار المتخرج منها شبه يتيم عندما يصطدم بالواقع. أنا بدأت بكلامي هذا حتى أنبه إلى أن البرامج الأكاديمية والمقررات والدروس وحدها لا تكفي ما لم تكن مرتبطة بواقع الناس. المعروف والبديهي عند العام والخاص أن الجامعة هي التي تنتج الإطارات والكوادر للمجتمع، ولكن في واقعنا وفي منظومتنا التكوينية نجدها تنتج إطارات بطالة، لأن الكثير من المؤسسات الوطنية لها معاهد وكليات خاصة تمدها بالإطارات.
س. أين يكمن العجز؟
ج. يكمن العجز في عدم تحديث البرامج دوريا لكي تتلائم مع العصر وكذلك في عدم ربط الجامعة بالمجتمع والدولة.
س. هل لأساليب التسيير دور في ذلك؟
ج. المسؤولون والمسيرون لهم دور جزئي، ولا ينبغي إلقاء اللائمة على الشخص المسؤول بصورة كاملة؛ لأنه مرتبط بالقوانين والآليات المعمول بها، لأنه مسؤول فقط على متابعة المسيرة الدراسية للطالب وتنتهي مسؤوليته عند إمضائه للشهادة.
س. هل لدينا بحث علمي، بالمعنى الحقيقي لكلمة البحث العلمي؟
ج. ما قلته في منظومة التكوين أقوله في منظومة البحث العلمي، من المفترض أن يكون البحث العلمي مرتبطا كذلك بالمجتمع، ففي العالم الأول (المتقدم) هناك نوعان من البحث العلمي، البحث العلمي الأساسي والبحث العلمي التطبيقي، الأول يهدف إلى اكتساب معارف جديدة للمادة والكون ولتفاعلات الإنسان في هذا الكون وله أهداف استراتيجية للدولة، أما الثاني فيهدف إلى حل مشكلات معينة وإلى تحسين أداء معين ويكون مرتبطا مباشرة وبعقود مكتوبة مع القطاع الصناعي والإقصادي. النوع الثاني من البحث العلمي التطبيقي نستطيع القول أنه منعدم تماما عندنا ؛ لأن الجزائر ليست دولة مصنعة. أما النوع الأول وهو البحث العلمي الأساسي فهو موجود تقريبا في كل مخابر البحث ولكن بصورة فوضوية.
س : ماذا تعني بقولك "موجود …,ولكن بصورة فوضوية"؟
أعني ليس هناك ترشيد للبحث العلمي لكي يخدم أهداف استراتيجية كبرى للدولة. وحتى أوضح أكثر، فإنه لو تأخذ أي باحث وتسأله عن أهداف بحثه الكبرى فإنه يجيبك فقط عن الأهداف العلمية الجزئية الخاصة بأطروحته أو الخاصة بمشروعه البحثي.فمن المفروض أن تكون الأهداف الإستراتيجية واضحة وذلك مثل البحث عن بدائل للطاقة البترولية أو تأمين الأمن الغذائي ….الخ. وبإختصار شديد فإننا لا نمارس بحثا علميا بالمعنى الكامل بل إننا نقوم فقط بنقل المعرفة من جيل إلى جيل وتكوين إطارات معرفية.
س. من حقنا أن نتطلع إلى مكانة علمية عالية بين المجتمعات، لكن الكثير من العوائق على طريق البحث العلمي تمنع ذلك، ما رأيك؟
ج. لا يوجد على وجه الأرض من لا يريد لنفسه أو بلده التطور والإزدهار. بمعنى أننا نحسن الظن بالمسؤولين والمسيرين، ولكن بالفعل هناك عوائق موضوعية وهناك أخطاء في التسيير. ولكن كن على يقين أن المكانة العلمية بين المجتمعات لايمكن أن تتحقق بمعزل عن بقية الأمور الأخرى الإقتصادية والإجتماعية والأمنية ….الخ. من بين العوائق أذكر قلة التجهيزات المتطورة، التسيير المرن والجيد للأموال والوسائل، الإهتمام ماديا ومعنويا بالأستاذ الباحث.
س. المخابر ـ الورشات ـ الملتقيات ـ التربصات. تتردد كثيرا هذه المصطلحات. ما هي النتائج التي يمكن أن نفخر بها في هذا المجال؟
بدأ إنشاء مخابر البحث في الجزائر سنة 2000 ، وحسب إحصائيات 2003 تم إنشاء 542 مخبر بحث في كل المؤسسات الجامعية الوطنية وذلك بمجموع 11319 أستاذ باحث. ويوجد في جامعة الإخوة منتوري بقسنطينة وحدها 69 مخبر بحث يشغلها 1500 أستاذ باحث. بالإضافة إلى ذلك هناك حصة معتبرة من الميزانية تخصص كل سنة لإرسال الأساتذة في تربصات في الخارج وكذلك لتنظيم بعض الملتقيات العلمية. كما قلت سابقا فإن هذا العدد الهائل من المخابر ومن الباحثين لا توجد بينهم روابط وتنسيق من أجل خدمة أهداف كبرى، فكل المخابر تقريبا معزولة عن بعضها وتعيش مشاكل وصراعات. أما الشيئ الذي يمكن أن نقتخر به فهو النتائج العلمية دات المستوى العالمي لبعض الباحثين الجزائريين، وتلك النتائج في رأيي ناتجة عن مبادرات وإرادات فردية لباحثين مخلصين.
س. يفترض أن يكون عندنا نخبة من "العلماء" والخبراء في مختلف القطاعات. أين وصلنا بعد نحو 40 سنة؟
ج. هناك من يعتبر أن 40 سنة هي مدة قصيرة في تاريخ الأمم والمجتمعات. وهناك من يعتبرها مدة كافية بالنظر إلى التطور السريع في الحضارة الإنسانية المعاصرة، عصر الانفجار المعرفي – كما يقال - ،وبالتالي حتى نكون منصفين نقول أننا حققنا نتائج مقبولة، بحيث أصبح لدينا إكتفاء ذاتي في الإطارات التعليمية وعدد لا بأس به من الإطارات الجامعية (دكاترة). أما إذا كنت تقصد بالعلماء والخبراء أولئك الذين ينجزون إختراعات ذات صدى عالمي، فذلك لا يتعلق بالأستاذ الباحث كفرد بل يتعلق بالإمكانات المادية والمعنوية للأمة ككل. بمعنى آخر، فأنا لا يمكنني مثلا صناعة صاروخ بشكل فردي حتى لو كنت قادرا علميا ما لم يكن المشروع ممولا ومسيرا من طرف الدولة.
س. كيف تقارن منظومتنا العلمية والبحثية والتكوينية بالغير؟ فرنسا مثلا.
ج. من حيث الهيكلة والبرامج وحتى القوانين المسيرة لا يوجد فرق كبير، بل أن منظومتنا في معظمها مأخوذة من المنظومة الفرنسية. ولكن هناك فروقا كبيرة في أسلوب التسيير والإمكانات المادية وربط الجامعة بالمجتمع والتنمية، وعلى سبيل المثال، يحتاج الباحث في فرنسا إلى 24 ساعة أو أسبوع على أبعد تقدير للحصول على وسيلة بحث يحتاجها في بحثه، أما عندنا فقد انتظرت أنا شخصيا سنة كاملة للحصول على قارورة غاز (!) وهناك الكثير من الأدوات والوسائل أشتريها بمالي الخاص(…).
س. هل هناك شيئ تريد الحديث عنه ولم نتطرق إليه في هذا الحديث؟
ج. هناك الكثير والكثير يمكن الحديث بشأنه. ولكن أكتفي بالقول أن هجرة الأدمغة التي لم نتطرق لها في حديثنا هو موضوع خطير يهدد الثروة العلمية لبلادنا، وهناك نوعان من الهجرة، هجرة خارجية إلى بلدان أجنبية وهجرة داخلية سواء بممارسة أنشطة أخرى كالتجارة مثلا أو الإنكفاء والإنعزال. وهنا أنبه المسؤلين وأمناء الأمة إلى معالجة الأوضاع.
س. كلمة أخيرة
ج. أشكر الإعلاميين الذين يهتمون بموضوع الجامعة، وأوكد أن كلامي الوارد في هذا الحوار ليس موجها ضد شخص بعينه، وإنما هومحاولة توصيف لواقع نرجو أن يتغير نحو الأحسن في أقرب الآجال .