اضافة الى وظيفتي كرئيس قسم اللغة العربية درست خلال السنة الدراسية 2016_2017:
التدريس :للسنة الدراسية 2016 -2017 للمرحلة البكالوريوس ادرس مادة النقد العربي القديم للمرحلة الثالثة واشرف على مشروعين لبحث التخرج للمرحلة الرابعة
واشرف على مشروع اطروحة الدكتوراه ( نقد النقد ) للطاب سعدون حميد .
عضور لجنة الترقيات العلمية في الكلية .
كورس بوك لـمادة النقد العربي القديم للمرحلة الثالثة
كورس بوك لمادة تاريخ النقد العربي القديم
للمرحلة الثالثة قسم اللغة العربية
2016 ــــ 2017
في هذه المحاضرات التي نقدمها بين أيدي الطلبة ، نريد من خلالها تدوين نظرات العرب في أدبهم ، وفي شعرائهم وكتّابهم ، من العصر ماقبل الإسلام الى نهاية العصر العباسي ، و نريد أن نعرف مبلغ فطنتهم الى تعليل المسائل الأدبية ، ومبلغ قدرتهم على تفسيرها ، ونريد أيضاً أن ندرس تأريخ هذه النظرات وهذه الميول ، وما طرأ عليها من تبدل ، وما جد فيها عصراً بعد عصر، مع ذكر نماذج شعرية لكل مبحث من مباحث المادة 0
وفي الختام نتطرق الى العلاقة بين النقد العربي والنقد اليوناني ، متمثلاً بعلاقة كتاب ( نقد الشعر ) لقدامة بن جعفر و ( كتاب الشعر ) لأرسطو والمحاكاة عند حازم القرطاجني وافلاطون 0
مفردات تدريس مادة تأريخ النقد العربي القديم للمرحلة الثالثة
للسنة الدراسية 2016 ــ 2017
تشرين الأول :
الأسبوع الأول : توضيح مفردات المنهج وتزويد الطلبة بمصادر ومراجع للمادة
الأسبوع الثاني : مقدمة في النقد
الأسبوع الثالث : نشآة النقد العربي
الأسبوع الرابع : النقد في ما قبل الاسلام
تشرين الثاني :
الأسبوع الأول : النقد في عصر صدر الاسلام
الأسبوع الثاني : النقد في العصر الأموي
الأسبوع الثالث : النقد في العصر العباسي
الأسبوع الرابع : أثر متقدمي النحويين في النقد الأدبي
كانون الأول :
الأسبوع الأول : أثر متقدمي اللغويين في النقد الأدبي
الأسبوع الثاني : نظرية الطبقات عند ابن سلام الجمحي
الأسبوع الثالث : طبقات الشعراء عند ابن سلام الجمحي
الأسبوع الرابع : قضية اللفظ والمعنى في الشعر العربي
كانون الثاني :
الأسبوع الأول : قضية اللفظ والمعنى عند الجاحظ
الأسبوع الثاني : قضية اللفظ والمعنى عند ابن قتيبة الدينوري
الأسبوع الثالث : مسألة السرقات الشعرية في الشعر العربي
الأسبوع الرابع :عرض قضاياها ومناهجها ومراجعة من ألف في الموضوع
شباط :
الأسبوع الأول : منهج الموازنة عند الامدي
الأسبوع الثاني : قضية البديع عند ابن المعتز
الأسبوع الثالث : عمود الشعر والصراع بين القديم والحديث
الأسبوع الرابع : عمود الشعر عند ابن قتيبة و الجرجاني
آذار :
الأسبوع الأول : عمود الشعر عند الآمدي والمرزوقي
الأسبوع الثاني : نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني
الأسبوع الثالث : ابن طباطبا العلوي ومفهوم وحدة القصيدة
الأسبوع الرابع :ابن رشيق القيرواني والنظرة الكاملة للشعر
نيسان :
الأسبوع الأول : النقد اليوناني
الأسبوع الثاني : العلاقة بين النقد اليوناني و النقد العربي
الأسبوع الثالث : علاقة قدامة بن جعفر و النقد اليوناني
الأسبوع الرابع : العلاقة بين كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر وكتاب الشعر لأرسطو
مايس:
الأسبوع الأول : نظرية الشعر عند حازم القرطاجني
الأسبوع الثاني : المحاكاة عند افلاطون و حازم القرطاجني
الأسبوع الثالث : مراجعة المواضيع المدروسة
الأسبوع الرابع : مراجعة المواضيع المدروسة
قائمة بمصــــادرومراجع المادة
· البيان والتبيين، أبي عثمان بن عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق وشرح عبدالسلام هارون،ط5، مطبعة المدني، القاهرة، مصر /1985.
· تاريخ آداب العرب، مصطفي صادق الرافعي، ط4، دار الكتاب العربي بيروت، لبنان/1974.
· تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان، مطبعة الهلال بالفجالة، مصر /1912.
· تأريخ النقد الادبي ، احسان عباس ، بيروت ، 1971 0
· تأريخ النقد الادبي عند العرب ، طه ابراهيم عبدالله ، دار الحكمة ، بيروت _ لبنان ، 1937
· تأريخ النقد العربي ، محمد زغلول سلام ، دار المعارف ، 1964 0
· دلائل الاعجاز ، عبدالقاهر الجرجاني ، تعليق وشرح ، محمد عبد المنعم الخفاجي ، ط1، القاهرة ، 1969
· السرقات الادبية ، د.بدوي احمد طبانة ، دار الثقافة ، بيروت ، 1974 0
· شرح ديوان الحماسة ، المرزوقي ، تحقيق عبدالسلام هارون ، القاهرة ، 1951 0
· الشعر والشعراء ، أبي أحمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة ،ط2، دار الثقافة ، بيروت/1969.
· الشعر و الشعراء في العصر العباسي، د.مصطفى الشكعة،ط2، دار العلم للملايين ، بيروت/1975.
· النقد المنهجي عند العرب ، د. محمد مندور ، دار النهضة ، القاهرة ، مصر،/1972
· طبقات فحول الشعراء –محمد بن سلام الجمحي ، قرأه وشرحه محمود محمد شاكر ، مطبعة المدني ، القاهرة /1974.
· العمدة في محاسن الشعر وأدابه ونقده ، تأليف أبي الحسن بن رشيق القيروانى، حققه محمد محي الدين عبدالحميد ، مطبعة السعادة بمصر / 1955.
· عن اللغة والادب والنقد ، د.محمدأحمد العزب ، المركز العربي للثقافة والعلوم ،بيروت، لبنان.
· عيار الشعر ،ابن طباطبا العلوي ، تحقيق ، د. طه الحاجري و د.محمد سلام زغلول ، القاهرة ، 1956 0
· فن الشعر ، أرسطوطاليس ، ت : عبدالرحمن بدوي ، دار الثقافة ، ط2 ، بيروت – لبنان ، 1973 .
· الفنون الأدبية في العصر العباسي ، هيرش محمد امين ، رسالة ماجستير، كلية اللغات ، جامعة السليمانية ، 2000 0
· الفنون الأدبية واعلامها في النهضة العربية الحديثة، أنيس المقدسي، ط2، دار العلم للملايين، بيروت /1978.
· فنون النثر في الأدب العباسي ، د. محمود عبد الرحيم صالح ، دار جرير للنشر والتوزيع ، ط2 ، عمان ، الأردن ، 2005
· الفن ومذاهبه في النثر العربي ، د. شوقي ضيف ، دار المعارف ، ط8 ، مصر 1977 .
· في النقد الادبي الحديث ، د.فائق مصطفى احمد و د.عبدالرضا علي ،جامعة الموصل ، ط2، 2000 0
· في النقد الادبي، د.شوقي ضيف ، دار المعارف ، ط9 ، 2004،
· القيم الفنية المستحدثة في الشعر العباسي من بشار الى إبن المعتز، د. توفيق الفيل، مطبوعات جامعة الكويت /1984.
· محاضرات في تأريخ النقد عند العرب ، د. ابتسام مرهون الصفار ، و د. ناصر حلاوي، جامعة بغداد ،1990
· مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، ط4، دار الاندلس، بيروت، لبنان/1981.
· المعلقات العشر وأخبار شعرائها، الشيخ أحمد بن ألأمين الشنقيطي، المكتبة التجارية الكبرى،
· مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقد، د.جابر أحمد عصفور، المركز العربي للثقافة والعلوم / 1982.
· مقالات في تاريخ النقد الأدبي، د. داود السلوم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت/1981.
· منهاج البلغاء وسراج الادباء ، نحقبق محمد الحبيب بن الخوجة ، تونس ، 1966
Department of (Department) Course
Stage:
Classroom:
No. of Students:
· الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري لأبي القاسم الحسن بن بشر الأمدي، تحقيق السيد أحمد صقر ، دار المعارف بمصر/1961
· النثر الفني في القرن الرابع ، زكي مبارك ، ط1 ،مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة /1934.
· نظرية الأدب ، أوستن وارين ، رينيه ويلك ، ت : محي الدين صبحي ، مطبعة خالد الطرابيشي ، سورية ، 1972 .
· النظرية النقدية عند العرب ، د. هند حسين طه ،وزارة الثقافة والاعلام ن العراق ، 1981 0
· النقد الأدبي الحديث ، د. محمد غنيمي هلال ، دار العودة ، ط1 ، بيروت ، 1982
· النقد الأدبي ، د. علي جابر العصفوري ، جامعة بغداد ، بغداد ، 1985 .
· النقد الادبي عند العرب ،د. حفني شرف ، مكتبة الشباب بالمنيرة ،ط2، 1972 0
· النقد البنيوي والنص الروائي ، نماذج تحليلية من النقد العربي ، أفريقيا الشرق ، ط2 ، بيروت ، الدار البيضاء ، 1994 .
· -النقد التطبيقي التحليلي ، د. عدنان خالد عبدالله ، دار الشؤون الثقافية العامة ، ط1 ، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد ، 1986
· نقد الشعر ، قدامة بن جعفر ، تح : كمال مصطفى ، مكتبة المثنى ببغداد ، مكتبة الخانجي بمصر ، 1963 .
· النقد العربي الحديث ، د. علي عبد الرزاق حمود ، جامعة بغداد ،1990 0
· النقد العربي القديم ، د. محمود ربداوي ، جامعة دمشق ، 1987 0
· النقد المنهجي عند العرب ، د. محمد مندور ، دار النهضة ، القاهرة ، مصر،/1972.
· نماذج في النقد الأدبي وتحليل النصوص، إيليا سليم الحاوى، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، بيروت.
· الوساطة بين المتنبي وخصومه ، تحقبق وشرح محمد ابو الفضل ابراهيم وعلي محمد البجاوي ، البابي الحلبي ، ط2، 1951
· يتيمة الدهر في محاسن أهل العصرلأبي منصور الثعالبي، حققه وشرحه محمد محي الدين عبدالحميد، ط2، مطبعة السعادة، القاهرة/1956
نماذج من الأسئلة :
س1 /
( ارتقى النقد الأدبي في العصر الأموي )، ماهي الآسباب التي ادت الى هذا الارتقاء ؟
س2 / بيّن ماقيل من آراء نقدية في هذه الابيات :
ـ فاْرغب إلى ملِكِ الملوك ،ولا تكن باديَ الضراعة طالباً من طالبِ
ـ فلا تكثِروا فيها الضًجاج فإنه محا السيف ما قال ابن دارة أجمعاً
ـ أجدرُ بجمرة ٍ ، لوعة اطفاؤها بالدمع أن تزداد طولَ وقودِ
س3/ من هو صاحب نظرية طبقات الشعراء ؟ عدد هذه الطبقات ، وهل تقسيمه للطبقات تقسيماً موضوعياً فسر القول في ذلك ؟
مدرس المادة
أ0م0 د .هيرش محمد امين
تأريخ النقد العربي القديمِ
مقدمة
تهدف المناهج التعليمية ، من تدريس تأريخ النقد العربي القديم الى تنمية التذوق الأدبي عند الدارس وصقل حسّه النقدي ، والأخذ بيده الى مدارج القدرة على تمييز جيد الادب من رديئه ، وتعريفه على الأحكام النقدية التي جادت بها قرائح النقاد ، منذ نشوء النقد الأدبي عند العرب حتى نضجه وكماله 0
ومن المفيد في هذا التمهيد ، أن نوضح للقاريء مفهوم النقد لغة وإصطلاحاً ، ففي المعاجم اللغة العربية نجد كلمة النَّقْدُ تعني تمييز الدراهم واخراج الزَّيْفُ منها ونقدت الدراهم وانتقدتها، إذا أخرجت منها الزيف 0
والنقد اصطلاحاً عرفه الكثيرون من النقاد القدماء والمحدثين ، من القدماء عرفه قدامة بن جعفر(ت 337هـ) في كتابه نقد الشعر بأنه ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) ، وأشار ابن رشيق القيرواني (ت 456هـ) وهو أوضح منه بقوله : ( وقد يميز الشعر من لا يقوله كالبزاز يميز من الثياب ما لا ينسجه ، والصيرفي ما لم يسبكه ولا يضربه ) ، ومن المحدثين عرفه كثير من النقاد ومنهم د. محمود الربداوي يقول النقد : هو الحكم على الأدب ، وإنزال النص المنقود في منزلته من السمو أو الدنو0ويقول حنا الفاخوري بأنه : فن دراسة الآثار وإظهار قيمها ، والتمييز بين الأساليب المختلفة 0 ويعرفه د. محمد مندور بأنه فن دراسة الأساليب وتمييزها . وعرفه د. داود السلوم بأنه تقويم النص ومحاولة البحث في مكامن الجمال والقبح والسلامة والخطأ . وعرفه الآخرون بأنه تحليل الأعمال الفنية ، وتحديد قيمها الجمالية والفنية والغائية .
الملاحظ في تعريفات القدماء ان النقد اقتصر فقط على الشعر فقط دون النثر وانحصرت البحوث النقدية في الشعر لأنه اسبق منه وكما يقال ( الشعر ديوان العرب ) من اجل ذلك نلحظ ان تعريفات القدماء تنصب في قضايا الشعر وحده وتركوا النثر بما فيه فن الخطابة وامثال ورسائل ومقامات وقصة ومقالة ومسرحية ، لأن هذه لم تبرز مثل الشعر الا في اوخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث للهجرة ، وبلغ أوجه ازدهارها في القرن الرابع 0
ومن خلال الكتب التي ألفت في البحث عن جمال القول ما يدل دلالة لا لبس فيه على ان العرب عرفوا فن النقد الادبي كنهاً وحقيقةً ، وان لم يعرفوه عنواناً لطائفة من المسائل سنأتي الى ذكرها ضمن مباحثنا لهذا الفن 0
ففي هذه المحاضرات التي نقدمها بين أيديكم ، نريد من خلالها تدوين نظرات العرب في أدبهم ، وفي شعرائهم وكتّابهم ،نريد أن نعرف مبلغ فطنتهم الى تعليل المسائل الأدبية ، ومبلغ قدرتهم على تفسيرها ، ونريد أيضاً أن ندرس تأريخ هذه النظرات وهذه الميول ، وما طرأ عليها من تبدل ، وما جد فيها عصراً بعد عصر0
وفي الختام نتطرق الى العلاقة بين النقد العربي والنقد اليوناني ، متمثلاً بعلاقة كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر وكتاب الشعر لأرسطو والمحاكاة عند حازم القرطاجني وافلاطون 0
نشأة النقد العربي
نشأ النقد مع الأدب أو بعده بقليل ، ونقول معه لأن الأديب نفسه يمكن ان يكون ناقداً وهو ينشيء النص فيقومه و يعدله ويستبدل كلمة بأخرى ، ويقدم بيتاً على آخر أو فقرة على أخرى ...الخ 0
ولنا في التأريخ العربي مايؤيد هذا ، فهناك من الشعراء مثل زهير بن ابي سلمى والحطيئة من يبقى القصيدة حولاً كاملاً يعود اليها بين حين وآخر معدلاَ ومغيراً ، فهو على هذا النحو ناقد لعمله0
ونقول قد ينشأ النقد بعد ان يكون الاديب قد فرغ من كتابة النص شعراً كان ام قصة ام رواية وأذاعه بين الناس . ويكون لهؤلاء الناس موقف ما وهم يقرأون النص وهو موقف يتراوح بين الإعجاب المطلق اوالاستهجان المطلق ، لكن الناقد المتمرس هو الذي يستطيع ان يكشف عن اسباب الإعجاب اوالاستهجان . يعضده في ذلك القول ذوق رفيع وقراءات واسعة للنصوص الادبية الجيدة ، وثقافة عميقة في علم اللغة و علم الجمال و علم النفس و علم الاجتماع0
وعبر قرون وقرون من الممارسات النقدية عند كبار التقاد ، تطور النقد وتعددت اساليبه ومناهجه ، ومع ذلك فالعملية النقدية لا تعدو ان تكوت اسئلة عقلية يطرحها الناقد وإنما هو سؤال عن العمل الادبي ، والاستفسار عن المضمون ، كيفية التعبير عن الافكار والعوطف ...الخ0
وتمر العملية النقدية بثلاث مراحل وهي التفسير ، والتحليل ، والتقويم 0
والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من ادواته ولعل اول من اشار الى هذا ابن سلام الجمحي في كتابه ( طبقات فحول الشعراء)عندما قال ( وللشعر صناعة وثقافة يعرفها اهل العلم كسائر اصناف العلم والصناعات ) ، ويقول الاصمعي ; (فرسان الشعر اقل من فرسان الحرب) ،ويقول الباقلاني :( ان نقد الكلام شديد وتمييزه صعب ) 0
النقد في العصر الجاهلي ( ما قبل الإسلام )
قديماً قالوا (( الشعر ديوان العرب )) ولو توسعوا قليلاً لقالوا أيضاً (( إن الأدب على العموم سجل لهم )) وليس الشعر وحده فالأدب العربي الجاهلي نتيجة صادقة لبيئته ، وحياتهم الطبيعية جعلتهم يقصدون الى أغراض معينة ، استلزمتها الحياة الصحراوية في البادية ، فالحياة عندهم قاسية مجدبة ، و هم في هذه الحياة كانوا يغنون وفقاً لقانون التعويض كالذي نراه في بيئاتنا من أكثر الناس بؤسا ً في الحياة أشدهم ولوعاً بالتغني ليروح عن نفسه ، وقد كان العربي يغني لنفسه ، ويشرك في غنائه ناقته أو جَمَلهِ 0
من هنا نشأ أول ما نشأ فن الشعر الرجز الذي يساير نغمات سير الجَمَل ، وكان لهذا الرجز أثر سحري في نفس الشاعر وجَمَلهِ ، إذ يجعلها يسيران مسافة بعيدة من غير أن يتعبا ، ثم تطور الرجز الى القصائد المختلفة الأوزان ، ولكن مع الأسف لم يصلنا من الشعر القديم شيء ، وإنما وصل الينا بعد أن نضج ، وتأريخه يرجع الى نحو قرن ونصف قبل البعثة النبوية لا قبل ذلك 0
وكان لتنقلات العرب الى العراق والشام وفارس وللأحداث السياسية والاجتماعية التي حدثت لهم وللحروب التي كانت بينهم أثر كبير في شعرهم ، وعمل كل ذلك عمله في نضج الشعر وصبه في القوالب المعينة ، حتى وصل الينا ناضجاَ كما نرى 0
فقد تغلبت لهجة القريش على لهجات العرب الأخرى ، واصبحت لغة الشعراء من جميع القبائل واهتدى العرب الى تفاعيل وأعاريض كثيرة نظموا منها أشعارهم ، وذلك من حيث اللغة ، فاما من حيث المعاني فقد حدثت كما ذكرنا أحداث سياسية واجتماعية كثيرة غذت الذهن وأمدت الشعور وأخصبت الخيال عند العرب ، وتسربت الى داخل شبه الجزيرة العربية الوثنية وتعاليم مسيحية ويهودية ، وارتقت حياة العرب المادية بعض الشيء،واشتعلت الحروب بين القبائل كحرب أسد وكندة وداحس وغبراء وحرب البسوس ، هذه الحياة في صورها المختلفة كانت تستدعي ألسنة ، ولم تكن هذه الألسن إلا الشعراء الذين وضعتهم التقاليد القديمة في موضع مهيب 0
ويروي الرواة أنه كان للعرب أسواق يجتمعون فيها ويتناشدون الأشعار ويتناقدون ، فكان أيضاَ عاملاَ اجتماعياَ في ترقيق الألفاظ وتدقيق المعاني وترقية النقد ، وعلى الأخص سوق عكاظ ، ويروون عنه أن النابغة الذبياني برز في نقد الشعراء ، وتفضيل بعضهم على بعض ، كما فضل الأعشى والخنساء 0
ومن تلك المشاهد التي كانت بين النابغة والشعراء في عكاظ ، أنشده الأعشى مرة ، ثم أنشده حسان بن ثابت ثم شعراء بعده ، ثم الخنساء انشدته قصيدتها في رثاء اخيها صخر التي منها :
وإ ن صخراَ لتأتم الهداةُ به كأنه عَلَمٌ في رأسهِ نارُ
فأعجب النابغة بالقصيدة ، وقال لولا أن أبا بصير ـ يعني الأعشى ـ أنشدني لقلت أنك أشعر الجن والإنس ، فالأعشى إذن أشعر الذين أنشدوا النابغة ، والخنساء تليه منزلة وجودة الشعر 0
ولقد عاب العرب على النابغة الذبياني في الإقواء في قوله :
أمِنْ آلِ ميَة رائحٍ أو مغتدٍ عجلانَ ذا زادٍ ، وغير مُزوًدِ
ففطن فلم يعد الى ذلك ، والإقواء أثر من آثار طفولة الشعر ، ودليل على أن العربي لم يهتد مرة واحدة الى وحدة حركة الروي 0
وقد كان النقد المروي لنا نقداً مبنيا ً على الذوق الفطري ، فنقد طرفة بن العبد مثلاً المتلٌمس إذ يقول :
وقد أتناسى الهمٌ عند إحتضاره بناجٍ عليه الصًيعريٌة مُقدمِ
فقال طرفة : إستنوق الجمل ، لأن الصيعري سمة في عنق الناقة لا في عنق البعير 0
وروي أن بعض شعراء تميم اجتمعوا في مجلس شراب ، وكان بينهم الزبرقان بن بدر ، والمخبٌل السعدي ، وعبدة بن الطيب ، وعمرو بن الأهتم ، وتذاكروا في الشعر والشعراء ، وادعى كل منهم أسبقيته في الشعر ، وتحاكموا فقال الحكم :
أما عمرو بن الأهتم فشعره برودج يمنية ، تطوى وتنشر ، وأما الزبرقان بن بدر فكانه أتى جزوزاَ قد نحرت فأخذ من أطايبها وخلطه بغير ذلك ، وأما المخبٌل السعدي فشعره شُهُبٌ من الله يلقيها من يشاء على عباده ، وأما عبدة بن الطيب فشعره كمَزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء 0
وهذان نوعان من النفد مختلفان ، فالأول ينقد ألفاظاً ومعاني الجزئية ، والثاني يفاضل الشعراء ويبين مزاياهم وعيوبهم ، وهو على كل حال نقد بدائي 0
وبجانب ذلك هناك نوع ثالث من النقد ، والحكم على بعض القصائد بأنها بالغة منزلة ، علياَ في الجودة بالموازنة بغيرها ، فقالوا : إن قصيدة سُوَيد بن أبي كاهل التي مطلعها :
بسطتْ رابعةُ الحبلَ لنا فوصل الحبلُ منها ما انقطع
أن القصيدة جيدة وفريدة ودعوها اليتيمة ، ولم ينظم مثلها 0
وقالوا في قصيدة حسان بن ثابت :
لله دَرٌ عِصابةٍ نادمتهم يوماً بجلِّق في الزمان الأولِ
دعوها البتارة ، أي التي بترت المدائح وأنها من خير القصائد في المدح 0
هذه الشواهد تدل على وجود صور من صور النقد الأدبي في العصر الجاهلي ، ومَلَكَة النقد عند الجاهليين ، هو الذوق الفني المحض ، فأما الفكر وما ينبعث عنه من التحليل والاستنباط فذلك شيء غير موجود عندهم ، وبعيد كل البعد عن الروح الجاهلي وعن طبيعة العصر الجاهلي ، ولئن كان كثيراً من هذه الروايات النقدية غير صحيح ، فإن أساسها كلها صحيح يدل على الذوق البدائي في النقد الجاهلي 0
النقد في عصر صدر الإسلام
كان عصر بعثة حافلاً بالشعر، فياضاً به ، وإن ضُعف في بعض نواحيه ، فالخصومة بين قريش والنبي[صلى الله عليه وسلم] وأصحابه من ناحية ، وبين قريش والعرب من ناحية أخرى كانت عنيفة جادة لم تقتصر على السيف والسنان، بل امتدت الى البيان والشعر ، وإلى المناظرات والجدال والمناقضات بين شعراء المدينة وشعراء مكة ، وغير مكة من الذين خاصموا الإسلام.
كان شعراء قريش ومَنْ والاهم يهجون النبي وأصحابه ، وكان شعراء الانصار يناقضون هذا الهجاء ، ولعل ذلك أول عهد حقيقي للنقائض في الشعر العربي ، ولعل تلك الروح هي التي أنهضت هذا الفن.
كانت قريش تجزع كل الجزع من هجاء حسان بن ثابت، ولا تبالي بشعر عبدالله إبن رواحة ، وكان ذلك قبل أن تسلم ، فلما أسلمت رأت في الشعرين رأياً أخر ، فقد كان حسان بن ثابت يطعن في أحسابهم ، ويرميهم بالهنات التي تنال من العزة الجاهلية ، وكان عبدالله بن رواحة يعيرهم بالكفر، ثم أسلموا وكان شعر إبن رواحة هو الذي يحز قلوبهم حزا ً، فهم إذن كانوا يرون حساناً أعظم الشعراء الخصوم .
ومن جهة أخرى كان المهاجرون والأنصار يعدون حساناً الشاعر الذي يحمي أعراض المسلمين ، يبعثون في طلبه حين تفد الوفود، فيبلغ من حاجتهم مالا يبلغه صاحباه (ابن رواحة وكعب بن مالك)، والكلام كثير في أن النبي [صلى الله عليه وسلم] لما قدم المدينة تناولته قريش بالهجاء ، وهجوا الانصار معه ، وأن عبدالله بن رواحة ردَّ عليهم فلم يصنع شيئاً، وأن كعب بن مالك لم يشف النفس، وإنما الذي صنع وشفى وصب على قريش من لسانه شأً بيب شر هو حسان ، والكلام كثير في استماع النبي لحسان ، وأن المسلمين كانوا يعتمدون إعتماداً حقيقياً على حسان في هذا الضرب من النضال، لِمَ ذلك ، لأنهم كانوا يرون الملكة الشعرية في حسان أنضج منها في سواه ، وهنا روح النقد ظاهرة واضحة في مكة والمدينة.
ولم يكن النبي [صلى الله عليه وسلم] يتحرج من الشعر ، ويتألم بالقدر الذي يظنه كثير من الناس ، وليس بدعاً أن يعجب بالشعر العربي كما يعجب به أصحاب الذوق السليم ، فقد أعجب بشعر طرفة بن العبد يروى أنه أُنشِدَ النبي [صلى الله عليه وسلم] هذا البيت له أي لطرفة بن العبد :
ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار مِنْ لم تزودِ
فقال : هذا من كلام النبوة ، وأعجب بشعر النابغة الجعدى ، وقال له : ((لا يفضض الله فاك )) وبلغ أستحسانه لــ((بانت سعاد)) لكعب بن زهير ، وأصفح عنه وأعطاه بردته ، استمع الى الخنساء واستزادها مما تقول ، وتأثر تأثراً رقيقاً لشعر قتيلة بنت النضر، وهو الذي دعا حسان بن ثابت ليجيب وفد تميم ، وهو الذي قال :((إن من البيان لسحراً))و((إن من الشعر لحكمة)).
وظاهر أن هذا النقد لا يزال فطرياً ، فلم نجد أحداً أبان عما أعجب به في الشعر، أو ذكر سبباَ لتفضيل شاعر.
وقد ظلت وفود العرب تأتي الى المدينة في عهد الخلفاء الراشدين وتجمعهم أنديته ، فيخوضون في رجالات الجاهلية من شعراء وأبطال والوجهاء ، وقد يخوض الخليفة في بعض ما يخوضون ، وأخص الخلفاء الذين عرف عنهم ذلك عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه )، وكان عالماً بالشعر ، تحدث مرة مع وفد غطفان فقال:
أي شعرائكم الذي يقول:
أتيتك عارياً ، خلقا ثيابي على خوفٍ تُظَنُّ بيَ الظنونَ
قالوا : النابغة ، وقال أي شعرائكم الذي يقول :
حلفتُ فلم أتركْ لنفسك ريبةً وليس وراءَ الله للمرء مَذْهبُ
قالوا : النابغة ، وقال فأي شعرائكم الذي يقول :
فإنكَ كالليل الذي هو مُدركي وإن خِلتُ أنَّ المنتأي عنك واسع
قالوا: النابغة، قال ، هذا أشعر شعرائكم . فالنابغة في نظر أو رأي عمر بن الخطاب( رضي الله عنه ) أشعر غطفان ، أشعر شعراء عبس و ذبيان ، أشعر من عنترة ، ومن عروة بن الورد ، ومن الشماخ بن ضرار ، ومن مزرد أخيه.
ولكن شيئاً أخر يروى عن عمر ولا يتمشى مع ما سبق ، يقول ابن عباس : قال لي عمر لليلة مسيره الى الجابية في أول غزوة غزاها : هل تروي لشاعر الشعراء ؟ قلت ومن هو ؟ قال الذي يقول :
ولو أنَّ حمداً يُخلِدُ الناسَ أخلدوا ولكن حمدَ الناسِ ليس بمخلدِ
قلت:ذلك زهير ، قال : فذاك شاعر الشعراء ، قلت: وبم كان شاعر الشعراء ؟ قال : لأنه كان لا يعاظل في الكلام ، وكان يتجنب وحشي الشعر ، ولم يمدح أحداً إلا بما فيه.
والظاهر أن هناك تعارضاً في الحكمين ، فالنابغة أشعر العرب عند عمر ، وزهير شاعر الشعراء عنده كذلك ، ان مثل هذه الأحكام تصادف الباحث في النقد عند العرب في بعض الاحيان ، لقد قدمنا ان النقد قائم على التأثر الوقتي أو على الافتعال السريع ، دون أن يكون فيه شمول أو تفكير طويل ، فالناقد يعجب بأبيات من الشعر فيقدمُ صاحبها ، فإذا خلا القلب من سحر هذه الابيات ، واختلف المواطن والأحوال ، وتأثر بشعر آخر قدم صاحبه ، ففي الأولي يفضل النابغة على شعراء قومه خاصة ، ويفضل زهير على الشعراء أجمعين .
والرواة يحدثوننا أن الحطيئة هجاء الزبرقان بن بدر بقصيدة التي جاء فيها :
ويقال بأن الزبرقان بن بدر أتى الخليفة عمر بن الخطاب (رض) ومعه الحطيئة ، وقال له : لقد هجاني هذا الشاعر ، عندما سمع الخليفة البيت السابق، قال : ما أسمع الهجاء ، ولكني أرى معاتبة ، فقال الزبرقان : ألا تبلغ به مرؤتي وهمتي ، إلا أن آكل وألبس ؟ وبعث عمر في طلب حسان ليعرف من أمر الشعر ،سأله ؟ فقال: لم يهجه ، ولكن سَلحَ عليه ، وكان هذا قضاء من حسان على أن البيت مؤلم ، وكان حاملاً للخليفة على حبس الحطيئة ، وهذا الحكم تقدير لشعر الحطيئة وإفصاح عن قوة معانيه وشدة ايلامها للنفوس.
والظاهر أن النقد في هذا العهد قد أتسع أفقه ، وتنوعت رجاله ، وجنح الى شيء من الدقة ، وحاول أن يحدد بعض خصائص الصياغة والمعاني ، وتأثر شيئاً ما بروح البناء والتأسيس التي سادت ، فيما كان يجد أمام المسلمين من شؤون التشريع ، وليس عجيباً أن كثيراً من الاعجاب ينصرف في عصر البعثة والخلفاء الى الشعر الخُلُقي ، الى شعر الفضائل والعظات ، الى شعر المروءة والهمم 0
النقـــــــــــــــــد فـــــــــــــــي العصر الأمـــــــــــــــــوي
ويظل النقد ناشئاً يافعاً الى أواخر القرن الأول ، يظل ملحوظات يسيرة تعزز أحياناً بشيء موجز من المقاييس الأدبية ، وإن لنا أن نقول إن العهد من عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) الى خلافة مروان بن الحكم لم يضف شيئاً جديداً الى الشعر ، بسبب الاضطرابات السياسية ، لا نكاد نستثني من ذلك غير معاوية بن أبي سفيان ، فقد كان النقد فيه على شيء من الحياة ، وكان له وللناس من هدوء الحال واستقرار الدولة ، ما يشفع لهم بالتحدث في الأدب والأدباء ، كان معاوية يفضل الجيد من الشعر ، ويقول كان أشعر أهل الجاهلية منهم وهو زهير ، وكان أشعر أهل الإسلام منهم وهما ابنه (ابن زهير )كعب ، ومعن بن أوس.
غير أن الحال تغيرت كثيراً في أواخر القرن الأول ، تغيرت في اخريات أيام فحول الاسلاميين ، فارتقى النقد الأدبي إرتقاءً محموداً ، وكثر الخوض فيه ، وتعمق الناس في فهم الأدبي ، و وازنوا بين شعر و شعر ، وبين شاعر وآخر ، حتى لنستطيع أن نقول إنّ عُمْرَ النقد الصحيح يبتديء من ذلك الوقت ، وأن كل ما سبق لم يكن غير نواة له أو محاولات فيه ،
ولذلك التقدم أسباب نذكر منها ما يتصل بالادباء الذين ينقدون الأدب سليقة وطبعاً:
1- فقد شهدت سنوات القرن الأول الأخيرة ازدهار الشعر الأسلامي وأوجهِ ، ورأت شعراء شبوا الاسلام ، وعاشوا كلهم عيشة اسلامية وكان هؤلاء الشعراء من أقطار مختلفة ، ومن بيئات مختلفة ، ومن نزعات سياسية مختلفة ، ومن مذاهب أدبية مختلفة، ونذكر منهم عمر بن أبي ربيعة في مكة ، والأحوص وعبيدالله بن قيس الرقيات في المدينة ، جميل بن معمر وذا الرمة في البادية ، وجرير والفرزدق في العراق ، والأخطل في بلاد الجزيرة ، والكميت الأسدي في الكوفة ، والطرماح بن الحكيم وعدي بن الرقاع في الشام ، هؤلاء اسلاميون جميعاً ، وهؤلاء نضجت ملكاتهم الشعرية في أواخر المائة الأولي وأوائل القرن الثاني وهؤلاء معاصروهم ، هم رجال الازدهار الثاني للشعر العربي ، وقد كثر الكلام فيهم وكثرت الموازنة بينهم ، وكانوا مادة فسيحة للنقد الأدبي.
2- ثم إن النقد يومئذ كثرت بيئاته في البادية والحواضر الأسلامية،فمكة مجتمع الشعراء في مواسم الحج ، والمدينة مقام بعض العلماء , ودمشق بلد الوفادة على الخلفاء ، والبصرة والكوفة نزل كثير من الشعراء وفصحاء العرب.
3- وعامل ثالث قوي النقد ، وأكثر الكلام فيه ، هو رجوع العصبية العربية أي عهد الجاهلي وأشد ، قويت الخصومة بين الشعراء ، وفشا التهاجي بينهم ، وأمد بنو أمية ذلك اللهب بالوقود ، كانوا بنو أمية لا يطمئنون الى شعراء مُضر ، ويقدمون عليهم شاعراً من ربيعة كالأخطل ، وكان بشر بن مروان يهيج في مجالسه حزازات الشعراء ، ويغري بعضهم ببعض ، وكان جرير ينهش الفرزدق والأخطل ، وكان ينهش جريراً بضعة وأربعون شاعرا ً ، هذه العصبية دعت الى أن يشتغل الناس بالشعر والشعراء ويستمعوا لذا وذاك ، يمضي بهم هذا بالضرورة الى النقد والى الحكم.
هذه العوامل وغيرها كالغناء تضافرت على خلق روح جديدة في النقد وعلى تحليل صياغة الشعر ومعانيه ورجاله تحليلا فيه عمق ، وفيه نظر متنوع ، وفيه إختلاف في الذوق والحكم.
فمن الأمور التي امتدحوها في الصياغة أن تكون أعاريض الشعر موسيقية ذات نغم محسوس ، فطن ذو الرمة الى جمال تلك الخاصة في الشعر فامتدح أبياتاً له بأن لها عروضاً ولها معنىً بعيدا ً ، وقَدِمَ الكوفة ودخل مسجدها ، فمر ببصره فرأى الكميت والطرماح فقصدهما ، ثم جلس ، وقال لكميت : إسمعني شيئاً يا أبا المستهل ، فأنشده قوله :
أبت هذه النفس إلا أدكارا
حتى أتى على آخرها فقال : أحسنت يا أبا المستهل في ترقيص هذه القوافي وتعلم عقدها ، والقصيدة من بحر متقارب ، ولهذا البحر نغمات راقصة مرحة.
ومما عابوه في الشعر أن تكثر أسماء الأماكن والقري فيه ، وأن ترد به ألفاظ غير شعرية ، أستنشد عمر بن أبي ربيعة ، مالك بن أسماء فأنشده شيئاً من شعره ، فقال له عمر : ما أحسن شعرك لولا أسماء القرى التى تذكرها فيه ، مثل قولك:
حبذا ليلتي بتل بونًي حين نسقى شرابَنا ونغني
وكان العجاج الراجز ينتقد الكميت والطرماح في أنهما يأخذان عنه الغريب ، فيضعانه في غير مواضعه ، ثم يمعن في النقد فيعلل ذلك بأنهما قرويان يصفان ما لم يريا فيخطئان.
ونقد الشعر في هذا العصر جاوز بنيته ومعانيه الى نقد الشعور ، ونقد الشعور أعمق وأدق من نقد الصياغة والمعاني في أغلب الأحيان ، وقد قالوا: إن جريراً يغرف من البحر ، والفرزدق ينحت من الصخر ، وإن الشعر إنما يكون في الخوف والرجاء ، عند الخير والشر ، وذوالرمة الذي ورد اسمه كثيراً ، في نقدة الأدب ، يقول : من شعري ما طاوعني فيه القول وساعدني ، ومنه ما أجهدت نفسي فيه ، ومنه ما جننتُ به جنوناً ، وقد فطن العرب الى كثير من خصائص الشعر الجيدة ، فطنوا الى روعة النغم ، ورقة الشعور ، وجودة المعاني ، وعرفوا بطبعهم ماهو حسن من عناصر الشعر وما هو رديء ، وفرقوا بين إحساس وإحساس ، فأما الخيال فقد فطنوا اليه ، وإن لم يسمعوه ، وهذا ذو الرمة يزهو بأنه يحسن التشبيه ، وهذا الفرزدق يسجد سجدة الشعر لبيت لبيد ، والتشبيه من المعاني ، وهو كذلك من ضروب الخيال.
فلو كان للشعراء كذلك نصيب كبير من عناية النقاد ، فقد وقفوا وقوفاً حسناً على كثير من خصائص كبار الشعراء الاسلاميين ، وفنونهم ومذاهبهم الأدبية ، وكان لذلك الوقوف أثره في توضيح أمور أخرى في الشعر غير الصياغة والمعاني ، كان له أثره في إثارة كثير من مرامي الشعر واتجاهاته وبواعثه ، عرفوا الأغراض الشعرية التي يجيد فيها الشاعر ، أو الغرض الذي انصرف اليه ، وانفرد به وبرع فيه فجميل يقول في عمر بن أبي ربيعة ، إنه يجيد مخاطبة النساء ، وإن أحداً لم يخاطبهن مثل ما خاطبهن عمر ، وهذا حكم في غاية الدقة ، من جميل وفطنة الى مذهب عمر في الشعر ، فهو لايشكو حباً ولايبث صبابة ، وإنما يتحدث ويغازل ، وجرير يعترف للأخطل بأنه أشعر الثلاثة في نعت الخمر ، ومدح الملوك وكان القول شائعاً بأن ذا الرمة والنصيب لايحسنان الهجاء .
ولم يَفُتْهُمْ أن يدركوا بعض السبل التي سلكها الشعراء ، وأن بجمعوا بين شعراء المذهب الواحد ، فعمر بن أبي ربيعة شاعر مكة وشعابها وبطاحها ونزهها وواصف نسائها وجمالهن ، ومذهبه لايتجاوز الغزل الى المديح أو الهجاء الشائعين في العراق .
هذه المذاهب الأدبية التي وقفوا عليها ونقدوها ، بل تفاوتوا في النظر اليها وفي الحكم عليها ، فبينما يعجب ناقد بمذهب عمر بن أبي ربيعة ، وإذا بآخرين يعيبونه.
وتعرفُ المذاهب الأدبية كان له أثره في الموازنة بين الشعراء ، وفي تقدير منازلهم ، فهم يوازنون بين شاعرين من مذهب واحد ، أو يجمعهما فن شعري واحد ، أو عدة فنون ، يوازنون بين جرير والفرزدق ، أو بين كثير ونصيب أو بين عمر بن ربيعة وابن قيس الرقيات ، أو بين عمر وجميل ، وكانت الموازنة بين الشعراء على عدة صور كانت في الأغراض التي طرقوها ، قلة وكثرة ، وفي تأتيهم لتلك الأغراض وفي قصيدتين اتحدتا في الموضوع والوزن والروي ، وفي نوعين متميزين من القول كالرجز والقصيدة.
فجرير يزهو بأنه قال المديح والهجاء والرثاء والنسيب والرجز ، وأنه لم يدع غرضاً إلا وطرقه ، قال في كلَّ ذلك وأجاد ، وقلما يجيد شاعر في أكثر من غرض ، وكان شائعاً أن الأخطل أجود ثلاثة مدحاً ، وأن الفرزدق أهجى من جرير ، وكان عمر بن أبي ربيعة يعارض جميلاً ، فإذا قال جميل قصيدة قال عمر مثلها ، قالوا ان عمر أشعر من جميل في الرائية والعينية ، وان جميلاً أشعر منه في اللامية ، والأخطل يقول للفرزدق في شأن جرير إنك وإياي لأشعر منه 0
الذوق هو الغالب في النقد عند الذين ذكرناهم من النقاد ، وهذا الذوق صاف منسجم متمشى مع الحياة الأجتماعية فالشعر كلام ، وخيره أجوده ، والشعر تصوير الحياة ، وخيره ما أحسن التصوير ، فكان النقد أجتماعياً وكان فنياً خالصاً .
ومهما يكن من انفساح في آفاقه فإننا لا نزال بين نقدة فطريين يشعرون سليقة وطبعا ً ، وينقدون سليقة وطبعاً ، لانزال في عهد من عهود الذوق العربي الخالص ، وفي صورة من صور السامية ، وما تألفه في الشعر من ضروب الجمال.
النقــــــــــــــــــد في العصر العبــــــــــاسي
اذا وصلنا الى النقد في العصر العباسي رأينا إمعاناً في الحضارة وإمعاناً في الترف ، ورأينا الشعر والنثر يتحولان الى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن طبع وسليقة ، حتى لنرى كثيراً من الشعراء والكتاب من الموالي عُدُّوا عرباً بالمَربى ، ورأينا الثقافة تعظم و تتسع وتشمل فروع المعرفة كلها ولاتقتصر على الثقافة الدينية والأدبية ، ورأينا الثقافات الأجنبية تتدفق على المملكة الإسلامية من ، فارسية وهندية ويونانية ، ورأينا كل مجموعة من المعارف تتحول الى علم ، حتى اللغة والأدب والنحو والصرف .
فكان طبيعياً أن يتحول الذوق الفطري الى ذوق مثقف ثقافة علمية واسعة وأن يتأثر النقد الأدبي بهذه الثروة العلمية والأدبية الواسعة.
ولو تتبعنا ماروي لنا من النقد في هذا العصر لرأيناه متجهاً اتجاهين أو سائراً على نمطين : نمط منه هو إمتداد النقد الجاهلي والإسلامي مع ما اقتضته البيئة من تحول ، من ذلك أن العلماء باللغة والأدب من العباسيين أمثال الخليل والكسائي والأصمعي وأبي عمرو بن العلاء والنضر بن شميل ، وابن الاعرابي ، كانوا يستعرضون الشعراء السابقين من جاهلين و اسلاميين ، ويتذوقون شعرهم ويبدون فيه رأيهم ، فيقولون إن شعر النابغة قوي الصياغة شديد الأسر وشعر أمرئ القيس غزير بالمعاني التى لم يسبق اليهما ، وشعر جرير أسهل وأرق ، وشعر الفرزدق أقسى وأصلب ، الى غير ذلك.
وكان هؤلاء العلماء يتنازعون في أفضلية الشعراء ، فكان المفضل الضبي يقدم الفرزدق على جرير ، وأبو عمرو بن العلاء يقدم الأخطل ثم جرير ثم الفرزدق ، وكان لهذا الا ختلاف في التفضيل أسباب ، من ذلك أن بعض العلماء كان يحب الغريب من الألفاظ فيقدم من الشعراء من يستعمل الغريب ، ومنهم من يحب الغزل فيقدم أكثرهم غزلاً ومنهم من يحب النحو فيقدم الفرزدق لإكثاره في تقديم وتأخير ونحو ذلك .
وأستعرضوا الشعراء وأبانوا موضع نبوغهم وموضع ضعفهم ، فقالوا: طفيل الغنوي أعلم العرب بالخيل وأوصفهم لها ، و أمرؤ القيس يحسن وصف المطر ، وعنترة يحسن ذكر الحروب ، وأمية بن أبي الصلت يحسن ذكر ألأخرة ، وعمر بن أبي ربيعة يحسن ذكر الشباب ، وشبهوا جريراً بالأعشى والفرزدق بزهير،
وأستعرضوا الشعراء الذين تواردوا في شعرهم على معنى واحد ففضلوا قولاً على قول ،ففضلوا في الصبر على النوائب قول دُرَيد بن الصِمَّة :
يغار علينا واترين فيشتفى بنا إن أُُصِبنا أو نغير على وتر
بذلك قسمنا الدهر شطرين قسمة فما ينقضى إلا و نحن على شطر
وهذا النمط يشبه النمط الذي رأيناه في العصر الأموي ، ولكنه أوسع وأعمق ،والسبب يعود الى أن المادة عنهم أصبحت أغزر ، وعلمهم بالشعر أوفر ، وهم قد تفرقوا لهذا الضرب من العلم وأصبح صناعتهم وفي صميم حياتهم لا على هامش حياتهم كما كان الشأن من قبل ، وهم اذا نقدوا عللوا ولم يكن قولهم مجرد حكم كما كان من قبل 0
أما النمط الأخير الذي كان جديداً لم يسبق اليه فهو النمط العلمي في النقد ، نمط التأليف ووضع الكتب لا تتعرض إلا للنقد وما يتصل به.
ولعل أسبق البلدان في ذلك هو البصرة ، فقد كانت الحركة العلمية فيها على أتم ما يكون من نشاط ، وكان فيها أول حركة للإعتزال ، والمعتزلة هم واضعو أصول البلاغة ، إذ كانوا هم المحتاجين اليها في الدعوة وإقامة الحجج ، فوضع منهم بشر بن المعتمر (ت 210هــ) الصحيفة الخالدة في البلاغة ، لقد كانت في البصرة علماء من النمط الأول كأبي عمرو ، ويونس ، وخلف الأحمد ، والأصمعي ، وأبي عبيدة ، فجاءت الطبقة التي بعدهم وفلسفت النقد وفلسفت الكلام من قبل وجعلته علمأً وألفت فيه كتباً.
ولعل أقدم ما وصل الينا من كتب النقد كتاب طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي (ت231هـ) ، حيث يرى د.داود السلوم : ان كتاب طبقات الشعراء للجمحي هو أول كتاب نقدي علمي حاول أن يصنع للأدب العربي نظاماً نقدياً ملازماً للشعر.
ثم يأتي دور الجاحظ (ت 255 هــ) الذي وضع بعض الاشارات للنقد الأدبي والذي له محاولات موفقة في هذا المجال ، ولا ننسى انه كان من المعتزلة ، ومن قوله في هذا البيت الذي ليس فيه قِران أي التشابه والموافقة لعقبة بن راوية:
مِهاذبَةً مِناجَبةً قِرأنٌ مِنادبةَ كأنهم الأسودُ
وجاء بعده ابن قتيبة الدينوري (ت 276 هـ) وكان له ميزتان كبيرتان ، الأولى أنه دعا الى عدم التفريق في الوزن بين قديم ومحدث ، فالشعر القديم قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً ، والمحدث قد يكون جيداً ، وقد يكون رديئاً ، وعلى رأيه كل قديم كان حديثاً في زمنه 0
وجاء بعد ذلك ابن الممعتز (ت 296 هـ)وألف في ذلك كتابه (البديع) فَلَفَتَ الناس الى أن البديع كان موجوداً في أشعار الجاهلية وصدر الأسلام ، ولكنه كان مفرقاً يأتي عفوا ً، فجاء بشار و أبو تمام ومن بعدهما ، فأكثروا منه وقصدوا اليه.
وجاء بعده قدامة بن جعفر (ت 310 هـ ) وألف كتابيهِ المشهورين في نقد النظم (الشعر ) ونقد النثر ، وهما الى البلاغة أقرب ، وهو المسؤول الأول من وجود المصطلحات البلاغية و تحجرُّها ، وبث روحها ، كما أنه المسؤول الأول عن تسرب بعض آراء أرسطو وأمثاله من اليونانيين في البلاغة اليونانية الى البلاغة العربية وأدبها ، فقد عرف الشعر ، وذكر محسناتهِ ثم ذكر عيبوبه.
ووجد في هذا العصر أيضاً أثر لخصومة الأدباء على أيهما أفضل ، أبو تمام أو البحتري مدرستان عنيفتان : إحداهما تفضل أبا تمام لغزارة معانية ، وطائفة تفضل البحتري لا تصاله كما يقولون بعمود الشعر ، فجاء على أثر ذلك مؤلفان جليلان هما : الصولي (ت 335)هـ والآمدي (ت 370 هـ )وكان ضلع الصولي مع أبي تمام ، وضلع الآمدي على ما يظهر مع البحتري ، فألف في ذلك الصولي أخبار (أخبار أبي تمام) ، وألف الآمدي كتابه (الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري)0
ثم جاء بعد ذلك ( أبو هلال العسكري ) (ت 395 هـ) مؤلف كتاب (الصناعتين) ، والثعالبي (ت 429 هـ) صاحب كتاب ( يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر ) ، وابن رشيق القيرواني (ت 463 هـ) صاحب (العمدة في محاسن الشعر و آدابه) ، و عبدالقاهر الجرجاني (ت 471 هـ) صاحب نظرية النظم ومؤلف كتاب (دلائل الاعجاز) ، وغيرهم.
سنأتي لاحقاً في بحث هؤلاء النقاد ودورهم في الحركة النقدية العربية في مباحث مستقلة..
أثر متقدمي النحويين واللغويين
في النقد الأدبي
طائفة من نقدة الأدب العربي عاشوا جنباً الى جنب منذ أواخر القرن الأول الهجري ، الأدباء واللغويون ، أما الأدباء فهم الشعراء والرؤساء والخلفاء مما وقفنا على نقدهم ، وعرفنا أنه مهما تنوع وتشعب وخاض في الشعر ورجاله فإنه فطري ، قائم على الطبع والسليقة ، فلم يكن لأحد منهم ذهن علمي ، ولا نشأة علمية ، ولاشيء مما يؤدي الى تحليل اللغة والأدب تحليلاً عميقاً ، وهذا ما حملناه على أن نفردهم في القول ونجمعهم في باب لنتعرف صور النقد عندهم وروحه ، ولندون آخر مراحل النقد الفطري ، والذي لم يتأثر في قليل ولا كثير بروح العلم ، وأما اللغويون والنحويون ، فأولئك الذين خلقتهم الروح الأسلامية الجديدة ، وهيأت لهم أسباب البحث المتشعب ، فكانوا أمزجة خاصة ، وذهنية خالصة في تأريخ النقد العربي.
النحاة:
كانت البصرة والكوفة أحفل المدن بالعلماء و أغزرها ثقافة ، و أبعدها أثراً في تأسيس العربية ووضع قياسها وتوضيح سبلها 0
فلأول مرة نجد نوعاً من النقد يراد به العلم ، وتراد به خدمة فن الشعري وخدمة تأريخ الأدب ، نجد عند اللغوين في هذين المصرين وعند كثير من النحاة ، فلا عصبية ولا هوى جائر ، ولا إنحرافاً عن الحق رغبة أو رهبة ، وإنما هو الشعور الهاديء والتحليل والدليل ، وقرع الحجة بالحجة ، وذكر الأسباب ، وهذا النقد يحلل النصوص من جميع نواحيها،ضبطاً ، وبنيةً ، وتركيباً ، وفناً ، من هذا النقد مايقوم على الأصول الفنية التي قررت في اللغة ، وفي النحو ، وفي العروض ، ومنه مايقوم علي الأصول الفنية التي كررت في تقدير الأدب .
فقد كان الفتح الإسلامى بعيد الأثر وجليل الخطر في اللغة العربية ، كان بعيد الأثر في انتشارها و اتساع رقعتها ، وكثرة المتكلمين بها ، وكان جليل الخطر في تسرب الفساد اليها وتطرق اللحن والتحريف ، فهذه اللغة سرت الى أقطار عدة في المشرق والمغرب ، وهؤلاء العرب الذين لم يرحلوا الى أبعد من الشام والحيرة واليمن أصبحوا وقد انتشروا في الأرض ، ورحلت منهم قبائل الى البلاد المفتوحة وأقامت فيها ، وهذا الأمم الأجنبية التي دخلت في الإسلام حَرِصَ كثير من أبنائها على تعلم لغة الفاتحين ، واتخاذها أداة التفكير و جلباً للمنافع والأرزاق ، وهذه الأمور المجتمعة أوجدت في اللغة أعراضاً خطيرة ، ومن ذلك نشأ اللحن ، حيث نشأ من العرب ومن الموالي الذين يقيمون بين العرب وذلك هو سر وضع النحو.
ونما هذا العلم الجديد (أي النحو ) وكثرت مسائله ، وتنوعت فيه وجوه الرأي ، ووجد فيه مذهبان : مذهب أهل البصرة ، ومذهب أهل الكوفة ، وكانت فيه طبقات متعاقبة من رجال المذهبين ، فمن متقدمي نحاة البصرة عَنبَسة الفيل ، وعبدلله بن أبي اسحق الحضرمي ، وعيسى بن عمر الثقفي ، والخليل بن أحمد الفراهيدي ، وسيبويه ، والنضر بن شميل ، ومن متقدمي نحاة الكوفة الروَّاسي استاذهم في النحو ، ومعاذ الهراء ، والكسائي ،والفراء ، وكان هؤلاء النحاة يتبعون الكلام العرب ليستنبطوا منه قواعد النحو، أو وجوه الاشتقاق ، أو الأعاريض التي جاء عليها الشعر ، وهذا الاستنباط يجرهم بالضرورة الى نقد الشعر لا من حيث عذوبته أو رقته أو جماله الفني ، بل من حيث مخالفته ، للأصول التى هداهم استقراؤهم اليها في إعراب أو وزن أو قافية ، فأظهروا بعض ما وقع فيه شعراء الجاهلية من الخطأ في الصياغة ، وما وقع فيه الاسلاميون من ذلك ، فعيسى بن عمر الثقفي أخذ علي النابغة الذبياني قوله:
فبِتّ كأنيّ ساورتني ضئِيلة من الرُقش في أنيابها السٌم ّناقعُ
والصواب أن يقول ناقعاً بالنصب على الحال.
كذلك تكلم النحاة في الأوزان والقوافي ، فأبو عمرو بن العلاء يعرف الإقواء بأنه اختلاف الإعراب في القوافي ، ومن الأمثلة التى انتقدها الخليل في الشعر فقد أخذ عن الشاعر(طرفة بن العبد ) قوله:
وإذا كنت في حاجة مرِسلاً فأرِسل حكيماً ولا توصيه
وإن بابُ أمرٍ عليك التوى فشاور لبيباً ولا تعصه
وقال هذا خطاً في بناء القوافي 0
اللغويون:
وهؤلاء اللغويون طبقات أيضاَ ، وهم كذلك بصريون وكوفيون ، فمن البصريين: خلف الأحمر ، وأبو زيد الأنصاري ، والأصمعي ، وأبو عبيدة معمر بن المثنى ومحمد بن سلام الجمحي ، ومن الكوفيين المفضل الضبي وأبو عمرو الشيباني ، وابن الأعرابي ، وحماد الراوية و إن كان يعدَّ في الأخباريين لا العلماء .
وهم جميعاً يروون اللغة والغريب والأشعار والأراجيز والأخبار والأنساب والنوادر مع تفاوت في الميول . مع اتجاه هذا أو ذاك الى بعض النواحي ، فأبو عبيدة تغلب عليه راوية الأخبار والأنساب ، وأبو زيد الأنصاري تغلب عليه اللغة والغريب ، أما الشعر فأخصُ من عرف بروايته أبو عمرو بن العلاء ، فقد جمع أشعار بعض الجاهليين كأمريء القيس والاعشى والشماخ ، وبعض الاسلامين كعبد الرحمن بن حسان والراعي ، ولكن الفضل كل الفضل في رواية الشعر العربي وجمعه يرجع الى عالمين جليلين وهما الأصمعي وأبي عمرو الشيباني فقد جمع الاصمعي أشعار نيف وعشرين شاعراً من مشهوري الجاهلية والأسلام ، وجمع أبو عمرو الشيباني أشعار نيف وثمانين قبيلة.
وأكثر هؤلاء كان ثقة أميناً ، كان المفضل الضبي ثقة ، وكان الأصمعي صدوقاً في الحديث لا يروي عن عرب إلا الشيء الصحيح ، وكان أبو عبيدة وأبو زيد الأنصاري وابن الأعرابي من العلماء الثقات وقلَّ مَن فيه تجريح كحماد الراوية وخلف الأحمر .
ولما توطدت الدولة واطمأن العرب أخذ يحفلون بالشعر وروايته كما يحفلون برواية شؤون الدين وأزدهر الشعر الاسلامي ، وكان هناك رواة يحفظون ما بقي من الشعر الجاهلي ، في سند يطمئنون اليه ،فالحطيئة كان راوية زهير وآل زهير ، وهدبة بن حشرم راوية الحطيئة ، وجميل راوية هدبة بن حشرم ، وكثير راوية جميل وصالح بن سليمان راوية ذي الرمة وذو الرمة كان راوية الراعي......الخ.
ونمضي سريعاً الى النقد الفني الذي يتصل بعناصر الجمال في الأدب وهو متنوع فسيح فقد كانوا كالذين من قبلهم يستحسنون أبيتاً في معنى خاص ، أو يستجيدون مطلع القصيدة أو قصيدة كاملة ، أو يوازنون بين بين شعر وشعر فأبو عمرو بن العلاء : يقول)) أحسن شعر قيل في الصبر على النوائب قول دريد بن الًصمة من أبيات :
يغار علينـــا واتـرين فيشتفــــى بنا إن أصبنا ، أو نغير على وتر
بذاك قسمنا الدهر شطرين قسمةً فما ينقضي إلا ونحن على شطر
وقد تعمقوا في فهم الشعر وتذوقه ، وفي معرفة مميزات الشعر تعمقاً لم يهتد اليه أحد من قبل ، عرفوا ان جريراً قوي الطبع صادق الشعور ، وأن الأعشى يستعمل أنواعاً كثيرة من الأوزان في شعره ، وأن شعر النابغة الذبياني قوي الصياغة ، وشعر أمرئ القيس ملئ بالمعاني ، وكان النقد عند اللغويين يقوم على المزاج والاستعداد والثقافة .
ومهم جداً أن نعرف كيف انتهى اللغويين الى أن يقرروا أن امرأ القيس والنابغة وزهيراً والأعشى أشعر الجاهلين وأن جريراً والفرزدق والأخطل أشعر الأسلاميين ، وهذا التفضيل يقوم على دعامتين اثنتين لابد منهما ليوضع الشاعر في الطبقة الأولى جاهلية أو أسلامية:
1 ـ الدعامة الأولى : هي كثرة انتاج الشاعر وغزارة شعره ، إما لأنه تنوع في ضروب الشعر ، متنوع الأغراض فيه كجرير والأعشى ، وإما لأن تلك الكثرة ترجع على الأخص الى طول النفس وطول القصائد وإن قلت الأغراض كالأخطل .
2 ـ الدعامة الثانية : -هي جودة هذا الشعر الغزير ، وجودته من حيث عناصر الشعر ، ومن حيث الخصائص التى تستجيدها الأذواق في صياغته ومعانيه.
ومما يزيد هذا المقياس دقة واطراداً أن اللغويين قاربوا بين رجال الطبقة الأولى في العصرين ، فجرير كالاعشى ، والفرزدق كالزهير ، والأخطل كالنابغة ، والتفضيل شاعر على شاعر فيرجع الى ذوق الناقد ، وما يميل اليه من عناصر الشعر .
وظاهر جداً ان النقد الأدبي توطد واستقر في عهد الطبقات الأولى من اللغويين ، وعرفت له مقاييس وأصول وأنه ليس نقد السليقة والفطرة ، بل وقفوا وقوفاً تاماً على خصائص الشعر العربي 0
نظرية طبقات الشعراء
عند محمد بن سلام الجمحي (ت 231هـ)
يعتبر كتاب ( طبقات فحول الشعراء ) أول كتاب نقدي علمي حاول أن يقنن النظرية المدرسية في النقد ، والتي تقوم على الركن العلمي البحت ، والركن البيئي للشعر (البداوة) 0
فإن إبن سلام وإن لم يهاجم الشعر الحديث غير الموضوع فإنه لم يذكره بخير أو شر وتجاهله مطلقا ولم يشأ ان يعترف به ولا بشعرائه على الاطلاق وهو حيث يتكلم في شعره ينظر الى الشعر الذي نشأ في الجاهلية والقرن الاول الاسلامي وكانه يحاول أن يقوم بعملية تصنيف للشعراء الذين اعتمدتهم المدرسة العلمية في دراساتها اللغوية والنحوية في البصرة والكوفة في المرحلة التي يمكن ان نطلق عليها فترة الفرسان والبطولات الجاهلية والاسلامية .
ان محاولة ابن سلام في كتاب هي محاولة تنقية لهذا التراث الذي اضيف اليه ما ليس فيه او اضطربت فيه الرواة وكثر فيه الحمل على الشعراء والوضع عليهم.
حاول ابن سلام ان يجتهد جهده في كتابه لوضع مقاييس خاصه به معتمدا على بعض الجذور الآولى في عملية تصنيف الشعراء الى تطبيقات أوتصنيفهم حسب بيئاتهم واغراض الشعر ، ونريد هنا ان نشير الى تقسيمه الشعراء الى طبقات .
تقسيم الشعراء الى طبقات
كتاب ابن سلام كما يدل عليه عنوانه موضوع في طبقات الشعراء ، فالتفاضل بينهم وانزال كل شاعر في منزلته التي تلائمه هو اساسه وقوامه ودعامته الكبرى والطبقات كما وردت في كتابه كما يأتي:-
طبقات فحول الجاهلية:
ذكرابن سلام من شعراء الجاهلية عشر طبقات وفي كل طبقة اربعة شعراء ثم اتبعهم بذكر طبقات أخرى.
وقد اعتبر الطبقة الاولى الجاهلية اشعرالعرب كافة وهؤلاء هم: امرؤ القيس ,النابغة الذبياني ، وزهير بن أبي سلمى ، والاعشى . وهو لايميز بين أحد من هؤلاء الاربعة ،إلا أنه يعتذر عن ذكره أمرئ القيس اولا ، ويقول ان هذا لايدل على الحكم ولكن معناه ، عليه أن يبدأ بذكر اسم من هذه الاسماء وقد صادف ان يكون اسم امرئ القيس , وقد يصح ان يكون غيره هو الاولى في الذكر , ويعبر عن هذه الملاحظة الذكيه بقوله:
(( وليس تبدئتنا احدهم في الكتاب نحكم له ولابد من مبتدأ 0 )) 0
طبقة أصحاب المراثي :
قال ابن سلام (( وميزنا أصحاب المراثي طبقة بعد العشر الطبقات )) هذه الطبقة جمعها ابن سلام على اساس الشهرة بغرض واحد ,ولايعني هذا طبعاَ ان هذه الطبقة لم تكتب الا الرثاء ولكنه يعني ان الرثاء قد غلب على أكثر اشعارهم.
والغريب ان يصبح غرض الرثاء في فترة متأخرة من حياة الجاهلين بهذا الركيز والعمق والشدة والكثرة ولعل مدلول هذا هو نمو شعور في النفس العربية باحترام الحياة وتقديسها , وان تركز ظهور شعراء الرثاء في هذه الفترة التي سبقت الاسلام دليل قاطع على هذا الشعور الجديد , والشعراء هم ( متمم بن نويرة , والخنساء ، وأعشى باهلة ، وكعب بن سعد الغنوي ) . ولكن الشئ الذي يجعلنا نستغرب هو عدم اضافة هؤلاء الى الطبقات العشرة مع كونهم من الجاهليين والمخضرمين ؟ هل لان الرثاء من الليونة والضعف الانساني ما يخرجه عن طبقة الفحولة وعالم الفرسان العنيف .
طبقة شعراء القرى العربية :
وقد ضمنه دراسة شعراء المدينة ومكة والطائف والبحرين , وخرج عن تحديد اربعـــــة شعراء لكل طبقة ، بل ذكر في ذلك كافة شعراء الحواضر العربية الذين وجد لهم شعراً ، فقد ذكر من شعراء المدينة خمسة شعراء ومن مكة تسعة شعراء ومن الطائف ثلاثة شعراء ومن البحرين ثلاثة شعراء.
وهو في جعله طبقة خاصة لشعراء القرى كأنة ينظر الى أثر البيئة من الشعر والشاعر , وربما لشعوره ان الحواضر العربية في مستوى موضوعها , ومفردها وبواعث أغراضها تختلف عن موضوعات ولغة واغراض الصحراء . وهو يعتبر المدينة أشعر هذه القرى العربية كافة , لعل ذلك لصلة (المدينة) القوية بالقبائل ولكثرة الصراع القبلي الذي يجر الى كثير من الحروب الباعثة على الشعر كما يروي ابن سلام {شعراء القرى العربية وهي خمس : ( المدينة, مكة والطائف , واليمامة والبحرين) ، وأشهرهن قرية المدينة ، شعرائها الفحول خمسة : ( ثلاثة من الخزرج وإثنان من الاوس } ،والسبب كثرة الحروب التي تكون بين الاحياء "بنحو حرب الاوس والخزرج".
طبقات شعراء اليهود :
لاشك إن هذه الطبقة تمثل طبقة ذات عرق خاص وذات دين خاص ، ولكن الشيء الــــذي يبقى غير مفهوم لنا ،لماذا جعل لشعراء اليهود طبقة خاص ولم يجعل لشعراء النصارى طبقة خاصة مع أن المسيحية كانت منتشرة في جنوب الجزيرة كما كانت اليهودية منتشرة في شمال الجزيرة ، هل لأن المسيحية قد انتشرت بين العرب في الوقت الذي كانت فيه اليهودية تمثل مجموعة لها قومية خاصة ودين خاص ؟ هل لأن العرب المسيحيين في الجاهلية لم يكن لهم أدب يبلغ في كثرته وقوته ما بلغه شعراء اليهود؟
ولعل الأمر يعود أولاً وآخراً الى توفر النصوص الأدبية.
طبقات فحول الإسلام :
وذكر عشر طبقات اسلامية الا ان مقياسه في تجميع هذه الطبقات فيه شيء مــن الاضطراب وعدم الاستقرار.
فهو قد اتبع أحياناً العلاقات بين الشعراء والمهاجات والتناقض أساساً في تكوين الطبقة حيث جعل اسم جرير والفرزدق والأخطل والراعي في الطبقة الاسلامية الأولى ولكنه في الطبقة الثانية لانكاد نجد الخيط الذي ينظم الاسماء الأربعة التي ذكرهم : البعيث المجاشعي ، والقطامي، وكثير ، و ذوالرمة ،وهكذا في الطبقة الثالثة والرابعة والخامسة.
أما في الطبقة السادسة يقوم جمعها على أساس البيئة (حجازية ،اربد ، رهط)،ويقوم على أساس (الموضوع) وهو الغزل ، ويذكر في هذه الطبقة (ابن قيس الرقيات ، والاحواص الانصاري ، وقدم عليه نصيباً الشاعر الأسود ،ويمكن أن نشم هنا موقفاً اخلاقياً وتعصباً على عمر بن ابي ربيعة.
أما الطبقة الثامنة والعاشرة فهي طبقات تمثل شعراء من قبيلة واحدة،أما الطبقة التاسعة من فحول شعراء الاسلام فيدرسها على أساس ( الغرض والبحر) فيقول عنهم ( وهم رجاز ) وهم : (الأغلب العجلي ، والحجاج ، وأبو نجم العجلى ، و رؤبة بن العجاج ) ومن المأخذ على هذا التقسيم انه خلط في تقسيمه ولم يلبث على قاعدة واضحة ما يلي :
1- اختلف العدد بين شعراء الطبقات و شعراء القرى لماذا تكون الطبقة أربعة شعراء فقط ولايمكن أن تكون خمسة شعراء أو ستة أو ثلاثة.
2- نظر للشعراء على أساس (الزمان) في طبقات الجاهليين والإسلاميين ، ونظر على أساس (المكان ) في شعراء القرى .
3- نظر الى الشعراء على أساس ( الدم ) و (القبيلة ) كما في الطبقة السابعة والثامنة.
ـ ذكر شعراء اليهود ولم يذكر شعراء النصارى 0 4
من أجل ذلك نقول ان مقياس ابن سلام في الواقع لم يقع على أساس الوحدة الفنية الثابتة ، لذالك فإن تقسيمه ليس تقسيماً موضوعياً ثابتاً وإنما هو تقسيم ذاتي انفرد به ، وكان من اجتهاده إلا في ذكر الطبقة الجاهلية الأولى.
ولكن تبقى محاولة ابن سلام أول محاولة حاول فيها المؤلف ان يخضعها لنوع من التنظيم والتقنين ويجعل من النقد علماُ يستند الى بعض الاسس والآصول في الدراسة والتصنيف والتقويم.
اللفظ والمعنى عند الجاحظ وابن قتيبة
قضية اللفظ والمعنى عند الجاحظ (ت 255هـ)
في الوقت الذي كان فيه ابن سلام الجمحي يمثل الذوق البدوي والذوق العلمي المتزمت ، كان الجاحظ يمثل الفكر المتفتح المتحضر،وان جذور ابن سلام الثقافية التي تخرج عن نطاق المدرسة اللغوية والنحوية تختلف عن جذور الجاحظ الفلسفية ذات النزعة الباحثة عن الجمال في الأدب.
فقد حاول وضع نظريات ووجهات نظر جديدة فيما يخص الأدب واللغة والبلاغة النادرة ....
نظرية المعاني المطروحة:
يؤكد الجاحظ نظريته في الشكل ، إن المعوُّل في الشعر،إنما يقع على : (إقامة الوزن ، وتغير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك )وبهذا يحييز للشكل ، قلُل الجاحظ من قيمة المحتوى ، وقال قولته التي طال تردادها : ( والمعاني مطروحة في الطريق ، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي) .
لماذا اتجه الجاحظ هذا الاتجاه مع أنه لم يكن من الشكليين في التطبيق ؟
لهذا أسباب كثيرة : منها أن الجاحظ لم يتابع أستاذه انظام في قوله بالصرفة تفسيراً للاعجاز . وإنما وجد أن الاعجاز لايفسر إلا عن طريق النظم ، ومن آمن بان النظم حقيقة يرفع البيان الى مستوى الاعجاز لم يعد قادراً على أن يتبنى نظرية تقديم المعنى على اللفظ .
ومنها أن عصر الجاحظ كان يشهد بوادر حملة عنيفة يقوم بها النقاد لتبيان السرقة في معاني الشعراء ،ولا نستبعد ان يكون الجاحظ قد حاول الردّ على هذا التيار مرتين :
مرة بأن لا يشغل نفسه بموضوع السرقات كما فعل معاصروه ، ومرة بأن يقرر أن الأفضلية للشكل لأن المعاني قد تشترك بين الناس جميعاً.
وسبب ثالث قائم في طبيعة الجاحظ نفسه ، فقد كان رجلاً خصب القريحة لا يعييه الموضوع و لا يثقل عليه المحتوى أيا كان لونه . لذ ا فأنه كان يحس أن المعنى موجود في كل مكان ،وما على الأديب إلا أن يتناوله و يصوغه صياغة متفردة ، ولم يكن الجاحظ يتصور أن نظريته التي لم تكتمل تمثل خطراً عليه ستصبح في أيدي رجال البيان خطراً على المقايس البلاغية والنقدية ،لانها ستجعل العناية بالشكل شغلهم الشاغل ، وحسبنا أن نقرأ أبو هلال عسكري (ت 395 هـ) الذي ورث هذه النظرية الجاحظية يقول:-
(و من الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ ،أن الخطب الرائعة والأشعار الرائقة ما عُمِلَتْ لافهام المعاني فقط ، لأن الردي من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الافهام ، وإنما يدلُ حسن الكلام وأحكام صنعته ورونق الفاظه وجودة مطالعه وحسن مقاطعه وبديع مباديه وغريب مباينه على فضل قائله وفهم منشئه ، وأكثر هذه الأوصاف ترجع الى الألفاظ دون المعاني ، وتوخي صواب المعنى أحسن في توخي هذه الامور من الالفاظ ، ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة والخطب والشاعر في القصيدة ) 0
تناقض الجاحظ في موقفه من الشكل :
ثم وقف الجاحظ من نظريته في الشكل موقفين آخرين :أحدهما يؤديها والثاني ينقضهما
فاما الأول فهو أصراره على أن الشعر لا يترجم : (( ومتى حوٌل تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضوع التعجب)) ، واستعصاؤه على الترجمة ، إنما هو سر من أسرار الشكل .
أما الثاني فهو قوله إن هناك معاني لايمكن أن تسرق كوصف عنترة للذباب (( فانه وصفه فأجاد صفته فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم )) ,
.ولقد عرض له بعض المحدثين ممن كان يحسن القول فبلغ من استكراهه لذلك المعنى ومن اضطرابه فيه أنه صار دليلاً على سوء طبعه في الشعر ،قال عنترة:
جادت عليها كلُّ عينٍ ثرَّةٍ
فتركن كل حديقةٍ كالدرهمِ
فترى الذبابَ بها يغني وحدهُ
هَزْجاً كفعل الشاربِ المترنمِ
غرداً يحكُ ذراعَه بذراعه
فعل المكبِ على الذناد الاجذمِ
فقوله إنه لايسرق دليل على أن (السر في المعنى) قبل اللفظ ، ولكن الجاحظ لم ينتبه الى هذا التناقض.
قضية اللفظ والمعنى عند ابن قتيبة الدينوري (ت 276 هــ)
يختلف الناقدان ابن قتيبة والجاحظ في النظر الى اللفظ والمعنى ،فبيناانحاز الجاحظ الى جانب اللفظ ، بينما ذهب ابن قتيبة مذهب التسوية .
ولهذه القضية ركنان (اللفظ –المعنى ) ومميزان (الجودة –الرداءة) ) ولا بأس أن يتجه ابن قتيبة في هذا نحو المنطق – وإن كان يكرهه علماً – فيجد أن الشعر أربعة أضرب ، لاتسمح العلاقة المنطقية - في نظره- بأكثر منها:
أ- لفظ جيد ومعنى جيد.
ب-لفظ جيد ومعنى رديء.
ج- لفظ رديء ومعنى جيد.
د- لفظ رديء ومعنى رديء .
وقد استعملنا هنا لفظتي (الجودة والرداءة) وإن كان ابن قتيبة لم يستعملها ، وإنما استعمل أحياناً ((ضرب حسن لفظه فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى )) أو ((ضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه)) ، ولم يستعمل لفظتين حاسمتين في دلالتها ، وإنما فعل ذلك ليكون أبعد عن الحدة التي قد تستشف من قولنا ((جيد و رديء))وأثرنا إلزامه بلفظتين لكي لا تضطرب عليه القسمة المنطقية .
فالمسألة اذن مسألة صلة بين المعنى واللفظ ، وعلاقة الجودة في كليهما مما هي المفضلة ، وهذا يعني أن المعاني نفسها تتفاوت ، وأنها ليست كما زعم الجاحظ ((مطروحة في الطريق)) ويستشف من أمثلة ابن قتيبة أن المعني عنده قد يعنى الصورة الشعرية مثلما يعني الحكمة ، ولكن هذه الأمثلة نفسها تشير الى أنه يستمد حكمة من بيت واحد أو بيتين أو ثلاثة في الأكثر .
إن قضية ((اللفظ والمعنى )) لم تتناول العمل الأدبي كله بحيث تطور الى مانسميه ((الشكل والمضمون)) ولا هي استطاعت أن تقترب مما قد سمي ((الصلة الداخلية)) بين هذين ، ولعلها كانت ذات أثر بعيد في صرف النقد عن تبين وحدة الأثر الفني في مبناه الكلي0
غير أنها رغم ذلك،أسلم من الانحياز السافر الى جانب اللفظ،
ومن أمثلة ما يقول أبن قتيبة
في لفظ جيد ومعني جيد قول أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعا
إنَّ الذي تحزرينَ قد وقعا
وقوله في لفظ جيد ومعنى رديء قول جرير:
يا أُختَ ناجية السلام عليكم
قبل الرحيل وقبل لوم العذلِ
لو كنتُ أعلمُ أنَّ آخر عهدكم
يوم الرحيل فعلتُ مالم أفعلِ
وقوله في لفظ رديء ومعنى جيد قول النابغة:
خطاطيفُ حجنُ في حبال متينة
تمدَّ بها أيدٍ اليك نوازع
ومن أمثلة على لفظ رديء ومعنى رديء قول الأعشى في امرأة:
وفوها كأ قاحي غذاه دائم الهطلِ
كما شيب براح با رد من عسل النحل
السرقات الشعرية
يبدو أن فكرة نشوء السرقات الشعرية قد ظهرت في فترة تسجيل التراث العربي المروي في البصرة والكوفة لاستخدامه في الدراسات اللغوية والنحوية ولاشك أن للوعي فى مسألة الحقوق والتملك أثرما فى حدة هذا الوعي المفاجيء في الموضوع الذي لانعرف عنه شيئاً فيما روي لنا من نصوص نقدية عند الجاهيلين ، لكن الذي نوقش في القرن ألاول هو سرقة النصوص بكاملها لفظاً ومعنى ، وقد دفع بالفرزدق في احدى المرات الى أحضان القضاء بسبب ذلك . وإن الحاجة الى التول السريع نظراً لمتطلبات الحياة وكثرة من يقدم لهم الشعر من ولاة وأمراء وخلفاء وجد شعراء الاسلاميون أنهم لايتمكنون ان يلاحقوا هذا الطلب السريع في منظومات من ابتكارهم الخالص قلباً وقالبًا ، ولذلك فقد اضطروا الى ان ينتفعوا بالنصوص القديمة وذلك باستعارة مضامينها ونقل صورها الى اشعارهم وعند هذا ظهرت الدراسات التي تتعامل مع السرقة الحقة في النقد الادبي 0
ولكن كثيرا من النقاد استعملوا موضوع السرقة سلاح حاد قاطع يشهرونه فوق رؤوس الشعراء وكان انصار القديم و أعداء الشعراء وخصومهم كثيرا ما يبالغون في التهمة ويأخذون باوهى الاسباب فى ذلك ويعاقبون بالظنة 0
لقد تذمر النقاد من اصحاب الضمائر الحيًة من هذا الاتجاه المسرف في التهمة والذي يحاول أن يهدم جهد الشاعر المحدث 0
ولعل أكثر من تعرض الى ذلك بشكل خاص هو ابو تمام والبحتري والمتنبي ، ولكن الآمدي في الموازنة والجرجاني فى الوساطة قد حاولا أن يضعا حداً لهذا النوع من التهم وقد ميزا بين ما يمكن ان يكون مشاعاً يمكن لكل شاعر أن يستعمله كما يحق ذلك لكل الناس دون أن يقول أحد قد سرقه فلان من فلان .وقد حاول الجرجاني ان يفصل في ذلك ،ولكنه حين تكلم عن السرقة الفعلية نبهنا الى انها (( قد تكون من الدقة والخفاء واختلاف الوزن والموضوع بحيث لا يدركها إلا المتخصص المتعمق الذي يكون على صلة دائمة بالتراث القديم والحديث )).
سرقات أبي تمام
يعد كتاب (الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري ) لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370هـ ) قفزة في تأريخ النقد العربي لأنه في موازنته بين الشاعرين الكبيرين لم يعول على النقد الفطري القائم على الحسَّ دون أن يركن الى التعليل والتحليل ، وإنما كانت موازنة مؤيدة بالادلة والتفصيلات ،مشتملاً على الموضوعات الشعر من وجوهه كافة، لكننا سنتناول في سرقات أبي تمام والبحتري فقط ،يعلل الآمدي سبب كثرة السرقة في الشعر أبي تمام تعليلا طريفاً فهو يرى أن أبا تمام كان متصلاً اتصالاً عميقاً بالشعر العربي وقد ألف فيه مجموعة من المختارات ، وقد دفعه ذلك الى الإقتباس من ينبوعه واصطياد الصور والمضامين التي تساعد في بناء قصيدته الشعرية.
قال الآمدي:
(( كان أبو تمام مشتهراً بالشعر ،مشغوفاً به،ومشغولاً مدة عمره بتخيره ودراسته،وله كتب اختيارات مؤلفة فيه مشهورة معروفة ... فهذه الاختيارات تدل على عنايته بالشعر ،وانه اشتغل به وجعله وكده ،واقتصر من كل الآداب والعلوم عليه،وأنه ما فاته كثير من شعر جاهلي ولا إسلامي ولامحدث الا قرأه وطالع فيه ، ولهذا ما أقول : ان الذي خفي من سرقاته أكثر مما ظهر منها ،وانا أذكر ما وقع الىَ من في كتب الناس من سرقاته ،وما استنبطه أنا منها ، واستخرجته فأن ظهرت بعد ذلك منها على شيء الحقته بها))0
ويعرفنا الآمدي كيف كان يعمل في جمع مادة الشعر المسروق وهو أن يترك في أخر النماذج المجموعة بياضا ،ثم يعلم على ما يصادفه في دواوين الشعراء مما يذكره بمعنى في شعر أبي تمام ،ثم يجمع الشعر المسروق والمسروق منه وقال :
((فاتبعت ذلك بما خرجته من سرقات أبي تمام وبيضت الأخر الجزء لالحق به ماوجدته منها في دواوين الشعراء فعملت عليه ،وما لعلي أجده بعد ذلك فأنه كثير السرق جدأ)) 0
فرغم هذه الفقرة الأخيرة التي توحي بأن الأمدي صرح بأن أبا تمام أكثر سرقة من البحتري ،الآ أنه لم يوافق من سبقه على إعتبار كل ما خرجوه على أنه من سرقات الشاعر ،قال :
(( ووجدت أحمد بن أبي طاهر (ت 280هـ) قد خرج سرقات أبي تمام فأصاب في بعضها ،وأخطاً في البعض ،لانه خلط الخاص من المعاني بالمشترك بين الناس مما لايكون مثله مسروقاً )) 0
ورأي أخر هو احدى وجهات نظر الآمدي المطروحة في السرقة ،فأنه قد ميز بين ما يمكن ان يكون معنى عاماً يعرفه الشاعر كما يعرفه الكتاب ،ويعرفه أهل الخاصة كما يعرفه أهل العامة،
وعندما يتناول الآمدي سرقات أبي تمام يقرر أن ما يأخذه الشاعر من غيره ،لايوصف بأنه سرقه إذ اشترك الناس في معانيه وجرى على ألسنتهم ،فقول أبي تمام :
والموتُ خيرٌ من سؤالِ سؤول
ليس مسروقاً من قول محمود الوراق ( ت230هــ )
فاْرغب إلى ملِكِ الملوك ،ولا تكن باديَ الضراعة طالباً من طالبِ
لأنه جاء على الألسن أن يقال : وقع سائل على سائل ، ومجتد على مجتد، ووقع البائس على الفقير ،وأمثال هذا.
فما كان شائعاً بين الناس ،ويجري على كل لسان ،لا يعد سرقة اذا أخذه شاعر من شاعر ،لأن مثل هذه المعاني المشتركة لِيست خاصة بشاعر دون أخر حتى تنسب اليه دون غيره.
أما اذا انفرد الشاعر بمعنى من المعاني وكان ذلك المعنى من انشائه وابتكاره،كان الأخذ عنه سرقة ،ومن ذلك أحسن افتتاحيات أبي تمام في قصيدته بمدح المعتصم وفتح عمورية:
السيف أصدق إِبناءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
فقد أخذ هذا المعنى من قول الكميت بن ثعلبة الاسدي :
فلا تكثِروا فيها الضِّجاج فإنه محا السيفُ ما قال ابن دارة أجمعاً
وعلى الرغم من أن الأمدي يوضح لنا الفرق بين المعنى الذي يأخذ الشاعر من غيره يعد سرقة،وبين المعنى الذي يأخذه عن غيره لايعد سرقة لا شتراك الناس فيه،ثم ذلك يضع الامدى مبدأ عاماً : إن السرقات ليست من العيوب الكبيرة لأنه باب لا يعرى منه أحد من الشعراء إلا القليل ، فقد عد لأبي تمام 120 بيتاً أخذ معانيها عن الشعراء ،ثم ناقش إبن أبي طاهر في ما عده من سرقات أبي تمام فصحح له 31 بيتاً أيده في أنها مسروقة ،وردّ مما عده ابن أبي طاهر خمسة عشر بيتاً ،فلأن كل ما أخذه أبو تمام من غير 151 معنى على حسب هذا .
سرقات البحتري
لقد تكلمنا عن سرقات أبي تمام وقد أوجب الآمدي على نفسه ان يستعرض معايب الشاعرين ،ويقابلها عيبا بعيب ولذلك فانه يقول :
((ولما كنت خرجت مساويء أبي تمام ،وابتدأت منها بسرقاته أحب ان ابتدي من مساويء البحتري بسرقاته ،فانه أخذ من معاني من تقدم من الشعراء وتأخر ، أخذا كثيراً وحكى أبو عبدالله محمد بن داود بن الجراح في كتابه ان ابن أبي طاهر أعلمه أنه اخرج للبحتري ستمائة بيت مسروقه ومنها ما أخذ ،من أبي تمام خاصة مائة بيت )).
ثم يعتذر عن جعله السرقات من مساويء ان كثيراً من العلماء لا يعتبر سرقة المضمون عيباً كبيراً في الشاعر مادام الشاعر لا يسلخ اللفظ ولمعنى ،ويزيد على المعنى المستعار ويضيف اليه ولكون الشعراء قاطبة قد عانوا شيئاً من هذا ولكنه مادام الصراع قد قام حول أصالة أبي تمام بين النقاد فأصبح الكشف عن سرقاته احدى ضرورات البحث لتحديد مقدار الجديد الذي جاء به الشاعر ولذلك فان الآمدي قد اضطر الى ان يتعامل مع البحتري بنفس الاسلوب يكون أقرب الى الانصاف في حكمه.
ونحن لا ندري ما الذي اوجب عليه هذا الاعتذار ولماذا لا يكون البحتري سارق معان كما كان أبو تمام واذا كان أبو تمام قد قرأ وألف مختارات الشعر فكذلك فعل البحتري وان اطلاعه على الشعر القديم لم يقل عن اطلاع أبي تمام ،وهذا ما يدلنا عليه كتابه المسمى ((حماسة البحتري )) ومع ذلك فلنترك الآمدي يتكلم :
(( وكان ينبغي ان لا اذكر السرقات فيها اخرجته من مساويء هذين الشاعرين لأني قدمت القول في ان من أدركته من اهل العلم بالشعر لم يكونوا يعدون سرقات المعاني من كبير مساويء الشعراء ، وخاصة المتأخرين ،اذ كان هذا بابا ما تعرى منه متقدم ولا متأخر ،ولكن أصحاب أبي تمام ادعوا انه اول سابق ، وانه أصل في الابتداع والاختراع ،فوجب استخراج ما استعاده من معاني الناس ، فوجب من أجل ذلك اخراج ما اخذه البحتري أيضاً من معاني الشعراء ،ولم استقص باب البحتري ولا صرفت الاهتمام الى تتبعه لأن أصحاب البحتري ما ادعوا ،ما أدعاه أصحاب أبي تمام لأبي تمام ،بل استقصيت ما أخذه من أبي تمام خاصة اذ كان من أقبح المساويء ان يتعمد الشاعر ديوان رجل واحد من الشعراء فيأخذ من معانيه ما أخذه البحتري من المعاني أبي تمام،ولو كان عشرة أبيات ، فكيف والذي أخذه منه يزيد على مائة بيت ؟ ))
ويذكر لنا نماذج من سرقات البحتري العامة من الشعر العربي ويقول :
سرقات البحتري :
قال البحتري :
يخفي الزجاجة لونها كأنها في الكأسِ قائِمةُ بِغير إناءٍ
أخذه من قول علي بن جبلة :
كأنَّ يدَ النديمِ تدير منها شعاعاً لا يحيطَ عليهِ كأسَ
ثم يغلق هذا الباب بقوله :
(( فهذا ما مرَّ بي من سرقات البحتري من أشعار الناس على غير تتبع فخرجتها ولعلي لو أستقصيتها لكانت على نحو ما خرجته من سرقات أبي تمام أو تزيد عليها ،وعلى أني قد بيضت وفي آخر الباب ،فمهما مرَّ بي من شيء منها الحقته به ان شاء الله تعالى))
وقد عدَ الأمدي مما أورده أبو ضياء ( بشر بن يحيى النصيبي)) أربعة وستين بيتاً وأقر ان البحتري قد أخذ معناها من أبي تمام من مثل:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ طويتْ أتاح لها لسانَ حسودِ
أخذه البحتري فقال:
ولن تستبين الدهر موضوعَ نعمةِ إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد
ثم قسّم الأمدي بعد ذلك ما أورده أبو الضياء في ثلاثة أنواع :
1- ممن جارية في عادات الناس معروفة لديهم يهتدي اليها البحتري مثلما يهتدي أبو تمام ،ولا يقال فيها إن شاعراً سرقها من الأخر. فالناس يقولون ((العير اذا رأى السبع أقبل إليه من شدة خوفه منه )) ومن هنا استطاع أبو تمام أن يقول ((قد يقدم العير من ذعر على الأسد)) وتمكن البحتري من أن يستغل هذا المعنى المتعارف فقال :
2- معان قال أبو ضياء إنها مسروقة إلا أنه أخطأ لأنه ليس بين كل معنيين أي تناسب وذلك مثل قول أبي تمام:
وأتسمَ اللحظَ بيننا إنَّ في اللحـ ظ لعنوان ما يجنُ الضمير
وقول البحتري :
سلامُ وإِنْ كان السلام تحيةً فوجهكَ دون الرد يكفى المسلماَ
وليس بين المعنيين أدنى صلة.
3- معان زعم أبو ضياء أنها مسروقة ،ولكن الاتفاق فيها : الالفاظ وهذا غير محظور على الشاعر ،كقول أبي تمام :
لايدهمنك من دهمائهم عَدَدُ فإنَّ أكثرهم أو كلهم بقرُ
وقول البحتري :
عليً نحتُ القوافي من معادنها وما عليً إذا لم تفهم البقرُ
ومجموع هذه الأبيات في الأنواع الثلاثة واحد وأربعون بيتاً ،فيكون مقدار ما عرفناه من كتاب أبي الضياء يشمل مائة بيت وخمسة أيضاً،وقد أخبرنا الأمدي أنه بتكثير الشواهد قد ((بلغ غرضه في توفي الورق وتعظيم حجم الكتاب)).وهو تهكم من الآمدي ،ولكن يبدو أن أبا الضياء قد أعتمد الاستقصاء ولذلك وقع في بعض المآخـــذ التي تعقبه فيها الآمدي بحق،فكتابه في النقد لا يتناول إلا موضوعـاً واحداً هو الحديث فن السرقات الشعرية.
سرقات المتنبي
القاضي ابو الحسن على بن عبدالعزيز الجرجاني (ت 392 هــ) يشرح في كتابه ((الوساطة بين المتنبي و خصومه)) الدافع الحثيث خلف تأليف الوساطة الذي دفعه الى ذلك ، وان رغبته في ايجاد مقاييس ثابتة للحكم الأدبي المنصف هو أهم سبب الى ذلك.
وقد حاول في كتابه ايجاد قواعد ثابتة تطبق على الشعراء بغض النظر عن عصورهم وازمانهم وهو في ذلك أراد أن يجعل من الناقد شخصاً يخضع للمقياس العلمي مع حاجته الى الحس الفني المرهف وان يميز بين عمله وعمل أهل اللغة أو النحو أو أصحاب المعاني ،وأتخذ من أبي الطيب المتنبي والخلاف حوله وسيلة لتحقيق ذلك . ولكننا سنتناول سرقات المتنبي فقط كما تناولنا سابقاً سرقات (أبو تمام والبحتري ) في كتاب الموازنة) للآمدي .
وهنا يقدم الجرجاني نماذج مما ادعاه خصوم المتنبي على أنه سرقات وهنا يثبت مفهوماً جديداً للسرقة كما يراها هو ،وميَز بين ما يمكن أن يسرق وبين ما لا يمكن أن يعتبر مسروقاً حتى ولو تعاوره كل الشعراء وتداولوه في شعرهم .
قال :
((ورأيتك وأصحابك إنحيتم في منازعة خصمكم على ادعاء السرق ،فقال قائلكم : مايسلم له بيت ،ولا يخلص من معانيه معنى ، وما هو الاّ ليث مغير أو سارق مختلس )).
واتهمه الخصوم والنقاد بأنه كانه سارقاً حاذفاً وقد أغار على شعر أبي تمام بخاصة كما سرق غيرهم .
قال:
(( وقلت انما عمد الى شعر أبي تمام فغير الفاظه،وأبدل نظمه،فأما المعاني فهي تلك بأعيانها،أو ما سرقه من غيرها،فإنه اعتمد على قريحته ،وحصل على فكرة وخاطرة جاء بمثل قوله:
ان كان لايُدعى الفتى الاّ كذا رجلاً فسمّ الناس طراً إصبعا
فهذا مقدار اختراعه ،وهذه طريقة ابتداعيه ،فان زاد عليه و تجاوز قليلاً اضطر الى تعقيد اللفظ،وفساد الترتيب،واضطرب النسج ،فصار خيره يفي شره ، وجرمه يزيد على عذره ،ثم لم يظفر به بمعنى شريف وانما هو الإفراط والاغراق و المبالغة والاحالة كقوله:
لو طابَ موَلدُ كل حي ً مِثلهُ ولد النساء وما لهن قوابلُ
ولم يستغن بطيب المولد عن القابلة ،واذا استغني عنها كان ماذا؟ وأي فخر فيه؟ وأي شرف يناله )) 0
ويذكر الجرجاني نموذجاً أخر من معاني المتنبي التي لم يسرقها ولذلك لم يأت بها بجيد وذلك على لسان خصومه.
قال : ((وقوله:
لو الفلك الدوار ابغضت سعيه لعوقه شيء عن الدورانِ
وهذا البيت من قلائده ،الا انك نعلم ما في قوله: (شيء من الضعف الذي يجتنبه الفحول ،ولا يرضاه النقاد،وهو واشباه هذا مما لم يرد استقصاءه و انما دللناك على منهاجه ،واريناك بابه ،وقد قدمنا ما استرذلنا من شعره))
ويرى نقاده ان اجادة المتنبي لا تكون في الشعر الحق الذي يشبه شعر العرب وانما تكون في الشعر ذي الفكر الفلسفي فقط 0
قال الجرجاني عن لسانهم :
(( وانما تجد له المعنى الذي لم يسبقه الشعراء إليه اذا دقق فخرج عن رسم الشعر الى طريق الفلسفة )) ،
وبعد أن يبلغ الجرجاني خصوم المتنبي انه قد حمل عنهم كل حججهم ،وبلع كل تهمهم وانه مع ذلك قد يوافقهم على بعض ما بسطوه من رأي الا انه يعود فيقول لمتهم المتنبي بالسرقة في كل جيد من شعره بأنه لا يفهم في الاصل ماهي السرقة وما هي حدودها؟
((وزعم خصمك ،انك وأصحابك ،وكثيراً منكم لايعرف من السرقه الا اسما فان تجاوزه حصل على ظاهره ،ووقف عند أوائله ،فإن استثبت فيه ،وكشف عنه،وجد عاريا عن معرفة واضحة،فضلاً عن غامضه ،وبعيداً من جليه ، قبل الوصول الى مشكله ، وهذا باب لاينهض به الا الناقد البصير والعالم المبرز ،وليس كل من تعرض له ادركه،ولا كل من أدركه استوفاه واستكمله،ولست من جهابذة الكلام ونقاد الشعر حتى تميز بين اصنافه ،واقسامه،وتحيط علما برتبه ومنازله) ) 0
ومن سرقاته ما أخذه من من قول أبي تمام :
وَما سافَرتُ في الآفاقِ إِلّا وَمِن جَدواكَ راحِلَتي وَزادي
كتاب الموازنة وثبة في تأريخ النقد الأدبي ،بما اجتمع له من خصائص ،لا بما حققه من نتائج ،ذلك لأنه ارتفع عن سذاجة النقد القائم على المفاضلة بوحي من (الطبيعة ) وحدها دون تعليل واضح،فكان الموازنة مدروسة مؤيدة بالتفصيلات التي تلم بالمعاني والالفاظ والموضوعات الشعرية بفروعها المختلفة ،وكان تعبيراً عن المعاناة التي لا تعرف الكلل في استقصاء موضوع الدراسة من جميع أطرافه،ولهذا جاء بحثاً في النقد واضح المنهج،ليس فيه إلا اليسير من الاستطرادات الجزئية،وقد بين المؤلف منهجه بقوله: ((وأنا أبتديء بذكر مساويء هذين الشاعرين لأختم محاسنهما ،واذكر طرفاً من سرقات أبي تمام وإحالاته وغلطه وساقط شعره ،ومساويء البحتري في أخذ ما أخذه من أبي تمام وغير ذلك في بعض معانيه ، ثم أوازن من شعريهما بين قصيدة وقصيدة إذا اتفقتا في الوزن والقافية واعراب القافية ثم بين معنى ومعنى فإن محاسنهما تظهر في تضاعيف ذلك وتكشف ، ثم اذكر ما انفرد به كل واحد منهما فجوده من معنى سلكه ولم يسلكه صاحبه،وأفرد باباً لما وقع من شعريهما من التشبيه وباباً للأمثال اختم بها الرسالة)). ونحن اذا انثنينا التلاحم المنهجي الذي قام عليه ((نقد الشعر )) لقدامة بن جعفر لانجد بعده ما يقاربه في انتحال صفة ((الرسالة)) العلمية مثل كتاب الموازنة ، أضيف الى ذلك ان كتاب الآمدي قد أستغل جميع وسائل النقد التي عرفت في عصره : من تبيان المعاني المسروقة ،ومن سلوك سبيل القراءة الدقيقة والفحص الشديد ،ومن لاحتكام الى الذوق الفردي حيناً والى الثقافة حيناً آخر ،بكل ما كتب في الموضوع نفسه ،وناقش مؤلفات مَن تقدموه من مناقشة الواثق برأيه وذكائه وانصافه.
لِمَ الموازنة ؟
لِمَ الموازنة؟ لو كان لتفضيل أحد الشاعرين ــ تصريحاً ــ على الأخر لكانت محدودة الهدف واضحة الغرض ،ولكن الأمدي يصرح بأنه لن يطلق القول في أيهما أشعر (( لتباين الناس في العلم واختلاف مذاهبهم في الشعر ،ولا أرى لأحد أن يفعل ذلك فيستهدف لذّم أِحد الفريقين لأن الناس لم يتفقوا على أي الأربعة أشعر في أمريء القيس والنابغة وزهير والاعشى ،ولا في جرير والفرزدق والأخطل،ولا في بشار ومروان والسيد،ولا في أبي نواس وأبي العتاهية ومسلم والعباس بن الاحنف لاختلاف أراء الناس في الشعر وتباين مذاهبهم فيه )) 0
واذا لم يكن التفضيل ممكناً فهل التسوية بينهما ممكنة ؟ الآمدي لايرى ذلك ،مخالفاً لكثير من الناس عدوا الطائيين طبقة،وذهبوا الى المساواة بينهما ،فهما في رأيه مختلفان: (( لأن البحتري أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف ،وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ ووحشى الكلام ،،فهو بأن يقاس بأشجع السلمي والمنصور النمري وأبي يعقوب الخريمى المكفوف وأمثالهم من المطبوعين ،أولى،ولأن أبا تمام شديد التكلف صاحب صنعة ويستكره الألفاظ والمعاني وشعره لايشبه شعر الأوائل ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة ، فهو بأن يكون في حيز المسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه وعلى أني لا أجد من أقرنه به,,,,)) وأحب أن نقف عند قوله : (( ما فارق عمود الشعر المعروف)) فإن هذا التعبير يواجهنا هنا لأول مرة ، وأن نتأمل قوله في أبي تمام (( وعلى أني لا أجد من أقرنه به)) ونتساءل: إذا كان أبو تمام لا يقترن بأحد ممن أبناء مذهبه وطبقته فهل من الممكن إجراء الموازنة بينه وبين البحتري ؟ أو لنضع السؤال موضوعاً أشمل : هل تمكن الموازنة بين شاعرين متباعدين في الطريقة ؟ أليست هذه الموازنة كوضع الحديد في كفة ميزان ووضع النحاس في كفة اخرى ، ولا يكون الحكم بعد ذلك إلا حول أيهما يرجع بالآخر من حيث الكم لامن حيث النوع ؟ وعلى هذا يظل السؤال الأول لم الموازنة ؟ وارداً دون الجواب .
أكبر الظن أن الموازنة كانت في حينها تلبية ( علمية المظهر و المنهج) لحاجة ذلك الصراع الدائر بين المتطرفين من الفريقتين ،وكان هذا الطراف يرى الحسنات عند واحد ويقرن اليها السيئات عند آخر ،ثم يعمى كل منهما عن سيئات صاحبه.
قضية البديع عند ابن المعتز
ابو تمام ومذهبه سبب في تأليف كتاب البديع:
يصح لنا نقول إن أبا تمام كان يمثل ((مشكلة فنية )) لدى ابن المعتز ، وان هذه المشكلة بدأت مبكرة في تصورة لها،وكانت سبباً من أسباب التي وجهته الى تأليف كتاب البديع ،ليدل على ان هذا الفن موجود عند العرب في القرآن والحديث،وكلام الصحابة ، وأن المحدثين لم يكونوا مبتكرين له وأن حبيب بن أوس من بعدهم شغف به حتى غلب عليه وتفرغ فيه وأكثر منه فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض وتلك عقبي الافراط وثمرة الاسراف .
وقد كان ابن المعتز على وعي بأن هذا الفن لم يعرفه العلماء باللغة والشعر القديم ولايدرون ما هو وما هي الأنواع التي تقع تحته، وأنه مبتدع في إستقصائه لصوره وأنواعه غير مسبوق الى ذلك ،وقد ألف كتابه سنة ( 274هـ ) وكان أول من نسخه منه هارون بن يحيى بن أبي المنصور المنجم.
وفنون البديع عنده خمسة هي :الإستعارة والتجنيس والمطابقة وردَ إعجاز الكلام على من تقدمها والمذهب الكلامي. وقد كان الجاحظ ذكر البديع وأورد أمثلة منه في البيان والتبيين،وهو صاحب مصطلح (المذهب الكلامي))بإقرار ابن المعتز نفسه ، وبعض المصطلحات الأخرى إنما هي مما استعمله الناس قبل ابن المعتز.
فالاستعارة مثلا مصطلح قديم،كذلك يفهم من خبر مروي عن أبي الحسن علي بن الحسن الأخفش أن الخليل والاصمعي كانا يعرفان (الطباق) ويروى أحدهم عن الاصمعي حديثاً في المطابقة ، وأنه كانه يمثل عليها بقول زهير:
ليتٌ بَعْثرٍ يصطادُ الرجالَ إذا ما كذب الليثُ عن أقرانهِ صدَقا
وقول الفرزدق:
لَعَنَ الإلهُ بني كليب إنهم لا يغدِرون ولا يفون لجار
يريد المطابقة بين كذب وصدق وبين لا يغدرون ولا يفون.
ولكن فضله إنما يمثل في حشد الشواهد لها من النثر والشعر في القديم و الحديث.
ومع أن الكتاب قد سمي باسم (البديع ) وهو موضوعه الرئيسي ،فإن ابن المعتز أضاف اليه ( ( بعض محاسن الكلام والشعر ) لتكثر فائدة كتابه، فتحدث في الالتفات والاعتراض والرجوع وحسن الخروج وتأكيد المدح بما يشبه الذم وتجاهل العارف والهزل الذي يراد به الجد والتضمين والتعريض والكناية والإفراط في الصنعة وحسن التشبيه ، فكأنه كان يضع كتاباً في البلاغة ،مصراً على أن لفظة (البديع) لا تتناول إلا الخمسة الاولى.
والكتاب يمثل مع ((البيان والتبيين )) النواة لعلم البلاغة العربية ،ولا يمس النقد الأدبي إلا بطريقة عارضة ، من حيث أن النقاد من بعد شغلوا أنفسهم ببعض هذا المصطلح البلاغي في تقويمهم للشعر ، غير أن الروح التي أملت الكتاب كانت تمثل جانباً من الحركة النقدية في القرن الثالث ،على نحو طريقف معكوس فبدلاً من إنصاف الشعر المحدث،ذهب ابن المعتز ينصف القديم.
وعن هذه الطريقة أكد أن البديع لم يكن بدعاً متحدثاً، وإنما كان الفضل فيه للقدمــاء ،فالبديع اذن جاء من الموروث الكبير ، وهو بهذا ذو أصل راسخة ، وليس العيب فيه وإنما العيب في الافراط في استخدامه والافراط مذموم في كل الامور .
لهج ابن المعتز بالبديع في مجالسه الخاصة:
وقد عرف ابن المعتز بين أبناء عصره باللهج بالبديع والاحساس الدقيق في استكشاف نماذجه وبحث عنها في الادب العربي القديم ،حتى كانوا يسلمون له السبق في هذا الميدان،قال فيه الصولي انه ( كان يتحقق بعلم البديع ،تحققاً ينصر دعواه فيه لسان مذكراته ) .
ويروي الحاتمي عن الصولي أن ابن المعتز سأل بعض المجتمعين في مجلسه من فرسان الشعر ما أحسن استعارة للعرب اشتمل عليها بيت من الشعر ؟ فقال الأسدي :قول لبيد
وغداةُ ريحٍ قد وزعتُ وقرًةٍ إذ أصبحت بيد الشًمال زمامُها
فجعل للشمال يداً وزماماً ،قال أبو ألعباس (أي ابن المعتز ) : هذا حسن وغيره أحسن منه، وقد أخذه من قول ثعلبة بن صعير المازني:
فتذكرتُ ثقلاً رئيداً بعدما ألْقَتْ ذكاءَ يمينها في كافر
قال: وقول ذي الرمة أعجب إليَ منه وإن تأخر زمانه:
ألا طرقَتْ فيَ هَيوماً بذكرِها وأيدي الثُريا جنحٌ للمغارب
وقال بعضهم: بل قول لبيد :
ولقت حَمَيْتَ الحيُ تحمل شِكًتي فرطٌ وشاحي إذ غدوتُ لجامها
فقال أبو العباس : هذا حسن ، ولكن يعدل عنه الى قول لبيد (الأول)
وقال الآخر :قول الهذلي:
ولو أنني استودعتُه الشمسَ لارتقتْ إليه المناليا عينُها ورسولُها
قال أبو العباس : هذا بديع ، وأبدع منه في استعارة لطيفة الاستيداع قول الحُصين بن الحمام المري ، لأنه جمع الاسـتعارة والمقابلة في قوله:
نُطاردهم نستودع البيض ها مهم ويستودعونَ السمهري المقًوما
وقال بعضنا : بل قول ذي الرمة:
أقامتْ به حتى دوى العودُ في الثرى ولف الثُريا في ملاءته الفجرُ
فقال أبو العباس : هذا لعمري نهاية الحيرة ، وذو الرمة أبدع الناس استعارةً إلا أن الصواب ( حتى ذوي العود الثري ــ بواو النسق ــ لأن العود لايذوى مادام في الثرى ) . وهكذا استمر حضور ذلك المجلس يوردون استعارة واخرى وابن المعتز في كل تعليقاته ينبيء عن ذوق فني دقيق في الحكم على أنواعها وهو أمر يشير الى الوجهة الفنية التي حفزت ابن المعتز الى تأليف كتاب في البديع.
عمود الشعر
لم يعرف النقد العربي القديم الأسلوب بمعناه الحديث وإنما تحدث النقاد القدامى عن الصياغة وجمال التركيب ،ثم أوجدوا محاولاً للأسلوب تمثل لديهم في ما دعي باسم (عمود الشعر ) ويعني عندهم الأسس الفنية والجمالية لفن الشعر.
ما قاله العرب في عمود الشعر منه ما يرجع الى اللفظ من حيث جرسه ومعناه في موضعه من البيت ،ومنه ما يتعلق بمفهوم المعنى الجزئي في تأليف القصيدة ،ثم منه ما يخص تصوير المعاني الجزئية وصلتها بعضها ببعض في بنية القصيدة.
اللفظ والمعنى
اللفظ :
أما اللفظ فيتطلبون فيه الجزالة ، والاستقامة، والمشاكلة للمعنى ، وشدة أقتضائه للقافية.
وجزالة اللفظ:
تتوافر له اذا لم يكن غريباً ولا سوقياً مبتذلاً ومعياره أن يكون بحيث تعرفه العامة إذا سمعته ، ولا تستعمله في محاوراتها.
واستقامة اللفظ :
تكون من ناحية الجرس أو الدلالة ،أو التجانس مع قرائنه من الألفاظ.
ومشاكلة اللفظ المعنى:
تكون اذا وقع موقعه لا يزيد على معناه أو ينقص عنه، ولذا أخذوا على الأعشى استخدامه كلمة (الرجل ) مكان الانسان في قوله:
أستأثر الله بالوفاء وبالعد لِ وولًى الملامة الرجلاَ
المعنى :
وما تطلبوه في المعنى الجزئي هو شرف المعنى ، وصحته، والاصابة في الوصف.
وشرف المعنى :
أن يقصد الشاعر فيه الى الاغراب ، واختيار الصفات المثلي إذا وصف أو مدح لايبالي ذلك في الواقع ، فإذا وصف فرساً يجب أن يكون الفرس كريماً ، واذا تغزل ذُكِرَ من أحوال محبوبة ما يمتدحه ذو الوجه الذي برح به الحب.
وأما ما يخص تصوير المعاني الجزئية في البنية العامة للقصيدة فهو المقاربة في التشبيه،ومناسبة المستعار منه للمستعار له،ثم التحام أجزاء النظم والتئامها.
والمقاربة في التشبيه:
وأصدقه (ما لا ينقض عند العكس) كتشبيه الورد بالخد، والخد بالورد،
وأحسنه ما أوقع بين شيئين اشتراكها في الصفات أكثر من انفرادها كي يبين وجه التشبيه بلا كلفة.
ومناسبة الاستعار منه للمستعار له:
على حسب عرف اللغة في مجازها ، ولذا عيب على أبي نواس قوله:
بُحَ صوت المال مًما منك يشكو ويصيحُ
يريد أن المال يتظلم من إهانته وتمزيقه بالإعطاء لكرم صاحبه ، والاستعارة قبيحة لأنه لا صلة بين المال والانسان.
والتحام أجزاء النظم والتئامها:
ويقصدون بذلك الى الانتقال من كل جزء من أجزاء القصيدة التقليدية الى الجزء الآخر على نحو جيد،على حسب ما جرت به تقاليد القصيدة العربية ، منذ الجاهلية ،على الرغم من أن هذه الأجزاء –بما أشتمل عليه من وقوف على الاطلال وذكر الديار والحبيب والرحلة الى المحب ثم المدح –لاصلة في الواقع بينهما ،ولا يمكن أن تتكون منها وحدة عضوية، وأنما يريدون وصل هذه الاجزاء وكفى.
عمود الشعر عند ابن قتيبة( ت276هـ ):
هل ابن قتيبة اتباعي يعارض الخروج عن طريقة القدماء ؟
وقد فهم بعض الدارسين ان ابن قتيبة يصر على أن يظل هذا الشكل نظاماً صارماً لكل شاعر جاهلياً كان أو اسلامياً أو محدثاً، وأنه حرم على المتأخرين التحلل من عقدة هذا النظام ، وهذا الوهم منشؤه قول ابن قتيبة (فالشاعر المجيد من سلك هذه الاساليب وعدل بين هذه الاقسام )، وما أرى ابن قتيبة هنا يؤكد شيئاً سوى التناسب، وأما قوله بعد ذلك (وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الاقسام فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيد البنيان لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي ،أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما ،لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير ،أو يرد على المياه العذب والجواري لأن المتقدمين رحلوا على الأواجن والطوامي أو يقطع الى الممدوح منابت النرجس والأس والورد لأن المتقدمين جروا على منابت الشيح والحنوة والمرارة)،فليس ثمة أوضع منه في الدلالة على تحريم التقليد الشكلي المضحك ، وإحلال مواد الحضارة محل مواد البداوة في الشعر .
وللشاعر أن يجدد بما يناسب عصره دون حكاية قياسية تدل على ضعف الخيال أو أن يعيد ذكر الرحلة ووصف الطلل – وإن لم يوجدا في عصره – لأنها قد أصبحا لديه رمزاً لا حقيقية، والرمز ذو محل مقبول ،فأما المحاكاة القاصرة فإنها سيئة الوقع تستثير الاهتزاء ،وكان ابن قتيبة يوميء من طرف خفي الى أن أبا نواس لم يضع شيئاً فنياً في دعوته، وإن كان ألبق من غيره من المأخوذين بمواد الحضارة ،لأن الوقوف على الحانات بدل الوقوف على الاطلال تغيير في الموضوع لا في الطريقة الفنية.
عمود الشعر عند الآمدي:
(عمود الذوق الى جانب عمود الشعر )
الآمدي (370هــ) هو أيضاً من حام حول ما أسماه (عمود الشعر ) وحدده بالصفات السلبية ، وأورد ما تورط به أبو تمام من تعقيد وألفاظ مستكرهة،وكلام وحشي،وإبعاد في الاستعارة ،واستكراه في المعاني ،مما لو عكسناه لأصبح صفات البحتري ،وليس من شك في أن الآمدي كان يؤثر طريقة البحتري،ومن أجل ذلك جعلها (عمود الشعر ) ونسبها الى الأوائل،وصرح بأنه من هذا الفريق .
ويأوي الآمدي في نقده الى ركن شديد يجعله أساساً لنظرية النقدية ،وهو الرجوع في كل أمر يختلف فيه المتذوقون والنقاد الى ما تعارفته العرب وأقرته وآثر عنها ،فكما على الشاعر أن يلتزم عمود الشعر فإن على الناقد أن يلتزم (عمود الذوق) وإلا فلا معنى للدربة والدرس وطول النظر في اثار السابقين.
فمن هذه الدربة يتكون ذوق الناقد ،ومنها يستدل على ماجرت به العادة فيتمكن من الحكم على احسان الشعر أو اساءته بالنظر الى ماجرت عليه العرب في طريقتها، ومنه قول أبي تمام عندما قيل له هذا خلاف ما عليه العرب :
تناول الجرجاني (392 هـ) عمود الشعر ووضعه في صورة إيجابية ويؤكد بأن عمود الشعر له أركان محددة هي :
1- شرف المعنى وصحته
2- جزالة اللفظ واستقامته
3- اصابة الوصف
4- المقاربة في التشبيه
5- الغزارة في البديهة
6- كثرة الأمثال السائرة والبيان شاردة
وقد قال وهو يخاطب الآمدي : ( لم تكن تعبأ بالتجنس والمطابقة ، ولا تحفل بالابداع والاستعارة ،إذا حصل لها عمود الشعر ونظام التعريض ). وقد كان الآمدي صريحاً في موقفه حين وجد أبا تمام قد خرج في محاولته على عمود الشر.
أما الجرجاني فلم يصرح عن رأيه في صلة المتنبي بعمود الشعر غير أنك تلمح من طرف خفي أن الشروط الستة التى وصفها تنطبق على المتنبي تماماً، فاذا طالعته بمعنى مستكره أو وصف غير مصيب أو استعارة مفرطة ،دعاك الى أن لا تحكم ببيت على أبياته على أن الآمدي رفض إعتبار توليد المعاني أساساً في الشعر ،ولو أخذنا رأيه ذلك على علاقه ،لوجدنا أبا الطيب أربى على أبي تمام وعلى كل شاعر آخر،في هذا الباب، ومع ذلك فإن الجرجاني ،خرج من هذا المأزق بقوله: (شرف المعنى وصحته).
عمود الشعر عند المرزوقي
( عمودُ الشعر خصال عند العرب )
يقول المرزوقي (ت 421هــ) وهو يتحدث عن العمود الشعر : ( فهذه الخصال عمودُ الشعر عند العرب فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها فهو عندهم المُفْلقِ المعظم والمحسن المتقدم ، ومن لم يجمعها كلها ، فبقدر سُهمته منها يكون نصيبه من التقدم والاحسان ، وهذا اجماع مأخوذ به ومقنع نهجه حتى الأن)
وعمود الشعر عنده:-
1. شرف المعنى وصحته.
2. جزالة اللفظ واستقامه
3. الاصابة في الوصف
4. المقاربة في التشبيه
5. التحام أجزاء النظم والتئامها على تخيز من لذيذ الوزن
6. مناسبة المستعار منه للمستعار له
7. مشاكلة اللفظ المعنى وشدة اقتضائها للقافية حتى لا مفاخرة بينهما.
وتمثل المرزوقي في معاييره هذه اراء الآمدي والجرجاني وخاصة ما جاء عند القاضي الجرجاني على العناصر الاربعة اللازمة للشاعر وهي الطبع والرواية والدربة والذكاء0
وعدَ الذي ينقح شعره متكلفاً ،وامتدح الشاعر الذي يقول على البديهة ،أنشد ابن الأعرابي:
وبات يدرس شعراً لاقران له قد كان نقَحه حولا فما زادا
قال بشار بن برد :
فهذه بَدْيةٌ لا كتحبير قائلِ إذا ما أراد القول زوَره شهراً
وكان يميل الى الشاعر المطبوع ومن الشعراء المطبوعين:
(بشار بن برد ،السيد الحميري ،أبو العتاهية ،وابن أبي عُيينة، وكان بشار أطبعهم كلهم) .
النقد العربي والأثر اليوناني
حركة الترجمة وكتاب الشعر
كانت حركة الترجمة في القرنين الثاني والثالث، قد قربت بين الثقافات المختلفة من هندية وفارسية ويونانية وعربية، وفتحت عيون المثقفين على مصادر علمية وفكرية جديدة، ولكنا إذا استثنينا الجاحظ في القرن الثالث، وجدنا ان هذه الثقافات المختلفة لم تترك آثاراً عميقة في البلاغة والنقد، حتى الجاحظ نفسه لم يمس الشعر من الزاوية الفلسفية إلا مساً رفيقاً؛ وكان من أسباب ذلك، الفصل الحاسم الذي أقامه النقاد والشعراء بين الشعر والمنطق، والموقف الدفاعي الذي اتخذوه من الشعر حين جعلوه موازياً أحياناً للعلوم المترجمة وبديلاً لها في أحيان أخرى. هذا على ان في المترجمات أموراً تتصل بالخطابة والشعر اتصالاً وثيقاً، كالصحيفة الهندية التي أشرنا إليها من قبل، وككتاب الخطابة وكتاب الشعر للأرسططاليس، فالأول كما حدثنا ابن النديم يصاب بنقل قديم، إذ نقله إبراهيم بن عبد الله، وقيل أن إسحاق بن حنين نقله، ورآه ابن النديم نفسه بخط احمد بن الطيب السرخسي بنقل قديم، وكل هذا يشير إلى ان كتاب الخطابة كان موجوداًمترجماً في القرن الثالث؛ وأما الثاني فيبدو انه ترجم أيضاً في دور مبكر،
إذ اختصره الكندي (المتوفى حوالي252)، وليس بثابت أن الكندي كان يعرف اليونانية، وإذا نفينا عنه معرفتها قدرنا انه اطلع على ترجمة قديمة؛ هذا ويذكر ابن النديم أيضاً للكندي " رسالة في صناعة الشعر " . فإذا كانت هي شيئاً آخر غير مختصر للبويطيقيا، فمن المرجح ان تحمل آثار ثقافته اليونانية.
قدامة بن جعفر ونقد الشعر
وعلاقة قدامة بالثقافة اليونانية
لا ريب فيه أن الثقافة اليونانية كانت من ابرز المؤثرات في قدامة بن جعفر. فقد كان ممن يشار إليه في علم المنطق وعد من الفلاسفة الفضلاء . وله تفسير بعض المقالة الأولى من السماع الطبيعي (سمع الكيان) لأرسطو وله كتاب في صناعة الجدل ، ويدل كتابه في الخراج على ثقافة حسابية دقيقة مثلما يدل - بشهادة أبي حيان التوحيدي - على أنه تناهى فيه بوصف النثر في المنزلة الثالثة من الكتاب 0
وهذه الثقافة نفسها هي التي جعلته يشارك في النقد الأدبي، إذ لا تكاد تشك في أن المنزلة الثالثة من كتاب الخراج إنما كتاب صدىً لكتاب أرسطو في الخطابة، وإن استكماله لمراحل المنطق الأرسطوطاليسي (وكتاب الشعر مرحلة أخيرة فيه) هو الذي جعله يقوم بتأليف كتابه " نقد الشعر " ، وأنه بحكم هذه الثقافة نفسها كان منحازاً إلى تقدير " المعنى " ، ولذا ألف كتابه " الرد على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام " ؛ ولكن يجب ألا ننسى أن صلته بثعلب وأمثاله من علماء القرن الثالث، هي التي وضعت في يديه المادة الأدبية الصالحة لسند آرائه النظرية.
عدم إطلاع قدامة على نقد القرن الثالث
ويبدو أن قدامة لم يعرف شيئاً عن كتاب " نقد الشعر " للناشئ، ولم يطلع على كتاب " عيار الشعر " لأبن طباطبا، لأنه يصرح بأنه لم يجد " أحداً وضع في نقد الشعر وتخليص جيده من رديئه كتاباً " ثم يقول: " فأما علم جيد الشعر من رديئه فإن الناس يخبطون في ذلك منذ تفقهوا في العلم، فقليلاً ما يصيبون؛ ولما وجدت الأمر على ذلك وتبينت أن الكلام في هذاالأمر أخص بالشعر من سائر الأسباب الأخر، رأيت أن أتكلم في ذلك بما يبلغه الوسع " ؛ فالنقد لدى قدامة " علم " ومجاله تخليص الجيد من الرديء في الشعر، أما سائر ما يتعلق بالشعر من علوم العروض والوزن والقوافي والغريب واللغة والمعاني، فليس مما يدخل في باب النقد إلا على نحو عارض، وقد أكثر الناس في التأليف في تلك العلوم وقصروا في علم النقد0
حد الشعر عند قدامة
ومنذ البداية يبدو قدامة متأثراً بالمنطق الأرسطوطاليسي، متجاوزاً المفهوم اليوناني للشعر، في آن معاً. فهو في حده للشعر، وفي حرصه على أن يكون ذلك الحد مكوناً من جنس وفصل يدل على أنه يترسم ثقافته المنطقية، " الشعر قول موزون مقفى يدل على معنى " فكلمة قول: بمنزلة الجنس، وموزون فصل له عما ليس بموزون، ومقفى فصل عما هو موزون ولا قوافي له، ودال على معنى فصل له عما يكون موزوناً مقفى ولا يدل على معنى. غير أن وضعه " المقفى " صفة فاصلة للشعر تدل على أنه يؤثر أن يستقل بحديثه عن الشعر العربي، وأنه لا يحتاط كما أحتاط الفارابي من بعد بقوله " إن للعرب من العناية بنهايات الأدبيات التي في الشعر أكثر مما لكثير من الأمم التي عرفنا أشعارهم " ، ولا يحتاط شأن أبن سينا حين قال: " الشعر هو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة متساوية وعند العرب مقفاة " . وقد كان هذا التعريف مورطاً لقدامة على الصعيد المنطقي، لأن القافية لا تعدو أن تكون لفظة فهي جزء من " القول " أو ركن " اللفظ " أي هي داخلة في " اللفظ " وفي " المعنى " وفي " الوزن " ،. ولذا فإن قدامة وقع حيرة من أمرها. حين أراد أن يستكشف ائتلافها مع هذه العناصر. لأنها ليست وحدة قائمة بذاتها، ثم وجد - على سبيل التسامح - إنها يمكن أن تقع مؤتلفة مع المعنى. ومن ثم يتجه الحديث في الشعر إلى عناصره البسيطة (اللفظ - المعنى - الوزن - القافية) - ثم يتجه إلى المركبات (اللفظ والمعنى - اللفظ والوزن - المعنى والوزن - المعنى والقافية) فهذه ثماني وحدات: قسمة منطقية (أسعف فيها شيء من التساهل في أمر القافية) إلا أنها يجب أن تعتمد أساساً ثنائياً، لأن كلاً من العناصر البسيطة والمركبة قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً، ولهذا كانت هذه الوحدات في حالتي الإيجاب والسلب ست عشرة
صورة موجزة لكتاب نقد الشعر
ويظل الحديث عن عناصر: اللفظ، والوزن، والقافية، وعن ائتلاف اللفظ والوزن وائتلاف المعنى والقافية (وهو مفتعل) أمراً سهلاً ليس فيه تعقيد في حلي الوجوب والسلب أو الجودة والرداءة.
1 - فاللفظ يجب أن يكون سمحاً سهل مخارج الحروف من مواضعها. عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة وعيوبه أن يكون ملحوناً وجارياً على غير سبيل الإعراب واللغة وحشياً قائماً على المعاظلة.
2 - والوزن يكون سهل العروض. فيه ترصيع. وعيوبه الخروج عن العروض والتخليع.
3 - والقافية تكون عذبة الحرف سلسة المخرج فيها ترصيع، وعيوبها هي العيوب القديمة من إقواء وتخميع وإبطاء وسناد.
4 - وائتلاف اللفظ والوزن أن تكون الأسماء والأفعال في الشعر تامة مستقيمة كما بنيت، لم يضطر الأمر في الوزن إلى نقضها عن البنية بالزيادة عليها والنقصان منها، وهذا يرجع إلى صناعتي المنطق والنحو، وعيب ائتلاف اللفظ والوزن: الحشو والتثليم والتذنيب والتغيير والتفصيل.
5 - وائتلاف القافية مع المعنى أن تكون متعلقة بما تقدمها تعلق ملاءمة ونظم، بالتوشيح أو الإيغال، وعيبها في هذا الصدد أن تكون مستدعاة متكلفة يتعمد فيها السجع دون فائدة للمعنى.
ولكن الصعوبة تجيء من المعنى؛ وهذا هو الباب الذي يشغل الجزء الأكبر من كتاب قدامة، إذ ما دام المنطق هو الأساس المعتمد فلابد من حصر المعاني (على قدر الإمكان) ثم حصر الصفات الموجبة والسالبة التي قد تلحقها. ولهذا يحدد قدامة المعاني بستة أنواع - كل منها ذو حدين: جيد ورديء، ولها سبع صفات: كل صفة موجبة ونقيضتها، وأنواع المعاني تقع في الأغراب الآتية: المديح - الهجاء - المراثي - التشبيه - الوصف - النسيب، ولكل غرض حسنات في المعاني وعيوب، ويكفي أن يقال إن العيوب نقض للحسنات. وتتوفر في المعاني الجيدة الصفات الآتية:
- صحة التقسيم
- صحة المقابلات
- صحة التفسير
- التتميم
- المبالغة
- التكافؤ
- الالتفات،
وأضدادها المعيبة هي:
- فساد التقسيم
- فساد المقابلات
- فساد التفسير
- الاستحالة والتناقض
- إيقاع الممتنع
- مخالفة العرف
- نسبة الشيء إلى ما ليس له.
هذه حال المعاني في وضعها البسيط، فإذا تركبت مع اللفظ كان ائتلافها يقتضي أن تتوفر المساواة والإشارة والإرداف والتمثيل والمطابقة والمجانسة ويقابل هذه الحسنات عيبان: الإخلال (النقص الذي يفسد المعنى) والزيادة التي تفسد المعنى، فإذا ائتلفت المعاني مع الوزن توفر: التمام والاستيفاء والصحة، وإذا أختل ذلك الائتلاف نتج عن ذلك القلب والبتر.
مصطلح قدامة
تلك هي الصورة الخارجية لكتاب " نقد الشعر " أردنا وضعها على هذا النحو لتدل على أن الكتاب قد رسم حسب خطة دقيقة، لا تختل، لأن فكرة المؤلف واضحة تمام الوضوح في ذهنه، فهو مقتصد في الكلام، لا يخرج عن حدود موضوعه، ثم إن هذه الصورة تدلنا على أن قدامة قد حشد مصطلحاً كبيراً أصبح مادة، هامة في نقد الشعر وفي البلاغة على السواء، ودارسو المصطلح البلاغي يجدر بهم أن يعالجوا هذا الذي جاء به قدامة، فيردوه إلى أصوله: عربية كانت أو منطقية أو بلاغية يونانية، ويتتبعوا دورانه في الكتب البلاغية من بعد، واعتراض المعترضين عليه، واستبدال غيره به أو إقراره أو تحويره،غير أن هذا المصطلح نفسه يدل على انشغال قدامة بالتحديد والتقعيد، كان الرجل يحس بما انتشر في مجال النقد من فوضى ذوقية، وكان حريصاً على أن يعلم النقد، مثلما كان حريصاً على أن يكون علمه قائماً على منطق لا يختل، ولذلك حول النقد - مخلصاً في محاولته - إلى منطقية ذهنية وقواعد مدرسية ووضع له مصطلحاً، وليس بمستغرب أن يرى فيه معاصروه " أفرس الناس ببيت شعر " وأن يسألوه تحديد المصطلح البلاغي النقدي إذا أشكل عليهم منه شيء، فقد سأله عيسى ابن عبد العزيز الطاهري مرة عن الإشارة فقال: " هي اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة باللمحة الدالة " فلما سأله مثلاً عليها قال: مثل قول زهير:
فإني لو لقيتك واتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء
وهذا وارد أيضاً في " نقد الشعر " ؛ وكذلك نجد أبا الفرج الأصفهاني يسأله عن المقابلة فيورد عليه تعريفها والمثل عليها كما هو في كتابه دون إخلال ، مما يدل على أن الكتاب أصبح جزءاً من محفوظه حاضراً لديه، وقد أثار هذا المصطلح بعض الاعتراضات، وتعرض للتغييرات، ولنأخذ مثلاً على ذلك " المطابق " فإن قدامة مثل عليه بقول سويد بن ابي كاهل:
فكاهل أسم القبيلة، وكاهل عضو، فاعترض الأخفش علي بن الحسن وقال: إن هذا يسمى التجنيس لا المطابقة، وزعم أن قدامة خالف في هذا الخليل والأصمعي ؛ وكذلك جرى الآمدي وغيره على تعقب قدامة في هذا المصطلح وهو أمر يطول تتبعه.
و رأى قدامة أن أغراض الشعر إما أن يكون موضوعها الإنسان (الممدوح - المهجو - المرثي - المتغزل فيه - الموصوف) وإما يكون موضوعها الشيء (الموصوف)، وقد يجيء موضوع سادس يجمع بين هذين بالرابطة الصورية (التشبيه)، وفكر قدامة أننا إذا استثنينا الوصف، وهو موضوع مشترك بين الناس والأشياء فإن الأربعة الأولى ليست إلا منحاً للصفات أو سلباً لها،
فالمدح يتطلب صفات إيجابية تسلب في الهجاء. وتحول إلى المضي في حال الرثاء. وتحور عن قاعدتها الأصلية في الحديث عن النساء. فما هي هذه الصفات الإيجابية؟
تحديد الصفات الإيجابية حسب نظرية الفضيلة الأفلاطونية
هنا لجأ إلى ثقافته الفلسفية، فوجد أن أفلاطون يجعل الفضائل الكبرى أربعاً: العقل والشجاعة والعدل والعفة. وبما أن مدح الرجال معناه ذكر فضائلهم. فمن أتى في مدحه بهذه الأربع كان مصيباً ومن مدح بغيرها كان مخطئاً ؛ وهذه الفضائل أمهات ذات فروع، ولا باس ان يمدح الشاعر بكل ما يتفرع عن كل فضيلة منها: ففضيلة العقل تتفرع إلى ثقابة المعرفة والحياء والبيان والسياسة والكفاية والصدع بالحجة والعلم والحلم عن سفاهة الجهلة وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، ومن أقسام العفة: القناعة وقلة الشره وطهارة الإزار وغير ذلك مما يجري مجراه، ومن أقسام الشجاعة: الحماية والدفاع والأخذ بالثار والنكاية في العدو والمهابة وقتل الأقران والسير في المهامه الموحشة وما أشبه ذلك، ومن أقسام العدل السماحة والإنظلام والتبرع بالنائل وإجابة السائل وقراء الأضياف وما جانس ذلك . وليست هذه الفضائل دائماً بسيطة بل يتركب منها فضائل أخرى تبلغ ستاً، فمن العقل مع الشجاعة يتولد الصبر على الملمات ونوازل الخطوب والوفاء بالأبعاد؟. ؛ وليس الهجاء إلا سلب هذه الفضائل عن المهجو، كما ان الرثاء (والصواب التأبين) ليس إلا تحويل الفعل إلى صيغة الماضي. ومن هذا يتبين ان شعر الإنساني في نظر قدامة يقوم (إذانحن استثنينا الغزل) على قاعدة أخلاقية ركينة. فلما كان الهجاء إنكاراً لإنسانية المهجو صح حينئذ أن نعيره بفقدان هذه القاعدة. لكي نحقره إلى نفسه فيتعظ بحاله غيره.
تتبع العلاقة بين قدامة وكتاب الشعر لارسطو
وفي هذا الصدد يثور أمامنا سؤالان كبيران: أولهما كيف اهتدى قدامة إلى هذا التفسير؟ والثاني كيف نوفق بين هذه القاعدة الأخلاقية وبين إقرار قدامة بالغلو لدى الشاعر والفحش والتناقض؟ ففي الإجابة عن هذين السؤالين يتضح جانب كبير من جهد قدامة الناقد.
والسؤال الأول من هذين وهو: كيف اهتدى قدامة إلى هذا التفسير، يردنا إلى كتاب الشعر لأرسطو، لقد ذكر الأستاذ بونيبكر في مقدمته على كتاب قدامة أنه لم يجد صلة بين هذا الكتاب وبين بويطيقا أرسطوطاليس، ولكن التدقيق في ترجمة متي - التي اطلع قدامة على ترجمة شبيهة بها فيما يبدو - قد يشير إلى رأي مخالف.
لقد قدمنا القول بأن الترجمة العربية بكتاب الشعر قد سمت التراجيديا والكوميديا باسم المديح والهجاء. ويبدو أن هذه التسمية الخاطئة قد رسخت في ذهن قدامة أن العرب واليونان يشتركون في هذين الفنين. وان اليونان قد سهلوا له الطريق حين وضعوا لهما قواعد نقدية، وبحسب ما تستطيع أن تؤديه الترجمة العربية يدور المديح على أعمال الأفاضل والهجاء على أعمال الأراذل: " فقد يجب أن يكون هؤلاء إما افاضل، وإما أراذل، وذلك ان عاداتهم واخلاقهم بأجمعهم إنما الخلاف بينها بالرذيلة والفضيلة؟ وبهذا الفصل بعينه الخلاف الذي للمديح عن الهجاء " ؛ وما دام المديح يدور حول الفضائل، وما دامت الفضائل الكبرى أربعاً، فلماذا لا يوفق قدامة بين النظريتين، لاسيما وأنه يقرأ في الترجمة المشوهة: " وأنواع المدائح أربعة أنواع ؛ ثم يقرا في موضع آخر: (وقد يجد ضرورة أن تكون جميع أجزاء صناعة المديح ستة أجزاء بحسب أي شيء كانت هذه الصناعات " ، وتختلط هذه الأمور في ذهنه فيحاول ان يحلها، ويسعفه عقله المنطقي على الاهتداء إلى حل. هي أربع بالنسبة للفضائل الكبرى، وهي ست بما تركب عنها. ثم لا يستطيع أن يفهم من التقسيمات الأصلية شيئاً لأنها تتصل في حقيقتها بالمأساة لا بالمديح، ولكنه يحس انه خرج من المأزق منتصراً. وقد كان الأمر كذلك لان بوادي الأمور الخاطئة قد تكونت لديه في صورة نظرية جديدة. وهو غير متردد في أن ما خرج به من استنتاج موافق لرأي المعلم الأول، لان المعلم الأول يقول أيضاً: " والتشبيه والمحاكاة هي مدائح الأشياء التي هي في غاية الفضيلة " .
كيف تم التلاءم بين القاعدة الأخلاقية والغلو في الشعر
و " غاية الفضيلة " تمثل جانباً من الجواب على السؤال الثاني، فقد قال أرسطوطاليس ان الفضيلة وسط بين طرفين، فهل يجوز للشاعر أن يصف قوماً بالإفراط في هذه الفضائل؟ وجواب قدامة على ذلك بالإيجاب لان هذا من باب الغلو في الشعر وليس يراد منه غلا المبالغة والتمثيل لا حقيقة الشيء ؛ لقد اختلف الناس في النظر إلى الشعر وانقسموا في مذهبين: ناس يرون الغلو في المعنى، وناس يرون الاقتصار وانقسموا على الحد الأوسط، بل إن بعضهم يستجيد الغلو في شعر وينكره في آخر، ويقول قدامة معلقاً على ذلك: " عن الغلو عندي أجود المذهبين وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديماً. وقد بلغني عن بعضهم أنه قال: أحسن الشعرأكذبه، وكذا يرى فلاسفة اليونانيين في الشعر على مذهب لغتهم " . وفي هذا يقف قدامة مناقضاً لمبدأ الصدق الذي دافع عنه ابن طباطبا والآمدي، معتمداً في رأيه على نقاد قدماء من العرب وعلى فلاسفة يونان، وإن كنا لا ندري يقيناً إلى أي الفلاسفة يشير.
ويستمر قدامة في تأييده للغلو حتى ولو أفرط فيه الشاعر وجاء بما يخرج عن الموجود ، ولكن من الطبيعي أن نسأل: أليس لهذا الغلو حد يقف عنده، أو بعبارة أخرى هل يبلغ الغلو مرحلة لا يكون فيها مقبولاً؟ لقد تنبه قدامة لهذه المسالة عند حديثه عن عيب من عيوب المعاني سماه " إيقاع الممتنع فيها في حال ما يجوز وقوعه " ، وتحديد الممتنع أنه " لا يكون، ويجوز أن يتصور في الوهم " وهو في هذا يختلف عن المتناقض، لان المتناقض لا يكون أبداً. ومن أمثلة هذا الممتنع الذي وضع فيما يجوز وقوعه قول أبي نواس:
يا أمين الله عش أبداً ... دم على الأيام والزمن
فليس يخلو هذا الشاعر من أن يكون تفاءل لهذا الممدوح بقوله: عش أبداً أو دعا له وكلا الأمرين مما لا يجوز، مستقبح " ؛ أقول تنبه قدامة إلى أن حكمه هذا قد يوهم التعارض مع ما سمح به من قبل إفراط في الغلو، فقال: " ونحن نقول إن هذا وما أشبهه ليس غلواً ولا إفراطاً بل خروجاً عن حد الغلو الذي يجوز أن يقع، إلى حد الممتنع الذي لا يجوز أن يقع، لان الغلو إنما هو تجاوز في نعت ما، للشيء أن يكون عليه وليس خارجاً عن طباعه إلى ما لا يجوز أن يقع له0
وهذه قضية تتطلب توضيحاً، فقد أقر قدامة أن الغلو يخرج " عن باب الموجود ويدخل في باب المعدوم " وأجاز ذلك على سبيل المثل وبلوغ النهاية ، إلا أنه وإن كان معدوماً، فإن وقوعه أمر ممكن، أما الممتنع فإن وقوعه أمر غير ممكن، ولامتحان الفرق بين هذين نضع كلمة " يكاد " فحيث صلحت فذلك غلو جائز الوقوع، وحيث لم تصلح فذلك " ممتنع " لا يكون أبداً (وإن جاز أن يتصور في الوهم). وهذا يجعل الغلو واسع المدى بحيث لو سمعنا قول الشاعر:
ولو قلمٌ ألقيتُ في شق رأسه ... من السقم ما غيرتُ من خط كاتبِ
على مذهب قدامة " أكاد أخفى؟ " وإذن يكون هذا من الغلو الذي لا يمنعه قدامة، وأمثال ذلك كثيرة، وواضح ان الوقوف عند حد " الممتنع " الذي لا يكون أبداً غير دقيق في التمييز بين أنواع الغلو.
وقد كان قدامة في هذا الموقف يستوحي أيضاً فكرة وردت عند ارسطوطاليس وهي: " أما فيما يتصل بالصدق الشعري فإن المستحيل المحتمل مفضل على شيء غير محتمل إلا انه ممكن " ؟.؛ وإذا أخذنا بقانون " الاحتمال " الأرسطوطاليسي وجدنا ان بعض أنواع الغلو غير محتملة لكنها ممكنة وهي ما يؤثر ارسطو أن يبعده من حيز الشعر، وأن بعض ما سماه قدامة " الممتنع " يقع تحت " المستحيل المحتمل " وأن ارسطو يفضله على النوع السابق؛ هل نقول هنا إن قدامة لم يستطع أن يفهم ما عناه الفيلسوف؟ عن المثل الذي أورده قدامة لأبي نواس " يا أمين الله عش أبداً " يدخل في غير المعقول (لا في الممتنع) وهو شيء أنكره ارسطوطاليس في الشعر لأنه يحطم منطق الأشياء وقانون السببية، فالمثل صحيح، ولكن القاعدة العامة التي وضعها قدامة لا تتقيد برأي ارسطو.
هل يبقى الشاعر على مستوى نفسي واحد؟
وهل يقبل منه التضاد؟
وما دامت هذه الحرية مكفولة للشاعر، فليس ينتظر منه ان يظل على مستوى نفسي واحد، ولهذا يرد قدامة على من عاب أمرا القيس في قوله :
ولكنَّما أسعَى لمجد مؤثَّلٍ ... وقد يُدركُ المجدَ المؤثلَ أمثالي
وقوله :
فتملأُ بيتَنا أقِطاً وسَمْناً ... وحَسْبُك من غِنىً شِبَعٌ ورِي
لأنه صور نفسه " ساعياً لمجد مؤثل " مرة وقانعاً " بالشبع والري " مرة أخرى - في موقف أشرنا إليه فيما سبق - وكان رده ذا وجهين، الأول: أن امرأ القيس لم يناقض نفسه، فإنه أكد في الأولى انه لو شاء لقنع ولكنه لا يريد، وفي الثانية انه قانع، وليس في هذا تناقض وإنما في الموقف الأول زيادة على الثاني، والشعران يحتويان على اكتفاء الإنسان باليسير، والرد الثاني: أنه لو كان امرؤ القيس متناقضاً لم يكن في نظر قدامة مخطئاً، إذ أن الشاعر لا يوصف بان يكون صادقاً، غنما يراد منه إذا أخذ في معنى من المعاني - أياً كان ذلك المعنى - أن يجيده في وقته الحاضر وحسب.
التناقض في موقفين ليس عيباً على الشاعر، ولكنه عيب كبير حين يكون في المعنى الواحد، وهنا يلجا قدامة أيضاً إلى أرسطوطاليس، غلا انه يعتمد كتاباً آخر هو المقولات ليفسر معنى التقابل ومنش التناقض. يقول أرسطو ويتابعه قدامة: إن الأشياء تتقابل على أربع جهات (3) .
1 - جهة ألإضافة: كالأب والابن، والعبد والمولى.
2 - جهة التضاد: كالخير والشر والحار والبارد.
3- جهة العدم والقنية كالعمى والبصر.
4 - جهة النفي والإثبات: مثل زيد جالس، زيد غير جالس.
فمن أمثلة التناقض من جهة التضاد قول أبي نواس يصف الخمر:
كان بقايا ما عفا من حبالها ... تفاريق شيب في سواد عذار
تردت به ثم انفري عن أديمها ... تفري ليل عن بياض نهار
فالحباب في البيت الأول ابيض، يشبه الشيب، وهو في الثاني أسود ينجاب عن سطح الكأس انجياب الليل.
ومن التناقض من جهة الإضافة قول عبد الرحمن القس:
فغني إذا ما الموت حيل بنفسها ... يزال بنفسي قبل ذاك فأقبر
فقد شرط أن يحل الموت بها حتى يموت هو، قم قال " قبل " - وقدمه على " بعد " ولا يكون ذلك في المعقول. هذان نموذجان للتناقض الذي ينكره قدامة، وهو متصل بالامعقولية؛ موافق لما أنكره ارسطو من أمر غير المعقول في الشعر.
منطق الشعر
فإن " منطق الشعر " يقتضي صحة التقسيم وصحة المقابلات وصحة التفسير والتكافؤ، وهو أيضاً ينكر فساد التقسيم وفساد التقابل وفساد التفسير والتناقض؛ غير أن الفضائل المذكورة تمثل طبيعة الفكر الإنساني السليم، كما أن العيوب تمثل ما ينكره هذا الفكر، فتلك فضائل لا يستقل بها الشعر، وهذه عيوب تنطبق على كل شئون القول؛ ولبيان هذا الموقف بمزيد من الوضوح أقول: إننا حقاً قد نستبين العيب من جهة فساد التقسيم أو فساد التقابل أو التناقض في الشعر، وننفر منه من أجل واحد أو غير واحد من هذه العيوب، فالمقياس السالب هنا، أدق في تفسير عدم التأثير الذي نرجوه في الشعر، ولكن المقاييس الإيجابية لا تصنع شعراً،
فقد يتم للبيت من الشعر صحة التقسيم، أو صحة المقابلات أو صحة التفسير، ثم لا تميزه إحدى هذه الخصائص عن مستوى الكلام العادي الذي نتطلب فيه أيضاً مثل هذه الفضائل دون تسمح فيها. ولهذا يمكن أن نقول أن الصفات الإيجابية التي وضعها قدامة للمعاني لا تميز الشعر بشيء، وبقي هذا الشعر بحاجة إلى استنباط خصائص أخرى، وإلى بناء " منطق شعري " غير المنطق العام الذي بناه قدامة. وليس من المعاباة ان نفترض بان شعراً قد يخلو من كل هذه الخصائص الإيجابية يظل مع ذلك في نظرنا شعراً جميلاً مؤثراً، أما العيوب المنطقية فإنها إن وجدت فيما نسميه شعراً جميلاً مؤثراً شانت صفحته، وجعلتنا ننفر منه مما خرج على حد المعقولية؛ وليس معنى ذلك أن " صحة التقسيم " مثلاً لا تكون سبباً من أسباب جمال الشعر، وإنما الذي أقوله هنا: أن صحة التقسيم حقيقة مفترضة ضرورة، لا ينكشف أثرها، إلا إذا كانت غاية في ذاتها، كان تكون العامل المشترك في المبنى الكلي أو أشبه ذلك، لنقل إذن إن الشعر يجب أن يخلو من العيوب التي يحد بعضها بكذا وكيت، فأما أن نحصر الخصائص الإيجابية فيه فذلك شيء ليس في طوق أحد على النحو الجزئي الذي أراده قدامة، ولعل هذا هو أكبر عيب في محاولته، وخلاصة هذا العيب أنه أراد ان يحكم الخصائص المنطقية في مجال لا منطقي، فلم يفرد الشعر عن غيره بشيء، وبهذا ورط البلاغيين العرب من بعده حين تصوروا أن صحة المقابلة والإيغال والتتميم وما أشبه قد تكون سمات لتمييز القول البليغ من غيره.
نظرة إجمالية
ذلك هو قدامة في النقد، يقف موقف العالم، يصنف كل شيء بمنتهى الدقة والوضوح، ويسيء الظن بالقارئ، فيضع له الأنموذج ليقيس عليه، ولا ريب في أنه بنى أسساً نقدية متكاملة. وغاص بذكائه الفذ على أمور دقيقة في المعاني، وآمن بان النقد يقوم على نظرية محددة؛ وقدامة في كل ذلك نسيج وحده. وإن خالفناه في اكثر ما يريده من الشعر والنقد؛ لقد أراد أن يكون " معلم " النقد في تاريخ الأدب العربي، كما كان أرسطوطاليس في تاريخ " المنطق " وفي " كتاب الشعر " ، ولكن حيث كان كتاب الشعر عاملاً حافزاً. كان كتاب قدامة كالمعلم المتزمت، أو سرير بروكست، من كان طويلاً فلا بد أن يقص جزء منه كي يستطيع ان ينام فيه. وإذا كان كتابه قد لقي من المهاجمين أكثر مما لقي من المؤيدين - كما سنوضح في هذا السياق التاريخي - فإنه يمثل اجتهاداً ذاتياً مدهشاً. وقد كان موضع الرضى لدى أولئك الذين آمنوا بقيمة الفكر والثقافة الفلسفية.