ولم تأتِ قرارات رفع الأسعار وفرض الضرائب من فراغ؛ فالحكومات تحاول انتشال اقتصاداتها المتهالكة والخروج من دوامة العجز المالي الذي تواجهها منذ سنوات؛ بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية التي تعصف بها. وقبل ثورات الربيع العربي (2011) كانت الدول العربية الفقيرة تفضّل المساعدات وتحويلات مواطنيها العاملين بالخارج، لكن في السنوات الأخيرة انخفضت أسعار النفط وباتت دول العالم تعاني أزمات اقتصادية. وهذا الأمر أدّى إلى تقليص المساعدات، وعادت أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية لدولها، لتزداد الحاجة إلى قروض صندوق النقد، الذي يطلب شروطاً صعبة. ولذلك فإن نظرة من زاوية مختلفة تُظهر أن سياسات صندوق النقد الدولي ونصائحه وشروطه لمنح القروض تقف خلف كواليس مشاهد الاحتجاجات المشتعلة في الدول العربية ذات الاقتصاد المتهاوي. فبعد تحليل أكثر عمقاً لمجريات الاحتجاجات، سواء على الأرض أو الإلكترونية منها في الدول العربية، خاصة الأردن وتونس والسودان ومصر والسعودية والجزائر، يظهر أن جميعها طلبت قروضاً من صندوق النقد الدولي أو تسعى لذلك، أو طبّقت استشارات الصندوق بخصوص تحسين أوضاعها الاقتصادية. ولا يؤمن الصندوق -وهو بطبيعة الحال مؤسّسة رأسمالية- بتدخّل الحكومات بالاقتصاد إلا في نطاق محدود يتعلّق بتنظيمه وحماية الحقوق، ويعتبر أن العمل الحرّ وسيادة قوى السوق يجب أن تكون أقوى من الدولة. كما أن الصندوق يعتبر أن المشاكل الاقتصادية في أي بلد سببها غالباً يكمن في التدخّل الحكومي المباشر بالأمور الاقتصادية، فهو يرى أن عمل الحكومات ليس بناء المصانع وتحديد الأسعار، لذلك يضع في لائحة شروطه لمنح القروض تقليص دعم الأسعار ليصل إلى أقلّ من 5% من حجم الناتج المحلي. وكنتيجة للاستجابة لشروط الاقتراض من الصندوق، أو الاستشارات غير المتعلّقة بالقروض، ارتفعت أسعار السلع الأساسية كالخبز والوقود والمنتجات الغذائية في كثير من الدول العربية بشكل جنوني، لتخلق أزمات اجتماعية جديدة وتضعف الاستقرار السياسي، الأمر الذي يقود لضعضعة الاقتصاد بدلاً من انتعاشه. و نستعرض نماذج لما وصلت إليه دول بعد استجابتها لنصائح وشروط الاقتراض من صندوق النقد. وفي موازاة تصاعد تذمر المصريين من الأعباء التي تثقل كاهلهم تتوالى إشادات المؤسسات المالية العالمية وتظهر بيانات مالية تؤكد إحراز تقدم في احتياطات البنك المركزي وانخفاض العجز التجاري وغيرها من البيانات الإيجابية. وفي الوقت الذي أعلنت فيه وكالة ستاندرد أند بورز رفع تصنيف مصر في 11 مايو الماضي كانت هناك احتجاجات على رفع أسعار مترو الأنفاق في القاهرة، وصاحبها توقيف 30 شخصا تقريبا. وأعلن المسؤولون المصريون مرارا أن أسعار الكهرباء والوقود ستزيد مع بداية السنة المالية الجديدة في مطلع يوليو، لكنهم لم يحددوا نسبة الزيادة. وقد بدأت الصحف الحكومية والخاصة في تهيئة الرأي العام لتقبل الارتفاع الجديد في تكاليف المعيشة. والأسبوع الماضي نشرت صحيفة الأهرام الحكومية....في صفحتها الأولى جدولا كبيرا بعنوان “تكلفة الوقود طبقا لأسعار خام برنت عند 75 دولارا للبرميل”. ويشير الجدول إلى تحمل الدولة قرابة 5.8 مليار دولار سنويا لدعم الوقود. وأعلنت الحكومة يوم السبت الماضي زيادة جديدة في أسعار مياه الشرب تصل في بعض الشرائح إلى 45 بالمئة، في أحدث خطوة في برنامج إصلاح اقتصادي انطلق في نوفمبر 2016 ومكنها من الحصول على قرض قيمته 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي على 3 سنوات. علياء المهدي: تكلفة المواصلات أصبحت تشكل 20 بالمئة من إجمالي إنفاق محدودي الدخل علياء المهدي: تكلفة المواصلات أصبحت تشكل 20 بالمئة من إجمالي إنفاق محدودي الدخل ويفخر المسؤولون المصريون بنجاح هذا البرنامج حيث ارتفعت نسبة النمو لتبلغ 5.4 بالمئة خلال الربع الأول من هذا العام بحسب وزارة التخطيط. وانخفضت البطالة إلى 10.6 بالمئة خلال نفس الفترة وفق الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. كما تراجع التضخم إلى 12.9 بالمئة في أبريل المـاضي بعـد أن بلـغ ذروته في يـوليو 2017 مسجـلا 34.2 بالمئـة. لكـن رغـم التحسن الواضـح في المـؤشرات الاقتصـادية الكليـة فـإن المعضلـة تظـل في زيـادة تكـاليف المعيشـة. ويقول أستاذ التنمية في الجامعة الأميركية في القاهرة عمرو عادلي إن هذه المعضلة تعود إلى وجود “مشكلة في توزيع الأعباء” ويؤكد “وجود وسائل أخرى لخفض عجز الموازنة يمكن أن تحد من الضغوط على الفقراء وأصحاب الدخول الدنيا في الطبقة المتوسطة” على رأسها الضرائب، مدافعا عن فكرة فرض ضرائب على أصحاب المداخيل الكبيرة. ويرى عادلي أن رفع سعر تذكرة المترو لم يكن ضروريا “لا سيما أنه يخدم شرائح مستحقة للدعم فضلا عن أن العجز في موازنة هذا المرفق يبلغ نحو 27 مليون دولار وهو ليس رقما كبيرا”. وأكد صندوق النقد الدولي مؤخرا أن مصر “تمضي في المسار الصحيح لتحقيق فائض أولي في الموازنة العامة بعد استبعاد مدفوعات الفائدة في العام المالي الحالي 2017-2018، حيث يُتوقع انخفاض دين الحكومة العامة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي للمرة الأولى منذ 10 سنوات”. واعتبر أن “التدابير الإصلاحية تطلبت التضحية في الأجل القصير” لكنها كانت “بالغة الأهمية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي ووضع أسس النمو القوي والمستدام”. وشدد على أن الحكومة المصرية “ملتزمة كذلك بمواصلة إصلاح دعم الطاقة للوصول إلى مستويات أسعار استرداد التكلفة لمعظم منتجات الوقود خلال 2019”. ويقول عادلي إن “السؤال الأكبر الآن هل سيتم تحرير سعر الوقود أم سيتم تخفيض الدعم المخصص له؟ وهل يمكن تحرير السعر وإلغاء الدعم نهائيا في ظل الارتفاع الكبير وغير المسبوق في أسعار النفط منذ عام 2014”. أما أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة فترى أن الاحتجاجات التي حدثت عقب رفع أسعار تذاكر المترو هي “جرس إنذار لأن الشعب المصري تحمل خلال العامين الماضيين صدمات كثيرة في صورة ارتفاعات متتالية في الأسعار وهذا كان صعبا لأن غالبية المشتغلين في مصر من ذوي الدخول المتوسطة أو المحدودة”. وتؤكد أن الارتفاع في سعر تذكرة المترو قد يبدو بسيطا ولكنه أدى إلى ارتفاع “تكلفة المواصلات إلى 20 بالمئة من إجمالي إنفاق محدودي الدخل بعد أن كان يشكل 5 بالمئة”. رضوى السويفي: لا أعتقد أن الحكومة ستتوقف لأي سبب عن برنامج الإصلاح الاقتصادي رضوى السويفي: لا أعتقد أن الحكومة ستتوقف لأي سبب عن برنامج الإصلاح الاقتصادي وتعاني الطبقات الوسطى والفقيرة في مصر في العامين الأخيرين من ارتفاع حاد في أسعار جميع السلع والخدمات. وعلى مدى الأعوام القليلة الماضية، انتشرت شاحنات الجيش في أنحاء البلاد لبيع المنتجات الغذائية بأسعار رخيصة وزادت منافذ البيع التابعة للقوات المسلحة. ولتخفيف عبء برنامج الإصلاح على محدودي الدخل، اتخذت السلطات المصرية عددا من الإجراءات الاجتماعية للعام الثاني على التوالي، شملت زيادة الأجور والمرتبات ورفع حد الإعفاء الضريبي وتطبيق علاوات استثنائية ورفع المعاشات. وقالت رضوى السويفي رئيسة قسم البحوث في بنك الاستثمار فاروس إنه “طريق بدأناه ولا بد من تكملته للنهاية. لا أعتقد أن الحكومة ستتوقف لأي سبب من الأسباب عن برنامج الإصلاح الاقتصادي”. وأضافت “ترددنا من قبل في 2012 وحتى 2015 في اتخاذ القرارات السليمة، والاقتصاد تأثر سلبا… هناك مؤشرات اقتصادية تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي ولا بد من تحقيقها”. وتتوسع الحكومة بقوة في برنامج تكافل وكرامة الذي يقدم دعما نقديا شهريا للأسر الأشد فقرا في مصر بجانب زيادة الدعم الموجه للمواطنين في بطاقة التموين، التي تشمل 70 مليون مواطن. وتخصص الحكومة 50 جنيها (2.8 دولار) شهريا لكل مواطن مقيد في البطاقات التموينية لشراء السلع. وقال محمد أبو باشا محلل الاقتصاد المصري في المجموعة المالية هيرميس إن “الحكومة ستلتزم بالإجراءات وبرنامج الإصلاح وسيكون أمامها تحد مهم، وهو النمو الاقتصادي، لأنه الفيصل في تحسين حياة الناس ونجاح برنامجها لخلق فرص عمل جديدة وخفض البطالة”. ورغم تعافي معدلات النمو الاقتصادي، لا يشعر المصريون بتحسن أحوالهم المعيشية حتى الآن، بل يرونها تزداد صعوبة مع كل زيادة تطبقها الحكومة في أسعار السلع أو الخدمات