تنبيهٌ
على قرينة التشخص
تنبيهٌ
على قرينة التشخص
قوله: (فالدلالة إلخ) اعلم أن التنبيه في اللغة يطلق على الشرف والاشتهار يقال نبه الرجل من باب ظرف فهو نبيه وعلى الإيقاظ وعلى الدلالة على شيء غفل عنه المخاطب وهذا المعنى قيل إنه لازم لما قبله وقيل إنه نفسه ثم إن حاصل ما ذكره المصنف في هذا التنبيه أن من جملة أقسام اللفظ الموضوع أن يكون موضوعا لجزئيات متعددة على البدل مع استحضار ذلك بأمر عام وأن ذلك القسم لابد له من قرينة معينة لإرادة ذلك المعنى الجزئي المعين دون غيره.
قوله: (ما لم يتوقف حصوله) أي: إدراك لم يتوقف حصوله على نظر وكسب سواء توقف على تجربة كما في القضايا التي يتوقف التصديق بها على تجربة كقولهم السقمونيا مسهلة للصفراء التي هي إحدى الطبائع الأربع أو حدس كما في القضايا التي يتوقف التصديق بها على حدس وتخمين كقولهم نور القمر مستفاد من نور الشمس.
قوله: (أما إذا فسر الضروري إلخ) حاصله أن بين الضروري والبديهي العموم والخصوص الوجهي لاجتماعهما في بديهي لابد منه ككون الواحد نصف الاثنين فمفرد البديهي فيما يستغنى عنه والضروري فيما لابد منه وكذلك النسبة بين الضروري والنظري العموم والخصوص الوجهي لاجتماعهما في نظري لابد منه كثبوت الحدوث للعالم وينفرد الضروري عن النظري في ضروري لا يتوقف على نظر وكسب ككون الواحد نصف الاثنين والنظري عن الضروري في نظري مستغنى عنه هذا.
والذي يؤخذ من حواشي عبد الحكيم على القطب أن الضروري مرادف للبديهي على المعنيين المذكورين له وأنه على المعنى الأعم لهما وهو ما لا يتوقف على نظر واستدلال يقابلان النظري وعلى المعنى الأخص لهما وهو ما لا يتوقف على شيء أصلا لا يقابلانه فإنه كتب على قول المحقق السيد البديهي وهو ما لم يتوقف حصوله على نظر وكسب مرادف للضروري المقابل للنظري وقد يطلق البديهي على المقدمات الأولية ما نصه قوله البديهي ما لم يتوقف حصوله إلخ وقع لتوهم أن المقابل للنظري الضروري دون البديهي يعني أن البديهي بمعنى ما لم يتوقف على نظر وكسب مرادف للضروري فذكره في مقابلة النظري كذكره فظهر فائدة تقييد الضروري بالمقابل للنظري وفيه إشارة إلى أن الضروري قد يطلق بمعنى آخر لا يقابل النظري أعني مرادف البديهي بالمعنى الأخص حيث قال أعني مرادف البديهي وحينئذ فكان الظاهر أن يقول أما إذا إذا فسر الضروري بما لا يتوقف على شيء أصلا كان مرادفا للبديهي بالمعنى الأخص وحينئذ فلا يقابلان النظري.
قوله: (المقدمات الأولية) هي ما لا يتوقف حصوله على شيء أصلا من نظر أو تجربة أو حدس أو وجدان بأن يكون الحكم حاصلا بمجرد التفات النفس له كثبوت نصفية الاثنين للواحد.
قوله: (فإنه يعمها والتصورات) بيانه أن البديهي على الإطلاق الأول يعم التصديقات والتصورات فمثال التصور البديهي تصور الحرارة والبرودة ومثال التصديق البديهي التصديق بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وعلى الإطلاق الثاني خاص بالتصديقات والحاصل أن التصور ينقسم إلى البديهي والنظري وأن التصديق أيضا ينقسم إليها لكن المراد بالتصور البديهي والتصديق البديهي ما كان في مقابلة النظري وهو ما لا يتوقف على نظر وكسب لا ما لا يتوقف على شيء أصلا لأن هذا خاص بالتصديقات.
قوله: (مؤكدة على الثاني) أي: لم يقصد بها الاحتراز عن شيء بل هي لمجرد التوضيح.
قوله: (الحدسيات) قد عرفتها وكذا المجربات وأما الوجدانيات فهي القضايا التي يدركها العقل بواسطة الحس الباطني كقولنا الجوع مؤلم.
قوله: (العموم والخصوص الوجهي) لاجتماعهما في حكم بديهي استفيد من الكلام السابق وانفراد البديهي في البديهي الغير المعلوم من الكلام السابق وانفراد المعلوم من الكلام السابق في الحكم النظري المعلوم منه.
قوله: (على المعنى الثاني) هو الحكم الذي يتضمنه الكلام السابق بحيث يمكن أن يعلم منه بأدنى التفات ولا شك أن استواء الوضع بالنسبة إلى الجميع مستفاد من السابق استفادة ظاهرة.
قوله: (العبارة مقلوبة) أي: وحقها إذ تصور طرفيه مع النسبة يكفي في الجزم بالإسناد وفيه أن المعنى على هذه العبارة أيضا لا يستقيم إلا إذا أريد بالإسناد النسبة الحكمية التي هي ثبوت المحمول للموضوع لأن الإسناد بمعنى ضم المحمول للموضوع الذي هو فعل الفاعل لا يتعلق به التصور في هذا المقام.
قوله: (أو المراد إلخ) حاصله أنا نريد بالإسناد النسبة الحكمية التي هي ثبوت المحمول للموضوع لا ضم المحمول للموضوع الذي هو فعل الفاعل والمعنى عليه أن تصور الطرف الأول أعنى المحكوم عليه وهو قوله ما هو من هذا القبيل والطرف الثاني أعني المحكوم به وهو قوله لا يفيد التشخص إلا بقرينة مع تصور الإسناد أي: النسبة الحكمية يكفي بدون احتياج إلى نظر أو تجربة أو حدث في الجزم أي: في إدراك وقوع النسبة أي: إدراك أنها واقعة أي: مطابقة للواقع أي: وإذا كان ما ذكر من تصور هذه الأمور الثلاثة كافيا في الجزم بوقوع النسبة فلم يتوقف حينئذ على واسطة فتم ما ذكره من كون الحكم هنا بديهيا أوليا إذ لو كان نظريا أو غير بديهي أولى لما كفى تصور هذه الأمور الثلاثة في الجزم به بل لابد من الاحتياج لواسطة إما دليل أو حدس أو تجربة.
قوله: (جواب سؤال) حاصل السؤال أن مقتضى قول المصنف لاستواء نسبة الوضع إلخ أن الحكم نظري إذ هو المحتاج لنصب الدليل بخلاف البديهي حاصل الجواب أن ما ذكره المصنف تنبيه في صورة الاستدلال لإزالة الخطأ الحاصل بالنسبة للأذهان القاصرة التي ليس لها نفوذ وجولان فتتوقف في البديهي بناء على أن المراد منه أن اللفظ الموضوع لكل واحد من تلك المشخصات لا يفاد ولا يفهم من حيث إنه مراد المتكلم إلا واحد مشخص بخصوصه والفطن يعلم أن هذا المعنى ليس بمجرد وضعه له بل لابد من قرينة تنضم إليه.
قوله: (كما أشار إلى ذلك الشارح) أشار إليه بقوله أي: ما صدق عليه وحاصله أن ما من قوله ما هو من هذا القبيل واقعة على جزئيات اللفظ الموضوع للمشخصات باعتبار اندراجها تحت أمر عام وأن المراد من هذا القبيل ذلك اللفظ الموضوع لتلك المشخصات وفي الكلام حذف مضاف والتقدير ما هو مما صدق هذا القبيل أي: جزئيات اللفظ الموضوع للمشخص كهذا والذي وأنا ومن لا يفيد التشخص إلا بقرينة، هذا.
وفي شرح العلامة العصام نقلا عن المحقق السيد أن القرينة المذكورة للتعيين لا لأصل الدلالة والذي مال هو إليه أنها لأصل الدلالة وعبارته وما يستفاد من الحاشية الشريفة الشريفية في هذا المقام أن المراد بقوله لا يفيد التشخص إلا بقرينة معينة على لفظ اسم الفاعل سلب الإفادة من حيث إنه مراد أي: لا يفيد المراد من حيث إنه مشخص إلا بقرينة معينة وأوضحه بأنه وإن لم يكن مشتركا لانتفاء شرط الاشتراك وهو تعدد الوضع إلا أنه في حكم الاشتراك من حيث الاحتياج إلى قرينة لتعيين ما أريد به وتبعه الشارحون ونحن نقول ما هو من هذا القبيل لا يفيد المشخص ولا ينتقل منه إليه بدون القرينة لأن معرفة وضع الواضع لا تفيد الانتقال إلى خصوصه لاستواء نسبة الوضع إلى المسميات فإن معرفة أن لفظ هذا مثلا موضوع لكل مشار إليه مشخص لا تفيد نسبة هذا اللفظ إلى خصوصه ما لم يعرف تلك الخصوصية فلابد من قرينة بها يلتفت سامع هذا اللفظ إلى خصوصه حتى يعرف بمعونة ما وقع من الواضع وضعه لها فيفيد هذا اللفظ لأن إفادة اللفظ للموضوع له بخصوصه تتوقف على معرفة وضعه بخصوصه اهـ، فقد نلخص من كلامه أن اللفظ الموضو ع لمشخصات باعتبار اندراجها تحت أمر عام يفيد الانتقال إلى المشخص إجمالا بدون القريينة عند المحقق السيد فالذي يفيده لفظ من مثلا عنده الانتقال إجمالا إلى الابتداءات الخاصة ولا حاجة غلى القرينة لتلك الإفادة الإجمالية بل الحاجة إليها لتعيين المراد كما أن المشترك كلفظ عين يفيد الانتقال إلى واحد من غير حاجة إلى قرينة للإفادة الإجمالية واحتياجه إليها إنما هو لتعيين المراد وعند العلامة العصام لا يفيد الانتقال إلى شيء أصلا لا إجمالا ولا تفصيلا.
قوله: (كالإشارة الحسية إلخ) يريد أن القرينة المعينة في أسماء الإشارة الإشارة الحسية فإن لفظ هذا معناه مبهم فإذا أشرت إلى زيد مثلا فقلت هذا تعين أن المراد منه زيد وهذا باعتبار الغالب وإلا فقرينة اسم الإشارة لا تنحصر في الإشارة الحسية بل الوصف كما في قولك مررت بهذا الرجل كذلك. قال المحقق الرضي إنما بنيت أسماء الإشارة لاحتياجها إلى القرينة لإبهامها وهي إما الإشارة الحسية أو الوصف اهـ، وفي الموصولات ذكر الصلة فإنك إذا قلت الذي لا يعلم أن المراد أي شخص فإذا قلت يأتيني تعين أن المراد هو الشخص الآتي وفي الحروف معاني مدخولاتها في الأكثر فإنك إذا قلت سرت من ولم تذكر البصرة لا يعرف أن المراد أي ابتداء هو فإذا ذكرت البصرة تعين أنه هو الابتداء من البصرة وفي المضمرات المخاطبية بالكسر أي: الكون مخاطبا وموجها للكلام نحو الغير وهذا قرينته ضمير المتكلم كقولك لمخاطبك أنا كذا والمخاطبية بالفتح أي: الكون مخاطبا وموجها نحوه الكلام وهذا قرينة ضمير المخاطب كقولك أنت كذا وتقدم ذكر المرجع على أحد الأنواع المعروفة في النحو من التقدم اللفظي والمعنوي والحكمي والمراد بالتقدم اللفظي أن يكون المتقدم مذكورا من حيث المعنى لا من حيث اللفظ وذلك المعنى إما مفهوم من لفظ بعينه كقوله تعالى: ﴿اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ فإن مرجع الضمير هو العدل المفهوم من قوله اعدلوا فكأنه متقدم من حيث المعنى أو من سياق الكلام كقوله تعالى: ﴿ولأبويه لكل واحد منهما السدس﴾ لأنه لما تقدم ذكر الميراث دل على أن ثمة مورثا فكأنه إنما جيء به من غير أن يتقدم ذكره قصد التعظيم القصة بذكرها مبهمة ليعظم وقعها في النفس ثم تفسيرها فيكون ذلك أبلغ من ذكره أو لا مفسرا وصار كأنه في حكم العائد إلى الحديث المتقدم المعهود بينك وبين مخاطبك وكذا الحال في ضمير نعم رجلا زيد وربه رجلا ودخل بالكاف غير المذكورات كسبق المعهودية في المعرفات بلام العهد والمراد بالمعهودية الكون معهودا ومعروفا بين المتكلم والمخاطب وذلك قد يكون بالذكر بأن يتقدم ذكر المعهود نحو ﴿إنا أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول﴾ وقد يكون بالقرائن الخارجية من غير تقدم ذكر نحو خرج الأمير إذا لم يكن في البلد إلا أمير واحد وكقولك لمن دخل البيت اغلق الباب وقرينة المضاف بالإضافة العهدية كقرينة المعرف بلام العهد وكذكر الفاعل المعين في الأفعال فإنك إذا قلت ضرب لا يعلم أي نسبة من نسب الضرب فإذا قلت زيد علم أن المراد نسبة الضرب إلى زيد.
قوله: (إنما يكون في متعدد) أي: لأنه من الأمور النسبية التي لا تعقل إلا بين أمرين ولا شك أن المسميات متعددة.
قوله: (بالنسبة للعالم بالوضع إلخ) بيانه أن العالم بالوضع إذا سمع لفظ هذا مثلا من غير أن يطلع على القرينة أعني إشارة المتكلم إلى فرد مما يصلح أن يشير إليه من أفراد المفرد المذكر المشار إليه بالإشارة الحسية يفهم أن المراد منه إما هذا الفرد أو ذاك أو ذلك من غير أن يكون أحدها مرجوحا في هذا الفهم بالقياس إلى ما عداه من الأفراد فقد فهم السامع كل واحد منها على أنه مراد من لفظ هذا من غير احتياج إلى القرينة لكن ذلك الفهم واقع على التردد دون القطع بأن هذا هو المراد وباطلاعه على قرينة الإشارة إلى واحد يتعين عنده دلالة لفظ هذا على ذلك الواحد ويكون هو مقطوعا به عنده.
قوله: (يحتمل عطفه على التعيين إلخ) حاصله أن قوله وعدمه يحتمل أن يكون بالجر معطوفا على التعيين أي: ولزوم عدم التعيين وعليه يكون الفرق إضافيا أي: بالنسبة لما مدلوله كلي من المشترك كلفظ عين فإنه موضوع للباصرة والجارية والباصرة غير معينة لصدقها على عين زيد وعمرو وغيرهما وكذا الجارية لا لما مدلوله جزئي كالأعلام المشتركة كزيد الموضوع لابن عمرو وابن بكر وابن خالد وهكذا وحينئذ يتجه أولوية تقديم الفرق الثاني على الأول ويحتمل أنه بالرفع عطفا على لزوم أي: أن الفرق بينهما هو لزوم التعيين فيما هو من هذا القبيل بمعنى أن القرينة لازمة له لا تنفك عنه أصلا وعدم لزوم التعيين في المشترك فإن قرينته قد تنفك عن معناه وعلى هذا يكون الفرق حقيقيا لا إضافيا بالنسبة للقسمين.
قوله: (مع عدم) الظاهر حذف عدم أو التعبير بتعيين بدل اللزوم وحاصله أن المحشي ذكر أن الفرق إضافي على احتمال عطف وعدمه على لزوم وقد علمت أنه على هذا الاحتمال حقيقي لا إضافي.
قوله: (أي: ولزوم وحدة الوضع) أشار به إلى أنه بالجر عطفا على التعيين وقد تلخص من كلام الشارح أ، بين ما هو من هذا القبيل والمشترك فرقا من وجهين الأول أن معنى لفظ هذا مثلا مشخص لا غير بخلاف المشترك فإنه تارة يكون معناه متعينا وتارة يكون غير متعين مثال المتعين كعين الموضعة للباصرة والجارية وغيرهما الثاني أنه وضع وضعا واحدا لكل من أفراده بخلاف المشترك فإنه موضوع لمعانيه بأوضاع متعددة وفي كل من الوجهين إشكال أما الأول فلأنه لا يلزم أن يكون المعنى فيما هو من هذا القبيل متعينا كما في ضمير الغائب إذا كان عائدا على أمر كلي إلا أن يقال المراد لزوم التعيين في المعنى شخصيا كان أو كليا إذ على تقدير كلية المعنى بعينه باعتبار أنه مفهوم واحد غير صادق على غيره من المفهومات وهو معتبر فيما هو من هذا القبيل دون الألفاظ المشتركة لأن تعين المفهوم الكلي فيها بهذا الاعتبار غير معتبر إذ المعتبر كونه كليا فقط وأما الثاني فلأن الفارق بين ما هنا والمشترك لا يصلح أن يكون نفي تعدد الوضع فيه صريحا إذ قد ينتفي في المشترك أيضا كعسعس بمعنى أقبل وأدبر إذ ليس وضع الفعل لمعانيه صريحا بل ضمنا لأن وضعه لجيمع معانيه بحكم واحد كان كأن يقال كل فعل موضوع لحدث هو مدلول ما اشتق هو منه ولنسبته إلى شيء معين وزمان ذلك الانتساب.
وقد أجاب عن هذا الإشكال العلامة العصام بقوله ولا يبعد أن يقال الحكم باشتراك مثل عسعس لعدم اطلاع علماء العربية على الوضع العام للموضوع له الخاص ولجعلهم كل ما يعد من هذا القبيل موضوعات لمفهومات كلية مع اشتراط أن لا يستعمل فيها بل في جزئياتها وأما من أثبته فلا يسلم أن يقال باشتراك الأفعال اهـ وفيه أن المحقق السيد سلمه مع أنه من المثبتين وما قيل في الفرق بينهما أنه يلزم ملاحظة المعنى بخصوصه في المشترك ويلزم ملاحظته لا بخصوصه فيما نحن فيه عورض بأنه لا نسلم اللزوم في المشترك إذ لو وضع لفظ لطائفة من المعاني بوضع كلي ثم لأخرى بوضع كلي يكون مشتركا لتعدد الوضع وإلا لم يكن شيء من الأفعال والحروف مشتركا.
قوله: (كبرى قياس) أي: بجعل أل في اللفظ للاستغراق لأن كبرى القياس من الشكل الأول يجب أن تكون كلية ثم هو منع لقول المصنف ما هو من هذا القبيل لا يفيد التشخص إلا بقرينة وحاصله أنهم اعتبروا في تعريف الوضع بالمعنى الفارق بين الحقيقة والمجاز قيد بنفسه حيث قالوا تعيين الشيء للدلالة بنفسه على شيء وفسروا القيد المذكور بالاستغناء عن القرينة لإخراج المجاز عن التعريف فإذا احتاجت هذه الألفاظ إلى القرينة كما ذكورا ههنا من أنها لابد لها عند الاستعمال من قرينة معينة للمراد لم يكن لها وضع بذلك المعنى كالمجاز مع أنها موضوعة بذلك الوضع بالاتفاق فما ذكر ههنا من أن ما هو من هذا القبيل لا يفيد التشخص إلا بقرينة ممنوع.
وحاصل ما أجاب به الشارح أن المراد بالقرينة التي سلب الاحتياج إليها في تعريف الوضع هي القرينة المانعة والألفاظ المذكورة إنما تحتاج إلى القرينة المعينة لا المانعة.
وقد أجيب أيضا بأن المراد بالاستغناء عن القرينة الاستغناء عنها في نفس الدلالة وانفهام المعنى بقطع النظر عن كونها على وجه تعيين المراد أولا والاحتياج إلى القرينة في الألفاظ المذكورة لتعيين المراد من بين المعاني لا لنفس الدلالة وانفهام المعنى وبينهما فرق فإن كثيرا ما يدل اللفظ على معنى وينفهم ذلك المعنى منه ولا يقصد به إفادته بل يكون المراد غيره كما في الألفاظ المجازية بالنسبة إلى معانيها الحقيقية فاحتياج الألفاظ المذكورة إلى القرينة في تعيين المراد لا ينافي استغنائها عنها في نفس الدلالة بخلاف المجاز فإنه محتاج إلى القرينة في كلا الأمرين فلذا دخل في تعريف الحقيقة تعيين الألفاظ المذكورة دون تعيين المجاز فالمراد بالدلالة في قولنا في تعريف وضع اللفظ تعيين اللفظ للدلالة بنفسه أو بالقريينة على معنى الدلالة عليه من حيث إنه مراد منه ومقصود بالنفي أو الإثبات لا مجرد حصول المعنى في الذهن من اللفظ وهذه الدلالة من هذه الحيثية هي الدلالة المعتبرة عند أهل العرف حتى إذا دل اللفظ على معنى لم يكن ذلك المعنى مرادا منه كدلالة الإنسان على معنى الضاحك عند استعماله في معناه أي: الحيوان الناطق لا يعد ذلك دلالة بحسب العرف وهذا معنى ما قالوا إن الإرادة شرط في الدلالة وإلا فمطلق الدلالة ليست بمشروطة بالإرادة قطعا لأنها فهم المعنى من اللفظ سواء كان ذلك المعنى مرادا للمتكلم أو لا وكذا المراد بالانفهام هو انفهام المعنى من اللفظ من حيث إنه مراد منه لا مجرد حصوص صورته منه في الذهن فالألفاظ المذكورة إنما تحتاج إلى القرينة في تعيين المعنى المراد لا في الدلالة على المعنى من حيث إنه مراد مطلقا فإذا سمع العالم بالوضع لفظ هذا مثلا من غير أن يطلع على إشارة المتكلم إلى فرد من أفراد المفرد المذكر المشار إليه بالإشارة الحسية يفهم أن المراد منه إما هذا أو ذاك أو ذلك من غير أن يكون أحدها مرجوحا في هذا الفهم بالقياس إلى ما عداه من الأفراد بأن يكون جميعها متساوية فيه لاستواء جميعها في أن يكون موضوعا له لفظ هذا فقد فهم السامع كل واحد منها على أنه مراد من لفظ هذا من غير احتياج إلى القرينة لكن ذلك الفهم واقع على التردد والتساوي دون القطع بأن هذا هو المراد وباطلاعه على قرينة الإشارة إلى واحد يندفع مزاحمة الغير ويتعين عنده دلالة لفظ هذا على ذلك الواحد بخلاف المجاز فإن السامع إذا سمع اللفظ بلا قرينة لم يفهم كون المعنى المجازي مرادا منه لا فهما واقعا على التعيين ولا على التساوي بل يتعين عنده المعنى الحقيقي لأن يكون مرادا من اللفظ وبالقرينة يزول هذا التعيين وتحصل الدلالة على المعنى المجازي من حيث إنه مراد وملخصه أن المراد بالدلالة في تعريف الوضع الدلالة على المعنى من حيث إنه مراد من اللفظ سواء كان على سبيل القطع أو التردد والقرينة في الألفاظ المذكورة لتعيين المعنى المراد لا لتحصيل تلك الدلالة بخلاف المجاز فإن القرينة فيه لتحصيل تلك الدلالة فلذا دخلت الألفاظ المذكورة في التعريف دون المجاز ونظر فيه العلامة العصام حيث قال ذكر أن عدم إفادة ما هو من هذا القبيل التشخص إلا بقرينة ينافي تعريف الوضع بتعيين اللفظ بإزاء المعنى بنفسه ثم ذكر في دفعه أنه يدل على المعنى من حيث إنه مراد بنفسه لكن على سبيل التردد فإن مقتضى الوضع لكل معنى هو الجزم عند الإطلاق بأنه المراد لكن مزاحمة الأوضاع تجعل اللفظ مترددا فالقرينة لتعيين المعنى المراد لا لفهمه من حيث إنه مراد وفي نظر لأن تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه معناه تعيين اللفظ للانتقال من نفسه إلى المعنى وحمل الدلالة في التعريف على الدلالة من حيث إنه مراد خلاف ظاهر العبارة ثم بعد هذا الجمل جعل الدلالة من حيث إنه مراد أعم من الدلالة عليه من هذه الحيثية على سبيل التردد عدول عن الظاهر بعد العدول ومثل هذا لا ينال مرتبة القبول سيما في التعريفات فتحقيق الجواب أن الدلالة على معنى بنفسه معناه الانتقال من مجرد اللفظ إلى المعنى بعد العلم بالوضع والقرينة فما هو من هذا القبيل إنما يحتاج إليها ليحصل العلم بالوضع وبعد العلم بالوضع ينتقل من مجرد اللفظ إلى المعنى من غير احتياج إلى القرينة في ذلك الانتقال اهـ.
وأشار بقوله وحمل الدلالة إلخ إلى الجواب عما يقال لا نسلم أن معناه هذا فقط بل مع قيد من حيث إنه مراد وأشار بقوله عدول عن الظاهر بعد العدول إلى أن حمل الدلالة في التعريف على الدلالة على المعنى من حيث إنه مراد ثم جعل الدلالة من حيث إنه مراد أعم من الدلالة إلخ عدلول ثان بعد العدول الأول يعني المتبادر من الدلالة على المعنى بنفسه أعم من أن يكون ذلك مرادا أو لا فحمل العبارة على خلاف المتبادر عدول عن جادة الحق على أن اللفظ إذا كان دالا على المعنى من حيث إنه مراد كيف تتصور تلك الدلالة على سبيل الترديد كيف والدلالة للإيضاح والترديد يخالفه فلا تتصور الدلالة على سبيل الترديد فلا يدفع الجواب المذكور المنافاة بين تعريف الوضع وعدم إفادة ما هو من هذا القبيل التشخص إلا بقرينة نعم بعض المجازات وهو الذي كان بين معناه الحقيقي ومعناه المجازي لزوم ذهني ليس بمحتاج إلى القرينة في نفس الدلالة فلو حملت الدلالة في التعريف على نفس الدلالة مع قطع النظر عن الإرادة لدخل ذلك المجاز في التعريف لكن المتبادر من قولهم تعيين اللفظ للدلالة بنفسه على معنى هو أن تترتب تلك الدلالة على نفس التعيين وهي في المجاز المذكور إنما تترتب على اللزوم الذهني بين معنييه لا على تعيينه لمعناه المجازي.
ثم بعد ذلك يبقى النقض بالحروف والأفعال فإنها موضوعة لمعان جزئية ليست بمستقلة بالمفهومية بل ملحوظة على أن تكون آلات لملاحظة الغير فمتى لم يلاحظ الغير لا يمكن أن تلاحظ تلك المعاني فالحروف والأفعال تحتاج في نفس الدلالة إلى قرينة ذكر الغير وهو المتعلقات في الحروف والفواعل المعينة في الأفعال فاحتياجها إليها في الدلالة المقارنة للإرادة بالطريق الأولى إلا أن يقال أن احتياجها للقرينة إنما هو لعدم تحقق شرط الدلالة أعني العلم بوضعها لمعانيها لأن العلم بذلك يحتاج إلى تعيين معانيها ولا يتعين معانيها لكونها غير مستقلة بالمفهومية إلا بذكر الغير أعني الفواعل والمتعلقات فما لم يذكر الغير لا يحصل العلم بالتعيين فلا تحصل الدلالة وأما إذا علم بذلك بأن يذكر معها المتعلقات والفواعل فهي تدل بأنفسها من غير حاجة إلى قرينة.
قوله: (حاصله النظر في قولهم إلخ) حاصله أن قولهم في الكبرى وكل ما هو مستعمل في معناه الحقيقي لا يحتاج إلى قرينة إن أرادوا به لا يحتاج غلى القرينة المصححة للاستعمال فمسلم لكن هذا خلاف الموضوع لأن الموضوع القرينة المعينة وإن أرادوا به أنه لا يحتاج إلى القرينة المعينة فالكبرى ممنوعة إذ لابد نم القرينة المعينة هنا وفي المشترك لأجل دفع مزاحمة المعاني الحقيقية وفهم المراد.
واعلم أنه كما يفرق بين المشترك وبين المجاز بأ، المشترك يدل بنفسه على كل من معانيه من حيث إنه مراد على سبيل التساوي والتردد لتزاحم الأوضاع ثم بالقرينة يزول ذلك التردد ويتعين واحد من معانيه لأن يراد منه كما أن الألفاظ المذكورة كذلك بخلاف المجاز فإنه يحتاج في تحققه إلى القرينة المانعة يفرق بينهما بوجه آخر مختص به دون تلك الألفاظ وهو أن مقتضى كل من وضعيه لمعنييه وغرض الواضع منه أن يجزم ويقطع من نفس اللفظ المشترك من غير انضمام قرينة بأن المراد هذا المعنى الذي وضع له المشترك بذلك الوضع وإنما تختلف ذلك المقتضى عن كل من الوضعين واحتيج في تعيين هذا المعنى وحصول الجزم به إلى القرينة لعارض الوضع الآخر من الوضعين وإنما كان هذا مانعا من ثبوت ذلك المقتضى لأن مقتضاه أن يجزم من نفس اللفظ بالمعنى الآخر وإرادة كل من المعنيين في إطلاق واحد خارجة عن قانون الوضع وقد يمتنع ذلك كما إذا كان المعنيان متنافيين مثل القرء للطهر والحيض لكن تختلف المقتضى بالفتح عن المقتضى بالكسر لا ينافي الاقتضاء كتحلف الاحراق عن النار لمانع الرطوبة فتعيين اللفظ المشترك داخل في تعريف الوضع ولو كان المراد بالدلالة بنفسه فيه الدلالة بنفسه على المعنى على سبيل التعيين والقطع لأن معنى قولنا تعيين اللفظ للدلالة بنفسه تعيينه لغرض تلك الدلاة سواء ترتب عليه ذلك الغرض أو تخلف عنه لأنه لا امتناع في أن يتخلف غرض الواضع عما أراده من الوضع وهو الدلالة بنفسه على وجه التعيين عن وضعه لمانع كمزاحمة الوضع الآخر بخلاف التعيين للمعنى المجازي بالمفهوم الإجمالي الذي تقدم توضحيه في الوضع النوعي فإنه لا يقتضي كون ذلك المعنى مرادا على سبيل القطع بل ولا على سبيل التردد إلا عند القرينة فالقرينة في المجاز لتحصيل تلك الدلالة لا لدفع مزاحمة الغير .
قال بعض المحققين ولا يخفى أنه ليس لتخصيص هذا الفرق بالمشترك دون الألفاظ المذكورة وجه سوى تعدد الوضع صريحا في الأول دون الثاني لكن كون التفاوت بذلك القدر مما يصلح أن يكون وجها لتخصيصه محل بحث وخلاصة الكلام في هذا المقام أن تعيين المجاز خارج عن تعريف الوضع بالمعنى الأول أعني تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه لأنه ليس للدلالة بنفسه بل بالقرينة ولو سلم فليس للدلالة بنفسه عليه من حيث إنه مراد مطلقا مع أن المراد بالدلالة في التعريف هو الدلالة من تلك الحيثية وأما الألفاظ المذكورة والمشترك فتعيين كل منهما داخل في التعريف لأنه لأجل تلك الدلالة وقد ترتبت هي عليه ولو على سبيل التردد والتساوي بل تعيين المشترك لأجل الدلالة بنفسه على سبيل التعيين والقطع وإن تخلفت عنه لمانع فدخوله في التعريف بالطريق الأولى.
قوله: (من قولهم اللفظ إلخ) أي: من قولهم في كبرى القياس وكل لفظ مستعمل في معناه الحقيقي لا يحتاج إلى قرينة.
قوله: (أي: الاستعمال المجرد) أشار به غلى أن إضافة مجرد إلى الاستعمال من إضافة الصفة للموصوف والمعنى أن الاستعمال المجرد عن التعيين لا يحتاج فيه فيما نحن فيه وفي المشترك إلى القرينة بخلاف المجاز فإنه يحتاج إلى القرينة لمجرد الاستعمال وفيه أن غرض المستعمل من الاستعمال إفهام مراده للسامع وذلك لا يحصل بدون القرينة المعينة فلا يصح الاستعمال لمجرد الوضع بل يحتاج إلى القرينة وحينئذ فلا يكون الوضع كافيا في صحة استعماله في معناه وخلاصة الكلام في هذا المقام أن ما هو من هذا القبيل واللفظ المشترك لا يحتاجان إلى القرينة في الدلالة على معناهما الحقيقيين فلا ينافي احتياجهما إلى القرينة لأجل الإفهام بخلاف المجاز فإنه يحتاج إلى القرينة في الدلالة على المعنى المجازي.
واعلم أن من فسر الدلالة بكون اللفظ بحيث متى أطلق فهم منه المعنى اشترط في الالتزام اللزوم الذهني بمعنى امتناع الانفكاك ولم يجعل لكثير من المجازات والكنايات التي ليست معانيها لوازم بهذا المعنى دلالة على تلك المعاني بل الدال عليها عنده المجموع المركب منها ومن قرائنها ومن فسرها يكون أمر بحيث يفهم منه أمر فهم أو لم يفهم لم يشترط ذلك اللزوم وهذا هو المناسب بقواعد العربية والأصول والأول أنسب بقواعد المعقول.
قوله: (فإنه يحتاج إلى قرينة مانعة) أي: يحتاج في تحقيقه إلى المانعة لأنها التي لا يتحقق المجاز بدونها والمعينة شرط في قبوله عند البلغاء كما سيصرح به.
واعلم أن كل قرينة معينة فهي مانعة ولا عكس فإذا قلت رأيت بحرا في الحمام وأردت الكريم ففي الحمام قرينة مانعة من أن يراد معناه الحقيقي وليست معينة للمراد باللفظ إذ يحتمل الكريم والعالم فإن كلا منهما يطلق عليه أنه بحر مجازا وإذا قلت رأيت بحرا يعطي أو يقرر المسائل كان قولك يعطي قرينة معينة للمراد باللفظ وهي مانعة أيضا.
قوله: (أي: مشاركة) تفسير لمزاحمة المعاني فمعنى مزاحمة المعاني مشاركة المعاني الحقيقة والظاهر أن المراد بمزاحمة المعاني تنازعها في تلك الألفاظ فلفظ عين مثلا تزاحم وتنازع فيه الجارية والباصرة وعين الذهب وعين الفضة وعين الشمس فكل من هذه يقول هو لي وكذا لفظ ذا تزاحم وتنازع فيه زيد وعمرو وبكر مثلا فكل منهم يقول هو لي هذا معنى مزاحمة المعاني فإذا نصبت قرينة معينة لإرادة واحد من تلك الأشخاص ارتفع ذلك النزاع والمزاحمة.