بسم الله الرحمن الرحيم
اللَّهم لك الحمد على ما علمتنا من الآداب، وألهمتنا من سلوك طريق الصواب، ونسألك الصلاة والسلام على نبيك المنزه في محاسنه عن المناظر، المبعوث إلى كافة الناس بكتاب أفحمت آياته كل معارض ومناقض وممانع ومكابر، وعلى آله وصحبه هداة الدين، وحماة منهج اليقين.
{أَمَّا بَعْدُ}: فيقول راجي الغفران، محمّد بن علي الصبان، أحسن الله عمله، وبلغه في الدارين أمله: هذه حواش شريفة، وتقريرات منيفة، وضعتها على شرح الآداب العضدية، للمحقق منلا حنفي أسكنه الله في فسيح جنته الغرف العلية، ضمنتها من أفهام الأعلام ما يقر به الناظر، وأودعتها من بنات الفكر ما ينشرح له الخاطر، وأشرت فيها إلى ما وقع من الغث للمتصدرين لهذا الكتاب، فهي وإن كانت قليلة الحجم لب اللباب، والله أسأل أن يحفظ علينا الإيمان، إنه كريم حليم حنان منان.
قوله: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) كتابتها بالمداد الأسود تفيد أنها بسملة الشارح فيكون حَذْفُ بسملةِ المصنفِ لعدم تَكَلُّمِهِ عليها، ولأن غرضه الاقتصار على البسملة فلو أتى ببسملة المصنف لكانت عقب بسملته، فاكتفى ببسملته عن إثبات بسملة المصنف.
وإنما اقتصر على البسملة ولم يأت بخطبةٍ مشتملةٍ على الحمد وما معه كما هو شأن المصنفين إما تنزيلا لشرحه منزلة ما ليس أهلا للتصدير بخطبة هَضْمًا لنفسه، وإما اكتفاءًا بخطبة المتن؛ لأن المتن والشرح كالشيء الواحد، فتَحَصَّلَ أن الشارح ارتكب شبهَ الاحتباك.
قوله: ((جعل الله مخاطبا)) لـ«جَعَلَ» معانٍ أقربُها هنا صَيَّرَ أي: صَيَّرَ اللهَ مخاطَبا بعدَ أن كان معبَّرًا عنه في هذا المقام غالبًا بالاسم الظاهر، وكان الأليق في التعبير أن يقول «جَعَلَ نفسَهُ مخاطِبا له تعالى» أو «سَلَكَ طريقَ الخطاب له تعالى»
قوله: ((تنبيها على القرب)) أي: فيكونُ في كلامِهِ تلميحٌ لقوله تعالى: ﴿ ۖوَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾،
ولا يرد عليه أن قرب الله تعالى صار ضروريا عند كل مؤمن لأن التنبيه يجري في الضروريات؛ لأن النفس قد تغفُل عنها.
قوله: ((ولأن اللائق)) علةٌ ثانيةٌ لسلوك طريق الخطاب تضمنتْ أن في سلوكه تلميحا إلى قوله صلى الله عليه وسلم في مقام بيان الإحسان: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه»، وإشارةً إلى أن حَمْدَ المصنفِ وقعَ على الوجه الأكمل.
فما قيل من أن الأَوْلَى تركُ الواوِ ليكون علةً للعلةِ ليس بشيء.
قوله: ((أولا)) أي: قبل الشروع في الحمد، وذَكَرَهُ لأجل قوله بعدُ «واستبان منه إلخ»، ولأن الأولية من تتمة اللياقة وإلَّا فالجَعْلُ مخاطَبا محقق بمجرد الحضور فاندفع ما قيل هنا.
قوله: ((حاضرا إلخ)) أي: والأصل فيما هذا شأنه أن يخاطَبَ.
قوله: ((ومشاهدًا)) أي: حقيقةً أو تنزيلاً كما هنا، ولا يلزمُ من كونِهِ حاضرًا أن يكونَ مشاهدًا حتى يُسْتَغْنَى عنه بقوله «حاضرًا» كما تُوُهِّمَ.
قوله: ((ثم يحمدَه)) أي: يأتي بجملة الحمد على نَسَقِ ما لاحظه، وقد لاحظ المحمود أولا فالمناسب أن يأتي بما يدل عليه من جملة الحمد أَوَّلاً، فظهر قوله «واستبان منه...إلخ» وأنه لا حاجة إلى ما وقع هنا من التَّعَسُّفِ.
و«ثَمَّ» هنا لمجرد الترتيب
ومن نُكَتِ سلوكِ طريق الخطاب رعايةُ الالتفات من الغَيْبَةِ إلى الحضورِ.
قوله: ((واستبان)) السينُ والتاءُ زائدتانِ.
قوله: ((تقديمَه)) أي: الحمدِ أي: تقديمَ اللفظِ الدالِّ عليه وضعًا أعني لفظَة الحمدِ، ففي عبارتِهِ استخدامٌ أو تقديرُ مضافٍ، فلا اعتراضَ بأن حَمْدَ المصنف واقع بجملة «لك الحمد» سواءٌ قُدِّمَ «لك» أو أُخِّرَ، وحينئذ لا يلزم من اقتضاء المقام تقديمَ هذه الجملةِ تقديمُ الحمد على «لكَ» الذي الكلامُ فيه.
قوله: ((للتعظيم)) أي: تعظيمِ المتكلم للمخاطَب أي: اعتقادِهِ عظمتَهُ.
قوله: ((والشرف)) أي: شرف المخاطَب في حد ذاته، فكل منهما علة مستقلة وإن كان الشرف سببا في الغالب للتعظيم أو المرادُ بالتعظيم العظمةُ، فعطفُ «الشرف» عليه تفسيريٌّ، فهما على هذا علة واحدة، وصنيعُ الشارح إلى هذا أَمْيَلُ.
قوله: ((من كلمة اللام)) الإضافةُ للبيانِ، والمرادُ بـ«اللام» أداةُ التعريفِ في «الحمد»، وعَبَّرَ عنها باللام تسميةً للكل باسم الجزء إِنْ قلنا إنها مجموعُ «أَلْـ» أو لأنها في الحقيقة اللامُ فقط وإنما الهمزةُ للتَّوَصُّلِ للنطقِ بالساكن على القولِ الآخَرِ
وإفادتُها الاختصاصَ لكونها هنا للجنسِ على المُختارِ، ومن المقرَّرِ أن المبتدأَ المعرَّف بلام الجنس منحصرٌ في الخبرِ، فإذا قُلْتَ «الكرم في العربِ» كان الكلامُ مفيدًا لحصر الكرم في كونه في العرب، وكذا قولنا «الحمد لله» مفيدٌ لحصر الحمد في كونه لله
ولما كان تقديم الخبر مفيدا ذلك أيضًا كان في كلامِ المصنفِ طريقانِ مفيدانِ لحصر الحمدِ في كونه لله أَكَّدَ المتأخرُ منهما وهو التقديمُ المتقدمَ منهما وهو التعريفُ بلام الجنسِ، فهو نظيرُ اجتماع طريقَيْ تأكيدٍ في نحو «إِنَّ زيدًا لَقائمٌ»، والتأكيدُ على هذا التقريرِ ظاهرٌ لا إشكالَ فيه لاتحاد مَفَادَيِ الطريقين.
ويحتمل أن المرادَ بكلمة اللام لامُ الجرِّ بناءًا على أنها للاختصاص وأن المرادَ به الاختصاصُ بالمعنى المشهورِ أعني الانفرادَ لا مطلقَ الارتباطِ كما قيل، وعلى هذا يكون التقديمُ مفيدًا لحصرِ الحمدِ في كونِهِ مختصًّا بالله، فهو مفيدٌ لاختصاصِ اختصاصِ الحمدِ بالله، واختصاصُ اختصاصِهِ بالله يستلزمُ قوةَ اختصاصه به، فإفادةُ التقديمِ تأكيدَ اختصاصِهِ به على هذا بطريق اللزومِ لا الصراحةِ لعدم اتحادِ مَفَادَيِ الطريقين، فاحفظْهُ تَسْلَمْ من ارتباك الناظرين هنا.
قوله: ((والمنة)) أَرْدَفَ الحمدَ بالمنةِ إشارةً إلى العَجْزِ عن أداء حق النعم المحمود عليها وعدمِ مكافأة الحمد لها حتى لا يليق الامتنان بها.
قوله: ((مِنْ مَنَّ عليه)) أي: من مصدرِ «مَنَّ عليه» ليجريَ على مذهب البصريين.
و«المنة» اسمُ مصدرٍ كما أفاده صاحب المصباح، واسم المصدر يُشتق من المصدر كما في الارتشاف.
وأتى بقوله «عليه» تقييدًا للمشتق منه لا لكونه له دَخْلٌ في الاشتقاق، واحترز به عن «مَنَّ» المتعدي بنفسه أعني «مَنَّهُ» إذا أضعفه أو قطعه، وعن «مَنَّ» الذي لا يتعدى أصلا أعني «مَنَّ الشيءُ» إذا نَقَصَ أو ضَعُفَ أو قَوِيَ، ولهذا يطلق على القوة والضعف مُنَّةٌ بضم الميم، هذا ما في كتب اللغة، وقد وقع للناظرين هنا تخليط فاحذره.
قوله: ((منهية)) أي: منهيٌّ عنها أي: بطريق اللازم لأنه يلزم من النهي عن المسبَّبِ أعني إبطالَ الصدقاتِ بالمنِّ النهيُ عن السبب المُفضِي إليه أعني المنَّ.
وما قيل من أن الآية لا تدل على المُدَّعَى لجواز أن يكون المُبْطِلُ مجموعَ المَنِّ والأذى لا كلَّ واحدٍ منهما فمدفوعٌ بأن السنة والإجماع نَفَيَا ذلك، على أن المِنَّةَ تتضمن الأذَى، فتأمل.
قوله: ((هو مِنَّةُ المنعِم...إلخ)) مِنَّةُ المنعِمِ وامتنانُهُ تعداده النعم اتسعظامًا لها وافتخارًا بها، أما إذا كان غرضه تنبيهَ المُنْعَمِ عليه لئلا يقع في الكفران فليست بمِنَّةٍ حقيقةً.
ومِنَّةُ المُنْعَمِ عليه وامتنانُه تعداده النِّعَمَ اعتناءًا بها وشكرًا لمُنْعِمِهَا.
فقوله «لا امتنانُ المُنْعَمِ عليه» أي: فلنا أن نحمل «المِنَّةَ» في كلام المصنف عليه بأن يراد بها منةُ المنعَمِ عليه، فيكون المَنُّ في قولنا «مِنْ مَنَّ عليه» مستندًا إلى المنعَم عليه أي: عَدَّدَ المُنْعَمُ عليه على المُنْعِمِ نعمَهُ أي: أقر له بها شكرًا له، وهذا جوابٌ بِمَنْعِ أن المرادَ مِنَّةُ المُنْعِم.
هذا خلاصة ما قيل هنا، لكني لم أجد المنة بمعنى تعداد المُنْعَمِ عليه لا في القاموس ولا في الصِّحاح ولا في المصباح، فلعله معنىً مجازيٌّ، تأمل.
وتطلق المنة على الإنعام ولا إشكال عليه، وإنما لم يَحْمِلِ الشارحُ كلامَ المصنفِ عليه لتحقق الجوابُ عن كونه مِنْ «مَنَّ عليه» و تبين صحة إرادة مِنَّةِ المُنْعِمِ ووقوعها من الله تعالى.
قوله: ((وأيضا الخطاب إلخ)) هذا جوابٌ على تسليمِ أن المرادَ مِنَّةُ المُنعِمِ.
قوله: ((مخصوص بغير الله تعالى)) الباء داخلة على المقصور عليه.
قوله: ((ويدل عليه)) أتى بالدليل دفعًا لما قد يقال إنها نقص في حق الله تعالى أيضًا.
قوله: ((﴿يَمُنُّونَ عَلَيۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُواْۖ﴾)) أي: بأَنْ أسلموا فَحُذِفَ الجارُّ لأنه مَقِيسٌ مع «أَنَّ»و«أَنْ»، وقوله ﴿إِسۡلَٰمَكُمۖ ﴾ أي: بإسلامكم فحُذِفَ الجارُّ مشاكلةً لما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ.
ويحتمل أن الفعلَ في الجميع مُضَمَّنٌ معنى العَدِّ فَعُدِّيَ بنفسه.
وقوله ﴿أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِيمَٰنِ﴾ أي: على زعمكم مع أن الهدايةَ لا تستلزم الاهتداءَ، وقُرِيءَ شاذًا «إِنْ هداكم» بالكسر و«إذ هداكم».
وقوله ﴿إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ أي: في دعواكم الإيمانَ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي: فله المِنَّةُ عليكم.
قوله: ((وعلى نبيك)) الأقربُ أن الإضافةَ للعهد الخارجيِّ.
قوله: ((والتحية)) هي السلامُ وآثَرَها عليه رعايةً للسَّجْعِ.
قوله: ((في التقديم)) أي: تقديمِ أَحَدِ جُزْأَيِ الجملةِ مطلقا.
وقوله «الطريقة السابقة» أي: تقديمَ خصوصِ الخبرِ، فاندفع الاعتراض بأن التقديم هو الطريقة السابقة ففي عبارته تهافُت.
قوله: ((تعظيما لشأنه)) أي: النبي صلى الله عليه وسلم على الأقربِ، وكان الأخصرُ عدمَ تخصيصِ هذه النكتةِ بالذِّكْرِ لاندراجِها تحتَ قوله «مع بعض النكات...إلخ» بناءًا على أن المرادَ مع نظيرُ بعضِ النكاتِ السابقةِ كما يأتي.
قوله: ((وإفادةً للاختصاصِ)) لَـمَّا لم تكن هنا اللامُ الجنسيةُ ولا لامُ الاختصاصِ وكأن الاختصاصُ هنا إنما هو بطريقِ التقديمِ قال «وإفادةً للاختصاصِ» أي: اختصاصِ الصلاةِ والتحيةِ المطلوبتين له اللتين هما الأَتَـمَّانِ الأكملانِ، فـ«أَلـْ» للعهدِ فلا اعتراضَ، فاحفظه ولا تَغْتَرَّ بِتَعَسُّفٍ وقع هنا.
قوله: ((مع بعض النكات)) أي: مع نَظِيرِ بعضِ..إلخ يعني الشرفَ واللياقة فكما لُوحِظَ في التقديمِ هناكَ شرفُهُ تعالى واللائقُ بحال الحامد لُوحِظَ هنا شرفه صلى الله عليه وسلم واللائقُ بحال المُصلِّي، إذ اللائق بحال المُصلِّي أن يلاحظ المُصلَّى عليه أَوَّلاً ثم يأتي بالصلاة على هذا النَّسَقِ بأن يقدم ما يدل على المصلَّى عليه،
فإن كان المرادُ مع عينِ بعضِ..إلخ كان القصدُ بالبعضِ تعظيمَ اللهِ وشرفَهُ، وإنما تَرَكَ على هذا نُكْتَةَ شرفِهِ عليه الصلاة والسلام لِعِلْمِهَا بالمقايسةِ أو بناءًا على جعل التعظيم والشرف نكتةً واحدةً،
ولا يخفى أن رعايةَ المناسبةِ بين جملتي الحمدِ والصلاةِ تَصْلُحُ أن تكون علةً للتقديم، فاحفظه.
قوله: ((الصلاة على النبي)) أي: والتحيةَ عليه.
قوله: ((بالصلاة)) أي: والتحيةِ ((على آله)) أراد بهم الأتباعَ فشمل الصَّحْبَ، فلا اعتراضَ على قوله «كما هو دأب سائر المصنفين».
قوله: ((عليهم التحية والسلام)) لم يقل عليهم الصلاة والسلام لأن الصلاة عليهم إنما تطلب تبعا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وجَمَعَ بين التحيةِ والسلامِ لتفسيرها به.
قوله: ((لكان أولى)) ليكون جامعا بين امتثال الأمر القرآني والسني، فالصلاةُ والسلامُ عليه صلى الله عليه وسلم امتثالُ الأمرِ القرآني، والصلاة والسلام على آله تبعًا له صلى الله عليه وسلم امتثال للأمرِ السني.
وأجيب بأنه إنما ترك ذلك ليشير إلى أن الصلاة والتحية عليه صلى الله عليه وسلم تتضمن الصلاة والتحية على آله بل جميعِ المسلمين، لأن ما وُهِبَ لِنَبِيِّنَا من العطايا فهو يَعُمُّ مُسْلِمِي البَرَايَا.