بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحشي العلامة مير
الحمد لله على إفهام الخطاب، والصلوة على رسوله المبعوث لإظهار الصواب وعلى آله وأصحابه المتأدبين بخيرِ الآدابِ.
﴿أما بَعْدُ﴾: فهذه فائدةٌ عُجَابٌ بل زائدةٌ لا تدخل في الحساب على الشرح المشهور بين أُولي الألباب للرسالة الشريفةِ العَضُدِيَّةِ في الآدابِ تَكْشِفُ عن وُجُوهِ مقاصدِهِ النِّقابَ، وتشرح ما أفاده الشارح المحقق والأستاذ المدقق في حواشي الكتابِ تذكرةً للأحباب وتبصرةً للطلابِ، والله الموفق وإليه المآب.
قوله: ((لك الحمدُ)) للحمد معنيان مشهوران أحدُهما: لغوي والآخَرُ: عُرْفِيٌّ.
وكلُّ واحدٍ منهما مُحتَمَلٌ ههنا، وعلى كلا التقديرين، إِمَّا أَنْ يراد بالحمد المعنى المبنيُّ للفاعل أو المعنى المبني للمفعول أو الحاصلُ بالمصدرِ.
ويجوز أن يراد ما يُطْلَقُ عليه لفظُ الحمد ليعمَّ الكلَّ.
ولام التعريف يُحْتَمَلُ أن تكون للاستغراق وأن تكون للجنس وأن تكون للعهد الخارجي إشارةً إلى الفرد الكامل.
ولامُ المِلْكِ أيضا يُحْتَمَلُ أن تكون لاختصاص الصفةِ بالموصوف وأن تكون لاختصاص المتعلِّقِ بالمتعلَّقِ.
فهناك اثنان وأربعون احتمالاً حاصلةٌ من ضرب الثلاثة في اثنين أوَّلا، وضربِ الثلاثة في سبعة ثانيًا، وضربِ الاثنين في أَحَدٍ وعشرين ثالثًا، فليتأمل.
قوله: ((تنبيهًا على القُرْبِ)) فائدة هذا التنبيه إشارةٌ إلى أن هذا الحمدَ قد وقع على الوجه اللائق، إذ اللائق بحال الحامد أن يلاحظ المحمود قريبا على قياس ما ذكره في النكتة الثانية.
فإن قلت: فعلى هذا ترجع هذه النكتةُ إلى النكتةِ الثانيةِ فلا يحسن التقابل بينهما، بل الظاهر أن يُجْعَلَ قوله «لأن اللائق بحال الحامد» علةً للتنبيه المذكورِ بترك العطف.
قلت: حاصل النكتة الأولى التنبيه على كون الحمد المذكور واقعا على الوجه اللائق، وحاصل النكتة الثانية إما التنبيه على أن اللائق بحال الحامد أن يلاحظ المحمود حاضرًا أو مشاهَدًا، وإما كونه تعالى ملحوظا في هذا الحمد على وجهٍ يقتضي التعبيرَ عنه بلفظ الخطاب، وعلى كلا التقديرين بينهما بَوْنٌ بعيدٌ، إلا أن مدار الكل على مقدمة واحدة وهي «أن اللائق بحال الحامد أن يلاحظ المحمود حاضرا ومشاهَدا».
ويحتمل أن يكون فائدةُ التنبيه اشتمالَ الكلام على رعاية صنعة التلميح، وهي الإشارةُ إلى قصة أو شِعْرٍ من غير ذِكْرِهِ، وذلك لأن التنبيه على القرب إشارةٌ إلى مضمون قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾.
وما ذكره في الحاشية ههنا يحتمل أن يكون إشارةً إلى هذه الفائدة ويحتمل أن يكون بيانًا للقرب الذي وقع التنبيه عليه ويحتمل أن يكون إيذانًا بوقوع الإذن الشرعي في إضافة القرب إلى الله تعالى.
ولا يخفى أنه يمكن جعل النكتة الثانية أيضًا راجعةً إلى رعاية صنعة التلميح لكونها إشارة إلى مضمون الحديث الذي أورده في حاشيتها.
وحينئذ حاصل النُكْتَتَيْنِ أن اختيار الخطابِ لِـمَا فيه من التنبيه على القرب تلميحٌ إلى الآية ولِـمَا فيه من التنبيه على الحضور والمشاهَدة تلميحٌ إلى الحديث.
واعلم أنه يمكن أن يقال اختيار طرق الخطاب لرعايةِ صنعةِ الاستغرابِ والالتفات بناءًا على أنه تعالى مذكورٌ في التسمية بطريق الغَيْبَةِ أو براعةِ الاستهلالِ، لأن المقصود ههنا بيان طرق المناظرة، ومدارُ المناظرةِ على المخاطَبَةِ كما لا يخفى.
قوله: ((أَوَّلا اه)) فيه أن اللائق بحال الحامد ملاحظة المحمود حاضرا وشاهَدا في آنِ الحمدِ لا قبل الشروع فيه، ولو سلم فلا يتم التقريب، لأن المقصود توجيه اختيارِ الخطاب في أثناء الحمد، ويمكنُ دفعُهُ بأن المرادَ بقوله «أوَّلا» قبل الفراغ عن الحمد «في وقتِ الحمد».
ولا يَخْفَى عليك أن الحديثَ الذي أَوْرَدَهُ في الحاشية هنا إنما يلائم بهذا المعنى،
نعم لو تَرَكَ قوله «أَوَّلا» وقوله (ثم يحمدَه) لكان أخصر وأظهر لكن لا ينتظم حينئذ قولُه «واستبان منه».
وإنما قال في الحاشية «كما يلائمه» ولم يقل «كما يدل عليه» لأن الحديث المذكور إنما يستدعي أن يُلاحَظَ المحمودُ كأنه مرئِيٌّ ومشاهَدٌ لا أن يلاحَظَ حاضرًا بحيث يستحق الخطاب، على أنه يجوز أن يكون المقصود من الحديث بيانَ معنى الإحسان في عرف الشرع لا بيانَ إحسانِ كلِّ عبادةٍ وتكميلِها، فتدبرْ.
قوله: ((واستبان منه اه)) فيه أن اللائق بحال الحامد أن يُلَاحِظَ المحمودَ أولا حاضرًا ومشاهَدًا لا يقتضي تقديمَ قوله سواءٌ كان قوله «أَوَّلا» بمعنى قبل الشروع في الحمدِ أو بمعنى قبل الفراغ عنه، لأن قولك مِنَ الحمدِ، فتقديمُهُ لا يستلزمُ كون المشاهدةِ قبل الشروعِ في الحمدِ حتى يُخْتَارَ التقديمُ لأجل ذلك، وتأخيرُهُ لا ينافي كون المشاهدةِ قبل الفراغ عن الحمد حتى يُتْرَكَ لأجله.
ويمكن دفعه على التقديرين بأن تقديمَ قوله لك على مفهوم «الحمد» الصادقِ على أفرادِهِ يدل على أن ملاحظة المحمودِ حاضرًا ومشاهَدًا ينبغي أن يكون متقدمةً على الحمد في جميع المواد وإن لم يكن قوله «لك» مقدَّمًا على هذا الحمد.
ويمكن أن يقال: مفهومُ الحمدِ لكونه صادقا على مجموع، فالتقديمُ عليه كالتقديمِ على المجموع والتأخيرُ عنه كالتأخير عن المجموع.
قوله: ((لكونه مقام الحمد)) قيل: الحمد مجموع قوله «لك الحمد» لا مجردُ لفظِ «الحمد» فالمقامُ لا يقتضي تقديمَ لفظ «الحمد» على قوله «لك».
وأجيب عنه: بأن هذا المجموع فرد لمفهوم «الحمد»، ولا يخفى أن مقام الفرد يقتضي كثرةَ الاهتمامِ بشأن ما يصدق عليه بالنسبة إلى ما لا يصدق عليه وإن كانا متساويين في الجزئية لذلك الفردِ.
قوله: ((للتعظيم والشرف)) يحتمل أن يكونا نكتةً واحدةً على أن يكون قوله «والشرف» عطفا تفسيريا.
ويحتمل أن يكونا نكتتين إلا أنه جمع بينهما في الذكر تنبيها على تَقَارُبِهِما في المعنى كأنهما نكتة واحدة.
وأنت تعلم أن للتقديم وجوهًا أُخَرَ مثلَ التشويق إلى المسند إليه لأنه أهم خصوصا في هذا المقام ورعايةِ صنعةِ الاستغراب إلى غير ذلك.
ومنها ما أَوْرَدَهُ في الحاشية من أن الحمد لكونه كالنسبة بين الحامد والمحمود فيتأخر عنهما، وحاصله أن المحمود مقدم على الحمد بالطبع فقُدِّمَ عليهما في الوضع؛ ليُوَافِقَ الوضعُ الطبعَ.
وإنما قال «كالنسبة» لأن الحمد إن كان بالجَنَانِ فهو من مقولة الكيف وإن كان بالأركان فهو من مقولة الفعل وإن كان باللسان فكذلك لو كان الحمدُ اللسانيُّ عبارةً عن المعنى المصدريِّ أعني التكلمَ بما يدل على التعظيم، وأما لو كان عبارةً عن نفسِ الكلامِ المخصوصِ فهو من مقولةِ الكيفِ أيضًا، ومن البين أن الكيف ليس نسبة أصلا، والفعلُ وإن كان من النسبةِ المنقسمةِ إلى المقولات السبعِ لكنه نسبةٌ بين الفاعل والمُنْفَعِلِ، والمحمودُ ليس بمُنْفَعِلٍ للحمدِ الفِعْلِيِّ حتى يكون هذا الحمدُ نسبةً بينه وبين الحامدِ لكنَّ الحمدَ مطلقًا بمنزلة النسبة بينهما لكونه معنى يتوقف حصولُهُ على حصولهما في نفسِ الأمرِ.
قوله: ((من كلمة اللام)) هي إما لامُ التعريف سواءٌ كان للاستغراق أو للجنسِ على ما صرح به المحقق التفتازاني وتبعه السيد السند في الاستغراق، وإما لامُ المِلْكِ، وإما كلا منهما، والكلُّ منظورٌ فيه.
أما الأول: فلأنَّ لامَ الاستغراقِ والجنسِ ههنا إنما يَدُلُّ على أن كل حمدٍ أو جنسَ الحمدِ ثابتٌ لله تعالى مرتبطٌ به لا على حصر ذلك فيه؛ لجواز أن يتعلق حمدٌ واحدٌ بشخصين، اللهم إلا أن يرادَ كل فردٍ من الأفرادِ المتغايرةِ بالذاتِ أو بالاعتبار ويُحْمَلَ الكلامُ على الادِّعاءِ.
وأمَّا الثاني والثالثُ: فلأنَّ لامَ المِلْكِ إنما وُضِعَتْ للاختصاص بمعنى الارتباطِ كما بين في موضعه لا للاختصاصِ بمعنى الحصر، والكلامُ فيه؛ لأنه المستفادُ من تقديمِ الخبر الظرفِ.
وللاعتذار عن هذا قال في الحاشيةِ ما حاصله «إن هذا مبني على ما صرح به السيد في بعض تصانيفه من أن لَامَيِ المِلْكِ والجِنْسِ تدلان على اختصاص الحمد به تعالى، إن تَمَّ تَمَّ وإلا فلا»، وفيه نظرٌ من وجهين :
أَمَّا أَوَّلا: فلأَنَّ البناءَ المذكورَ لا حاجةَ إليه مع إفادةِ لامِ الاستغراقِ الاختصاصَ المقصودَ عندهم.
وأما ثانيًا: فلأَنَّ لامَ المِلْكِ كافٍ في الدلالةِ على الاختصاصِ المقصودِ والحصر على قولِ السيدِ السندِ سواءٌ كان لامُ التعريفِ ههنا للاستغراقِ أو للجنسِ أو للعهدِ، [أو لم يكن هناك لام التعريف].
وأمَّا التعرُّضُ بلامِ الجنسِ في كلامه قدس سره فلأنه أراد أن يبين أن اختصاص كل حمدٍ له تعالى كما يستفاد من لام الاستغراق يستفادُ من لام الجنس مع لام الملك أيضًا، وهذا المعنى غيرُ مذكورٍ في هذا المقامِ.
اللهم إلا أن يقال المراد من الاختصاص ههنا أيضا اختصاص كل حمد به تعالى لأنه أبلغ في الحمد، أو المقصودُ من ذكر المقدمة المنقولة بيان حكم لام الملك ولكنه أراد أن ينقل كلامه قُدِّسَ سِرُّهُ على ما وقع في محلِّهِ بعينه من غير تصرف فيه فذَكَرَ لامَ الجنس أيضًا.
قوله: ((يفيد الاختصاص الخ)) فيه أنَّ إفادةَ التقديمِ لاختصاصَ مطلقًا لا يستلزمُ كونَهُ تأكيدًا للاختصاصِ المستفادِ من لام «لك»، إذ المؤكِّدُ لابد أن يكون متأَخِّرًا عن المؤكَّدِ في إفادةِ المعنى، وكونُ إفادته بعد إفادة اللام ممنوع، إِذِ الظاهرُ مَعِيَّةُ الإفادتين وإن كان نفسُ اللامِ مذكورةً قبل التقديمِ، اللهم إلا أن يقال اللامُ في قوله «لك» تدل على الاختصاصِ الذي وُضِعَتْ له بمجردِ انضمامِ مُتَعَلَّقِهِ الذي هو ضميرُ الخطابِ، وأما تقديمُ المسندِ على المسندِ إليه فلا يدل على الاختصاص إلا بعد ذِكْرِهِمَا بل لا يتحقق إلا بعد تحققهما، فليتأمل.
واعترض أيضًا على الدليل المذكور بأنه إنما يتم إذا كان الاختصاصُ المستفادُ من التقديمِ هو الاختصاصَ المستفادَ من اللامِ بعينه، وليس كذلك، لأن الاختصاصَ المستفادَ من اللامِ بعينه اختصاصُ الحمدِ بمدخولها الذي هو اللهُ سبحانه وتعالى والاختصاصَ المستفادَ من التقديم هو اختصاص المسند إليه بالمسند، وحاصلُهُ اختصاصُ الحمدِ بالاختصاصِ به تعالى، وبَيْنَ المعنيين بَوْنٌ بعيدٌ.
ويمكنُ دفعُهُ بأن اختصاصَ الحمدِ به تعالى يستلزمُ اختصاصَهُ بالاختصاصِ به تعالى ضرورةَ أنه لو لم يختصَّ بهذا الاختصاصِ لكان إما مشترَكًا بينه وبين غيره أو مختصًّا بغيره، وعلى التقديرين يلزم أن لا يكون مختصا به تعالى، وكذا اختصاصُهُ بالاختصاص به تعالى يستلزم اختصاصَهُ به تعالى، وهو ظاهر، فبَيْنَ المعنيين تلازمٌ، وهذا القدر كاف في التأكيد على ما لا يخفى.
قوله: ((والمنة)) قيل: هي تعداد المُنْعِمِ ما أنعمَهُ على المُنْعَمِ عليه بطريق الاستعلاءِ، وقيل : إظهار المُنْعِمِ ما أنعمَهُ على المُنْعَمِ عليه، وقيل : الاعتداد بالصنعة أي الإحسان منه سبحانه وتعالى علينا في الكثرة والجلالة بحيث لا يقاربها حمد حامد ولا يوازنها وهو الأولى، فتدبر.
وفائدةُ إيرادِهَا بعدَ الحمدِ كما أشار إليه في الحاشيةِ هي الإشارةُ إلى الاعترافِ بالعجزِ عن أداءِ الحمدِ كما ينبغي.
ووجه العجز إما أن ما أنعمه سبحانه وتعالى علينا في غاية الكثرةِ والجلالة بحيث لا يقاربها حمدُ حامدٍ ولا يوازنها شاكر بحسب الظاهر، ويكفي هذا القدر في مثل هذا المقام من المقامات الخطابية، وإما أن الإتيان بالحمد على وجه الكمال يستلزم التسلسلَ في المحامد كما بيّنه السيد السند قدس سره في حاشية المطالع في شرح قول صاحب المطالع «اللهُمَّ إنا نحمدُك والحمدُ من آلآئِكَ»، وفيه مناقشةٌ لأنه يجوزُ أن يتعلقَ حمدٌ واحدٌ بنفسِهِ وغيرِهِ من النعمِ فلا يستلزمُ التسلسلَ.
قوله: ((مِنْ مَنَّ عليه)) كلمةُ «مِنْ» إما صِلَةُ الاشتقاقِ على أن يكونَ الكلامُ مبنيًّا على مذهبِ الكوفيين أي مِنْ «مَنَّ» الذي يستعمل بـ«على»، وإما تبعيضيةٌ على حذفِ المضافِ أي من بابِ مَنَّ عليه، فيَحْتَمِلُ المذهبين.
ولفظ «مِنْ» مشترَك بين المعنيين كما نقله في الحاشية عن الكتابين المشهورين في اللغة، وله مصدران المن والمنة إلا أن المنةَ مصدرٌ له بأحد المعنيين ولم يجئ بالمعنى الآخر على ما اتفق عليه الكتابان وإن كان بينهما نوع مخالفة في معنى المنِّ.
ومن هذا التحقيق تبين وجه الإشكال الذي ذكره بقوله «وما يقال...إلخ».
وأنتَ خبيرٌ بأن هذا النقل إنما يدل على أن «المنة» لم يجئ بمعنى الإنعام على أن يكون مصدرًا صِرْفًا لكن يجوز أن يكون مصدرًا نوعيًّا من المن بمعنى الإنعام إذ وزن الفعلة للنوع كالركبة والجلسة، وعلى هذا لا وُرُودَ للإشكالِ المذكورِ لجواز أن يكون المعنى «لك الحمدُ ونوعٌ من الإنعام» أعني النوع الكامل.
قوله: ((من أن المنة اه)) الظاهر أنه اعتراض على أن كلام المصنف بطريق الاستدلال، وتقريره أن كلام المصنف يتضمن إثباتَ المنةِ بالمعنى المبنيِّ للفاعل لله سبحانه وتعالى، وكلُّ ما يتَضَمَّن ذلك فاسدٌ، لأن المنةَ بهذا المعنى صفةٌ مذمومةٌ منهيٌّ عنها في الآيةِ المذكورة فإثباتُها له يكونُ فاسدًا قطعًا، فيكون كلام المصنف فاسدا قطعا.
والجواب الأول منعُ الصغرى والثاني منعُ الكبرى راجعٌ إلى دليلها، وعلى هذا يكون ترتيب الجوابين المذكورين على وَفْقِ ترتيبِ المقدمتين الممنوعتين، فلا يتجه ما يتوهم أن الأَوْلَى تقديمُ الجوابِ الثاني.
واعلم أنه يمكن منع الصغرى بوجهٍ آخَرَ، وهو أن يقال لا نسلم أن في كلام المصنف إثباتَ المنةِ له تعالى، لأن ذلك إنما يكون إذا كان جملةُ الحمدِ بمعنى الإخبارِ، وأما إذا كان بمعنى الإنشاءِ أعني إنشاءِ الحمد والامتنانِ كما هو الظاهرُ من جملة الصلاة فليس فيه إثباتُ المنةِ أصلاً.
ويمكن منع الكبرى أيضا بوجه آخر بأن يقال: الآية المذكورة لا تدل على النهي عن المنة لجواز أن يكون المُبْطِلُ مجموعَ المنِّ والأذى لا كلَّ واحد منهما.
ولو سُلِّمَ فكونُ المنِّ مُبْطِلا للصدقةِ لا يستلزمُ النهيَ عنه أصلا، لجواز أن يكون المنُّ في نفسه مباحًا لكنه يُبْطِلُ عملاً آخَرَ بمقارنته، نعم إبطال الصدقة بالمنِّ منهيٌّ عنه لكنه لا يستلزم النهي عن المنِّ، ولو سُلِّمَ فاللازمُ هو المنهي عنه بعدَ الصدقةِ لا مطلقا، فلا إشكالَ.
قوله: ((مدفوع بأنه اه)) قد يُدْفَعُ الاعتراضُ بأن في الكلام مضافًا محذوفًا أي استحقاقُ المنةِ، واستحقاقُ المنةِ مع الإعراضِ عنها ليس مذمومًا منهيًّا عنه بل المذمومُ المنهيُّ عنه هو المنةُ بالفعلِ.
وما ذكره في الحاشية ههنا في رَدِّ هذا الجواب من أن إثبات استحقاق الصفة المنهية المذمومة لا يلائم مقامَ الحمدِ والمدحِ محلُّ نظرٍ، لأن المراد باستحقاق المنة الاتصافُ بما يقتضي المنةَ من إفاضة النعم الجليلة التي لا تُعَدُّ ولا تحصى مع منع الكمال الذاتي والغناء الذاتي المطلق عنها لا إمكانُ المنةِ كما يتوهم من تقابل قوله «بالفعل» وإلا لكان باطلا قطعًا ضرورةَ أن إمكانَ المحالِ محال أيضًا، ولا شك أن إثبات استحقاق المنة بالمعنى المذكور يلائم مقام الحمد والمدح لكونه غايةَ الكمالِ.
قوله: ((ولا امتنانُ المُنْعَمِ عليه)) الامتنان والمنة مترادفان كما أشار إليه في الحاشية، لكنَّ المرادَ به ههنا بقرينة التقابل وإضافته إلى المُنْعَمِ عليه المعنى المبني للمفعول، ولذا فَسَّرَهُ في الحاشية بكون المُنْعَمِ عليه مَمْنُونًا. وفيه أنه يأبى عن هذا المعنى كلمة اللام في قوله ((لك))، مع أن كون المنعم عليه مَمْنُونًا يستلزم كونَ المُنْعِمِ مَانًّا، فالإشكالُ باقٍ بحاله، إلا أن يقال أراد بكون المنعَمِ عليه مَمْنُونًا المعنى العرفيَّ الذي لا يقتضِي كونَ المنعِمِ مانًّا، وكأَنَّ في قوله في الحاشية «فتدبر» إشارةً إليه فتدبر.
قوله: ((وأيضا الخطاب اه)) أي الحكم الخطابي مخصوصٌ بغير الله تعالى كما أن نفسَ الخطابِ مخصوصٌ بغير الله تعالى، ولك أن تجعل الخطاب بمعنى الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة وغيرهما كما هو مصطلح الأصوليين.
وقد يجيب عن الاعتراض بوجه آخر كما أشار إليه في الحاشية، وهو أن المذموم المنهي عنه هو المنةُ التي يكون الغرضُ منها توبيخَ المُنْعَمِ عليه وتحقيرَهُ لا المنةُ التي يكون الغرض منها تنبيهَ المُنْعَمِ عليه لئلا يقع في الكفران، فلا إشكال في إثبات مطلق المنة له.
قوله: ((تعظيما لشأنه)) الضميرُ إما راجعٌ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وإما إلى اللهِ تعالى لكنَّ الأولَ أَوْلَى، لأن تعظيم شأنه مُنْدَرِجٌ في قوله «مع بعض النكات السابقة».
وإنما تَرَكَ نكتةَ شَرَفِ النبي صلى الله عليه وسلم اعتمادًا على المقايسةِ إلى التعظيمِ لِـمَا بينهما من القُرْبِ، ولأنه جَعَلَ التعظيمَ والشرفَ نكتةً واحدةً على ما سبق.
وأنت تعلم أن رعاية التناسب بين أداء الصلاةِ والحمدِ أيضًا يصح أن يُجْعَلَ نكتةً لتقديمِ المسندِ على المسندِ إليه ههنا.
قوله: ((وإفادة الاختصاص)) هذا الكلام يدل على أن لام التعريف لا تفيد الاختصاصَ حيث لم يقل تأكيدًا للاختصاص كما قال في «الحمدِ»، وقد عَرَفْتَ ما فيه.
ولك أن تقول : إنما لم يقل تأكيدًا للاختصاص لأن تأخيرَ إفادةِ التقديمِ الاختصاصَ عن إفادة لام التعريف إياه غيرُ ظاهرٍ بخلافِ تأخيرِها عن إفادةِ لامِ المِلْكِ في قوله «لك» كما بيناه.
ولا يَخْفَى أن الاختصاصَ ههنا يصحُّ أن يكونَ حقيقيًّا لو كان اللامُ في «الصلاةُ والتحيةُ» للعهد الخارجي أي الصلاة والتحية الكاملتان، وأما لو كانت للجنس فهو إضافي بالقياس إلى الكفار، وإلا فطلب اختصاص الرحمة والسلامة بالنبي صلى الله عليه وسلم غيرُ مناسبٍ.
وأما ما يقال من أنه لو كان إضافةُ «نبيِّكَ» للعهدِ الخارجيِّ فالاختصاصُ إضافي ولو كانت للاستغراق فهو حقيقي بناء على ما تقرر عند أهل السنة من أن الصلاة لا تَجُوزُ لغير الأنبياء عليه الصلاة والسلام ففيه نظرٌ.
قوله: ((مع بعض النكات إلخ)) إشارة إلى التعظيم والشرف بالنظر إلى الله سبحانه وتعالى لاشتمال المسندِ ههنا أيضًا عليه تعالى.
ويحتمل أن يكونَ إشارةً أيضًا إلى خُلاصَةِ قوله «اللائق بحال الحامد أن يلاحظ المحمودَ أَوَّلا» يعني أن اللائق بحال المُصَلِّي أن يُلاحِظَ المُصَلَّى عليه أَوَّلاً، فالمسندُ لكونه مشتملاً على النبيِّ عليه الصلاة والسلام يستحق التقديمَ.
وأنت تعلم أنه يمكن أن يقال أيضا إن الصلاة كالنسبة بين المُصَلِّي والُمصَلَّى عليه فيتأخر عنهما كما لا يخفى.
قوله: ((ولو أَرْدَفَ اه)) قد يجاب عنه بأنه إنما عَدَلَ عن الطريق المشهور إشارةً إلى أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن الصلاة على آله وأصحابه بل على جميع المؤمنين، لأنه رحمة للعالمين، فنزولُ الرحمةِ من الله تعالى عليه يتضمن نزولَها عليهم.
قوله: (( وعلى آله اه)) بل على أصحابه أيضًا بأن يقول مثلا «وعلى آله وأصحابه الرحمةُ الجليةُ» لكنَّ تَرْكَهُ بمنزلة قوله «وهذا دعاءٌ شاملٌ للبريةِ» على ما عرفتَ آنفا، فافهم.