مهما بلغ الصحفي من مكانة، في التحرير، أو أصبح وزيرا أو رئيسا، فهو يحب دائما أن يقول أو أن يُقال عنه أنه صحفي - جلال الخوالدة
شيخ المحررين - مصطفى صالح
بقلم: جلال الخوالدة
وقفت بين يديه أحمل الخبر الذي كلفني بكتابته. كان الخبر تغطية لافتتاح مهرجان المسرح الأردني الأول، العام 1991، وكنت قد انتقلت للتو من الصحافة الأسبوعية المشاغبة والمشاكسة، إلى الصحافة اليومية المتزنة والحذرة. ومن دون أن يلقي نظرة واحدة على الخبر، قام بإلقائه بعيدا، وقال: اذهب واكتبه مرة أخرى!
أصبت بحالة من الذهول، فكيف عرف أنني قد هاجمت إدارة المهرجان، وقلت عنها إنها “عصابة” لا تقدّر العمل الإعلامي، وأنها تحاول إغلاق أبوابها أمام الجمهور وغيرها من الكلمات النارية التي كنا نستخدمها في الصحافة الأسبوعية لتصوير أميركا وطغيانها، كيف عرف ذلك من دون أن ينظر حتى إلى مقدمة الخبر؟!
مصطفى صالح، المثل الأعلى الذي أدين له بكل ما تعلمته خلال عشرين عاماً من العمل الإعلامي، وأدين له أيضا، بكل حرف قرأته في كتاب كان يتناوله من مكتبته في بيته ويقول لي في كل مرة: إذا لم تقرأ هذا الكتاب وتلخصه وتناقشه معي فلا أريد أن أراك مرة أخرى. وأدين له بكل الخبرة التي اكتسبتها في إعداد البرامج التلفزيونية، منذ برنامج “مساء الخير” و”مواجهة مع عروة زريقات”، ثم حين جعلني معداً رئيساً معه في برنامج “حديث الناس”، عدا عن كل ما تعلمته منه في الكتابة المسرحية، من جميع المسرحيات التي كتبها للفنان الغالي “ربيع شهاب” وغيره، والمسلسلات الكثيرة المشهورة التي كانت دائما تحصل على المرتبة الأولى عربياً وأردنياً، وكان آخرها “راس غليص” و”عيون عليا” و”نمر بن العدوان”، فكان دائما يقف خلف كل مشاعرنا في الرياضة والمسلسلات والمسرحيات والبرامج التلفزيونية، من دون أن نفكر للحظة: كيف يمتد مصطفى صالح، عميقا إلى هذا الحد، في وجداننا؟
مصطفى صالح، مدرسة خرجت الكثير من الأجيال في المجال الإعلامي المهني المحترف، زعيم الإعلام الرياضي الأردني بلا منازع، الذي كان يحرك الجماهير بإدارته “الفذة” لفريق المحررين وبقلمه وعناوينه التي تجعل عشاق الرياضة يتقافزون متحفزين لمتابعة مباراة، أو لمواساتهم حين الخسارة أو الاحتفال بعد فوز ساحق لذلك الفريق أو للمنتخب، فأسس وأصدر “الدستور الرياضي”، وكان رئيس تحريرها، كأفضل صحيفة رياضية أردنية أسبوعية.
سألته، بعد أن جعلني أكتب ذلك الخبر عدة مرات: كيف عرفت أنني هاجمت إدارة المهرجان وأن الخبر كان متحمسا ومندفعا وغاضبا؟ قال: “لأنك ذهبت من دون بطاقة دخول، ثم جئت بعد 30 دقيقة، فلا شك أنهم رفضوا إدخالك فجئت تسبهم وتشتمهم، والصحافة اليومية، لا تعمل بهذه الطريقة”، وكان ذلك أول دروسه، تلك التي لم تتوقف حتى يومنا هذا.
نُشرت في الغد الأردنية : 25-05-2011
شيخ المحررين - جريدة الغد (alghad.com)
الأسطورة علي عرسان
بقلم: جلال الخوالدة
كل صحيفة تحتاج إلى فريق صحفي مؤهل في أعمال الكتابة والتحرير وسكرتارية التحرير وإدارته ورئاسته، ودون هذا الفريق ليس هناك صحيفة، إنه عمل كبير ويحتاج إلى عقول كثيرة محترفة تمتلك الخبرة والكفاءة، فما بالكم إذا كان هناك صحفي واحد، في الكرة الأرضية قاطبة، هو نفسه فريق صحفي كامل ومؤهل، إنه موجود فعلا، إنه "علي عرسان".
عندما اقتحمت عالم الصحافة لأول مرة، عام 1989، كمدقق لغوي في صحيفة شيحان الأسبوعية، نظر إليّ علي عرسان، وكان يشغل منصب سكرتير التحرير، من تحت إلى فوق، ومن خلال نظارته التي يضع عليها شريطا حتى لا تقع، وهو يحك لحيته الدقيقة، ونظر إلى الزميل "إبراهيم مبيضين" وقال: "أيش هذا؟ جايبين لي ولد صغير مدقق لغوي"، ويمكن أنه قد خطر بباله، أن يطردني، لكنه لسبب ما، قد يكون انشغاله الشديد، أو لعدم توفر مدققين لغويين في ذلك الوقت، وقلة المحررين في شيحان بعد استقالة مجموعة منهم، لم يفعل، ثم سألني مستهزئا: انت بتعرف تقرأ عربي عمو؟ قلت: آه. قال: والله؟ طيب تعال اقعد هان، ودقق هاي الصفحتين، وخليني اشوفهم. (وأعطاني مقال مكتوب بالحبر بخط سيء رديء، لكاتب صحفي، على ورق الصحافة قبل الطباعة) وذهب الى مكتبه.
كان ذلك المقال يفتقد أبسط القواعد العربية في الرفع والنصب والجر، ويفتقد علامات الترقيم، وتكتب التاء المربوطة كحرف ه، فقرأته بصعوبة عدة مرات ولم أفهم كثيرا، لكنني فهمت فكرة الكاتب، كان يريد أن يهاجم وزارة العمل، بخصوص تصاريح العمال الأجانب وأولوية حق الأردني بالعمل، فوضعته جانبا، وكتبت مقالا آخر، يشبهه إلى حد بعيد، بخط جميل لا يضاهى، وذهبت إلى مكتب عرسان ووضعته بين يديه، فقرأه بسرعة، وطلب مني النص الأصلي، وراح يقارن بينهما، فابتسم، وهي عادة لا يمكنك أن تراها كثيرا لدى علي عرسان (خلال عمله الصحفي)، ورجع بالكرسي إلى الخلف وهزّ رأسه معجبا، وقبل أن يتحمس بمديحي، نظر إلى كومة أوراق على مكتب مجاور، وقال: "شايف هذول كلهم، بدي أياك تدققهم كلهم اليوم، ماشي؟" فنظرت إليها وكانت تزيد عن 40 صفحة، فخطر ببالي أن أقول هذا كثير وقد لا أتمكن اليوم، لكنني خفت منه، وقبل أن أقول شيئا، قال: بمزح معك يا زلمة، خلص اللي بتقدر عليه اليوم، والباقي لبكرة، واللي بتدققه اعطيها للبنت هناك تطبعه (ايمان) بعدين أعطيه للمصمم (جمال) وبترجع بعدين بتدققه مرة ثانية بعد الطباعة، فاهم؟، قلت: فاهم فاهم.
الأسطورة علي عرسان، كان أول صحفي في تاريخ حياتي يزرع بذرة الصحافة في أعماقي، ومع أنني كنت أكتب وأنا في مرحلة الطفولة لفوز الدين البسومي، لصفحة القراء في جريدة الدستور، إلا أن عرسان، قدم لي أكبر دفعة تشجيع حصلت عليها في حياتي، وقد تكون هي ذاتها التي تجعلني أكتب في هذه اللحظة، بعد ثلاثين عاما، استقي منها شجاعته وجرأته وقراراته التحريرية وتوظيف كل ثانية من الوقت لخدمة الصحيفة وأعمالها الكثيرة والدفع بشدة ورقة معا لإصدارها، فجعل مني أصغر محرر صحفي في الأردن، وعمري لم يتجاوز 19 عاما، وتعلمت منه أن الصحافة الأسبوعية تشبه باخرة عملاقة، عليها أن تبدأ التحميل أول الأسبوع، بشكل منظم وهادئ، ثم تنطلق في اليوم الثاني باتجاه مرفأ التنزيل، وفي اليوم الثالث عليها ان تزيد من سرعتها، ويكون جميع الطاقم في حالة استعداد تام، تواجه بعض العواصف، الرياح العاتية والموج الهادر، وتتجاوز كل ذلك، في اليوم الرابع يصاب الجميع بالهلع، عليهم الوصول خلال يوم واحد، حركة كبيرة في غرفة المحركات، وجميع البحارة ينجزون أعمالهم في المواقع المختلفة بحماس شديد، يغنون أحيانا (البحر كويس يا ريس) وأحيانا أخرى لا يجدون الوقت لذلك، تصل في اليوم الخامس، يبدأ التنزيل على قدم وساق، غرفة القبطان كأنها خلية نحل، ينتهي التنزيل في صبيحة اليوم السادس، صدرت الصحيفة ويتم توزيعها حاليا، لم ينم أحد منذ يومين على الأقل، يأخذ كل واحد نسخة ويراجع الصحيفة وهو يشعر بسعادة غامرة وراحة كبيرة.
عملت مع الأسطورة علي عرسان مرتين، في نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات من القرن العشرين، وعملت معه مرة أخرى حين تولى منصب رئيس تحرير المدينة نيوز، كان عرسان من أوائل الصحفيين الذين واكبوا ثورة الإنترنت وعرف أنه لا مجال للتراجع، فلم يقف على اطلال الصحافة الورقية، كنت في مكتبه يومها، واعتقد أنه كان العام 2008 أو 2009، لست متأكدا، قال أنه قرر ذلك، وأن المدينة نيوز ستصبح أهم موقع صحفي أردني، وتحول من ضغط الأسبوع، الذي كنّا نراه قليلا على حجم العمل، إلى ضغط اليوم ثم ضغط النصف يوم، وضغط تحديث الأخبار في كل ساعة، تخيلوا؟
نجح الأسطورة في المدينة نيوز نجاحا مبهرا، كنت أقوم معه ببعض المهام التحريرية، من بعيد، لكنه أعفاني من تلك المهمة المرهقة، وطلب مني الاكتفاء بكتابة مقال أسبوعي، فشعرت أنه في النهاية، قد رضي عليّ، ومنحني "وسام علي عرسان للصحافة"، وهو وسام أرفع من كل الأوسمة، بالنسبة لي، لأنه من الصعب جدا الحصول عليه، وقلة هم الذين حصلوا عليه، أولئك الذين بدأوا من الصفر، وأتقنوا الصحافة في أنواعها وأشكالها وتطوراتها، الكتابة والتحرير وإدارة التحرير، ووهبوا أنفسهم مدى الحياة، ليكونوا بحارتها المخلصين.
البحر كويس يا عرسان..فشكرا لك.
فؤاد عبدالرحيم أبو حجلة
بقلم: جلال الخوالدة
فؤاد أبو حجلة واحد من قلة من المحررين العرب (محرري الديسك) الذين يتمتعون بأعلى درجات الحس التحريري المهني، عملت معه مرتين، وكان يذهلني بقراراته التحريرية المدهشة، في تنميط العناوين واختزال الفقرات واختيار الصور والحجم المتاح والأعمدة وترتيب أولويات وأهمية الموضوعات وتوزيعها على الصفحات، واستعجال الصحفيين برقة وتهذيب وكتاب المقالات بأدب جمّ وتحرير مقالاتهم دون خدش غرورهم، كتبت مرة مقالا عن الكونفدرالية بين الأردن وفلسطين لجريدة الغد الأردنية، وكان يرأس تحريرها، وكان هناك تعميم سري بعدم الكتابة عن هذا الموضوع، في ذلك الوقت، فاتصل بي واقنعني بأهمية موضوع آخر يحتاجه، وكذلك فعل في الأسبوع الذي يليه، والذي يليه، حتى نسيت موضوع الكونفدرالية، وحين قابلته بعد سنوات حكى لي السبب فأكبرت فيه مهنيته وأدبه الذي لا يوصف، تعلمت من أبو حجلة كيف تكون صحفيا وخلوقا في ذات الوقت، فالصحافة سلطة خطيرة، ولا يمكن للصحفي أن ينجح، إذا لم يتمتع بالكياسة والأدب والخلق الرفيع، ولو كانوا سيخترعون ربوت محرر صحفي، يحرر تلقائيا، فإن نموذج أبو حجلة هو الأفضل لاختياره من بين المحررين العالميين".