🏠︎ الرئيسة » كتابات » مع القرآن » آيات وعناد
👤 محمد أحمد البكري | 🗓 01-08-2023
يسترعي تأمُّلَك وأنت تقرأ في سورة المؤمنون هذه الأسئلةُ التقريريةُ التي يسوقها الله ﷻ في سياق دعاوى من يُشكِّكون في البعث والحساب بما يلوكونه من كلام مجترٍّ جيلًا بعد جيل ﴿بل قالوا مثل ما قال الأوَّلون...﴾.
وقد بدأ الله ﷻ بالسؤال عن قريب ملموس معهود لمن يُسأل؛ هو الأرض ومَن فيها: ﴿لِمَن الأرضُ ومَن فيها إن كنتم تعلمون؟﴾، باسم الاستفهام (مَن) مسبوقًا بلام الملكية (لِ+من)؛ وهي اللام نفسها التي كان بدهيًّا أن تُستعار ليُبدأ بها الجواب ﴿سيقولون: لله﴾.
ثم جاء السؤال الثاني من ربّ العزَّة منتقلًا من القريب الملموس (الأرض ومن فيها) إلى البعيد المشاهَد (السماوات) مغايرًا في الاستفهام ﴿مَن ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيم؟﴾ بترك حرف الجرّ؛ فالسؤال هنا انتقال واستدراج من المخلوق (الأرض ومن فيها) إلى الخالق حتى يكون الإقرار به إقرارًا منطقيًّا مبنيًّا على أرض أخرى من الإقرار.. وكان المتوقّع أن يكون الجواب (سيقولون: الله)؛ لكن العجيب أن يظلّ الجواب ثابتًا مبدوءًا باللام: ﴿سيقولون: لله﴾ رغم عدم السؤال بها!
وفي هذا يقول السمين الحلبي رحمه الله: "وهو جوابٌ على المعنى؛ لأنَّه لا فَرْقَ بين قولِه «مَنْ ربُّ السماوات» وبين قولِه «لِمَنِ السماوات»، ولا بينَ قولِه «مَنْ بيده» ولا «لِمَنْ له»، إلَّا جارُّه [حرف الجرّ]. وهذا كقولِك: مَنْ ربُّ هذه الدار؟ فيُقال: زيدٌ. وإن شِئْتَ: لزيدٍ؛ لأنَّ السؤالَ لا فرقَ فيه بين أن يُقال: لِمَنْ هذه الدارُ، ومَنْ ربُّها؟"
وهذا جواب لغوي لطيف مبني على المعهود المتداول من لغة العرب والمأنوس من أساليبها، وكان الهدف من تدوينتي أن أورده مكتفيًا به ومستأنسا. ثم توقَّفتُ لحظة وسألتُ نفسي: لكن ما دلالة هذه المغايرة التي نقلها الله ﷻ عن أولئك المشكّكين؟ إذ الأسئلة كلها من الله، والأجوبة كلها منقولة على ألسنة من شكَّكوا في البعث والحساب؛ فلا بدَّ إذن من حكمة في نقل جوابهم على حاله تلك التي تغاير –لفظًا– ما كان يستوجبه السؤال.
فوقع في روعي أنَّ هذا الجواب المنقول حكايةً إنّما هو نقل في المقام الأوّل لكِبْر أولئك –والكبر رأس كل شرّ وباب إلى كل كفر– الذي يبدو جليًّا في استنكافهم عن التلفُّظ صراحةً بخالق هذه المخلوقات وإن نسبوا خلقها إليه؛ فإنَّ نسبة مخلوقاته إليه نسبةٌ يعرفها كل أحد ويستوي في معرفتها الكافر والمؤمن. وهذا بخلاف لو كان جوابهم: (الله) صراحةً؛ فإنَّه جواب مخالف لحالة الكفر التي هم عليها ومنافٍ لها، وهو كذلك جواب مُلزِم بالإيمان الذي يفرُّون منه؛ لهذا حادوا عن جواب مُحرِج مُلجئ إلى الاعتراف واكتفوا بجواب على المعنى بلفظ مغاير لا يُقِرُّ ما رمى إليه السائل وإنَّما يُقِرُّ مُتعارَفًا عليه بين جميع الناس.
وقد جاء السؤال الثالث/الأخير مُلِحًّا عليهم لانتزاع الإقرار الذي هو نتيجة حتمية متأخّرة فخرج بهم عن دائرتَي القريب (الأرض) والبعيد (السماوات) إلى ما هو أوسع وأعمُّ: ﴿مَن بيده ملكوتُ كُلِّ شيءٍ وهو يُجيرُ ولا يُجار عليه إن كنتم تعلمون؟﴾؛ لكن بقي الجواب نفسه مع الأسئلة كلها ثابتًا متكرّرًا متكبّرا: ﴿سيقولون: لله﴾!
وليس أدلّ على هذا الكبر من التكرار المستخدم في الجواب عن ثلاثة أسئلة متباينة في مضمونها وطريقة صوغها؛ فإنَّ من عادة المتكبّر أن يسوقه الغرور إلى النأي بنفسه عن جواب السائل إلى ما يريد منه إقراره، وقد يلجأ في سبيل ذلك إلى حيل أخرى؛ منها: تكرار الجواب، أو الجواب على المعنى.
أضِف إلى الكبر أنَّ هذا الثبات منهم على جواب واحد رغم تعدُّد الأسئلة وتنوُّعها هو صورةٌ وانعكاسٌ لثباتهم على ضلالهم رغم تعدُّد الآيات والنُّذُر؛ مصداقًا لقول الله ﷻ حكايةً على لسان إخوانهم الذين سبقوهم بالضلال: ﴿وَقَالُوا۟ مَهۡمَا تَأۡتِنَا بِهِۦ مِنۡ ءَایَةࣲ لِّتَسۡحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِینَ﴾ [الأعراف: ١٣٢]، وقوله تعالى لهم أنفسهم: ﴿قُلِ ٱنظُرُوا۟ مَاذَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِی ٱلۡـَٔایَـٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمࣲ لَّا یُؤۡمِنُونَ﴾ [يونس: ١٠١]
والله تعالى أعلى وأجلُّ وأعلم