🏠︎ الرئيسة » كتابات » تدوينات » يأمرون بالبرّ.. وينسون أنفسهم!
👤 محمد أحمد البكري | 🗓 14-07-2018
﴿أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَـٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ [البقرة ٤٤]
كثيرٌ من الناس قد يتوقَّف عن دعوة غيره أمرًا بالمعروف أو نهيًا عن المنكر بدعوى أنَّه غيرُ قائم على ذاك المعروف الذي سيدعو إليه أو أنَّه واقعٌ بالفعل في ذلك المنكر الذي سينهى عنه وحُجَّتُه هذه الآية الكريمة أو لنَقُل إنَّ حُجَّتَه هي فهمُه لهذه الآية. والحقُّ أنَّ الآية لا يُفهَم منها أن يتوقَّف العاصي عن دعوة غيره إلى معروف أو كفِّه عن منكر حتى ينتهي هو بنفسه أوَّلًا عن معصيته؛ لكن أن يستمرَّ في دعوته ويجتهد في ترك معصيته فيكون بهذا قد فاز بالبابين معًا بدلًا من أن يُوصِدَهما معًا.
تخيَّل معي تاركًا للصلاة يَعِظُ متهاونًا فيها، أليس في هذا إقرارٌ منه بأنَّه مُقصِّر في حقِّ نفسه؟ أليس فيه ما يدعوه هو إلى أن يستحيي من نفسه في ما بعد فيعود لما يأمر به ويبدأ بنفسه؟ أليس في هذا إيقاظٌ مستمرٌّ لهذه الفريضة في قلبه وأنَّها واجبةٌ وإن لم يأتِ هو بها (وهذا أضعف الإيمان)؟ يقول الشاعر:
وغيرُ تقيٍّ يأمرُ الناسَ بالتُّقى ⁂ طبيبٌ يُداوي الناسَ وهْوَ عليلُ
وأيُّهما أفضلُ في رأيك، هذا أم الذي ترك الصلاة بالكلية عملًا ودعوةً حتى كاد يصل به الأمر إلى إنكارها وجحدها؟
إنَّ عاصيًا مُوحِّدًا مُقِرًّا بمعصيته ولا يزال يُسمِّيها "معصية" خيرٌ من عاصٍ لا يُقِرُّ بمعصيته ويبحث لها عن مخرج أو يُحِلُّها؛ بل هو والله خيرٌ من كثير من عابدين يأتون العبادة لله بجوارحهم ظاهرًا ويأتونها لغير الله بقلوبهم باطنًا.
يقول الإمام القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: ﴿كَانُوا۟ لَا یَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرࣲ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٩]: "وقال حُذَّاقُ أهل العلم: وليس مِن شَرْطِ الناهي أن يكون سليمًا عن معصيةٍ؛ بل ينهى العُصاةُ بعضُهم بعضًا. وقال بعضُ الأصوليين: فُرِضَ على الذين يتعاطَوْنَ الكؤوسَ أن ينهى بعضُهم بعضًا واستدلُّوا بهذه الآية؛ قالوا: لأنَّ قولَه "كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ" يقتضي اشتراكَهم في الفعل وذمَّهم على تَرْكِ التناهي".
وقد نقل الإمام النووي -رحمه الله ورضي عنه- كلامًا جميلًا عن العلماء -أفدتُه من منشور للدكتور أيمن عيسى شكر الله له- يدور في هذا الفلك: "قال العلماء: ولا يُشترَط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلًا ما يأمر به مجتنبًا ما ينهى عنه؛ بل عليه الأمرُ وإن كان مُخِلًّا بما يأمر به، والنهيُ وإن كان مُتلبِّسًا بما ينهى عنه. فإنَّه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه. فإذا أخلَّ بأحدهما، كيف يُباح له الإخلال بالآخر"؟! [شرح النووي على مسلم: ٢/ ٢٣]
وقد علَّق د. أيمن عيسى على هذا النقل بقوله: "ولعل النووي يعتبر بحال الإنسان الذي لا يخلو من الضعف ومن الذنوب، ولعله يحرص على بقاء مبادئ الشريعة وأصولها وأحكامها في الناس فلا تندرس بالتحرج وطلب المثالية، ومن الخير أن يربى الناس على اتباع المبادئ والأحكام لا على اتباع البشر الذين يحملونها إليهم، والله أعلم".