🏠︎ الرئيسة » كتابات » تدوينات » وأحبِب مَن شئتَ فإنَّك مُفارِقُه
👤 محمد أحمد البكري | 🗓 17-08-2023
بمرور الأيَّام ومع اشتداد الانشغال واعتياد البُعد واحتداد طاحونة الحياة، ينفضُّ الناس من حولك مُودِّعين فردًا بعد آخر.. أو ربَّما أنت مَن انفضضتَ عنهم مُودِّعًا.. مَن يدري!
وكلَّما تواصلت بك الخطوات وتتابعت عليك المحطَّات، انفضَّ جمع جديد معلنًا الانضمام إلى قائمة مفتوحة من المنفضّين/ المودّعين تطول.
ما زلتُ أذكر حتى اللحظة مشاعري يومَ أوَّلِ صديق ودَّعني وكنتُ في الصفّ الأوَّل الإعدادي (المتوسّط)..
ما زلتُ أذكر كيف دارت بي الأرضُ فهُرعتُ إلى أمّي أبكي وأبكي ولسانُ حالي: أيترك الناسُ رفقاءهم يا أمّي في الطريق وحدهم بعد أن أخذوا العهود والمواثيق على ألَّا يفترقوا!
ما زلتُ أذكر ذلك الهدوء العجيب الذي قرأتُه في عينها كأنّي اللحظةَ أشهدُه؛ ذلك الهدوء المناقض –يومئذٍ– في نظري لتلك الحال التي دخلتُ بها عليها ولتلك الضمَّة الطويلة التي عشتُها في حضنها..
وبقيتُ سنوات بعد هذا الحضن الطويل أبحث مليًّا عن تفسير لذلك الهدوء الذي لم أفهمه يومها؛ فقد كنتُ طفلًا لمَّا تُلوِّثه التجارب يرى أنَّ العالم كُلَّه يجب أن يهتزَّ من مشرقه إلى مغربه لمفارقة صديقٍ صديقَه!
الآن وبعد مرور سنوات من الوداعات/الخيبات ومسارات من التغرُّب/التقرُّب، لم أعد أبحث عن تفسير لذلك الهدوء.. فقد صرتُ مع مرّ السنين إلى الهدوء الذي أنكرتُه في عينيها.. بِتُّ هادئًا؛ تمامًا كهدوء عينها في ذاك اليوم، وبِتُّ أكثر استعدادًا وتقبُّلًا للوداع: وداعِ الأشخاص، والأماكن، والذكريات.. وداعِ كل أحد، ووداعِ كل شيء.
وبات اليقين مُنعقِدًا على أنَّ الله سبحانه حين يأذن لأحدهم بأن يُخلي مكانه فإنَّما يُفرِغ الطريق بينك وبينه من كل عائق يمكن أن يشغلك عنه، ويُفسِحه أمامك من كل ما يُؤخِّر مسيرك إليه، وينزع عن قلبك كل تعلُّق لم يكن يليق بغير وجهه!
روى الحاكم في المستدرك من حديث سهل بن سعد –رضي الله عنه– قال: جاء جبريل –عليه السلام– إلى رسول الله ﷺ فقال: «يا مُحمَّد! عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميت، وأحبِبْ مَن شئتَ فإنَّك مُفارِقُه، واعمل ما شئتَ فإنَّكَ مَجزِيٌّ به، واعلم أنَّ شرفَ المؤمن قيامُه بالليل، وعزَّه استغناؤه عن الناس».