🏠︎ الرئيسة » كتابات » تدوينات » سدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا
👤 محمد أحمد البكري | 🗓 12-07-2023
للعملِ ميدان يختلف كُلَّ الاختلاف عن ميدان القول؛ فكُلُّ الناس قادرٌ على القول في كُلِّ حال، وليس كُلُّ الناس قادرًا على فعل ما يقول.
وميدان العمل هو ميدان التصديق أو التكذيب، وما منَّا من أحد إلا ويُخالِفُ فعلُه قولَه أو يُجانِبُه؛ لما بين هذا وذاك من مسافة وَعِرة هي المسافة بين التنظير الذي ينشد اقتفاء المثال (وهو مِمَّا يُثابَر عليه) والتجريب الذي يصطدم بإجبارات الواقع ومنازع النفس (وهو ممَّا يُراعَى ولا فِكاكَ منه). وتلك المسافة لا تُقطَع بغير صبر طويل ومراجعة صادقة ومحاسبة للنفس ومُكاشَفة كل حين، ويرحم الله عبدًا صابرًا مُصابِرًا مُرابِطًا يُراوِح كُلَّ حين بين الكفَّتَيْن يُحاوِل أن يُقارِب المسافة بينهما "ومَن يتصبَّرْ يُصبِّرْهُ اللهُ".
وقِس على هذا في كل ميدان؛ فالعالم الذي يُنظِّر لفنٍّ من الفنون لن تجده في ميدان التطبيق العمليِّ مُوافِقًا تنظيرَه حدَّ الكمال، وهذا لا يعيبه ولا يُفهَم من تلك الفجوة ادِّعاء، وقد ذُكِرَ أنَّ بعضًا من علماء اللغة مثلًا كان يلحنُ في مقام الحديث العمليّ مع تمام إحاطته بالقاعدة في مستواها النظريّ.. وما زلتُ أذكر أحد الزملاء في مرحلة الماجستير وكان يُقدِّم عرضًا تقديميًّا حول ورقة بحثية قيِّمة عمل عليه يعرض فيه للفجوة التي وجدها بين ما نظَّر له د. أحمد مختار عمر -رحمه الله- في كتابه "صناعة المعجم العربي الحديث" وبين ما كان من تطبيق عملي في المعجم الذي أشرف عليه قبل وفاته "مُعجَم اللغة العربية المُعاصِرة" مع فريق عمله.. فأثنيتُ على عرضه القيِّم خيرًا، ثم علَّقتُ قائلًا إنَّ النظرية هي بلوغ الغاية من التجويد في التصوُّر حول العمل وإنَّ التطبيق هو محاولة للمُقارَبة مع هذا التصوُّر بما بين أيدينا من مصادر بشرية وماليَّة ووقتية وغيرها.
وقد عذَّب قومٌ أنفسَهم وألزموها ما لا يَلزَمُ بابتغائهم منها ما لا تقدر عليه وما لم تُجبَل على الوصول إليه؛ كأنِّي بهم يتمثَّلون قول المُتنبِّي:
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ⁂ ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفْسِهِ الزَّمَنُ
وكم ممَّن أهلك نفسه بهذا، وكم ممَّن يُهلِك نفسَه بمثله، غير أنَّ المتأمِّل في ديننا القويم واجدٌ فيه مساحةً كبيرة تراعي النفس البشرية وضعفها الذي جُبِلَت عليه؛ فهو لا يُكلِّفها فوق ما تُطيقُ، ولا يتوقَّع منها أن تأتي ما لا تقدر عليه ﴿فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ...﴾، وفي هذا يقول الحبيب ﷺ كما في صحيح البخاري (٣٩): "إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ. فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ".
ويسقط المرء في اختبار التطبيق العملي لما يتوخَّاه وفي تحقيق ما يتصوَّره بقدر انفصاله عنه وعدم المراجعة والمطابقة كل حين بين: ما يرجو ويعتقد، وما يفعل ويُنفِّذ. "فسدِّدوا، وقارِبوا، وأبشِروا".. عينٌ على التصوُّر المنشود، وعينٌ على الواقع المشهود.. على هذا يكون المسير وبه يكون الفلاح، وعلى قدر انفصال الفعل عن التصوُّر يكون الخلل، ولا تستقيم للإنسان طريقُه إلا بالمُقارَبة كُلَّ حين بين هذا وذاك.