🏠︎ الرئيسة » كتابات » تدوينات » «الحدُّ الأدنى» علاج للمهووسين بالكمال
👤 محمد أحمد البكري | 🗓 15-07-2024
يكاد يكون من الصعوبة والمشقَّة بمكان أن يُنجِز الفرد الواحد جميع أعماله على الدرجة نفسها من الإتقان والجودة في كل زمان وفي كل مكان؛ فللنفس أحوالٌ وأطوارٌ تتباين نشاطًا وفتورًا وإقبالًا وإعراضًا لا يستقيم معها أن تُلزِمها في كل مرة بما لا تُطيقُه نفسٌ وما لم يُكلِّفها به مَن هو بها أعلمُ.
لهذا، قد يكون مفيدًا لبعض الأنماط من الناس -خاصَّةً للنمط المهووس بالكمال حدَّ المرض، والكلام لهم وحدهم- أن يضعوا لأنفسهم «حدًّا أدنى» مُرْضِيًا من الإتقان والجودة وليس «حدًّا أعلى» مَرَضِيًّا من الإحكام والكمال -وهذا من باب ﴿فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾- ويكون التفاوتُ بين الأعمال على هذا بقدر العمل في ذاته مع الزيادة على هذا الحدّ الأدنى، وقبلهما توفيق الله تعالى؛ وكم من عمل وفَّق اللهُ تعالى صاحبَه فأتى به على خير ما يكون عملٌ في وقت وجيز دون زيادة أو تجويد.
أمَّا «الحدُّ الأعلى»؛ فهو -إن سلَّمنا به حدًّا أعلى- حدٌّ غير قابل للوقوف عنده إذا كنتَ من أولئك المهووسين بمرض الكمال -وأُكرِّر الكلام لهم لا لغيرهم- بل سيستغرق منك تجويدُ ما بين يديك في كل مرة أضعافَ أضعافِ ما أنجزتَه فيه من وقت، وكلما عدتَ للعمل رأيتَه بعينٍ غير تلك التي تركتْه فتُنقِّح هنا وتزيد هاهنا وتنقص هناك، وهكذا دواليك..
وهذا قدَرٌ محتومٌ قد كُتِب على كل عمل بشريّ: أن يكتسب من بشريّة صاحبه فلا يبلغ كمالًا مهما كدَّ فيه صاحبُه واجتهد، وأكثرُنا يكاد يحفظ عن ظهر قلبٍ القول المشهور المنسوب إلى العماد الأصفهاني وهو للقاضي الفاضل كان كتبه في رسالة إلى العماد الأصفهاني: «إنِّي رأيتُ أنَّه لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يومه إلَّا قال في غده: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يُستحسَن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر».
مَن عرف هذا رفق بنفسه ورحمها، وأجاد في عمله دون إخلال، ووزَّع وقته على أكثر من عمل دون أن يُزهِقه في عمل واحد، والمُوفَّقُ أخيرًا مَن وفَّقه الله تعالى..
(إذا لم يكن عونٌ مِن الله للفتى ⁂ فأوَّلُ ما يَجني عليه اجتهادُهُ)