🏠︎ الرئيسة » كتابات » مقالات » اللغة العربية في وسائل الإعلام
👤 محمد أحمد البكري | 🗓 02-10-2018
تعيش اللغة العربية في إعلامنا العربي المعاصر واقعًا عشوائيًّا مُتخبِّطًا بكل أسف، سواءٌ على مستوى الإعلام المرئي أو المسموع أو المقروء. والمتابع لإعلامنا -مختصًّا في اللغة كان أو غير مختصّ- يمكنه أن يقف على هذا الخلل بكل يسر. ولا يشذُّ عن هذا غير منابر إعلامية معدودة حرصت منذ البداية على التأسيس لإعلام لغته سليمة منضبطة.
يعتقد كثيرون أن مسألة الاهتمام باللغة في وسائل الإعلام مسألة شكلية لا تُؤثِّر في جوهر المهمَّة الإعلامية (الفكرة أو المعلومة)؛ وهو اعتقاد خاطئ؛ إذ اللغة أحد جناحَي الإعلام، وهو جناح قد يفوق الجناح الآخر أهمية.
أمَّا جذور المشكلة؛ فترجع إلى الواقع الأكاديمي الإعلامي في المقام الأوَّل. فإذا نظرنا إلى تخصُّص الإعلام في جامعاتنا، وجدنا أنَّ اللغة مُقرَّر فرعيٌّ هامشيٌّ، لا يكاد الدارس ينتهي من دراسته حتى يتخذه وراءه ظِهريًّا. وهو ما نراه جليًّا في كثير من العاملين في مجال الإعلام العربي، حتى صارت أذن السامع الحريص تطرب لسماع جملة مستقيمة رفع قارئُها فاعلَها ونصب مفعولها!
من المشكلات كذلك في التأسيس الأكاديمي للغة الإعلام اقتصاره على مسائل تأسيسية محدودة في اللغة دون دراسة اللغة في تشابُكها مع مجال الإعلام؛ فإنَّ اللغة بوصفها أداةً للتواصل في مجال ما تختلف عنها أداةً للتواصل في مجال آخر؛ فللمقام الأكاديمي -مثلًا- لغةٌ لا يمكن استخدامها في المقام الأدبي، وللمقام الإعلامي لغة لا تتماشى مع المقام الأدبي، وهكذا. وهو ما لا يمكن أن نراه في وسائل الإعلام الغربية، التي يدرك العاملون فيها جيدًا أنَّ اللغة شرط أصيل بالتوازي مع المجال، سواء أكان في إتقان مبادئها أم في دراستها متشابكة مع تخصُّص الإعلام.
وفي هذا الباب أنصح العاملين في المجال الإعلامي بكل فروعه بالاطلاع على كتاب "أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكُتَّاب والإذاعيين" للدكتور أحمد مختار عمر رحمه الله؛ وهو كتاب حاول فيه صاحبه حصر كثير من الأخطاء اللغوية التي شاعت بين المشتغلين بمجال الإعلام، على مدى أربعين عامًا هي فترة الجمع والحصر لمادَّة هذا الكتاب.
وإن كانت مسألة التهاوُن في ضبط اللغة الإعلامية مسألة خطيرة؛ لما يترتَّب عليها من إشاعة اللحن والخطأ لدى المتلقّي والانتقال به من عارض إلى ثابت، فإنَّ أخطر منها تجاوُز اللغة الفصحى في المنابر الإعلامية إلى اللغة العامِّيَّة. وهذا التجاوز الذي بدأ يتفشَّى مُؤخَّرًا إمَّا إعراضًا عن إتقان الفصحى، وإمَّا لغرضٍ مشبوهٍ في نفوس فئة ليست بالقليلة لا تزال تسعى منذ القديم لإحلال العامِّيَّة محلَّ الفصحى في منابر الفصحى. وهذه الفئة الأخيرة على المجتمع وأصحاب الأقلام النظيفة أن يقفوا لها؛ حراسةً لحرم اللغة وذودًا عنها، ولا شكَّ أنَّ تأثير الدول والقوانين في ذلك يفوق تأثير الجماهير وأصحاب الأقلام، وإن كان أحدهما لا يسير تمام السير بغير الآخر.
وإن قال قائلٌ إنَّ اللغة العامِّيَّة هي الأقرب إلى المُشاهِد والمُستمِع والقارئ؛ كونَها اللغة اليومية الأولى التي يتحدَّث بها انفعالًا مع أي موقف في يومه، قيل له -وبكل بساطة- إنَّ لكل مقام مقالًا؛ فكما لا يليق التحدُّث مع الناس بالفصحى في مقام العامِّيَّة، لا يليق كذلك أن تتحدَّث إليهم بالعامِّيَّة في مقام الفصحى. ومن المعلوم في أيِّ أمَّة تحترم لغتها أنَّ الإعلام من المنابر "الرسمية" التي تُعبِّر عن هذه الأمَّة بلغتها "الرسمية". وإنَّ أمًَّة لا تُعلي لغتها الرسمية في وسائل إعلامها أُمَّةٌ لا تعلو.