بسم الله الرحمن الرحيم
مقـدّمـة
الـحَمْـدُ لله الَّـذِيْ قَدْ أَخْـرَجَا
نَتَـائِجَ الْفِـكْرِ لِأَرْبَـابِ الْحِـجَـا
وَحَطَّ عَنْـهُمْ مِنْ سَمَـاءِ الْعَـقْلِ
كُلَّ حِـجَابٍ مِنْ سَحَـابِ الـجَهْلِ
حَتَّى بَدَتْ لَهُمْ شُمُوْسُ المَعْرِفَهْ
رَأَوْا مُـخَـدَّرَاتِــهَـا مُـنْـكَـشِــفَـهْ
أقول: «الحمد» لغة: الثناء بالكلام على المحمود بجميل صفاته.
وعرفاً: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه على الحامد أو غيره.
والشكر لغة: هو الحمد اصطلاحاً، مع إبدال الحامد بالشاكر.
وعرفاً: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله.
وتحقيق الكلام في البسملة والحمدلة والشكر والمدح لغة وعرفاً والنسبة بين الثلاثة في رسالتنا (كشف اللثام عن مخدّرات الأفهام).
و«الله» عَلَم على الذات الواجب الوجود.
و«أخرج» بمعنى أظهر.
و«النتائج» جمع نتيجة، وهي المقدمة اللازمة للمقدمتين كـ(العالم حادث) اللازم لقولنا: العالم متغير وكلّ متغيّر حادث.
و«الفكر»: حركة النفس في المعقولات.
وحركتها في المحسوسات تخييل.
و«الأرباب» جمع ربّ، والمراد هنا الصاحب.
و«الحجا» العقل، وهو مقصور.
ومعنى البيت:
الحمد لله الذي أظهر لأرباب العقول نتائج أفكارهم، وفي ذكر النتائج براعة استهلال.
وفي البيت سؤالان:
الأول: لم حمد بالجملة الاسمية ولم يحمد بالفعليّة؟
الثاني: لم قدّم «الحمد» على «لله» مع أن تقديم الاسم الكريم أهمّ؟
والجواب عن الأوّل: أنه حمد المولى لذاته، وذاته سبحانه ثابتة مستمرة، فناسب الحمد بالجملة الدالة على الثبات والدوام، وهي الجملة الاسمية.
وعن الثاني: بأن المقام مقام الحمد، وإن كان ذكر الله أهم في نفسه، فقدّمت الأهميّة العارضة على الأهميّة الذاتيّة مراعاة للبلاغة التي هي مطابقة المقال لمقتضى الحال.
قوله: «وحط» بمعنى أزال.
و«مِنْ» في قوله: «من سماء العقل» بمعنى (عن)، وهي ومجرورها بدل مما قبله أي: أزال عن عقلهم الذي هو كالسماء بجامع كون كلّ منهما محلاً لطلوع الكواكب، فكواكب العقل معنوية، وهي المعاني والأسرار، وكواكب السماء حسيّة، والأصل: من عقلٍ كالسماء، فحذفت أداة التشبيه وأضيف المشبه به إلى المشبه بعد تقديمه عليه.
وهذا العمل جارٍ في قوله: «من سحاب الجهل»؛ إذ أصله: من جهل كالسحاب، ففعل به ما تقدّم، والجامع بين الجهل الذي هو عدم العلم بالشيء والسحاب كون كلّ منهما حائلاً.
ومعنى البيت:
وحط عن عقولهم التي هي كالسماء كلّ حجاب أي: حائل من الجهل الذي هو كالسحاب.
وفي البيت سؤالان:
الأول: عطفُ «حط» على «أخرج» من أيّ قبيل؟
الثاني: أن «الجهل» أمر عدميّ و«السحاب» أمر وجوديّ، ولا يصحّ تشبيه العدميّ بالوجوديّ؟
والجواب عن الأوّل: أنه من قبيل عطف السبب على المسبَّب؛ لأن إزالة الحجاب سبب في إظهار النتائج.
وعن الثاني: بأن الجهل كما يقال فيه: عدم العلم بالشيء يقال فيه: إدراك الشي على خلاف ما هو به، فلم يكن عدمياً، فصحّ التشبيه.
قوله: «حتى بدت» أي: ظهرت غاية للحط.
قوله: «شموس المعرفة» أي: معرفة كالشموس، ففعل به ما تقدّم.
و«المخدرات» المستترات؛ لأن الخِدر معناه الستر.
و«منكشفة» ظاهرة.
والمقصود من البيت:
انتهاء زوال الحجاب عن عقولهم لظهور شمس المعارف التي كانت مستترة لدقتها.
وفي البيت سؤالان:
الأوّل: أن البيت الأول يغني عنه
الثاني: كان الأولى بعد أن وقع منه ذكره أن يذكر الأوّل بجنبه؟ أو يذكره بجنب الأول لكون كلّ منهما مسبباً عن إزالة الحجب؟
والجواب عن الأوّل: أن النتائج في البيت الأوّل أعمّ من أن تكون بعيدة مستورة بسبب دقتها أَوْ لا، وما في البيت الثاني خاص بالمستورة البعيدة فلم يغن البيت الأوّل عنه.
وعن الثاني: بأنه قدّم البيت الأوّل حرصاً على براعة الاستهلال، فلم يتأت جعله بجنب البيت الثالث، واضطر إلى تأخير الثالث لكونه غاية لما قبله، فلم يتأت جعله بجنب الأوّل.
نَـحْمَـدُهُ جَـلَّ عَـلَى الـإِنْـعَـامِ
بِـنِـعْـمَـةِ الـإِيْـمَـانِ وَالـإِسْـلـَامِ
مَنْ خَصَّنَا بِخَيْرِ مَنْ قَدْ أَرْسَـلَا
وَخَيْـرِ مَنْ حَازَ المَقَـامَاتِ العُلَا
مُـحَـمَّـدٍ سَيِّـدِ كُـلِّ مُـقْـتَـفَـى
الـعَـرَبِـيّ الـهَـاشِـمِـيّ المُـصْطَـفَى
صَـلَّى عَـلَيْـهِ الله مَـا دَامَ الحِجَـا
يَـخُوْضُ مِنْ بَـحْرِ المَعَانِيْ لُـجَـجَا
وَآلِـهِ وَصَـحْـبِـهِ ذَوِي الـهُـدَى
مَنْ شُبِّـهُوْا بِأَنْـجُـمٍ فِـي الاهْتِـدَا
أقول: حمد المولى سبحانه وتعالى حمداً مطلقاً أولاً وحمده حمداً مقيّداً ثانياً ليحصل له الثوابان: المندوبُ على الحمد الأول، والواجب على الحمد الثاني، وليكون شاكراً ربه على إلهامه للحمد الأوّل؛ لأنه إلهامه إياه نعمة تحتاج إلى الشكر عليها.
وقوله: «جلّ» بمعنى عظم.
و«الإنعام» هو إعطاء النعمة.
و«الإيمان» تصديق القلب بما جاء به النبيّ ﷺ من الأحكام.
و«الإسلام» هو الأفعال الظاهرة كالصلاة والصوم؛ لكنهما متلازمان شرعاً.
ومعنى البيت:
نثني عليه سبحانه وتعالى لأجل إنعامه علينا بهاتين النعمتين اللتين بهما إنقاذ المهجة من النار.
وفي البيت سؤالان:
الأوّل: لم حمد أولاً بالجملة الاسميّة وهنا بالجملة الفعليّة؟
الثاني: لم حمد على الإنعام الذي هو الوصف ولم يحمد على النعمة؟
والجواب عن الأوّل: أن الحمد ههنا متعلَّقُه النّعم وهي متجدّدة، فناسب أن يحمده بما يدلّ على التجدد وهي الجملة الفعليّة.
وعن الثاني: بأن الحمد على النعمة يوهم اختصاص الحمد بها دون غيرها بخلاف الحمد على الوصف.
وقوله: «مَن خصّنا» «من» اسم موصول بدل من الضمير المعمول لـ«نحمده».
و«خصّنا» أي: معاشر المسلمين.
و«مَنْ» بمعنى رسول.
و«حاز» بمعنى جمع.
و«المقامات» المراتب.
و«العلى» الرفيعة.
و«محمد» ﷺ بدل من «خير».
و«السيّد» متولي أمر السواد أي: الجيوش الكثيرة، وهو ﷺ متولي أمر العالم بأسره.
و«المقتفى» المتَّبَعُ بفتح الفاء، وإذا كان سيدَ المتبوعين فهو سيدُ التابعين من باب أولى.
و«العربيّ» نسبة للعرب.
و«الهاشميّ» نسبة لبني هاشم.
و«المصطفى» المختار.
و«الصلاة» في اللغة: العطف، فإن أضيف إلى الله سمّي رحمة أو إلى الملائكة سمّي استغفاراً أو إلى غيرهما سمّي دعاء.
و«الحجا» تقدّم أنه العقل.
و«اللجج» جمع لجّة، وهي ما فيه صعوبة من الماء الغزير، والمراد بها المعاني الصعبة.
و«آل» النبيّ في مقام الدعاء: كلّ مؤمن تقيّ.
و«صحبه» اسم جمع بمعنى صاحب، وهو من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمناً به.
و«ذوي» جمع ذو بمعنى صاحب أي: أصحاب الهدى.
وقوله: «من شبهوا... إلخ» أي: في قوله ﷺ: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فحذف الفاعل هنا للتعظيم.
وفي هذه الأبيات الأربعةِ أربعةُ أسئلة:
الأوّل: ما مدلول الضمير في «خصنا»؟
الثاني: أن قوله: «بخير من أرسلا» يفيد معنى قوله: «سيد كل مقتفى» فما وجه عدم الاقتصار عليه؟
الثالث: أنه قيّد «الصلاة» بدوام خوض العقل لججاً من بحر المعاني مع أن الأولى التعميم؟
الرابع: لم قدّم «الآل» على «الصّحب» مع أن فيهم من هو أشرف الأنام بعد المصطفى ﷺ وهو أبو بكر؟
فالجواب عن الأوّل: أن مدلول الضمير يصحّ أن يكون أمّة الإجابة كما قدّرتُه، ويصحّ أن يكون أمّة الدّعوة فيدخل الكفار بدليل: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾؛ إذ ما من عذاب إلا وعند الله أشدّ منه، فعدم تعذيب الكفار بالأشد إكرامٌ له ﷺ.
وعن الثاني: بأن الوصف بالسيادة إشعار بعموم رسالته ﷺ، وأن الأنبياء والمرسلين من أمته ﷺ، فهو متولّي أمور الجميع.
وعن الثالث: بأن القيد في الصلاة ليس مراداً بل المراد التعميم في جميع الأوقات.
وعن الرابع: بأن «الصلاة» ثبتت على «الآل» نصّاً في قوله ﷺ: (قولوا اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد..الحديث)، وعلى «الصحب» بالقياس على «الآل» فاقتضى ذلك التقديمَ.
أقول: لفظة «بعد» تكون ظرف زمان كما في قولك: جاء زيد بعد عمرو، وظرف مكان كما تقول: دار زيد بعد دار عمرو،▶️ويصح استعمالهما في المعنيين باعتبار أن زمن النطق بما بعدها بعد زمن النطق بما قبلها، أو اعتبار أن مكانه في الرّقْمِ بعده،▶️وهي هنا دالّة على الانتقال من كلام إلى آخر، فلا يؤتى بها في أوّل الكلام.▶️
و«المنطق» مصدر ميمي يطلق بالاشتراك على النطق بمعنى اللفظ وعلى الإدراك، والمراد به هنا: الفنّ المؤلّف فيه هذا الكتاب، سمّي بهذا الاسم؛ لأنه يقوي الإدراك، ويعصمه عن الخطأ.▶️
فهو: قانون تعصم مراعاته الذهن عن الخطأ في الفكر، كما أن من راعى قواعد النحو لا يتطرّق إليه الخطأ في المقال، وإلى هذا المعنى أشار بقوله: «فالمنطق للجنان * نسبته كالنحو للسان * فيعصم الأفكار» أي: يحفظها «عن غيّ الخطأ».▶️
و«الجَنان» يطلق على القلب، والمراد به هنا القوى الفكريّة، وإضافة «غيّ» إلى «الخطأ» من إضافة العام إلى الخاصّ؛ إذ «الغيّ» الضلال، و«الخطأ» نوع منه.▶️
قوله: «وعن دقيق الفهم» من إضافة الصّفة إلى الموصوف، فالمصدر بمعنى اسم مفعول أي: المفهوم الدقيق.
و«الغطا» بكسر الغين، والمعنى: أنّ من تمكّن من هذا الفنّ صار النظريّ من المعاني المستورة ضرورياً مكشوفاً واضحاً له، وهذا أمر مشاهد لا يحتاج لبيان.▶️
و«هاك» اسم فعل بمعنى خذ.▶️
و«قواعداً» معموله.
و«من أصوله» حال من قواعد، و«من» تبعيضية أي: خذ قواعد هي بعض أصوله أي: قواعده؛ إذ القاعدة والأصل بمعنى واحد، وهو: أمر كليّ ينطبق على جميع جزئياته كقول النحاة: الفاعل مرفوع، وقول المناطقة: الموجبة الكليّة عكسها موجبة جزئية.▶️
و«الفنون» الفروع.
و«الفوائد» جمع فائدة، وهي في الأصل: ما استفيد من علم أو مال، والمعنى: أن هذه القواعد تجمع فروعاً والفروع تشتمل على فوائد.
سَـمَّـيْـتُـهُ بِالـسُّـلَّـمِ الـمُـنَـوْرَقِ
يُـرْقَـى بِـهِ سَـمَاءُ عِـلْـمِ المَـنْـطِـقِ
وَاللهَ أَرْجُوْ أَنْ يَكُوْنَ خَالِصَـا
لِوَجْهِـهِ الكَـرِيْـمِ لَيْـسَ قَالِصَـا
وَأَنْ يَكُـوْنَ نَـافِـعًـا لِلْمُـبْـتَـدِي
بِـهِ إِلَـى الـمُـطَـوَّلَاتِ يَـهْـتَــدِي
أقول: الضمير المتصل بـ«سميته» يعود على المؤلَّفِ المفهوم من السياق، و(سَمَّى) يتعدى لمفعولين للأول بنفسه وللثاني بنفسه أو بالباء كما هنا.
و«السلّم» ما له درج يتوصل به من سُفل إلى علوّ واستعماله في المعاني مجاز.
و«المنورق» بتقديم النون: المزيّن.
«يرقى» يصعد.
و«علم المنطق» المراد به: المسائل.
وشبّه تلك المسائل بالسماء بجامع البعد، والمعنى: أن هذه المسائل التي نظمتها وسمّيتها بالسلّم سهلة يتوصل بها إلى المسائل البعيدة الصعبة.
ثمّ طلب من المولى سبحانه أن يكون تأليف هذا الكتاب خالصاً من الرياء فقال:
«والله أرجو» أي: أؤمّل.
و«الوجه» الذات.
و«القالص» الناقص.
ثمّ طلب منه سبحانه أن ينفع به المبتدي وأن يتوصّل به إلى الكتب المطوّلات فقال: «وأن يكون» إلخ».
و«المبتدي» من ليس له قدرة على تصوير مسائل الفنّ الذي يقرأ فيه، فإن قدر على ذلك فمتوسّط، وإن قدر على إقامة دليلها فُمنْتَهٍ.
وقد أجاب المولى سبحانه المؤلِّفَ بعين ما طلب، فكلّ من قرأ كتابه بنيّة واعتناء يفتح الله عليه في هذا العلم، وقد شاهدنا ذلك، وقد أخبرنا شيخنا عن أشياخه أن المؤلف كان من أكابر الصوفيّة، وكان مجاب الدّعوة رحمه الله تعالى، ونفعنا ببركته، وأعاد علينا من صالح دعواته.