الحمدُ لله الذي خَصَّ الإنسانَ بمعرفةِ أوضاعِ الكلامِ ومَبَانِيهِ وجَعَلَ الحروفَ أصولَ كَلِمَتِهِ وظُرُوفَ مَعانِيهِ، والصلاةُ والسلامُ على المُشْتَقِّ من مصدرِ الفضلِ والحِكَمِ الجامعِ لمحاسنِ الأفعالِ ومكارمِ الشِّيَمِ المَوْصُولِ بألفاظِهِ أنواعُ السعادةِ والهُدَى المُضْمَرِ في إِشارَاتِهِ أصنافُ الحِكَمِ والتُّقَى محمد المذكورِ اسمُهُ في التوراة والإنجيل، وعلى آلِـهِ مَظْهَرِ مُظهروا الحقِّ ومَبْطَلِ مُبطلوا الأبـاطلِ ما ظَهَرَ النجمُ في الظُّلَمِ وما اشْتَهَرَ النجمُ في العَلَمِ.
(أَمَّا بَعْدُ) فلَمَّا شاعَ في الأَمْصَارِ وظَهَرَ ظُهُورَ الشمسِ في النهارِ الرسالةُ العَضُدِيَّةُ التي أَفادَها المَوْلَى الإمامُ المُحَقِّقُ والفاضلُ المُدَقِّقُ خاتِمُ المجتهدين عَضُدُ الحقِّ والدينِ أَعْلَى اللهُ درجتَهُ في أعلى عِلِّيِّينَ، وكانت مشتَمِلَةً على مسائلَ دقيقةٍ وتحقيقاتٍ عميقةٍ مع غايةِ الإيجازِ ونهايةِ الاختصارِ ولم يَكُنْ لها بُدٌّ من شَرْحٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ويَبْلُغُ في تَبْيِينِ المَرَامِ وتحقيق المقاصدِ أَقْصَاهَا أَرَدتُّ الخوضَ في تتميمِ هذا المَرَامِ على وجهٍ يَكْشِفُ عن وجوهِ خَرَائِدِهَا اللِّثَـامَ مع جُمُودِ القريحةِ وكَلالِ الطبيعةِ تُحْفَةً للحَضْرَةِ العلـية الأميرِ الأعظمِ والقَهْرَمَانِ الأكرمِ ظِلِّ الله على الأنامِ فاتحِ أبوابِ الإنعامِ والإكرامِ الذي اشتاقتْ تِيجَـانُ السَّلْطَنَةِ إلى هَـامَتِهِ وبَاهَتْ حُلَلُ الأمارةِ على قامتِهِ الفائزِ بالحِكْمَتَيْنِ العَمَلِيَّةِ والعِلْمِيَّةِ الحائزِ للرياستين الدينية والدنيوية أشرفِ السلاطين في الأصلِ والنَّسَبِ وأحقِّهم في الفضل والأدب فَيَّاضِ سِجَالِ النَّوَالِ على الخلائقِ وَهَّابٍ بجلائل النعم والدقائق
ما نَوَالُ الغَمَامِ وقت ربيع * كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين * ونوال الغمام قطرة ماء
المُؤَيَّدِ بتأْييدِ المَلِكِ العليم مُغِيثِ الدولةِ والدينِ الأميرِ الأمين عبدِ الكَرِيمِ لا زَالَتْ تزال رقابُ الأُمَمِ خاضعةً لأوامره وأعناقُ الخلائق مُمْتَدَّةً نحوَ مَرَاسِمِهِ
وهذا دُعَاءٌ قد تَلَقَّاهُ ربُنا بحُسْنِ القَبُولْ *
قَبْلَ أن أرفعَ الصوتَ وأقولْ
فإن وقع في حَيِّزِ القبولِ والرضا *
فهو غايةُ المقصودِ ونهايةُ المُبْتَغَى
واللهُ المُيَسِّرُ للآمال *
وعليه التَّوَكُّلُ في جميع الأحوال.
قوله: ((الذي خص)) أي: لأجل تخصيصه لأن الموصول وصلته بمعنى المشتق وتعلق الحكم بمعنى المحكوم عليه بمشتق يؤذن بعلمية مأمنه الاشتقاق فيكون في كلامه إشارة إلى أنه تعالى يستحق الحمد لأفعاله كما يستحقه لذاته.
فإن قلت: أن الحكم لم يتعلق بالمشتق بل بموصوفه.
قلنا: الصفة والموصوف كالشيء الواحد وإذا علمت أن هذا الحمد واقع في مقابلة التخصيص ظهر لك أنه حمد مقيد لا مطلق، وحينئذ فيثاب عليه ثواب الواجب والفرق بين المطلق والمقيد ان الأول حمد على مجرد الذات والثاني حمد على النعمة وليس المراد بالمطلق ما ليس واقعا في مقابلة شيء لأن من أركان الحمد المحمود عليه ولا وجود للماهية عند فقد بعض الأركان. والمقيد أفضل من المطلق لأنه بمنزلة أداء الدين الذي هو أفضل من الصدقة.
وآثر التعبير بالموصول وصلته دون المشتق لأن المشتق لم يرد إذن شرعي بإطلاقه فتوصل إلى اتصاف الباري بمبدئه بذلك وهكذا شأن كل مشتق ملائم لم يرد إطلاقه.
قوله: ((خص الإنسان... إلخ)) معنى اختصاصه بما ذكر انفراده به من بين العقلاء والمراد بالإنسان آدم بجعل أل للعهد الخارجي عند البيانيين أو الذهني عند النحاة. وعلى هذا ففي كلامه من المحسنات البديعية التلميح لقوله تعالى: ▬وعلم آدم الأسماء كلها♂. أو المراد به إفراد الحيوان الناطق بجعل أل للاستغراق وهو الظاهر إذ لا قرينة على العهد وعلى كل يلزم عدم معرفة الملائكة والجن لأوضاع الكلام والكلمات.
قال العمادي: ونلتزم ذلك والعهدة عليه وهذا اللزوم كله مبني على أن التخصيص بالنسبة لغيره من العقلاء. أما إن أريد التخصيص بالنسبة لغير الإنسان من الحيوانات العجم فلا يلزم ذلك.
قال شيخنا الحفني: الذي يظهر أن المراد بالإنسان آدم وإن المراد بتخصيصه بمعرفة ذلك ثبوت تلك المعرفة له أولا فلا ينافي ثبوتها لغيره من الملائكة والجن ثاني فإن الملائكة علموا ذلك وعرفوه بانبناء آدم لهم بأمر الله له به وحينئذ فلا يصح ما التزمه العمادي إن كان مراده عدم معرفتهم مطلقا، أما إن أريد عدم معرفتهم أولا صح ما التزمه اهـ.
كلامه وعلى هذه يجب أن يراد بتخصيصه بمعرفة أوضاع الكلام معرفته لجميع الكلام الموضوع أي: جميع اللغات إذ الظاهر أن الملائكة كانوا يعرفون بعض اللغات قبل آدم إذ كانوا يحسبون المولى بأنواع التسبيح. وقال تعالى حكاية عنهم: ▬أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء♂، تأمل.
قال شيخنا الحفني: وهذا كله إذا كان المراد بقوله (خص الإنسان) بمعرفة أوضاع الكلام أي: خصه بمعرفة مدلول الكلام الموضوع على أنه من إضافة الصفة للموصوف وفي الكلام حذف مضاف.
أما إن جعلنا الإضافة حقيقة أي: خصه بمعرفة وضعه الكلام لمعانيه أي: أنه ألهمه كيف يضع الألفاظ لمعانيه بناء على المرجوح من أن الواضع غير الله فلا مانع مما التزمه العمادي إذ لم يثبت وضع من الجن ولا من الملائكة.
قوله: ((بمعرفة)) أي: علم بناء على التحقيق من ترادف العلم والمعرفة وإن كانا قد يختلفان عملا بتعدى المعرفة لمفعول واحد والعلم لاثنين، وقيل العلم مختص بإدراك المركبات كإدراك قيام زيد من نحو (قام زيد) وقيل تختص المعرفة بالإدراك المسبوق بالجهل والعلم بخلافها ولذا يقال على الله عالم دون عارف وعلى التحقيق يكون عدم القول المذكور؛ لعدم السماع؛ لأن صفاته تعالى كأسمائه توفيقية.
والباء داخلة على المقصور وهو أو جائز كدخولها على المقصور عليه باتفاق العلامتين السعد والسيد والخلاف بينهما إنما هو في الغالب في الاستعمال فذهب السعد إلى أن الغالب فيه دخولها على المقصور وذهب السيد إلى أن الغالب فيه دخولها على المقصور عليه. وأما قول بعضهم:
والباء بعد الاختصاص يكثر
*
دخولها على الذي قد قصروا
وعكسـه مـسـتعمل وجـيد
*
قـد قاله الحبر الهـمام السـيد
فليس بجيد لأن هذا مذهب السعد لا السيد.
قوله: ((أوضاع الكلام)) يصح أن تكون الإضافة حقيقة على معنى اللام والمراد بالمعرفة التصديقيةُ أي: خصه بالجزم بوضع الله كل فرد من الكلام لمدلول الذي وضعه له لا التصوريةُ؛ إذ ليس المراد أنه خصه بحصول صورة الوضع في ذهنه، ويصح أن يكون من إضافة الصفة للموصوف وهو وإن كان فيه تكلف من جهة جعل الجمع بمعنى المفرد وجعله بمعنى المفعول إلا أنه هو الذي يؤيده قوله تعالى: ▬وعلم آدم الأسماء كلها♂.
وعلى كل حال فعبارة الشارح لا تقتضي الجري على القول الضعيف وهو أن الواضع غير الله، لأن تخصيص الإنسان بمعرفة الوضع لا يستلزم كونه واضعا، إنما يلزم هذا لو قلنا إن المراد بمعرفة الوضع إلهامُه أن يضع هذا اللفظ لهذا المعنى، وهذا وإن كان كلامُ الشارح يحتمِلُهُ إلا أنه غيرُ متعين.
والمراد بالكلام إِمَّا حقيقتُهُ أي: اللفظ المركب أو الكلمات مجازًا من إطلاق الكل وإرادة أجزائه،
وعلى الأول فعطف «مبانيه» إِمَّا على «الكلام» وحينئذ فيكون مفيدًا للوَضْعَيْنِ الشخصيِّ والنوعيِّ،
والوضعُ الشخصيُّ ما تعلَّقَ بلفظٍ بخصوصه
والنوعيُّ ما تَعَلَّقَ بكُلٍّ كـ«كُلُّ فِعْلٍ وفاعلٍ موضوعٌ لثبوت الحَدَثِ للفاعل»
وإِمَّا على «أوضاع» وحينئذ فيكون مفيدا للثاني فقط بِناءًا على أن المركب موضوع وضعا نوعيا، وهو الراجح، وقيل غيرُ موضوع اكتفاءًا بوضع المفردات
وعلى الثاني يتعين عطفُه على «أوضاع»، وعليه فلا يستفاد منه إلا الوضعُ الشخصي، ولا يصح عطفُه على «الكلام» لأن الضمير راجع له فيلزم إضافة الشيء إلى نفسه، وأيضا يكون تَكْرَارًا مع ما قبله.
قوله: ((ومبانيه)) جمع مَبْنَى، والمراد به الكلمات التي بُنِيَ الكلامُ عليها.
قوله: ((أصول كلمته)) أي: الكلام بمعنى اللفظ المركب فإضافة الكلمة إليه من إضافة الجزء للكل وعلى احتمال تفسير الكلام بالكلمات يكون في الكلام استخدام كما لا يخفى.
قوله: ((وظروف معانيه)) أي: وجعل الحروف ظروف معاني الكلام أي: بعد جعلها إجزاء الكلمات وجعل الكلمات أجزاء للكلام وظاهره أن الكلام له معان مع أن له معنى واحد وقد يقال أن أل في الكلام للاستغراق فجمع المعاني نظرا لأفراد الكلام، والمعنى والمفهوم المدلول شيء واحد بالذات مختلفة بالاعتبار فما وضع له اللفظ يقال له معنى باعتبار أنه يعني من اللفظ وباعتبار دلالة اللفظ عليه يقال له مدلول وباعتبار فهمه من اللفظ وإدراكه منه يقال له مفهوم، وبين المعاني والمباني والجناس اللاحق وهو اختلاف اللفظين المتجانسين في حرفين متباعدي المخرج ولا يخفى ما في ذكر الأوضاع وما بعده من براعة الاستهلال وهي أن يكون مطلع التأليف سواء كان نثرا أو نظما دالا على ما بني عليه بتلويح تعذب حلاوته على الذوق السليم ووجه التسمية أن الاستهلال معناه الابتداء يقال فعل كذا في مستهل الشهر أي: ابتدائه والبراعة من برع الرجل إذا فاق أقرانه فمعنى براعة الاستهلال فوقان الابتداء أي: أن الكلام المبدوء بالبراعة المذكورة فاق ابتداؤه ابتداء ما لم يبتدأ بها.
قوله: ((المشتق من مصدر الفضل والحكم)) المشتق مأخوذ من الاشتقاق أما بالمعنى اللغوي وهو الأخذ وعلى هذا فالمراد بالمصدر محل الصدور فهو مصدر ميمي أي: والصلاة على المأخوذ أي: المخرج من محل صدور الفضل والحكم والمراد بالفضل الكرام.
والحكم جمع حكمة بمعنى العلم. والمراد بمحل صدور الفضل والحكم إما قريش أو العرب مطلقا؛ إذ لا شك أنهم أصل في الكرم والحكم لاستفادة العلوم الأدبية منهم ولذلك كانوا ينطقون بالحكم أي: الكلمات المؤثرة في القلوب ألا ترى إلى قول بعضهم:
ألا كل شيء ما خلا الله
*
وكل نعيم لا محالة زائل
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا
*
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
*
وإن خالها تخني على الناس تعلم
وفي الحديث إن من الشعر حكما ويحتمل أن يكون شبه إخراج ذاته صلى الله عليه وسلم من قريش باشتقاق الفعل أو الوصف من المصدر بجامع كثرة الإفادة في كل؛ لأن المشتق أكثر إفادة من المصدر لدلالته على الحدث والزمان والنسبة أو الحدث والذات ودلالة المصدر على مجرد الحدث، وكذلك ذاته عليه الصلاة والسلام أكثر كرما وحكمة من قريش واستعارة اسم المشبه للمشبه واشتق من الاشتقاق مشتق بمعنى مخرج على طريق الاستعارة المصرحة التبعية.
وقوله مصدر ترشيح لها ويحتمل أن يكون المراد بمحل صدور الفضل والحكم النور المحمدي الذي خلق منه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا شك أنه محل لصدور كل شيء، أو أن المراد به الأوصاف الحسنة التي هي سبب للفضل والعلم كالصبر والتواضع والحلم وهو حينئذ مبالغة، فلتمامها فيه كأنه أخذ منها على حد قوله تعالى خلق الإنسان من عجل هذا.
ويحتمل أن المراد الاشتقاق الاصطلاحي لكن في الكلام حذف أي: المشتق داله وهو أفضل واحكم من كل إنسان وقوله من مصدر الفضل على هذا الإضافة للبيان أي: مصدر هو الفضل والحكم فالفضل والحكم مصدر، إن اشتق منهما اللفظ الدال عليه عليه الصلاة والسلام أي: أفضل وأحكم من كل أحد وإنما كانت إضافة مصدر لما بعده على هذا للبيان لأن مصدر أعم من الفضل والإضافة التي للبيان هي التي يكون بين المضافين عموم وخصوص مطلق. أما البيانية فهي التي يكون بينهما العموم والخصوص الوجهي.
قوله: ((والحكم)) جمع حكمة، وهي العلوم الأدبية الموافقة للشرع لا الشرعية إذ لا شرع؛ إذ ذاك وعلى هذا الاحتمال الأول من أن المراد الاشتقاق اللغوي، تأمل.
قوله: ((لمحاسن الأفعال)) من قبيل إضافة الصفة للموصوف كالذي بعده أي: الأفعال المحاسن بمعنى الحسنة، والشيم المكارم بمعنى الكريمة، والمحاسن جمع حسن على غير قياس أوأنه جمع محسن بمعنى حسن كمذهب ومذاهب ومصدر ومصادر.
واعلم أن العمل ما كان ناشئا عن رواية وتدبر فمن ثم كان خاصا بالعاقل بخلاف الفعل فإنه أعم.
فإن قلت: حيث كان الخاص بالعقلاء هو العمل كان الظاهر أن يقول لمحاسن الأعمال.
قلت: أجيب بأنه إنما عدل للأفعال لأجل براعة الاستهلال لأن الفعل من مباحثنا وأيضا التعبير بالأفعال أكمل للإشارة إلى أن ما صدر منه حسن ولو لم يتدبر فيه.
وقوله: ((ومكارم الشيم)) جمع شيمة بمعنى الطبيعة والخلق أي: الجامع للطبائع والأخلاق الحسنة ففيه وصف للنبي بحسن أحواله الظاهرية والباطنية.
قوله: ((الموصول بألفاظه)) أي: المرتبط بألفاظه، وفي كلامه هذا براعة الاستهلال لأنه يشير إلى أنه يبحث في هذا الكتاب عن الموصول والمراد بالسعادة الظفر بخير الدارين. والمراد بأنواعها الأمور الموصلة إليها أعني مسائل العلم.
والمراد بالهدى الاهتداء الذي هو من أوصاف الشخص أي: المرتبط بكلامه مسائل العلم الموصلة للسعادة أي: أن كلامه عليه الصلاة والسلام لا يخرج عن مسائل العلم الموصلة للسعادة ولاهتداء الناس. فإضافة الأنواع التي بمعنى المسائل للسعادة لأدنى ملابسة، والعطف حينئذ من عطف المسبب على السبب.
قوله: ((المضمر)) أي: المخفي من أضمرت الشيء أخفيته.
قوله: ((في إشارته)) الإشارة هي تحريك العضو على وجه مخصوص، والمراد بأصناف الحكم مسائل العلم، وحينئذ فالمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أخفى وأودع في إشارته وتحريك بعض أعضائه مسائل علمية بحيث أن الحاذق يفهم من إشاراته عليه الصلاة والسلام علوما فليست إشاراته عليه الصلاة والسلام عبثا ويحتمل أن يكون المراد بإشاراته كلامه أي: أنه أخفى في كلامه أنواع الحكمة فيكون إشارة للأحكام المأخوذة من كلامه عليه الصلاة والسلام بطريق الالتزام، فظهر لك مما قلناه أن أصناف الحكم مرادف لأنواع السعادة.
قوله: ((والتقى)) جمع تقاة وأصلها تقية وأصلها وقية. والحاصل أن الأصل الأصيل وقية أبدلت الواو تاء فصار تقية تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت الفاء فصار تقاة.
والتقى امتثال الأوامر واجتناب النواهي ولها أنواع ثلاثة التباعد عن الشريك والتباعد عن المعاصي والتباعد عما يشغل عن الله هذا هو أصناف التقوى وظاهر أن هذا أوصاف للعبد فلا معنى حينئذ لكونها مضمرة في إشاراته عليه الصلاة والسلام. ويجاب بأن المراد بالتقى ما يتقى به أي: ما هو سبب في التباعد وهو يرجع للعلم، وحينئذ فالعطف مرادف.
قوله: ((محمد)) بدل أو عطف بيان من المشتق أو خبر لمحذوف وقدم ذكر الصفات على العلم ليكون ذكره بعد أوقع في النفس لوجود التشويق إليه بذكر صفاته.
قوله: ((المذكور اسمه ... إلخ)) أي: لا بهذا العنوان؛ إذ اسمه في التوراة طاب وفي الإنجيل ماحى وإنما خصهما بالذكر لشدة إنكار المتمسكين بهما لبعثته عليه الصلاة والسلام والشارح يشير إلى أنه كان ينبغي لهم الإذعان لنبينا الشهادة كتابهما ببعثته، فاندفع ما يقال أنه قد ذكر في القرآن أيضا. وأما الزبور فهو مواعظ لا أحكام فيه.
قوله: ((وعلى آله)) هم في مقام الدعاء أتقياء المؤمنين، وقيل كل مؤمن ولو عاصيا. وقوله مظهر الحق أي: محل ظهوره وهذا يدل على إرادة المعنى الأول للآل إلا أن يراد بالحق خصوص الإيمان ثم إن الحق مطابقة النسبة الخارجية للنسبة الكلامية وعكسه الصدق فهو مطابقة النسبة الكلامية للخارجية فالمطابقة في الأول تعتبر صفة للخارجية وفي الثاني تعتبر صفة للكلامية.
قوله: ((ومبطل)) أي: محل بطلان أي: خفاء الأباطيل فالمراد بالطلان الخفاء بقرينة مقابلته بمظهر. وجعل الآل محلا للظهور والبطلان تجوز؛ لأن محل الأول حقيقة الحق بمعنى أنه قائم به ومحل الثاني الباطل والآل إنما هم محل لملزوم ذلك وهو الإظهار والإبطال.
قوله: ((الأباطيل)) جمع باطل على غير قياس؛ إذ قياسه بواطل نحو كاهل وكواهل، ولابد من التجريد في الأباطل بأن يراد بها مجرد الذات بقطع النظر عن وصفها بالبطلان وإلا كان الكلام من تحصيل الحاصل.
والمراد بإبطال الباطل إخفاؤه وإعدامه، أي: أن آله عليه السلام محل لإعدام الأشياء التي تتصف بالبطلان وإخفائها.
قوله: ((ما ظهر النجم)) أي: النبات الذي لا ساق له ويقابله الشجر وهو النبات الذي له ساق. والمراد بالعلم الجبل كما في قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به
*
كأنه علم في رأسه نار
وخص العلم بالذكر لأن الغالب ظهور النجم فيه.
قوله: ((وما اشتهر)) أي: ومدة اشتهار النجم أي: الكوكب، وقوله في العلم أي: في حال كونه علما أي: علامة يهتدي بها في البر والبحر. ثم إنه ليس المراد التحديد بل هذا كناية عن دوام الصلاة على من ذكر كما هو عادة العرب من كنايتهم عن التأبيد بالتحديد كما في قوله:
إذا غاب عنكم أسود العين كنتم
*
كراما وأنتم ما أقام ألائم
فأسود العين اسم لجبل فكني بمدة إقامته عن دوائم لؤمهم وبين النجمين والعلمين الجناس التام لفظا وخطا لاتفاق الكلمتين المتناجسين في جميع الحروف والترتيب والشكل.
قوله: ((وبعد فلما ... إلخ)) يحتمل أن الواو للاستئناف والفاء زائدة والظرف معمول لمحذوف أي: وأقول بعد ما تقدم لما شاع إلخ، ويحتمل أن الفاء واقعة في جواب أما المتوهمة أو التي نابت عنها الواو.
قوله: ((في الأمصار)) جمع مصر وهو محل قسم النفي والغنائم وخصها بالذكر؛ لأنها محل ظهور العلم وكتبه غالبا.
قوله: ((وظهر)) هو بمعنى شاع وغاير في العبارة لدفع الثقل الحاصل بتكرار اللفظ. وقوله (ظهور الشمس) أي: مثل ظهور الشمس فهو تشبيه بليغ أي: كظهور جزء من جزئياتها لأن الشمس كلي والظاهر فرد من أفرادها وإن كان الكلي منحصرا فيه. وقوله (في النهار) تأكيد لما يفهم مما قبله نظير سمعت بأذنى.
قوله: ((الرسالة)) تنازعه شاع وظهر والمناسب لقول المصنف هذه فائدة أن يقول الشارح الفائدة لكنه ترك هذه المناسبة اللفظية للإشارة إلى عظم هذه الفائدة وإنها حرية أن تسمى رسالة وإن سماها مؤلفها فائدة تواضعا منه.
قيل: الرسالة ما اشتمل على مسائل قليلة من فن واحد والمختصر ما اشتمل على مسائل قليلة من فن أو فنون والكتاب ما اشتمل على مسائل قليلة أو كثيرة من فن أو فنون، فالرسالة أخص الثلاثة خصوصا مطلقا والثاني أخص من الثالث كذلك.
قوله: ((التي أفادها)) حذف المتعلق لإفادة العموم أي: التي أفادها لكل طالب وسيأتي للشارح أن الفائدة ما استفيد من علم أو مال فحقحا أن تقع على المعاني وهنا أوقعها على الألفاظ؛ لأنها هي المفادة من المؤلف.
والحاصل أن مقتضى ما هنا أن التأليف اسم للألفاظ ومقتضى ما يأتي أنه اسم للمعاني فقد حصل في كلامه تناف، ويجاب بأنه أطلق على هذه الألفاظ المفادة لفظ فائدة لكون هذه الألفاظ وسيلة للمعاني فكأنها نفس المعاني.
قوله: ((المولى)) من جملة معانيه السيد أي: الذي يفزع إليه في مهمات الأمور من العلوم وغيرها ومن جملة معانيه الناصر ولاشك أن كلا من المعنيين يصح إراداته هنا لأن المصنف كان يفزع إليه في العلوم وناصر الأهل بإقامة الأدلة والرد على المخالفين من أهل الضلال فقد اجتمع فيه الأمران.
قوله: (( الإمام)) أي: المقتدى به والمقدَّم على غيره في العلوم العقلية والنقلية، فقد ألف كثيرا من الكتب العظام كشرح مختصر ابن الحاجب الأصولي وله الفوائد الغياثية في المعاني والبيان وله المواقف في علم الكلام.
قوله: ((المحقق)) من التحقيق وهو ذكر الشيء على الوجه الحق ويطلق على إثبات المسئلة بالدليل عقليا كان أو نقليا فالمعنى حينئذ الإمام الذي يذكر المسائل على الوجه الحق أو يثبتها بالأدلة.
قوله: ((والفاضل)) أي: المتصف بالفضل وهو صفات الكمال.
قوله: ((المدقق)) مأخوذ من التدقيق وهو ذكر المسائل الدقيقة وإن لم يذكر لها دليل ويطلق على إثبات دليل المسألة بدليل آخر بأن يكون بعض مقدمات الدليل الأول نظريا فيؤتى بدليل آخر على هذه المقدمة حتى ينتهي الأمر إلى الضرورة، كأن تقول في الاستدلال على حدوث العالم «العالم متغير وكل متغير حادث»، ثم تقيم دليلا على الصغرى بقولك «العالم ملازم للأعراض التي شواهد تغيرها وكل ملازم المتغير فهو متغير»، وهذا معنى قول المحشي التدقيق تقوية الدليل المثبت للمسألة بدليل آخر، فبين التحقيق والتدقيق التباين على كل من الإطلاقين.
قوله: ((خاتم)) بكسر التاء وفتحها وهو في الأصل اسم للآلة التي بطبع بها، وحينئذ فالكلام من قبيل التشبيه البليغ أي: إنه كان كالخاتم للمجتهدين بجامع الترويج في كل، فالختم يروج الرسالة المطبوعة به. وكذلك المؤلف مروج للمجتهدين فكأنهم بدونه عدم أو أن خاتم مستعار لمروج استعارة تبعية بأن شبه الترويج بالختم واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من الختم خاتم بمعنى مروج ويصح أن يراد بقوله خاتم معنى آخر وحينئذ فهو بكسر التاء لا غير.
والمجتهدين جمع مجتهد مأخوذ من الاجتهاد وهو لغة بذل الجهد في طلب المقصود، واصطلاحا بذل الجهد في استنباط الأحكام من الكتاب والسنة أو من كلام العرب. وهو ثلاثة أقسام: إما مطلق وهو المؤسس للقواعد، وإما مجتهد مذهب وهو الذي يستنبط الفروع من القواعد التي أسسها إمامه، وإما مجتهد فتوى وهو الذي ينظر في الأدلة ويرجح بعض الأقوال على بعض.
ومراد الشارح أن المصنف مجتهد في العلوم العلقية والإلهية، وهو علم التوحيد؛ لأنه إنما اشتهر بذلك لا أنه كان مجتهدا في الفقه. وقد يقال لا مانع من أنه كان أيضا مجتهد مذهب في فقه إمامه وهو مذهب الإمام الشافعي.
قوله: ((عضد الحق)) العضد ما فوق المرفق من الكتف وهو محل قوة اليد وأصل قوة البدن قوة اليد. إذا علمت ذلك ففي الكلام مجاز مرسل فقد أطلق الملزوم وهو العضد وأراد لازمه وهو القوة واشتق من القوة مقوي فهو مجاز مرسل تبعي أو أن في الكلام استعارة بالكناية بأن شبه الحق بإنسان، وإثبات العضد تخييل.
والمراد هنا بالحق النسبة الخارجية الموافقة للنسبة الكلامية والمراد بالدين ما شرع من الأحكام أعني النسب التامة كثبوت الوجوب للنية في قولك النية واجبة والمراد بتقوية تلك النسب إقامة الأدلة العقلية والنقلية عليها وإذ قد علمت أن المراد بالدين النسب التامة التي شرعها الشارع تعلم أن عطفه على الحق من قبيل عطف الخاص على العام؛ لأن الحق يشمل النسبة في قولك «قام زيد» عند مطابقتها للواقع.
ثم إن قوله «عضد الحق والدين» من قبيل التصرف في العَلَمِ وقد قيل إنه ممنوع، وذلك لأن لقبه الذي اشتهر به العضد واسمه عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الإيجي بياء ساكنة بعد همزة مكسورة نسبة لإيج بلدة بالعجم من أعمال كرمان من جملة تلاميذة شمس الدين الكرماني والسعد التفتازاني والضياء القرمي وغيرهم وجرت له محنة مع صاحب كرمان فحبسه في القلعة إلى أن مات سنة ست وخمسين وسبعمائة.
قوله: ((أعلى الله درجته)) جملة خبرية لفظا قصد بها إنشاء الدعاء للمصنف أي: اللهم أعل درجته أي: منزلته التي يحل فيها.
قوله: ((في أعلى عليين)) اعلم أن عليين اسم لأعلى مكان في الجنة والمنازل التي فيه متفاوتة في العلو، فقوله «في أعلى عليين» أي: في أرفع أعلى مكان في الجنة وهو متعلق بمحذوف أي: جاعلا تلك الدرجة في أعلى عليين. وقيل أن عليين اسم مكان في السماء السابعة تجتمع فيه أرواح المؤمنين وكلام المعنيين مناسب هنا.
قوله: ((وكانت مشتملة)) الجملة حالية وقد مقدرة وكان يصح كونها تامة ومشتملة حال ناقصة ومشتملة خبرها.
قوله: ((على مسائل)) تطلق المسئلة على القضية وعلى نسبتها، فعلى الأول يكون اشتمال الرسالة على المسائل من اشتمال الكل على أجزائه؛ لأن الرسالة ألفاظ، وعلى الثاني من اشتمال الدال على المدلول.
قوله: ((دقيقة)) أي: خفية.
قوله: ((وتحقيقات)) أراد بها المسائل المحققة أي: المذكورة على الوجه الحق، لأن التحقيق وصف للمحقق وهو المؤلف فلا تشتمل الرسالة عليه، وحينئذ فالمصدر بمعنى اسم المفعول.
قوله: ((عميقة)) من العمق بفتح العين وضمها وهو بعد القعر، ومن المعلوم أن بعد القعر لا يكون إلا للمحسوسات فلابد من التجريد بأن يراد مطلق البعد مجردا عن المضاف إليه. والمعنى تحقيقات بعيدة أي: صعبة يشق إدراكها والوصول إلى فهمها.
قوله: ((مع غاية الإيجاز ونهاية الاختصار)) أي: حالة كونها مصاحبة لغاية الإيجاز. والغاية والنهاية مترادفان بمعنى آخر الشيء، وكذا الإيجاز والاختصار مترادفان بمعنى واحد وهو تقليل اللفظ سواء كثر المعنى أولا، وقيل تقليل اللفظ مع كثرة المعنى. فقد تفنن الشارح في التعبير والخطب محل إطناب ودفع بهذا ما يتوهم من أنها لما اشتملت على المسائل المذكورة كانت مطولة.
قوله: ((ولم يكن لها بد)) الجملة أي: الحال أنه لم يكن لها غنى أي: لم تكن مستغنية عن شرح يبين معانيها لاشتمال لها على الأوصاف المذكورة.
قوله: ((لا يغادر صغيرة)) أي: لا يترك نكتا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أي: ضبطها. وبينها وفيه من المحسنات البديعية الاقتباس وهو ذكر شيء من القرآن أو السنة لا على أنه منه ولا يضر مخالفته لمعنى الآية وهو لا يترك الكتاب معصية صغيرة ولا كبيرة ونظير ذلك قول ابن الرومي:
لئن أخطأت في مدحيك
*
ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجتي
*
بواد غير ذي زرع
مقتبسا من قوله تعالى: ▬ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع♂ إذ معناه بواد لا ماء به ولا نبات، وقد نقله الشاعر إلى جناب لا خير فيه ولا نفع وإنما لم يقل أحصاهما مع أنه مقتضى الظاهر؛ لأن موصوف الصغيرة والكبيرة جمع أي: نكتا صغيرة ولا نكتا كبيرة كما علمت، أو يقال أنه حذف من الأول لدلالة الثاني أي: لا يغادر نكتة صغيرة إلا أحصاها ولا كبيرة إلا أحصاها.
قوله: ((المرام)) بفتح الميم أي: المطلوب، وأصله مَرْوَمٌ على وزن مَفْعَلٍ نقلت حركة العين إلى الفاء ثم قلبت الواو ألفًا لتحركها بحسب الأصل وانفتاح ما قبلها بحسب الآن.
قوله: ((أقصاها)) أي: أقصى المرامات والمقاصد أي: غايتها، فالضمير ليس راجعا للمضاف بل للمضاف إليه، ولما كانت المقاصد جمعا أتى بضمير جمع المؤنث فاندفع ما يقال أن الواجب أقصاهما لأن الضمير راجع للتبيين والتحقيق وهما شيئان لا جمع ثم أن التحقيق ليس قاصرا على أقصى المقاصد أي: غايتها دون أولها وأوسطها بل المراد أنه يبلغ جميع المقاصد.
قوله: ((أردت الخوض)) جواب «لما» أي: أردت الشروع في شرح عليها يسمى تتميم المرام أي: الإتيان به تاما وفي الكلام استعارة بالكناية وتخييل حيث شبه تتميم المرام ببحر متسع يشق على خائضه الوصول لساحله. وإثبات الخوض تخييل أو أنه شبه الشروع في تتميم المرام بالخوض بجامع المشقة فإن الشارع فيه تناله مشقة إعمال الفكر ومراجعة النقول واستعار اسم المشبه للمشبه على طريق الاستعارة المصرحة.
قوله: ((في تتميم المرام)) أي: المطلوب أي: في الإتيان به تاما. ثم إن المناسب لمراعة المطابقة اللفظية أن يقول في تبيين المرام لكن لما كان المراد التبيين على وجه التمام ولا يستفاد هذا من التعبير بقوله تبيين عدل عنه إلى التعبير بتتميم.
قوله: ((على وجه)) حال من تتميم المذكور آتيا على وجه أي: طريق وحالة لا يشوبه خفاء.
قوله: ((عن وجوه خرائدها)) أي: الرسالة والخرائد جمع خريدة، وهي في الأصل المرأة الحسناء المحتجة فشبه الشارح مسائل هذه الرسالة الدقيقة بالنساء الحسان بجامع الحسن والاحتجاب. واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية. وقوله يكشف ووجوه واللثام ترشيح يصح أن يكون باقيا على حاله لم يقصد به إلا مجرد تقوية الاستعارة ويصح أن يكون الكشف متجوزا به عن الزوال واللثام وهو ما يوضع على الفم من النقاب متجوزا به عن الخفاء للزومه له.
قوله: ((مع جمود القريحة)) حال من فاعل «أردت» أي: أردت ذلك في حال كوني مصاحبا لجمود القريحة أي: لجمود قريحتي فـ«أل» عوض عن المضاف إليه وأراد بجمود قريحته عدم انبساط عقله في المدارك فشبه عدم انبساط العقل بجمود الماء مثلا بجامع قلة الانتفاع في كل.
واستعار اسم المشبه به للمشبه على طريق الاستعارة المصرحة والقريحة في الأصل أول مستنبط من ماء البئر أطلقت على أول مستنبط من العلم أو على مطلق مستنبط منه. فعلى الأول يكون مجازا مرسلا علاقته الإطلاق والتقييد، وعلى الثاني يكون استعارة بجامع أن كلا سبب للحياة فالأول سبب لحياة الأشباح والثاني سبب لحياة الأرواح ثم أطلقت على العقل الذي هو محل العلم مجازا مرسلا علاقته الحالية لإطلاق اسم الحال وإرادة المحل، أو استعارة بجامع أن كلا سبب في الاهتداء وصحة إطلاق القريحة، ثانيا على العقل على جهة المجاز المرسل أو الاستعار مع إطلاقها أولا على أول مستنبط من العلم أو المستنبط منه مطلقا على جهة المجاز مبنية على جواز بناء المجاز على المجاز واستعارة المستعار أو على أن إطلاقها على غير العقل حقيقة عرفية، وإذا بنى المجاز على المجاز فالعلاقة والجامع إنما يعتبران بين ما نقل عنه والمنقول إليه لا بين المعنى الأصلي والمنقول إليه كما علمت مما قلناه.
قوله: ((وكلال الطبيعة)) الكلام في الأصل عدم قطع السكين. والمراد هنا بكلال الطبيعة تشويش الفكرة وقوفها عن الإدراكات للتكدر الحاصل لها من حوادث الزمان، فشبه الوقوف المذكور بعدم القطع واستعار اسم المشبه به وهو الكلال للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية.
قوله: ((تحفةٌ)) بالرفع خبر لمبتدأ محذوف أي: وهو أي: تتميم المرام تحفة أو بالنصب مفعولا لمحذوف أي: جعلته تحفة، والتحفة الهدية المستظرفة.
قوله: ((للحضرة)) هي في الأصل ظرف مكان أي: مكان الحضور. والمراد بها هنا الحاضر أعني عبد الكريم لحضوره في الأذهان وملاحظته دائما لتعلق القلوب به.
قوله: ((الأمير)) أي: الملك. وقوله «الأعظم» أي: من سائر الملوك والقهر مان بفتح الراء أي: المدبر فهو أحق بالمملكة من غيره. والتدبير النظر في عواقب الأمور لتقع على الوجه الأكمل. وإذا أسند التدبير لله فالمراد الإتيان بالأشياء على أكمل وجه، وقيل القهر مان هو الحاذق الحافظ القائم بأمور الرجال.
قوله: ((ظل الله على الأنام)) من المعلوم أن ظل الشيء صورة تحاكي جسمه، فالظل يشعر بالتجسم، فظاهر العبارة يشعر بالتجسم لله وهو محال. والجواب أن المراد بالظل في الكلام النعمة أي: نعمة الله على الأنام فشبه نعمته تعالى بالظل بجامع الراحة في كل، واستعير اسم المشبه للمشبه على طريق الاستعارة التصريحية.
وإنما كان هذا الممدوح نعمة من الله وأصلة للأنام لدفعه المضار عنهم الواصلة لهم من أعدائهم ولحمله لهم على العمل بالشرائع فالمراد بأنام العقلاء ويحتمل أن يراد بهم جميع أفراده الحيوان فالممدوح نعمة من الله وأصلة لكل الخلق لكونه سببا في كل خير لكونه عدلا.
قوله: ((فاتح أبواب الأنعام والإكرام)) أي: ليبذل منها ولا يخفى ما في الكلام من الاستعارة المكنية والتخييل حيث شبه الإنعام والإكرام بموضع له أبواب تشبيها مضمرا في النفس على طريق المكنية ،وإثبات الأبواب تخييل.
قوله: ((الذي اشتاقت تيجان السلطنة)) التيجان جمع تاج، وهو الإكليل الذي هو عصابة تزين بالجواهر توضع على الرأس. والسلطنة كون الشخص سلطانا. ولا يخفى أن الكون المذكور لا تيجان له فيقدر في الكلام مضاف أي: تيجان ذوي السلطنة وذوي السلطنة هم الملوك. وفي الكلام أيضا استعارة بالكناية وتخييل حيث شبه التيجان بالأناسى بجامع التكرمة وإثبات الاشتياق تخييل. والهامة الرأس والجمع هام أي: الذي اشتاقت تيجان السلاطين إلى رأسه لتوضع عليها.
قوله: ((وباهت)) أي: افتخرت من المباهة وهو الافتخار.
قوله: ((حلل الأمارة)) هي كون الشخص أميرا والكون المذكور لا حلل له فيقدر مضاف أي: حلل ذوي الأمارة والحلل برود اليمين وأحدها حلة وهي إزار ورداء ولا تسمى حلة حتى تكون ثوبين من جنس واحد أي: وافتخرت جلل السلاطين بكونها على قامته.
قوله: ((الحائز)) من الحوز وهو الجمع أي: الجامع للرياستين الرياسة الدينية لكونه عالما والرياسة الدنيوية لكونه سلطانا. وبين الحائز والفائز الجناس اللاحق وهو اختلاف الكلمتين المتناجسين بحرفين متباعدين المخرج كالحاء والفاء.
قوله: ((في الأصل والنسب)) أي: من جهة الأصل والنسب والعطف مرادف.
قوله: ((وأحقهم في الفضل)) أي: وأكثرهم استحقاق للفضل والأدب.
قوله: ((فياض سجال النوال)) فياض مأخوذ من الفيض، وهو صب الماء عن امتلاء، يقال فاض الماء إذا انصب، ففياض معناه كثير الصب للماء. والسجال بكسر السين جمع سجل بفتحها وهو الدلو المملوء ماء أو مطلقا. والنوال هو العطاء. وإضافة سجال للنوال من إضافة المشبه به للمشبه ولا بد من تجريد فياض عن بعض معناه بأن يراد منه كثير الصب ولا بد من تقدير في الكلام والمعنى كثير صب النوال الشبيه ذلك النوال بالسجال أي: بالحال فيها أو يجعل فيها أو يجعل في الكلام استعارة بالكناية بأن شبه النوال ببحر يعرف منه بالدلاء وإثبات السجال التي هي الدلاء تخييل.
قوله: ((وهاب جلائل النعم...إلخ)) وهاب مأخوذ من الهبة وهي العطية أي: أنه كثير العطايا للنعم الجليلة أي: العظيمة في الكم والكيف وللنعم الدقيقة أي: الحقيرة فإضافة جلائل للنعم من إضافة الصفة للموصوف وأل في الدقائق عوض عن المضاف إليه ولا يقال أن إعطاء النعم الحقيرة نقص لأنا نقول إنما يكون نقصا إذا كان منفردا بإعطائها.
قوله: ((ما نواله الغمام وقت ربيع)) أي: ما إعطاء السحاب في وقت الربيع الذي هو زمن كثرة نزول الغيث كإعطاء الأمير وقت سخائه.
قوله: ((فنوال الأمير بدرة عين)) الفاء للتعليل أي: لأن نوال إلخ أو أنها فاء الفصيحة أي: إن أردت بيان ذلك فنقول لك نوال الأمير إلخ ثم أن البدرة عشرة آلاف درهم والعين اسم للذهب المضروب وحينئذ فلا معنى للإضافة وأجيب بأن المراد أنه يعطى من العين بقدر ما يساوي عشرة آلاف درهم فلا منافاة أو يرتكب التجريد في الكلام بأن يراد بالبدة مجرد العدد وإضافه للذهب أي: فنوال الأمير عدد من الذهب وقيل إن العين تطلق على الذهب والفضة وحينئذ فلا إشكال من أصل وفي النظم من المحسنات البديعية التفريق وهو إيقاع التباين بين أمرين من نوع واحد في المدح أو غيره لأنه أوقع التباين بين النوالين حيث أسند بدرة العين إلى نوال الأمير وقطرة الماء إلى نوال الغمام.
قوله: ((المؤيد)) أي: المقوى بتقوية الملك أي: المتصرف بأمره ونهيه بأمره ونهيه وهو الله سبحانه وتعالى وإنما فسرنا الملك بذلك لأخذه من الملك بضم الميم وهو التصرف بأمر والنهي بخلاف المالك فإنه مأخوذ من الملك بكسرها وهو التعلق بالأعيان المملوكة وإنما خص العلم بالذكر للإشارة إلى أن أس المملكة العلم بأمور الدولة.
قوله: ((مغيث الدولة والدين)) أي: ناصرهما والدولة يحتمل أن يرادبها جماعة الرعية التي تحت حكمه ويحتمل أن يراد بها الرياسه المتداولة للقوم واحد بعد واحد فالرياسة إذا تلبس بها غيره كأنها يحصل لها مشقة لوقوعها في غير محلها فتنادى يا من يغيثني والممدوح المذكور قد أغاثها بالتلبس بها فقد شبهها بشخص عاقل وقع في مصيبة وطوى ذكر المشبه به وذكر شيأ من لوازمه وهو مغيث على طريق الاستعارة المكنية والتخييل والمراد بالدين الأحكام الشرعية أعني النسب التامة فكأنها وقعت في مصيبة عظيمة وجاء هذا الممدوح اغاثها ونصرها فقد شبه الدين بعاقل استغاث مما أصابه وطوى ذكر المشبه به ورمز له بذكر شيء من لوازمه وهو مغيث على طريق المكنية والتخييل والمراد بإغاثة الدين إظهاره بعد اضمحلاله لكون من كان قبله من السلاطين جائرا ومن المعلوم أن الدين يزداد ظهورا واضمحلاله بعد السلطان وجوره.
قوله: ((عبد الكريم)) بالجر بدل من الأمير الأعظم بالرفع خبر لمحذوف أي: هو عبد الكريم فهذا اسمه وله من اسمه نصيب فقد كان كريما واعلم أن جعل الشارح شرحه تحفة للأمير المذكور ووصفه له بالصفات المذكورة التي لا يخلو غالبها عن مبالغة لأجل أن يقبل على تأليفه فيقبل عليه الخلق فيكثر الانتفاع به اذجرت العادة أن الملك إذا أقبل على شيء أقبل عليه أهل الزمان من علماء وغيرهم.
قوله: ((لا زالت رقاب الأمم ... إلخ)) هذا ادعاء من الشارح له أداء لما وجب له عليه لأنه كان منعامله وشكر المنعم واجب وشكره بالدعاء له.
قوله: ((خاضعة)) أي: ذليلة وإنما أسند الخضوع للرقاب مع أن محله القلب لظهور أثره فيها إن قلت إن الخضوع إنما هو له لا لأوامره فالواجب أن يقول خاضعة له قلت إنما عبر بذلك إشارة إلى أن أوامره متمثلة معمول بها بخلاف ما لو قال خاضعة له فإنه لا يشير لذلك إذ لا يلزم من الخضوع له الخضوع لأوامره كما هو مشاهد في حكام زماننا.
قوله: ((وأعناق الخلائق)) أي: آمالهم وقوله ممتدة أي: متشوقة والمراسم جمع مرسوم وهو ما يكتب فيه العطية كالوصولات أو أن المراد بالإعناق والامتداد حقيقتهما وعلى هذا فإسناد الامتداد للأعناق مع أن حقه أن يسند للأيدي مبالغة.
قوله: ((وهذا دعاء ... إلخ)) اسم الإشارة راجع لقوله لازالت رقاب الأمم.
قوله: ((قد تلقاه ربنا)) التلقي في الأصل استقبال من جاء من بعد وهذا محال على الله تعالى وحينئذ فيراد لازمه وهو سرعة الإجابة أي: قد استجابه الله من غير تأخير لإجابته.
قوله: ((بحسن القبول)) من إضافة الصفة للموصوف أي: بالقبول الحسن والمراد بحسنه قبوله بتمامه بحيث لم يرد منه شيأ والباء في قوله بحسن للملابسة أي: تلقاه ربنا تلقيا ملتبسا بالقبول الحسن فإن قلت من أين أتاه علم ذلك حتى أخبر به قلت يحتمل أن الإخبار بحسب ما طنه أي: تلقاه بنا بحسب ظني لأن المولى قد وعد بإجابة الدعاء والكريم لا يخلف وعده أو أنه علم ذلك بطريق الكشف فإن كثيرا من الأولياء يدرك الإجابة لما يدعو به.
قوله: ((قبل أن أرفع الصوت وأقول)) أي: وقبل أن أرفع صوتي به وأقول له يعني أن هذا الدعاء قبله المولى حين عزمت عليه قبل أن أرفع صوتي به وأتلفظ به واعترض بإن الدعاء قبل حصوله لا يوصف بالقبول ولا يوصف بذلك إلا بعد حصوله على أن المدعو به إذا كان حاصلا فلا معنى للدعاء به وأجيب بأن هذا كناية عن سراعة إجابته كما يشير له قوله قد تلقاه فتأمل.
قوله: ((فإن وقع)) أي: هذا الشرح لأن قوله «فإن وقع» راجع لقوله «تحفة».
قوله: ((في حيز القبول والرضا)) عطف الرضا على القبول للتفسير والحيز في الأصل المكان، فالمعنى حينئذ فإن وقع ذلك الشرح في مكان القبول والرضا
واعترض بأن مكان الشيء لا يحيل فيه غير ذلك الشيء وحينئذ فحيز القبول لا يقبل هذا الشرح أن يحل فيه فما معنى هذا الكلام؟.
وأجيب: بأن إضافة حيز للقبول بيانية أي: فإن وقع في الرضا والقبول، وجعل القبول ظرفا إشارة إلى أن القبول محيط به إحاطة تامة كإحاطة الظرف الحقيقي بمظروفه.
قوله: ((فهو)) أي: قبوله في غاية..إلخ، والغاية والنهاية شيء واحد وهو آخر الشيء كما أن المبتغَى والمقصود كذلك أي: فإن قُبِلَ ذلك الشرحُ كان قبوله له مظروفا في غاية المطلوب.
قوله: ((والله الميسر)) أي: المُسَهِّلُ للمطلوبات
إن قلت: إذا كان المسهل للأمور المطلوبة للشارح التي من جملتها كثرة النفع بشرحه هو الله تعالى فلا داعي لمدح السلطان لأجل أن يُقْبِلَ على هذا الشرحِ فتُقْبِلُ عليه رعيتُه فيَكْثُرُ النفعُ به بل التوكل على الله أَوْلَى.
قلت: التوكل على الله لا ينافي تعاطيَ الأسبابِ، إذ تعاطيها لا يُخِلُّ بالتوكل.