(الـمُـقَـدِّمَـةُ)
اللَّـفْـظُ قَـدْ يُـوضَـعُ لِـشَخْـصٍ بِعَـيْـنِـهِ وَقَــدْ يُـوضَـعُ لَـهُ بِـاعْـتِـبَارِ أَمْـرٍ عَــامٍّ،
وَذَلِكَ بِأَنْ يُـعْـقَـلَ أَمْـرٌ مُـشْـتَـرَكٌ بَـيـْنَ مـُشَـخَّـصَاتٍ، ثُـمَّ يُقَـالَ: هـَذَا اللَّـفْـظُ مَــوْضُــوعٌ لِـكُـلِّ وَاحِـــدٍ مِـنْ هَــذِهِ الـمُشَخَّـصَاتِ بِخُـصُوصِـهِ بِحَـيْثُ لَا يُفَـادُ وَلَا يُـفْـهَـمُ إِلَّا وَاحِدٌ بِخُصُوصِهِ دُونَ الـقَـدْرِ الـمُشْـتَـرَكِ.
فَـتَـعَـقُّـلُ ذَلـِكَ الأَمْـرِ الـمُـشْتَـرَكِ آلَـةٌ لِـلْــوَضْــعِ لَا أَنَّــهُ الـمَــوْضُـوعُ لَــهُ، فَالْوَضْعُ كُلِّـيٌّ وَالـمَـوْضُوعُ لَهُ مُشَخَّصٌ، وَذَلِــكَ مِــثْــلُ اسْـمِ الإِشَــارَةِ، فَــإِنَّ «هَـذَا» مَـثَـلاً مَـوْضُــوعُــهُ وَمُـسَـمَّـاهُ الـمُـشَارُ إِلَيْهِ الـمُشَخَّصُ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ.
وَلَـمَّا كَانَ مَعْرِفَةُ أَقْسَامِ اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ الوَضْـعِ وعُمُومِـهِ وتَعَـقُّلِ المَوْضُوعِ لَهُ كَذَلِكَ مِمَّا يَتَوَقَّـفُ عَلَيْـهِ المقْصُودُ كَمَا يَظْهَرُ لَكَ بَعْـدَ ذَلِكَ بَدَأَ فـي الـمُـقَدِّمَـةِ بتَقْـسِيمِ اللَّفْظِ بذلك الاعْـتِـبَـارِ.
فقال: ((اللَّفْـظُ قَدْ يُوضَـعُ لِشَخْـصٍ بِعَيْنِهِ)).
اعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَصْدَرٌ بمَعْنَى الرَّمْيِ، فَهُـوَ بمَعْنَى المفعُـولِ، فيَتَنَاوَلُ مـا لم يَكُـنْ صَوْتًا وحَرْفًا وما هو حَرْفٌ وَاحِدٌ أو أَكْثَــرُ مُـهْمَـلاً أو مُسْـتَعْـمَلاً صـادِرًا مِـنَ الـفَـمِ أَوْ لا.
لَكِنْ خُصَّ في عُرْفِ اللُّغَةِ ثانيًا بِما هُوَ صَادِرٌ مِنَ الفَمِ مِنَ الصَّوْتِ المُعْـتَـمِدِ علـى المَخْـرَجِ حَرْفًـا وَاحِـدًا أَوْ أَكْثَـرَ مُـهْـمَـلاً أو مُسْـتَـعْـمَلاً فلا يُقَالُ «لَفْظَةُ الله» بَـلْ «كَلِمَةُ الله»،
وفي اصْطِلَاحِ النُّـحَـاةِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَصْـدُرَ مِنَ الفَمِ من الحُـرُوفِ واحدًا كـانَ أَوْ أَكْثَـرَ أَوْ تَـجْرِي عليه أَحْكَامُ اللَّـفْظِ كالعَـطْفِ والإِبْـدَالِ فيَنْـدَرِجُ فِيـهِ حِينَـئِـذٍ كَلِمَاتُ الله تَعَالَى وَكَذَا الضَّمَـائِرُ التي يَجِبُ استِـتَارُهَا، وَهَذَا الـمَعْنَـى أَعَـمُّ مـن الأَوَّلِ وَهُـوَ الـمُـرَادُ هَـهُـنَـا.
و«اللَّامُ» فيـه إِمَّـا لِلْجِنْسِ مِنْ حَيْـثُ حُصُولُهُ في بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَعْنِي العَهْدَ الذِّهْنِـيَّ أَوْ لحِصَّةٍ مُعَـيَّـنَـةٍ من جِنْـسِ مُطْـلَـقِ «اللَّفْظِ» وَهِـيَ الموضُوعُ مِنْـهُ أَعْنِـي العَـهْـدَ الـخَـارِجِـيَّ، وحِـيـنَـئِـذٍ يَـجِـبُ أَنْ يُـحْـمَـلَ قـولُـهُ «يُوضَعُ» على العُدُولِ عَنِ الماضِي إلى المُضَارِعِ، إِمَّـا لاسْتِـحْـضَارِ الصُّـورَةِ لِنَـوْعِ غَـرَابَـةٍ أو لِتَـأَخُّـرِ الوَضْـعِ عَـنِ اللَّـفْـظِ بالنَّـظَـرِ إلـى الـذَّاتِ.
إِذَا تَـمَهَّـدَ هَذَا فَنَـقُولُ: أَقْسَامُ اللَّفـْظِ الموضُوعِ مِنْ حَيْـثُ تَشَخُّـصُ المعنَى وعُـمُــومُــهُ وخُــصُـوصُ الــوَضْــعِ وعُـمُومُـهُ على ما يَـقْـتَـضِـيهِ التَّـقْسِيمُ العَقْـليُّ ابْتِـدَاءًا أَرْبَعَـةٌ؛
لِأَنَّ المعنى إِمَّا مُشَخَّصٌ أَوْ لا
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ
فالــوَضْعُ إِمَّا خَاصٌّ أَوْ لا
فــالأَوَّلُ: ما يَــكُــونُ مَـــوْضُــوعـًا لمُشَخَّـصٍ بِاعْتِـبَارِ تَعَـقُّلِهِ بخُصُوصِهِ ويُسَـمَّى هــذا الوَضْـعُ وَضْعًا خَاصًّا لموضُوعٍ لَهُ خَاصٍّ كمـا إذا تَصَوَّرْتَ ذَاتَ زَيْـدٍ وَوَضَـعْـتَ لَـفْـظَـةَ «زَيْـدٍ» بِـإِزَائِـهِ.
والثَّانِي: ما وُضِـعَ لمشخَّـصٍ باعْتِـبَـارِ تَعَـقُّـلِهِ لا بِخُـصُوصِهِ بل باعتبارِ أَمْرٍ عَـامٍّ، ويُسَـمَّى ذَلِـكَ الـوَضْعُ وَضْعًا عـامـًّا لموْضُـوعٍ لَـهُ خَـاصٍّ كَـأَسْـمَـاءِ الإشـارةِ عَلَـى مـا سَـيَـجِـيءُ وهــذا القِـسْـمُ مِـمَّـا يَـجِـبُ أَنْ يَـكُـونَ مَـعْـنَـاهُ مُـتَـعَـدِّدًا.
والثَّالِثُ: ما وُضِـعَ لِأَمْرٍ كُلِّيٍّ باعتـبار تَعَـقُّـلِـهِ كَذَلِـكَ أَيْ: عَلَـى عُـمُـومِـهِ، ويُسَـمَّـى هَـذَا الـوَضْـعُ وضعًا عـامًّا لموضُـوعٍ لَـهُ عَـامٍّ كَمَـا إِذَا تَـصَـوَّرْتَ مَـعْـنَـى الـحَـيَـوَانِ النَّاطِقِ وَوَضَعْتَ لَـفْـظَـةَ «الإِنْسَـانِ» بِـإِزَائِـهِ.
والرابعُ: مـا وُضِعَ لأمرٍ كُلِّـيٍّ باعْتِبَارِ تَعَـقُّـلِـهِ بخُصُوصِـيَّـةِ بَعْـضِ أَفْـرَادِهِ، وَهَــذَا الـقِـسْـمُ مِـمَّـا لا وُجُــودَ لَــهُ، بَــلْ حَــكَـمُـوا بِـاسْـتِــحَـالَـتِــهِ، لِأَنَّ الخُـصُوصِيَّـاتِ لا يُعْـقَلُ كَوْنُـها مِرْآةً لمُلَاحَـظَةِ كُـلِّـيَّـاتِهَا بِخِلَافِ العَكْسِ.
وَاكْتَفَى بِذِكْرِ القِسْمَيْـنِ الأَوَّلَيْـنِ مِنْ تِلْكَ الأَقْسَامِ الأَرْبَعَـةِ لِعَدَمِ تَـحَـقُّـقِ الرَّابعِ ولظُهُورِ الثَّالِثِ وعَدَمِ تَعَـلُّـقِ الغَرَضِ بِهِ فِيمَا هُوَ المَقْصُودُ الأَصْلِـيُّ مِنْ تِلْكَ الرِّسَالَةِ وَهُوَ تَـحْقِيقُ مَعْنَى الـحَـرْفِ والضَّمِـيـرِ واسْمِ الإِشَــارَةِ والأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَـمَّـا شَارَكَ الثَّانِيَ في تَشَخُّـصِ الـمَعْـنَـى تَعَـرَّضَ لَـهُ لِـيَزِيدَ تَوْضِيحَ صَـاحِـبِـهِ.
وقَوْلُهُ: ((بِعَـيْـنِـهِ)) يُحْتَـمَلُ أَنْ يَكُونَ صِـفَـةً كَاشِـفَـةً لِــ«شَـخْـصٍ»
ويُـحْتَمَلُ أَنْ يَكُـونَ فِي مُقَـابَلَـةِ قَـوْلِهِ: «بِاعْـتِـبَـارِ أَمْـرٍ عَـامٍّ» أَيْ: قَـدْ يُوضَعُ اللَّفْظُ لِشَخْصٍ بِاعْتِبَارِ تَعَـقُّلِهِ بِعَيْـنِـهِ وَشَخْصِهِ ((وَقَدْ يُوضَـعُ لَـهُ بِاعْتِـبَـارِ أَمْرٍ عَـامٍّ)) أَيْ: باعْتِـبَـارِ تَعَـقُّلِهِ بِأَمْـرٍ عَــامٍّ ((وَذَلِـكَ)) أَيِ: الـوَضْـعُ لِشَـخْـصٍ باعْتِبَارِ أَمْرٍ عَامٍّ يَتَحَقَّقُ ((بِأَنْ يُـعْـقَلَ أَمْــرٌ)) عَــــــامٌّ ((مُــشْـــتَــرَكٌ بَــيْــنَ مُـشَـخَّـصَـاتٍ ثُمَّ يُقَـالَ: هَـذَا اللَّفْـظُ مَــوْضُــوعٌ لِــكُــلِّ وَاحِــدٍ مِــنْ هَـذِهِ المُشَخَّصَاتِ بِخُصُوصِهِ)) أَيْ: يُعَـيَّـنَ اللَّـفْـظُ بِـإِزَاءِ كُـلِّ وَاحِـدٍ مِـنْ أَفْـرَادِهِ المُشَخَّـصَةِ، سَـوَاءٌ كَـانَ ذَلِـكَ الأَمْــرُ العَامُّ مِـنْ ذَاتِـيَّاتِـهَـا كَمَـا فِـي مَعَانِـي الـحُرُوفِ أَوْ مِنْ عَوَارِضِهَا كَمَـا فِـي الـمُـضْمَـرَاتِ وأَسْمَـاءِ الإِشَــارَاتِ.
وذَلِكَ الأَمْـرُ العامُّ مَـلْحُوظٌ باعْتِـبَارِ كَوْنِهِ مِرْآةً لمُلَاحَظَةِ تِلْكَ الأَفْرَادِ التي هي الـمُـسَمَّيَاتُ الموضُوعُ لِكُلٍّ منها اللَّـفْـظُ، ولَيْــسَ ذَلِـكَ الأَمْـرُ الـعَـامُّ مُـوْضُـوعًا لَـهُ كَمَـا تَـوَهَّـمَـهُ بـعــضُ الأَفَاضِلِ في الضَّمَـائِرِ والمَوْصُولاتِ وغَـيْـرِهِـمَـا.
وإِنَّما عَبَّرَ عن ذلك التَّعْيِـينِ الذي هُوَ الوَضْعُ حَـقِـيـقَـةً بالقَـوْلِ إِذْ به يَظْـهَرُ ذَلِـكَ التَّعْيِـينُ غَـالِـبـًا.
وإِنَّما قَيَّـدَ بِالحَيْثِـيَّةِ بِقَوْلِهِ: ((بِحَيْثُ لا يُــفْـهَـمُ وَلَا يُــفَــادُ مِــنْــهُ إِلَّا وَاحِـــدٌ بِـخُـصُـوصِـهِ دُونَ القَـدْرِ المُشْتَـرَكِ)) لِئَـلَّا يُتَـوَهَّـمَ أَنَّ مـا وُضِـعَ له اللَّـفْـظُ هَـهُـنا مَـفْهُـومُ كُـلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْــرَادِ ذَلِكَ الأَمْرِ الـمُشْتَرَكِ حَتَّـى يُسْتَعْمَلَ فيه ويُـفَادَ ويُـفْـهَمَ هُوَ مِنْهُ، فإِنَّ ذَلِكَ بَاطِـلٌ، بَـلِ المقصُـودُ أَنَّ الموضُـوعَ لَهُ والمُسْتَـعْـمَلَ فِيـهِ هَذَا المُشَـخَّـصُ مِنْ أَفْـرَادِهِ عَلَى حِدَةٍ وهذا الآخَرُ كذلك دُونَ القَـدْرِ المُشْـتَرَكِ فَإِنَّهُ غَيْـرُ مُـفَـادٍ وغَيْـرُ مَـوْضُـوعٍ لَـهُ.
فـقولُهُ: «دُونَ القَـدْرِ المُشْـتَـرَكِ» حـالٌ مِـنْ قَوْلِهِ: «وَاحِــدٌ بِخُـصُـوصِــهِ» أَيْ: مُـتَـجَاوِزًا عَنِ القَدْرِ الـمُشْتَرَكِ، فإِنَّهُ غَيْـرُ مُـفَادٍ وغَيْـرُ مَفْهُـومٍ مِنْهُ بِطَـرِيقِ الاستعمالِ فيه بحَسَبِ الوَضْعِ، فَلا يُقَالُ «هَذَا» مَثَـلاً ويُـرَادُ به الأَمْـرُ العَـامُّ الـذِي هُـوَ مُفْهُومُ الـمُشَارِ إِلَيْهِ الـمُـفْـرَدِ الـمُـذَكَّـرِ، وإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ((فَتَعَقُّلُ)) الوَاضِعِ ((ذَلِـكَ الـمُشْـتَـرَكَ آلَــةٌ لِلْــوَضْـعِ)) وَوَسِيـلَـةٌ إِلَى حُصُـولِهِ ((لا أَنَّهُ)) أَيِ المُشْتَرَكَ ((المـوضُوعُ لَهُ)).
فَقَوْلُهُ: «لا أَنَّهُ» بِتَقْدِيرِ الَّلَامِ مَعْطُوفٌ على الخَبَرِ إِنْ قُرِئَ «فَتَعَقُّلُ» مَصْدَرًا، وإِنْ قُـرِئَ عَـلَـى صِيـغَـةِ الـمُـضَـارِعِ المَجْهُولِ مِنَ الثُّلاثِـيِّ المُجَرَّدِ فـ«آلَـةً» مَـنْـصُـوبٌ علـى الحَالِـيَّـةِ، و«لا أَنَّهُ» عَـطْـفٌ عـليـه.
((فـالـوَضْـعُ كُـلِّـيٌّ والـمَـوْضُـوعُ لـه مُـشَـخَّـصٌ)) كمـا قَـرَّرْنَـاهُ.
((وَذَلِـكَ)) أَيِ: اللَّـفْـظُ الـمَـوْضُوعُ لِشَخْصٍ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ عَامٍّ ((مِثْلُ اسْمِ الإِشَـارَةِ)) نَحْوَ: «هَـذَا»، نَـزَّلَ ذَلِكَ الأَمْـرَ الكُلِّيَّ مَنْزِلَةَ المُشَارِ إِلَيْـهِ المُعَيَّـنِ لِكَمَـالِ التَّمْيِيـزِ الـحَـاصِـلِ بِالـبَـيَـانِ السَّــابِــقِ فَاسْـتَـعْـمَـلَ فِـيـهِ «ذَلِــكَ» الـمَوْضُـوعَ لِلْأَشْـخَـاصِ.
((فَــإِنَّ «هَـــذَا» مَـثَـــلاً مَــوْضُـوعُــهُ وَمُسَمَّـاهُ)) أَيْ: مَعْنَاهُ ((الـمُـشَارُ إِلَيْهِ المُشَخَّصُ)) أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْـرَادِ مَـفْـهُـومِ الـمُـشَـارِ إِلَـيْـهِ مُـطْـلَـقًا.
و«الـمُشَخَّصُ» صِفَةٌ لِكُّلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَيْـثُ إِنَّهُ المُرَادُ بـ«المُشَارُ إِلَيْهِ» هَـهُنَا، وَلَا يَـجُوزُ أَنْ يَـكُونَ صِفَـةً لِـ«المُشَارُ إِلَيْهِ» كَمَـا لا يَـخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ.
وقَوْلُهُ: «مَوْضُوعُـهُ» في بَعْضِ النُّـسَخِ بِتَـاءِ التَّـأْنِـيـثِ عَلَـى أَنَّهُ خَبَـرُ «هَـذَا» بِتَأْوِيلِ اللَّفْظَةِ أَوْ الكَلِمَةِ، وَفي بَعْضٍ آخَرَ بإِضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيـرِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَبِـيلِ الأَسْمَـاءِ، وَ«مُسَمَّـاهُ» حِينَـئِذٍ بَـيَـانٌ لَــهُ.
وقولُهُ ((بِحَـيْـثُ لا يَقْـبَـلُ الشَّرِكَةَ)) تَأْكِـيـدٌ لِـمَا يُسْتَفَادُ مِنَ «الـمُشَخَّصِ» يَعْـنِـي أَنَّ مَـفْـهُـومَ «هَـذَا» مـا صَـدَقَ عَلَيْه المُشَارُ إِلَيْـهِ المُشَخَّـصُ الـذِي لا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ لا مَفْهُومُـهُ الذي يَقْـبَلُ الشَّـرِكَـةَ.
والحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَـى لَفْـظِ «هذا» كُـلُّ مُشَـارٍ إِلَـيْـهِ مُـفْـرَدٍ مُـذَكَّـرٍ مُـشَخَّصٍ لُـوحِـظَ بأَمْـرٍ عامٍّ وهو مَفْهُومُ المُشَارِ إِلَيْـهِ المُفْرَدِ المُذَكَّرِ الصَّادِقُ عَلَـى هذا الـمُشَـارِ إِلَيْهِ الـمُشَخَّصِ وعلى ذَلِكَ الآخَرِ كَمَـا إِذَا حَكَمْـتَ على كلِّ رُومِيٍّ بِأَنَّهُ أَبْـيَـضُ بِـهَذَا العُـنْوَانِ، فَقَدْ لَاحَظْتَ جمـيعَ المُشَخَّصَاتِ الرُّومِيِّـينَ مِنْ زَيْدٍ وعَمْـرٍو وغَـيْـرِهِـمَـا بِأَمْرٍ عَـامٍّ وَهُـوَ الرُّومِـيُّ وحَكَمْتَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَبْيَـضُ.
قوله: ((باعتبار خصوص الوضع ... إلخ)) أي: باعتبار كونِ وضعِهِ خاصًّا وكونِهِ عامًّا أي: لا باعتبارِ إِفْرَادِهِ وتركيبِهِ ولا باعتبار اسمِيَّتِهِ وفِعْلِيَّتِهِ وحَرْفِيَّتِهِ.
قوله: ((وتعقل الموضوع له)) أي: وباعتبارِ تَعَقُّلِ الموضوعِ له كذلك أي: عامًّا وخاصًّا.
قوله: ((مما يتوقف)) خَبَرُ «كَانَ»
وقولُه «بَدَأَ» جَوَابُ «لَـمَّا» وأُورِدَ على قوله «بَدَأَ في المقدِّمة بتقسيم..إلخ» بأن التقسيمَ المذكورَ نفسُ المقدِّمَةِ فيلزمُ ظَرْفِيَّةُ الشيءِ في نفسِهِ
وأجيبَ بأن «المقدِّمةَ» عند الشارح اسمٌ لـ«التقسيم والتنبيه»، فالتقسيم بعضُها، وحينئذ فالظرفية من ظرفية الجزء في الكل.
قوله: ((بذلك الاعتبار)) أي: اعتبارِ خصوصِ الوضعِ وعمومِهِ وخصوصِ الموضوعِ له وعمومِهِ
وفيه أنه لم يَذْكُرْ في ابتداءِ المقدِّمَةِ إلا قسمين كما سيأتي للشارِحِ الاعتذارُ عن تَرْكِ القسمين الأَخِيرَيْنِ، فكيفَ يَنْسِبُ للمُصَنِّفِ هنا أنه بَدَأَ في المقدِّمةِ بالأقسامِ الأربعةِ
ويُجَابُ بأن في الكلام حذفَ مضافٍ أي: بَدَأَ في المقدِّمة ببعضِ تقسيمِ اللفظِ بذلك الاعتبارِ.
قوله: ((اعلم أن اللفظ ... إلخ)) أَخَّرَ الشارحُ الكلامَ على «أَلْـ» عن الكلام على الـ«لَفْظُ» مع أن «أَلْـ» متقدمةٌ في الذِّكْرِ عن الـ«لَفْظُ» فكانَ الأَوْلَى أن يُقَدِّمَ الكلامَ عليها، وكأنَّ الشارحَ نَظَرَ لكون الـ«لفظُ» هو الجزءَ الأعظمَ المقصودَ بالذاتِ، فلِذَا قَدَّمَ الكلامَ عليه، وكان على الشارح أن يَتَعَرَّضَ لبيان معنى الوضع كما فَعَلَ بعضُ الشراح حيث قال «الوضعُ لغةً جَعْلُ الشيءِ في مَوْضِعٍ، واصطلاحًا تعيينُ الشيءِ بإزاء المعنى للدلالة عليه بفاعل إن قلنا إن اللفظ المجازي موضوعٌ، أو تعيينُ الشيءِ بإزاء المعنى للدلالة عليه بنفسه إن قلنا إنه غيرُ موضوعٍ، لأن تعيينه للدلالة على المعنى بقرينة لا بنفسه.
قوله: ((في أصل اللغة)) أي: وأَمَّا معناه في عرف أهل اللغة وفي عرف النحاة فسيأتي الكلام عليه.
قوله: ((بمعنى الرمي)) الإضافة للبيان، والمراد أنه بمعنى الرمي مطلقا سواءٌ كان بالفَمِ أو بغيرِهِ كان الرمي لحرف أو لغيره كما يدل له قولُ الشارح بعدُ «صادِرًا من الفَمِ أَوْ لا».
قوله: ((فهو بمعنى المفعول)) المناسِبُ حَذْفُ هذا، لأنه لم يتقدم له ما يتفرع عليه هذا، إذ لا يتسبب عن كون اللفظ مَصْدَرًا بمعنى الرمي أن يكون اللفظُ بمعنى اسم المفعول حتى أنه يفرعه عليه بالفاء
وأيضا لم يكن هذا مرادًا في أصل اللغةِ بل المرادُ باللفظ في أصل اللغة نفسُ المصدرِ ولم يُنْقَلْ عنه لاسم المفعول اتفاقًا، فكان على الشارح أن يُفَرِّعَهُ على أحد المعنيين الآتِيَيْنِ ويَحْذِفَهُ من هنا.
قوله: ((فيتناول ... إلخ)) تفريع على كون اللفظ في أصل اللغة بمعنى الرمي، فالضمير في «يتناولُ» عائد على «اللفظُ» في أصل اللغة
وقوله «ما لم يكن صوتا» أي: رَمْيًا أَوِ الرميَ الذي لم يكن صوتا ولا حرفا كـ«رمي النَّوَاةِ»، ولابُدَّ من تقديرٍ في الكلام أي: فيتناول رميًّا لم يكن مُسَبَّبُهُ الذي ينشأُ عنه صوتا ولا حرفا كـ«رمي النواة» وما كان مُسَبَّبُهُ «حرفا واحدًا..إلخ»، وإنما احتجنا لهذا التقديرِ لأن كُلًّا من الصوت والحرف ليس نفسَ الرميِ حتى يُخْبَرَ به عنه وإنما هو مُسَبَّبٌ عن الرميِ
وكان الأَوْلَى حَذْفَ قوله «حرفا» من قوله «ما لم يكن صوتا وحرفا» لأن الحرف أخصُّ من الصوت ونفيُ الأعمِّ يستلزمُ نفيَ الأخصِّ أو يُقَدِّمَ «الحرفَ» على «الصوتِ» ويكونُ من ذِكْرِ العامِّ بعد الخاصِّ.
قوله: ((مهملا أو مستعملا)) خبرٌ لـ«كان» المحذوفةِ مع اسمِها أي: كان ذلك الأكثرُ مهمَلا أو مستعمَلا فهو تعميمٌ في الـ«أكثرُ».
قوله: ((صادرا من الفم)) أي: كالحروف
وقوله: ((أَوْ لا)) كطَرْحِ النَّوَاةِ، وهذا تعميمٌ في قوله «ما لم يكن صوتا وحرفا وما كان حرفا أو أكثر» وكان الأَوْلَى حذفَ التعميمِ أعني قوله: «صادرا من الفم أَوْ لا» لأنه مُكَرَّرٌ مع ما قَبْلَهُ، وذلك لأن قولَهُ «صاردا من الفم» هو نفسُ قوله «وما هو حرف واحد أو أكثرُ مهملا أو مستعملا» وقولَهُ «أَوْ لا» هو نفس قوله «ما لم يكن صوتا ولا حرفا» كذا قيل
وقد يقال: لا تَكْرَارَ أصلا بل هذا أعمُّ مما قَبْلَهُ، لأن الصادر من الفم ليس قاصِرًا على الحرف الواحد فأكثر بل هو أعمُّ منه لشموله رميَ النواةِ ونحوِها الصَّادِرَ من الفمِ، والذي ليس صادرًا من الفم ليس قاصرا على غيرِ الصوت والحرف بل يشملُ الصوتَ كالصوتِ الحاصلِ عند وَقْعِ جسمٍ على آخر، فتأمل.
قوله: ((لكن خص ثانيا)) هذا استدراكٌ على ما يُتَوَهَّمُ من أن هذا الأصل وهو كون اللفظ مَصْدَرًا بمعنى الرمي مستمرٌ
وقوله «خص» أي: بعد التجوزِ فيه بجعله بمعنى اسم المفعول، فالواقع من اللُّغَوِيِّينَ النقلُ ثُمَّ التخصيصُ، وهذا مَذْهَبُ الرَّضِىِّ حيث قال: «اللفظُ في أصل اللغة مصدرٌ ثُمَّ استُعْمِلَ بمعنى الملفوظِ ثم خُصَّ بالملفوظ من الحروف»
وقيل إنه خُصَّ قبل التجوزِ المذكورِ وهو مذهب السيد، فذهب إلى أن اللفظ في أصل اللغة الرميُ ثم استُعمل في رَمْيِ ما يَصْدُرُ من الفم من الحروف والأصوات، والمعنَيَانِ مَصْدَرَانِ ثم تُجُوَّزِ في المعنى الثاني بجعلِهِ بمعنى اسم المفعول.
قوله: ((ثانيا)) منصوبٌ على الظرفية أي: خُصَّ زمنًا ثانيًا أي: في زمنٍ ثانٍ لا يصح جعل «ثانيا» مفعولا مطلقا أي: خُصَّ تخصيصًا ثانيًا لاقتضائِهِ أنه خُصَّ أَوَّلا في عرف اللغة بشيءٍ آخَرَ مع أنه ليس كذلك.
قوله: ((بما هو صادر من الفم ... إلخ)) إِنْ مَرَرْتَ على قولِ السَّيِّدِ المتقدِّمِ من أن التخصيص لم يَسْبِقْهُ تَجَوُّزٌ فلابد من تقديرِ مضافٍ أي: بِـرَمْيِ ما هو صَادِرٌ بالفعل من الفم.
قوله: ((من الفم من الصوت ... إلخ)) «مِنْ» الأَوْلَى ابتدائيةٌ والثانيةُ بيانِيَّةٌ
وقوله «بما هو صادر من الفم» أي: بما هو صادر من الفم بالفعل سواءٌ كان فَمَ إنسانٍ أو غيرَهُ، وليس المرادُ بما شَأْنُهُ أن يَصْدُرَ من الفم لأن هذا اصطلاحٌ نَحْوِيٌّ كما يَأْتِي.
قوله: ((على المخارج)) أي: على جِنْسِهَا، لأَجْلِ أَنْ يَشْمَلَ الحرفَ لأنه يَعْتَمِدُ على مَخْرَجٍ وَاحِدٍ.
قوله: ((حرفًا واحدًا أو أَكْثَرَ)) خبرٌ لـ«كان» المحذوفةِ مع اسمِها، والتقديرُ كان ذلك الصوتُ المعتمدُ على جنسِ المخارجِ حرفًا واحدًا أو أكثرَ
ويصح جعلُهُ حالا من «الصوتِ»، لكنَّ الأَوَّلَ أَوْلَى لأن الحرفَ ليس وَصْفًا مُشْتَقًّا كما هو الغالبُ في الحالِ.
قوله: ((مهملا أو مستعملا)) أي: كان الـ«أَكْثَرُ» مهملا أو مستعملا.
قوله: ((فلا يقال...إلخ)) هذا مُفَرَّعٌ على محذوفٍ، والأصلُ «والصُّدُورُ من الفَمِ مُحالٌ على الله، وحينئذٍ فلا يقال في لفظةٍ من ألفاظِ القُرْءَآنِ أو غيرِهِ من الكتبِ المُنَزَّلَةِ التي خَلَقَهَا الله «لفظةُ الله»، لأنها وإن أُضِيفَتْ إليه خَلْقًا لم تُنْسَبْ إليه لإِيهامِها الجارِحَةَ وهو مُنَزَّهٌ عنها.
قوله: ((بل كلمةُ الله)) أي: بَلْ يقالُ فيها «كلمةُ الله» وفيه أن الكلمةَ قولٌ مفردٌ، والقولَ هو اللفظُ الصادرُ من الفم فنِسْبَةُ الكلمةِ إلى الله يُوهِمُ الجارحةَ، واللهُ منزه عنها.
والجوابُ أن إضافةَ الـ«كلمةِ» «لله» وإن كان مُوهِمًا لَكِنْ وَرَدَ الإِذْنُ الشَّرْعِيُّ بإسنادها إليه، فمَحَلُّ مَنْعِ إطلاقِ اللفظِ على الله أو إطلاقِ إسنادِهِ إليه إذا كان مُوهِمًا ما لم يَرِدْ إذنٌ بإطلاقِهِ أو إسنادِهِ وإِلَّا جَازَ.
قوله: ((وفي اصطلاح النحاة)) عطفٌ على قوله «في أصل اللغة» لا على قوله «في عرف اللغة»، وإِلَّا لقال «بِـما مِنْ شأْنِهِ» بإدخال الباء على «ما»
و«النُّحَاةُ» جمعُ ناحٍ كـ«قُضَاةٍ» جمعِ قاضٍ.
قوله: ((ما من شأنه أن يصدر ... إلخ)) «ما» نكرة موصوفةٌ أو أنها موصولةٌ
وقوله «من شأنه» خبرٌ مقدَّمٌ، و«أن يصدر من الفم» في تأويل مصدرٍ مبتدأٌ مؤخَّرٌ، والجملةُ صفةٌ لـ«ما» أو صِلَةٌ لها أي: وفي عرف النحاة شيءٌ أو الشيءُ الذي الصدورُ من الفمِ شأنُه.
قوله: ((واحدا كان أو أكثر)) فيه أن هذا لا يُنَاسِبُ التعبيرَ بالجمع في قوله «الحروف»، أمَّا كونُ قولِهِ «واحدًا» لا يُنَاسِبُ التعبيرَ بالجمعِ فظاهرٌ، وأمَّا عدمُ مناسبةِ قولِهِ «أو أكثرَ» فباعتبارِ أن الأكثرَ من الحرفِ صادق بحرفين، والحروفُ جمعُ كثرةٍ
والجوابُ أن «أَلْ» في «الحروف» جنسيةٌ فتُبْطِلُ معنى الجَمْعِيَّةِ بقرينةِ قولِهِ «واحدًا كان أو أكثرَ»
قوله: ((أو تجري عليه أحكام اللفظ)) عَطْفٌ على قولِهِ «ما لعل الأولى حذفَها كما في الحفني والكردي مِنْ شأْنِهِ أن يصدر» أي: أو ما ليس شأنَهُ الصدورُ من الفمِ لكن تَجْرِي عليه أحكامُ ما يَصْدُرُ من الفَمِ.
قوله: ((فيندرج)) أي: فيدخل.
وقولُه «فيه» أي: في تعريف اللفظ على اصطلاح النحاة
وقوله «حينئذ» أي: حِينَ إِذْ فُسِّرَ بالأمرين بـ«ما من شأنه أن يصدر من الفم، وما ليس شأنَهُ أن يَصْدُرَ من الفَمِ لكن تَجْرِي عليه أحكامُهُ».
وقوله «كلمات الله والضمائر..إلخ» لَفٌّ ونَشْرٌ مُرَتَّبٌ فـ«كلماتُ الله» مُنْدَرِجَةٌ فيه بالنظرِ للطَّرَفِ الأولِ منه، و«الضمائرُ المستترةُ» مُنْدَرِجَةٌ فيه بالنظر للطرف الثاني منه.
قوله: ((كلمات الله)) أي: فيقال لها ألفاظٌ
واعْتُرِضَ أنه إن أريد بـ«كلمات الله» الألفاظُ القُرْآنيةُ فغيرُ ظاهرٍ، لأنها حادِثةٌ وهي صادرةٌ من الفَمِ بالفعل، فلا يُتَوَهَّمُ عَدَمُ دخولها حتى يُنَصَّ عليه
وإن أريد بـ«كلمات الله» المعنى القديمُ القائمُ بذاته تعالى فليس من شأْنِهِ الصدورُ المذكورُ بل من شأنه عدمُهُ.
وأجيب باختيار الثاني لكن في الكلامِ حَذْفُ مضافٍ، والأصل «وفي اصطلاح النحاةِ ما من شأن نوعِهِ أن يَصْدُرَ من الفم»، وكلامُ الله القديمُ نوعُهُ مطلقُ كلامٍ أي: كُلِّيُّهُ الذي يُحْمَلُ عليه، فالمرادُ النوعُ اللُّغَوِيُّ لا المنطقيُّ الذي هو تمامُ الماهيةِ، لأن هذا لا يقال في ذات الله ولا في صفاته، وشأنُ هذا النوعِ الصدورُ من الفَمِ باعتبار بعضِ أَفْرَادِهِ لا جميعِها، لأن القديمَ ليس شأنُهُ الصُّدُورَ منه
هذا غايةُ ما أُجيب به، وفيه نَظَرٌ من وجهين:
الأول أن مُقْتَضَى هذا الجوابِ أن الكلامَ القديمَ يقال له لفظٌ، وليس كذلك.
الثاني أن ما لَزِمَ النوعَ وكان شأنَهُ فهو لازمٌ لجميع الأفراد ضرورةَ أن النوعَ موجودٌ في كل الأفراد، فيعودُ الإشكالُ ولزومُ أن القديمَ شأنُه الصدورُ من الفم.
وأجيب عن الأول بأنه إن أريد بكون القديم لا يقال له لفظٌ يعني شرعًا فمُسَلَّمٌ لكنَّ كلامَ الشارح في مجردِ الاندراج في التعريفِ، والجوازُ الشرعيُّ وعدمُهُ شيءٌ آخَرُ، وإن أراد أنه لا يقال له لكونه لم يندرج فهو بعدَ فَهْمِ المقامِ مُكَابَرَةٌ
وعن الثاني بأن المرادَ شأنُ النوعِ لولا المانعُ، وقد قام المانعُ في القديم، على أنهم كثيرًا ما يُطْلِقُونَ لعله سقط النوع على الكثيرِ الغالبِ فلا يلزمُ في جميعِ الأفرادِ، ولو لم يكن مَرادُهم بالشأْنِ ما ذُكِرَ لم يكن للعُدُولِ عن «الفِعْلِ» إلى «الشَّأْنِ» فائدةٌ.
قوله: ((التي يجب استتارها)) قَيْدٌ لابُدَّ منه لإخراجِ جائزةِ الاستتارِ، لأن شأنُهَا الصدورَ من الفَمِ، وكلامُنا في إدخالِ الضمائرِ في قوله «أو تَجْرِي..إلخ» إذ معناه كما عَلِمْتَ «أو ليس شأنَها الصدورُ من الفمِ ولكن تَجْرِي..إلخ» وهذا لا يكون إلا في واجبِ الاسْتِتَارِ
والحاصلُ أن الضمائرَ المُسْتَتِرَةَ جوازًا وما حُذِفَ من مبتدأٍ أو خَبَرٍ أو نَعْتٍ أو غيرِ ذلك داخلةٌ في التعريفِ بالنظر للطَّرَفِ الأولِ، وكذا «كلماتُ الله» لا فَرْقَ بين القديمةِ والحادثةِ، والضمائرَ المستترةَ الواجبةَ الاستتارِ داخلةٌ بالنظر للطرف الثاني.
قوله: ((وهذا المعنى)) أي: معنى اللفظِ في اصطلاحِ النُّحَاةِ ((أعمُّ من)) المعنى ((الأول)) أي الأولِ الإضافيِّ وهو معناه في عرف أهل اللغة لا الأولِ الحقيقي الذي هو معناه في أصل اللغة، لأن بينهما التباينَ لأن معناه في أصل اللغةِ الرميُ مطلقا وهو مصدرٌ، وما من شأنِهِ أن يَصْدُرَ من الفَمِ مَرْمِيٌّ فهو اسمُ مفعولٍ.
وقوله: ((أعم)) أي: عموما مطلقا، فيجتمعان في نحو: «زيدٌ قائمٌ» فهو لفظٌ في عرف أهل اللغة، لأنه صوتٌ صادِرٌ من الفَمِ مُعْتَمِدٌ على مَخَارِجَ، وكذا في عرف النحاة لأنه حروف شأنها أن لعله سقط تصدر من الفم وما شأنُه الصدورُ لا يُنَافِي الصدورَ بالفعل، وينفردُ اللفظُ في اصطلاحِ النحويين عنه في عرف اللغة بكلمات الله القديمةِ والضمائرِ الواجبةِ الاستتارِ فلا يقال لها لفظٌ في عرف أهل اللغة، لأنها ليست أصواتًا صادرةً من الفمِ معتمِدةً على مخارِجَ.
قوله: ((وهو)) أي: معنى اللفظ في اصطلاح النحاة ((المرادُ هنا)) أي: في كلام المصنف
لا يُقَالُ اللفظُ في اصطلاحهم يشملُ المُهْمَلَ مع أنه لا تصحُّ إرادتُهُ هنا للإخبارِ عنه بقوله «قد يُوضَعُ»، والمهمَلاتُ لا وَضْعَ لها
لأنا نقول الخبرُ المذكورُ قرينةٌ على تخصيصِ اللفظِ بغيرِ المُهْمَلِ.
قوله: ((واللام فيه إما للجنس ... إلخ)) اعلم أن «أَلْـ» إِمَّا أن يُشَارَ بها للحقيقةِ وإما أن يُشَارَ بها للأفرادِ،
والتي يُشَارُ بها للحقيقةِ إِمَّا أن يُشَارَ بها للحقيقةِ من حَيْثُ هِيَ وتسمى لامَ الجِنْسِ وإِمَّا أن يُشَارَ بها للحقيقة من حَيْثُ تحقُّقُها في حِصَّةٍ من الأفرادِ غيرِ مُعَيَّنةٍ ويقالُ لها لامُ العَهْدِ الذِّهْنِيِّ نحو: «ادْخُلِ السوقَ» إذا كان في البلد أسواقٌ متعددةٌ و«اشْتَرِ اللَّحْمَ» و«أخاف أن يأكله الذئب»
والتي يُشَارُ بها للأفرادِ إِمَّا أن يُشَارَ بها لكل أفرادِ الحقيقةِ ويقال لها لامُ الاسْتِغْرَاقِ نحو: ﴿إن الإنسان لفي خسر﴾ بدليل قوله بعدُ ﴿إلا الذين آمنوا﴾..إلخ، لأن الاستثناء يدل على العمومِ والاستغراقِ في المُسْتَثْنَى منه، وإِمَّا أن يُشَارَ بها إلى حِصَّةٍ من الأفراد معيَّنةٍ نحو: «جاءَ القَاضِي» إذا لم يكن في البلد إِلَّا قاضٍ واحدٌ ويقال لها لامُ العَهْدِ الخارِجِيِّ، فالأقسامُ أربعةٌ
ومُحَصَّلُ كلامِ الشارحِ أنه يصح هنا إرادةُ اثنين منها وهي لامُ العَهْدِ الذهنيِّ ولامُ العهدِ الخارجيِّ، ولا يصح أن تكون هنا للاستغراقِ ولا للجنسِ، لأنه على إرادة الاستغراق يكون المعنى «كُلُّ لفظٍ قد يوضع لشخصٍ بعينِهِ، وقد يوضع له باعتبار أمر عامٍّ»، و«كلُّ لَفْظٍ» صادقٌ بالمُهْمَلِ مع أنه غيرُ موضوعٍ
ويمكن أن يُجابَ عن هذا بأن المرادَ «كلُّ لفظٍ قد يوضع» أي: كلُّ لفظٍ من الألفاظ الموضوعةِ بقرينةِ الخبرِ، وحينئذٍ يكونُ الاستغراقُ ظاهرًا.
نَعَمْ، يَفْسُدُ الاستغراقُ من جهة أنه يصير المعنى عليه «كل لفظ موضوعٍ قد يُوضَعُ لمشخَّص بعينه وقد يوضع له باعتبار أمر عام» وظاهرٌ أن كل لفظ أُخِذَ فهو واحِدٌ من القسمين لا أنه مُنْقَسِمٌ للقسمين كما هو مُقْتَضَى الاستغراقِ
وأما عَدَمُ صحةِ جعلِها للجنسِ فلأنه على إرادته يصير المعنى «جنسُ اللفظِ قد يوضع..إلخ» مع أن الجنس موضوع له لا أنه موضوعٌ، فجنس اللفظ وحقيقتُهُ وُضِعَ لها كلمةُ «لفظ» ولم تُوضَعْ لشيء.
قوله: ((إِمَّا للجنس)) أي: إما أن يكون مشارًا بها للجنس.
قوله: ((في بعض أفراده)) أي: بعضٍ غيرِ مُعيَّنٍ.
قوله: ((أعني العهد الذهني)) أي: أعني بالجنس المتحققِ في بعض الأفراد العهدَ الذهني أي: الماهيةَ المعهودةَ في الذهن، فالمعهودُ في الذهن هو الماهيةُ لا بعضُ الأفرادِ لأنه مُبْهَمٌ.
إن قلتَ: إن البعض الغيرَ المعيَّنَ الذي يتحقق فيه الجنسُ صادقٌ بالـ«المُهْمَلِ»، وحينئذٍ فجَعْلُها للعهدِ الذهنيِّ لا تَصِحُّ إرادَتُهُ لذلك.
وأجيب بأن هذا البعضَ الذي تَحَقَّقَ فيه الجنسُ غيرُ معيَّنٍ باعتبار ظاهرِ اللفظِ والاحتمالِ العقليِّ لكنه معيَّنٌ في نفس الأمر، فتأمل.
قوله: ((أو لحصة)) أي: وإما أن يكون مشارًا بها أي: باللام لحِصَّةِ معيَّنَةٍ أي: لفَرْدٍ مُعيَّنٍ.
وقوله: ((من جنس)) أي: من أفرادِ جنسِ، وإضافةُ «جنس» لـ«مطلقِ اللفظِ» إضافةٌ بيانيةٌ، لأن مطلق اللفظ هو نفسُ الجنسِ، وإضافةُ «مطلقِ اللفظِ» من إضافةِ الصفةِ للموصوفِ أَيْ: وإما أن يكون مشارًا بها لفردٍ من أفراد الجنسِ الذي هو اللفظُ المطلقُ أي: الذي لم يُقَيَّدْ بكونِهِ موضوعًا أم مُهْمَلا
وكلامُ الشارحِ جَارٍ على أَنَّ لامَ العَهْدِ الخارجيِّ قَسِيمَةٌ للام الجِنْسِ، وإِلَّا لقال «أو للجنس في ضِمْنِ حِصَّةٍ».
قوله: ((وهي الموضوع منه)) أي: وتلك الحصة المعيَّنَةُ أي: الفردُ المعيَّنُ هو الموضوعُ من أفرادِ اللفظِ، فالضميرُ في «منه» للجِنْسِ، وفي الكلامِ حَذْفُ مُضَافٍ أي: وهي الموضوعُ من أفراده.
قوله: ((أعني العهد الخارجي)) أي: أعني بالحِصَّةِ المعيَّنةِ المشارِ إليها الحِصَّةَ المعهودةَ في الخارجِ.
إن قلت: قد ظَهَرَ لك أن المرادَ من اللفظ سواءٌ أُرِيدَ العهدُ الذهنيُّ أو الخارجيُّ «اللفظُ الموضوعُ» وحينئذ فلْيَكُنِ الإخبارُ بقوله بعدُ «قد يُوضَعُ» مَلْغِيًّا لا صِحَّةَ له، إذ لا فائدةَ فيه.
وأجيبَ بِأَنَّ مَحَطَّ الفائدةِ القَيْدُ أَعْنِي قولَهُ «لمشخص بعينه»
وكان الأَوْلَى للمصنفِ أن يقول: «اللفظُ قد يكونُ لمشخص..إلخ» لأجل أن لا يَرِدَ ما ذُكِرَ.
إن قلتَ: العهد الخارجي عَهْدُهُ إما من حيث تقدُّمُهُ «صريحًا أو كنايةً أو عِلْمًا» فما هنا من أَيِّ قَبِيلٍ.
قلتُ: من القَبِيلِ الثالثِ إِذْ من المعلومِ أن اللفظَ الثابتَ لمشخَّصٍ أو لأَمْرٍ كُلِّيٍّ إنَّما هو الموضوعُ، فتأمل.
قوله: ((وحينئذ)) أي: وحينَ إِذْ جُعِلَتْ «أَلْـ» للعهد الخارجي وأُرِيدَ «اللفظُ الموضوعُ» فيجب أن يُحْمَلَ..إلخ
أَمَّا على جَعْلِهَا للعهد الذهني فالفردُ الغيرُ المعيَّن الذي تحقق فيه الجنسُ صادقٌ بالموضوع وغيرِهِ فيَحْسُنُ التعبيرُ بقوله «يُوضَعُ» في الجملةِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ.
وقد يقالُ: لابُدَّ من التأويل أيضًا حتى على جَعْلِهَا للعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، لأن الحِصَّةَ التي تحقق فيها الجنسُ عدمُ تَعْيِينِهَا باعتبار الاحتمالِ العقليِّ وظاهرِ اللفظِ فلا يُنافي أَنَّها مُتَعَيِّنَةٌ في نَفْسِ الأَمْرِ، فتأمل.
قوله: ((على العدول)) متعلق بـ«يُحْمَلَ».
قوله: ((إما لاستحضار الصورة)) أي: على تقدير أن يكون المضارع للحال فكأنه يَسْتَحْضِرُ بالمضارع تِلْكَ الصورةَ أي: صورةَ وَضْعِ اللفظِ لمشخصٍ أو لأمر كليٍّ ليشاهِدَهَا السامعون لأجل غَرَابَتِهَا، إذ تَعَقُّلُ الموضوعِ له بواسطةِ أمرٍ عامٍّ أو بدونها ثم وَضْعُ اللفظِ له أمرٌ غريبٌ
واعلم أن هذه الغرابةَ لم تكن لكلِّ الناسِ بل لبعض الأفراد، والمتبادَر من الشارحِ خلافُهُ، اللهم إِلَّا أن يقال قوله «لنوع غرابة» أي ولو ادعاءًا، وهذا عام في كل الناس، فتأمل.
قوله: ((أو لتأخر الوضع عن الذات)) في الشرح لِتَأَخُّرِ الوضعِ عن اللفظ بالنظر إلى الذَّاتِ. أي: عن ذات اللفظ أي: على تقدير كون المضارع للاستقبالِ فيَكْفِي في كونِهِ مستقبلا تَأَخُّرُ الوضعِ عن ذاتِ اللفظ
وهذا الجواب يقتضِي صِحَّةَ أن يقال: «جاء الذي يَضْرِبُ» لشخصٍ ضَرَبَ مِنْ مُدَّةٍ طويلةٍ نظرًا لكون ذاته متقدمةً على ضَرْبِهِ، قيل وهو في غايةِ البُعْدِ
وقد يقال لا مانع من صحتِهِ، نَعَمْ إِنْ وَرَدَ نقلٌ بِمَنْعِهِ فالأمرُ ظاهر، فتأمل.
قوله: ((إذا تمهد هذا)) أي: إذا تَقَرَّرَ وثَبَتَ هذا أي ما ذُكِرَ من كون المرادِ بـ«اللَّفْظِ» في كلامِ المصنفِ «اللفظَ الموضوعَ»
والتمهيدُ في الأصل وَضْعُ الطِّفْلِ في المَهْدِ أي: في فِرَاشِهِ الذي يَنَامُ فيه، ومعلومٌ أن وَضْعَ الطفل في فراشه يكون بطمأنينة وثَبَاتٍ، فاستُعْمِلَ في مطلق إِثْبَاتِ الشيءِ على وَجْهٍ تامٍّ.
فإن قلت: إن ما ذُكِرَ معنًى لـ«التمهيد»، والواقعُ في الشارح «تَمَهَّدَ» ومصدرُه التَّمَهُّدُ، وحينئذٍ فلا يكون معناه ثَبَتَ على وَجْهٍ تامٍّ.
قلت: إن التَّمَهُّدَ مطاوعٌ لـ«التمهيد» فكأنه مصدرٌ له، فصح حينئذ تفسير بالثبوت المذكور، فتأمل.
قوله: ((من حيث تشخصه صوابه تشخص المعنى ... إلخ)) أي: لا من حيث إفرادُهُ وتركيبُهُ ولا من حيث اسميتُهُ وفِعْلِيَّتُهُ وحرفيَّتُهُ.
قوله: ((وعمومه)) هو والخصوصُ من عوارض الألفاظ فوصف المعنى بهما تجوُّزٌ من وصف المدلول بوصف الدَّالِّ، وأَمَّا وَصْفُ المعنى بالكلية والجزئية فهو حقيقةٌ، ووصف ُاللفظِ بهما مجازٌ.
قوله: ((على ما يقتضيه)) متعلقٌ بمحذوف أي: والحكم على أقسام اللفظ بأنها أربعةٌ جَرْيٌ على انقسام أو على الانقسام الذي يقتضيه التقسيمُ العقلي، وأما على ما يقتضيه التقسيمُ الخارجيُّ فثلاثةٌ فقط كما سيأتي.
قوله: ((التقسيم العقلي)) أي: الحَاصِلُ بواسطةِ العَقْلِ فنسبتُهُ للعقل من حَيْثُ إِنَّهُ آلةٌ فيه، وليس العَقْلُ هو المُقَسِّمَ له بَلِ المُقَسِّمُ لذلك التقسيمِ النَّفْسُ بواسطةِ العَقْلِ.
قوله: ((ابتداءًا)) مُتَعَلِّقٌ بـ«يَقْتَضِيهِ»، واحتَرَزَ به عمَّا يقتضيه التقسيمُ العقليُّ ثانيًا إِذْ بالنظر إليه تَزِيدُ الأقسامُ، لأن الأولَ ينقسمُ إلى عَلَمِ شخصٍ وعَلَمِ جِنْسٍ، والثانيَ إلى حَرْفٍ وضَمِيرٍ واسْمِ إِشَارَةٍ ومَوْصُولٍ، والثالثَ إلى اسمِ جنسٍ ومَصْدَرٍ ومُشْتَقٍّ وفِعْلٍ كما يأتي بَسْطُ ذلك في «التقسيم».
قوله: ((أربعة)) فيه أنه يَرِدُ على حَصْرِ الأقسامِ في الأَرْبَعَةِ المذكورةِ أقسامٌ أربعةٌ أيضًا:
الأول: أن يوضع اللفظ لمعانٍ كلية متعددة باعتبار معنًى كليٍّ أعمَّ منها
والثاني: أن يُوضَعَ لجزئياتٍ باعتبارِ جُزْئِيٍّ آخَرَ
والثالث: أن يُوضَعَ لمفهومٍ كليٍّ مَلْحُوظٍ بأَمْرٍ مُبَايِنٍ له
والرابع: أن يُوضَعَ لمفهوماتٍ متبايِنَةٍ مَلْحُوظَةٍ بأَمْرٍ مُبَايِنٍ
قلت: الكلامُ في الأقسامِ التي يقتضيها العقلُ الواقعةِ بالفعل
وحينئذ فلا يَرِدُ الأولُ لأنه وإن كان العقلُ يقتضيه لإمكانه لكنه لا وجودَ له بالفعل
ولا تَرِدُ الثلاثةُ الباقيةُ، لأنها مستحيلةٌ، وحينئذ فلا يُجَوِّزُها العقلُ ولا يقتضيها.
قوله: ((إما مشخص)) أي: معيَّن.
وقوله: ((أَوْ لا)) أي: أَوْ لا يكونَ مشخصا بل هو عامٌّ، هذا هُوَ المرادُ وَإِنْ كان غيرُ المشخَّصِ صادقا بصورتين الأُولَى أن يكون عامًّا، والثانية أن يكون غيرَ عامٍّ وغيرَ خاصٍّ، وهذه ليست مرادةً، إذ لا وجودَ لها، وكذا يقال في قوله «أَوْ لا» الآتية بعدَ ذلك.
قوله: ((وعلى كلا التقديرين)) أي: من كون الموضوعِ له مشخَّصًا أو عامًّا.
قوله: ((فالوضع إما خاص أو لا)) أي: أو عامٌّ
فإذا كان المعنى مشخَّصا فالوضعُ إما خاصٌّ أو عامٌّ، وإذا كان المعنى عامًّا فالوضع إما خاصٌّ أو عامٌّ، فتَحَصَّلَ أن الأقسامَ أربعةٌ
لكن لا يخفى عليك أن مقتضى هذا أن يكون القسم الرابعُ الذي ذَكَرَهُ الشارحُ ثالثًا والثالثُ رابعًا،
ويمكن أن يُجَابَ بأن القَصْدَ من قوله «فالأولُ كذا والثاني كذا والثالثُ كذا إلى آخره» ذِكْرُ الأقسامِ لا بقيدِ كونِ هذا أَوَّلا وهذا ثانيًا وهذا ثالثًا وهذا رابعًا أي: أن المقصودَ بيانُ كونِ الأقسامِ أربعةً، وأما كون هذا أَوَّلا أو ثانيًا..إلخ فليس مُلْتَفَتًا إليه.
فإن قلتَ: إن الوضعَ هو جَعْلُ اللفظِ بإزاءِ المعنى فهو فِعْلُ الواضعِ، وحينئذ فلا يكون إلا خاصا لأنه من الأفعال الخارجية فلا يتصور فيه العمومُ، فما وَجْهُ جعلِهِ عامًّا وخاصًّا.
قلتُ إطلاقُ الخصوصِ والعمومِ عليه تارةً يكون باعتبارِ خُصُوصِ الْآلَةِ التي يُسْتَحْضَرُ بها المعنى الموضوعُ له اللفظُ وعُمُومِها، وتارةً باعتبار المعنى الذي وُضِعَ لَهُ اللفظُ، وهذا لا يُنافِي أنه في حَدِّ ذَاتِهِ دائما خاصٌّ، فتَأَمَّلْ.
قوله: ((باعتبار تعقله بخصوصه)) أي: مُلْتَبِسًا بخصوصِهِ لا باعتبارِ تعقُّلِهِ بأمر عامٍّ، فآلةُ الوضعِ في هذا القسم التَّعَقُّلُ بالخُصُوصِ لا أمرٍ كليٍّ صادقٍ على جزئياتٍ، والموضوعُ له المُتَعَقَّلُ المشخَّصُ.
قوله: ((كما إذا تصورتَ)) أي: كتصورك فـ«ما» مصدرية، و«إذا» زائدةٌ، وفيه أن القَصْدَ التمثيلُ للوضع الخاص وهو غيرُ التصور
وقد يجاب بأن في العبارةِ حذفًا أي: كعاقبة تصورك..إلخ، إذ لا شك أن الوضع ينشأ عن ذلك ويَعْقُبُهُ.
قوله: ((ذات زيد)) كان الأَوْلَى أن يقول «كما إذا تصورتَ ذاتًا» ويَحْذِفَ «زيدًا»، لأنه في حال تصوره للذات التي يريد وَضْعَ «زيدٍ» لها لم تكن ذاتَ زيدٍ.
وأجيب بأن المراد كما إذا تصورت ذاتًا يكون دَالُّها بحسب المآلِ لفظَ «زيدٍ».
قوله: ((لفظة زيد)) بالإضافة البيانية، وفي نسخة «لفظَهُ» بالضمير العائد على «زيدٍ» المضافِ إليه، وهو خلافُ الأصل لأن المُحَدَّثَ عنه المضافُ.
قوله: ((بإزائه)) أي: في مقابلته أي الـ«ذات»، وذَكَّرَ الضميرَ باعتبارِ أن الذاتَ شيءٌ من الأشياء أو لاكتسابها التذكيرَ من المضافِ إليه.
قوله: ((ما وضع لمشخص)) أي: لجنسه الصادق المتعدد، وإلا فهو موضوعٌ لمشخَّصاتٍ بقرينة قول الشارح «وهذا القسمُ مما في نسخة الشرح يجب أن يكون معناه متعددًا»، ولا يُقَدَّرُ لفظُ «كُلِّ» في كلام الشارح بأن يقال «ما وضع لكُلِّ مشخَّصٍ» وإلا صار قوله الآتي «ويجب أن يكون معنى هذا القسم متعددًا» ضائعًا لا فائدةَ فيه بل الذي يُقَدَّرُ فيه الـ«جِنْسِ» فيكون مُجمَلاً فيصيرُ قوله الآتي «ويجب..إلخ» مُبَيِّنًا لإجمالِهِ.
قوله: ((بل باعتبار بأمر عام)) أي: بل باعتبار تعقُّلِهِ بأمرٍ عامٍّ وهو آلةُ الوضعِ.
قوله: ((ويسمى ذلك الوضع وضعا عاما)) وَصْفُ هذا الوضعِ بالعموم بالنظر لآلَتِهِ، وأمَّا بالنظر لذاتِهِ فهو خاصٌّ كالموضوعِ له، فهو من وَصْفِ المسبَّبِ بوَصْفِ سَبَبِهِ، لأن الآلةَ باعتبار تَعَقُّلِهَا سببٌ للوَضْعِ المذكورِ.
قوله: ((مما يجب أن يكون معناه متعددا ... إلخ)) لأجل أن يتحقق معنى عُمُومِ الآلَةِ التي اسْتُحْضِرَ بها المعنى أي: ومما يَجِبُ فيه أن يكونَ المعنى الموضوعُ له مُسْتَحْضَرًا بآلَةِ وَضْعٍ كُلِّيَّةٍ، بخلافِ القِسْمِ الأولِ فإنه لا يجب فيه شيءٌ من الأمرين المذكورين.
وقوله: ((أن يكون معناه متعددًا)) أي: وأن يكون موجودًا في الخارج، لأن الكلامَ في أقسامٍ تحقَّقَتْ في الخارج.
وقوله: ((أن يكون معناه متعددا)) أي: تعددًا كثيرًا لما صَرَّحُوا به في سبب الاحتياج للآلَةِ الكُلِّيَّةِ من أَنَّ الأفرادَ الكثيرةَ لَـمَّا كان لا يمكن استحضارها بذاتها في العَقْلِ لِيُوضَعَ لها اللفظُ اسْتُحْضِرَتْ فيه بالأمر العامِّ الذي هو آلةُ الوضع وَوُضِعَ لها، فهذا يدل على أنه ليس المرادُ مطلقَ التعددِ الصادقِ بما يمكن حَصْرُهُ.
قوله: ((باعتبار تعقله كذلك)) ظاهرُهُ باعتبار تَعَقُّلِهِ بأمْرٍ كُلِّيٍّ، فيَقْتَضِي أن الحيوانَ الناطقَ اسْتُحْضِرَ بكُلِّيٍّ آخَرَ وأَنَّ عندنا كُلِّيَّيْنِ الموضوعَ له والآلَةَ، وهذا غيرُ صحيح، إذ ليس هنا آلةٌ كليةٌ، وقد أشار الشارح لدفع هذا بقوله «أي: على عمومه» وحينئذ فقوله «باعتبار تعقله كذلك» معناه باعتبار تَعَقُّلِهِ بعُمُومِهِ، فآلةُ الوضع في هذا القسم التَّعَقُّلُ بالعُمُومِ والموضوعُ له المُتَعَقَّلُ العامُّ.
قوله: ((ويسمى هذا الوضع وضعا عاما لموضوع له عام)) جَعْلُ الوضعِ هنا عامًّا بالنظر للمعنى الذي وُضِعَ له اللفظُ بخلاف القسم الذي مَرَّ قبلَ هذا، فإن جَعْلَ الوضع فيه عامًّا باعتبارِ آلةِ الوضع
والحاصلُ أن خصوصَ الوضعِ وعُمُومَهُ مُنْظُورٌ فيه لمتعلَّقِ التصورِ، فإن كان متعلِّقا بعامٍّ كان الوَضْعُ عامًّا وإن كان متعلِّقا بأَمْرٍ خاصٍّ كان الوَضْعُ خاصًّا سَوَاءٌ كان متعلَّقُ التصورِ موضوعًا له أو كان آلةً لملاحَظَةِ الموضوعِ له.
قوله: ((معنى الحيوان الناطق)) الإضافةُ للبيانِ.
قوله: ((بخصوصية بعض أفراده)) الإضافة للبيان أي: باعتبار تَعَقُّلِهِ بخصوصيةٍ هي بعضُ أفرادِهِ.
قوله: ((مما لا وُجُودَ له)) أي: في الخارجِ، ولَـمَّا كان هذا صادقا بإِمْكَانِهِ أَضْرَبَ عنه بقوله «بل حَكَمُوا باستحالَتِهِ».
قوله: ((لأن الخصوصيات)) أي: المَخْصُوصَاتِ أي: الجزئياتِ المخصوصةَ المُعيَّنةَ.
قوله: ((لا يعقل كونها مِرْآةً)) أي: كالمِرْآةِ لملاحظةِ كُلِّيَّاتِهَا، وإنَّما كان كذلك لأن الكليَّ يُعْتَبَرُ مُمْتَدًّا مُسْتَطِيلاً بحسب كثرةِ أفرادِهِ، والجزئيَّ يُعْتَبَرُ لا امْتِدَادَ فيه، وحينئذٍ فلا يمكنُ إدراكُ المُمْتَدِّ منه لعدم مساواتِهِ له في الامتدادِ والاستِطَالَةِ، وشاهدُ ذلك من الحِسِّ ما لو كان في حائطٍ ثُقْبٌ وبعُرْضِهَا حائطٌ آخَرُ مُسَاوٍ لها في الامتدادِ من المَشْرِقِ للمَغْرِبِ مثلا إذا نُظِرَ من هذا الثُّقْبِ إلى تلك الحائطِ فلا يُرَى منها إلا ما كان بلصق ذلك الثُّقْبِ فقط ولا يمكن رؤيةُ غَيْرِهِ.
قوله: ((واكتَفَى بذكر القسمين)) أي: في المقدِّمَةِ، فلا يُنافي ذِكْرَهُ الثَّالِثَ في «التقسيم» تَبَعًا للمقصود.
قوله: ((لعدم تحقق الرابع)) الأَوْلَى أن يقول: «لاستحالةِ الرَّابِعِ» لأنَّ عَدَمَ تحقُّقِهِ أَيْ: عَدَمَ وُجُودِهِ في الخارج يَصْدُقُ بإِمْكَانِهِ.
قوله: ((ولظهور الثالث)) أي: والتَّكَلُّمُ على الظاهرِ كالعَبَثِ، وإِنَّما كان الثالثُ ظاهرًا لعدم المُخَالَفَةِ بين الوَضْعِ والموضوعِ له، لأن كُلًّا كليٌّ.
قوله: ((وهو تحقيق ... إلخ)) إنَّما كان تحقيقُ ما ذُكِرَ هو المقصودَ الأَصْلِيَّ من الرسالة دون بيانِ معنى «المصْدَرِ والمشتَقِّ والفِعْلِ والعَلَمِ واسمِ الجِنْسِ» لأن ما ذُكِرَ محلُّ الخلافِ بين العلَّامَتَيْنِ المصنفِ والسَّعْدِ، وأمَّا معنى المصدرِ وما مَعَهُ فليس فيه خلافٌ بينهما فهو مقصودٌ تَبَعًا، ولِذَا ذَكَرَهُ في التقسيم الموضوعِ لبيان ذِكْرِ المقصودِ من الرسالةِ أَعَمَّ مِنْ كونِهِ مقصودًا أَصْلِيًا أو تَبَعِيًّا.
قوله: ((والأول وإن كان كذلك)) أي: مِثْلَ الثَّالثِ في الظُّهُورِ وعَدَمِ تَعَلُّقِ الغَرَضِ به، لأنه ليس من الأَولَى فيما هو المقصود الأصلي من تلك الرسالة ((إلا أنه..إلخ))
وقولُهُ «والأولُ» مبتدأٌ
وقولُهُ «وإن كان» الواوُ للحال، و«إِنْ» زائدةٌ
وقولُهُ «إِلَّا أَنَّهُ» اسْتِدْرَاكٌ على مَحْذُوفٍ خَبَرِ المبتدأِ، والأصل «والأَوَّلُ والحالُ أَنَّهُ كذلك أَمْرُهُ ظاهرٌ إِلَّا أنه..إلخ»
وبهذا اندفع ما يُقَالُ
«الأول» مبتدأٌ، وأَيْنَ خَبَرُهُ ؟
و«إِنْ» شرطيةٌ، فما جَوَابُها ؟
وقولُهُ «إلا أنه» استدراكٌ على أَيِّ شيءٍ؟.
قوله: ((إلا أنه لما شارك الثانيَ)) أي: الذي هو المقصودُ من الرسالةِ.
قوله: ((ليزيد توضيح صاحبه)) أَيْ: توضيحَ المُصَاحِبِ له أَيْ: للأَوَّلِ، والمُصَاحِبُ للأَوَّلِ هو الثاني، وحاصلُهُ أنه إنَّما تَعَرَّضَ للقِسْمِ الأَوَّلِ في المقدِّمَةِ مع أَنَّهُ مِثْلُ القسمِ الثالثِ في الظهورِ وعدمِ تعلُّقِ الغَرَضِ به لأَنَّ التَّعَرُّضَ له يَزِيدُ القِسْمَ الثانيَ الذي هو المقصودُ توضيحًا، وذلك لأنه لو اقْتَصَرَ على القسمِ الثاني الذي هو المقصودُ لَقَالَ «اللفظُ موضوعٌ لمُشخَّصٍ باعتبار أمرٍ عامٍّ» فيكونُ «زيد» ونحوُه من الأَعْلَامِ المشخَّصَةِ من القسمِ الثاني مع أنه ليس كذلك، فلمَّا بَيَّنَ أن الموضوعَ لمشخَّصٍ قسمان الأولُ كذا والثاني كذا زَالَ الإِلْبَاسُ عن الثاني وحَصَلَ فيه توضيحٌ زائدٌ أي: قَوِيٌّ.
قوله: ((صفة كاشفة)) يعني مُوَضِّحةً غيرَ مُخَصِّصَةٍ، وذلك لأن المُشَخَّصَ هو المعنى لعلها المعين
فإن قلتَ: هذا الاحتمالُ غيرُ صحيحٍ، وذلك لأنه عليه يكونُ قولُ المصنف «وقد يوضع له باعتبار أمر عامٍّ» ضائعًا، إذ لا تَحْسُنُ المقابلةُ به لهذا، لِصِدْقِ هذا به، وذلك لأن المعنَى «اللفظُ قد يوضع لمشخص مُلْتَبِسٍ بالتعيين»، وهذا صادقٌ بأن يكون ذلك المعنى مُتَعَقَّلاً باعتبار أَمْرٍ عامٍّ أَوْ لا، وحينئذٍ فجَعْلُهُ صفةً كاشفةً لا يَصِحُّ.
وأُجِيبَ بأَنَّهُ على احتمالِ جَعْلِهِ صفةً كاشِفةً يُقَيَّدُ قولُ المصنفِ «قد يُوضَعُ لمشخص» بقولنا «وضعا شخصيا» وحينئذ فتَظْهَرُ المقابلةُ.
قوله: ((ويحتمل ... إلخ)) هذا أَحْسَنُ مما قَبْلَهُ لأنه لا يُحْوِجُ إلى اعتبارِ قَيْدٍ بخلافِهِ على الوجهِ الأَوَّلِ كما عَلِمْتَ.
قوله: ((باعتبار تعقله بعينه وشخصه)) أي: لا باعتبار تعقله بأَمْرٍ آخَرَ.
قوله: ((وقد يوضع له)) أي: للمُشَخَّصِ لا بقيدِهِ السَّابِقِ، لأن المرادَ جِنْسُ المشخَّص، لأن الموضوعَ له في هذا القِسْمِ أَفْرَادٌ كثيرةٌ.
قوله: ((أي: الوضع)) أي: المفهومُ من قوله «يُوضَعُ» فالمشارُ إليه مُتَقَدِّمٌ مَعْنًى لا لفظًا على حَدِّ ﴿اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾.
قوله: ((مُشْتَرَكٌ)) أي: اشتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا بأن يكونَ كُلِّيًّا مُسْتَوِيًا معناهُ في أَفْرَادِهِ، وليس المرادُ المشتَرَكَ الاصطلاحيَّ لأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فيه تَعَدُّدُ الوَضْعِ، وما هُنا ليس كذلك.
قوله: ((ثم يقال: هذا اللفظُ)) إِنَّما عَبَّرَ عن اللفظِ بالموضوع صوابه الموضوع بـ«هذا اللفظ» إِيماءًا إلى أنه يَجِبُ أن يكون الموضوعُ مشخَّصا ممتازًا عن غَيْرِهِ كالموضوع له.
قوله: ((لكل واحد)) مُتَعَلِّقٌ بـ«موضوعٌ».
قوله: ((أي: يعين ... إلخ)) هذا تفسيرٌ لحاصِلِ معنى قولِ المصنِّفِ «ثم يقالَ: هذا اللفظ موضوع لكل واحد..إلخ» وليس قوله «أي يُعَيَّنُ» تفسيرًا لقول المصنف «يُقَالَ» وإلّا لَزِمَ على هذا أن قول المصنف «موضوعٌ» زائدٌ، كذا قيل
وقد يقال إِنَّ قولَ الشارحِ الآتي «وإنَّما عَبَّرَ عن ذلك التعيينِ الذي هو الوَضْعُ حقيقةً بالقول..إلخ» يقتضي أن قولَه «أي يُعَيَّنُ» تفسيرٌ لـ«يُقَالُ»، فتَأَمَّلْ.
قوله: ((سواءٌ كان ذلك الأمر العام)) هذا تعميمٌ في الأمر المشترَك في قول المصنف «بأن يعقل أمر مشتَرَكٌ» وإنما لم يَقُلْ «سواءٌ كان ذلك الأمر المشترك» وإن كان هو المناسبَ لكلام المصنف إشارةً إلى أن مراد المصنف بالمشترَك الأمرُ العامُّ الذي استَوَى معناه في أفراده.
قوله: ((كما في معاني الحروف)) أي: كالأمر الكائن في معاني الحروف، فإنه جُزْءٌ منها
بيانُ ذلك أن الواضع وَضَعَ لفظةَ «مِنْ» مثلا لكل ابتداءٍ خاصٍّ، وتلك الابتداءاتُ تُعْقَلُ عند وضع لفظة «مِنْ» لها بمطلق ابتداءٍ أعني الابتداءَ الكليَّ وهو ذَاتِيٌّ للابتداءات الخاصة، لأنه جزء من ماهيتها لأن ماهيةَ الابتداءات الخاصةِ الابتداءُ المطلقُ مع قَيْدِ الإضافةِ للمجرور، فماهيةُ الابتداءِ من البصرة مثلا الابتداءُ المقيَّدُ بالكون من البصرة وهكذا.
قوله: ((كما في المضمرات)) وذلك لأن لفظة «أَنَا» مثلا موضوعةٌ لزيد وعمرو وخالد وهكذا استُحْضِرُوا عند الوضع لهم بأمر كلي وهو مفردٌ مُذَكَّرٌ متكلمٌ، ولا شك أن الإِفْرَادَ والتذكيرَ والتكلمَ ليست من ذاتيات تلك الأفراد الموضوعِ لها بل خارجةٌ عنها كالضحك بالنسبة للإنسان، وأَدْخَلَ بالكافِ الموصولاتِ.
قوله: ((وأسماء الإشارة)) أي: فلفظةُ «ذَا» موضوعة للجزئيات كزيد وعمرو..إلخ استُحْضِرَتْ عند الوضع بأمر كلي وهو مفردٌ مُذَكَّرٌ مشارٌ إليه، والإفرادُ والتذكيرُ والإشارةُ عارضةٌ لتلك الأفراد الموضوع لها وليست من ذاتياتها.
قوله: ((الموضوعُ)) بالرَّفْعِ صفةٌ لـ«المُسَمَّيَاتُ»، وقولُه «لكلِّ منها» أي: لكلِّ فردٍ من أفرادها أي: المُسَمَّيَاتِ
أو أنه خبرٌ بعد خبرٍ، وعليه فضمير «منها» للأفراد
ويصح قراءتُهُ بالجر صفةً لـ«الأفرادِ»، وعليه فضمير «منها» راجعٌ إليها.
قوله: ((كما تَوَهَّمَهُ بعضهم بعض الأفاضل)) أي: وهو العَلَّامَةُ التفتازاني، ودليلُهُ أن لفظ «هذا» مثلا إن كان موضوعا لكلِّ واحدٍ من المشخَّصات لزم تَعَدُّدُ الوضع، والأصلُ خلافُهُ، وإِنْ كان موضوعًا لبعضِ المشخَّصات دون بعض كان ترجيحا من غير مرجِّحٍ، فتعينَ أن يكون الموضوعُ له الأمرَ الكليَّ، لَكِنْ شَرَطَ الواضعُ أن يُسْتَعْمَلَ في جُزْئِيٍّ
والحاصلُ أن الأمرَ العامَّ يلاحَظ على كل من القولين لكنَّ ملاحَظَتَهُ على الأَوَّلِ من حيثُ إِنَّهُ آلةٌ للوَضْعِ وعلى الثاني من حيثُ إِنَّهُ الموضوعُ له
وأجابَ الجمهورُ عن ترداد السعد بأنَّا نَلْتَزِمُ الأَوَّلَ أَعْنِي كونَهُ موضوعًا لكلِّ واحدٍ لكن لا نسلم أنه يلزم عليه تعددُ الوضعِ بل الوَضْعُ واحدٌ بِسَبَبِ مُلاحظةِ الواضع الأمرَ الكليَّ الصادقَ على كل واحد من الجُزْئِيَّاتِ، ولا يَلْزَمُ تعددُ الوضعِ إِلَّا لو قلنا إِنَّ لفظَ «هذا» موضوعٌ لكل جُزْئِيٍّ بوضع مُسْتَقِلٍّ، ونحنُ لا نقول بذلك، هذا
وقد أَلْزَمَ بعضُهم السَّعْدَ أن لا يكونَ شيءٌ من المضمرات والموصولات وأسماء الإشارات مستعْمَلا في حقيقتِهِ بل دائمًا استعمالُها مَجَازِيٌّ، وهو بعيدٌ
وَرَدَّ بأن استعمالَ الكليِّ في جُزْئِيِّهِ إنَّما يكون مجازًا إذا استُعْمِل فيه من حيث خُصُوصُهُ، وأما استعمالُ الكليِّ في جُزْئِيِّهِ من حيثُ اشتمالُه عليه فهو حقيقةٌ، وحينئذ فلا نُسَلِّمُ تِلْكَ الكليةَ.
قوله: ((غالبا)) قيدٌ لحصول التعيين بغيره نُدُورًا كالكتابة والإشارة.
قوله: ((وإنما قيد ... إلخ)) حاصلُهُ أن قول المصنف سابقًا «ثم يقال: هذا اللفظ موضوع لكل واحد من هذه المشخَّصات» لابد فيه من حذف فيحتمل أن يكون الأصل «موضوع لمفهوم كل واحد من هذه المشخَّصات» ويحتمل أن الأصل «موضوع لذات كل واحد من هذه المشخَّصات» وهذا الثاني هو المرادُ، فأَتَى المصنفُ بقوله «بحيث..إلخ» دَفْعًا لما يتوهم أن المرادَ الاحتمالُ الأولُ، هذا حاصلُ كلام الشارح
والحقُّ أن هذا الاحتمالَ بعيدٌ من كلام المصنف، فحينئذ لعلها وحينئذ كما في كلامه الآتي فالحيثيةُ المذكورةُ إنَّما هي ثمرةٌ لما تَقَدَّمَ وتوضيحٌ له، إذ لو كان المقصودُ بها دَفْعَ التَّوَهُّمِ المذكورِ لَقِيلَ عليه إن دفع التوهم إنما حصل بقوله «دون القدر المشترك» والحيثيةُ المذكورةُ لا مدخل لها في دفعه، اللهم إلا أن يقال إنه أتى بها تَوْطِئَةً لما يندفع به التَّوَهُّمُ، أو يقال معنى قوله «بحيث لا يفاد..إلخ» أي: بحسب الوضع، وحينئذ فالحيثيةُ المذكورةُ دافِعَةٌ للتوهم وقولُه بعدُ «دون القدر المشترك» تصريحٌ بما عُلِمَ.
قوله: ((بقوله)) بدلُ اشتمال من «الحيثية» إن أريد بالقول الحدثُ أعني المعنى المصدري وعلى هذا فالباء للسببية، فإن أريد بالقول المقولُ كان بدلَ كُلٍّ أو عطفَ بيانٍ، وعليه فالباء للتصوير، ولا يصح على الأول جَعْلُهُ بَدَلَ كُلٍّ لأَنَّ القَوْلَ بمعنى الحَدَثِ غيرُ الحيثيةِ
وبجعل «بقوله» بدلا من «الحيثية» يَنْتَفِي تَعَلُّقُ حرفي مُتَّحِدَيِ المعنى بعاملٍ إذ كلُّ واحدٍ متعلِّقٌ بعاملٍ لأن البَدَلَ على نِيَّةِ تَكرارِ العامل
ويُحْتَمَلُ أَنَّ كُلًّا من الحرفين متعلِّقٌ بـ«قَيَّدَ» المذكورِ لكنَّ الحرف الثاني للظرفية والأولَ للتعدية
ولا يقالُ إنه يلزمُ عليه ظَرْفِيَّةُ الشيءِ في نفسِهِ لأن الحيثيةَ هي القولُ
لأَنَّا نَقُولُ بل القولُ أعمُّ من الحيثية، إذ الحيثية بعض القول فهو من ظرفية الجزء في الكل.
قوله: ((بحيث لا يفهم ولا يفاد منه ... إلخ)) أي: بدون القرينة، أما إذا وُجِدَتْ قرينةٌ فيجوزُ استعمالُهُ فيه مجازًا.
قوله: ((لئلا يُتَوَهَّمَ)) أي: يَقَعَ في الوَهْمِ أي: الذِّهْنِ.
قوله: ((ههنا)) أي: في هذا القسمِ.
قوله: ((مفهوم كل واحد)) الإضافة على معنى اللام أي: المفهوم لكل واحد أي: المفهوم الصادق على كل واحد من صدق الكلي على جزئياته.
قوله: ((من أفراد ذلك المشترك)) فيه أن الأمر المشتَرَكَ هو المفهومُ، وحينئذ فالمَحَلُّ للضمير
وأجيب بأنه أَظْهَرَ في مَحَلِّ الإضمارِ دفعًا لتوهم عَوْدِ الضميرِ على «كلِّ واحدٍ» وأن المراد أفراد كل واحد، وذلك باطلٌ لأن «كل واحد» لا أفرادَ له.
قوله: ((حتى يستعمل ... إلخ)) غايةٌ للتَّوَهُّمِ المنفيِّ، وضميرُ «يُسْتَعْمَلَ» لـ«اللفظُ»، وضمير «فيه» و«يفاد» و«يفهم» للأمر الكلي، ولأجل اختلاف الضمائر في المَرْجِعِ أَبْرَزَ الضميرَ في قوله: «ويُفْهَمَ» للإشارة إلى أَنَّ مَرْجِعَهُ مخالفٌ لمرجِعِ ضميرِ «يُسْتَعْمَلَ».
قوله: ((فإن ذلك)) أي: وَضْعَهُ للقَدْرِ المشتَرَكِ المُتَرَتِّبِ عليه ما سبق باطلٌ لِـمَا يلزمُ عليه من أن استعمالَ الحروفِ والضمائرِ والموصولاتِ وأسماءِ الإشارةِ مجازٌ دائمًا لا حقيقةَ له
وَرُدَّ بمَنْعِ ذلك اللزومِ بأن استعمال الكلي في جُزْئِيِّهِ إنما يكون مجازًا إذا استُعْمِلَ فيه من حيث خصوصُهُ أَمَّا إذا استُعْمِلَ فيه من حيث اشتمالُه عليه فهو حقيقةٌ
وقوله «فإن ذلك باطل» علة لمحذوف أي: وإنما قَيَّدَ المصنف لدفع هذا التوهم لأن ذلك باطل.
قوله: ((أن الموضوع له والمستعمل فيه)) الجار والمجرور نائب فاعلِ «الموضوعَ» و«المستعملَ»، وحينئذ فلا يرد أن الواجب إبراز الضميرِ لأن الصِّلَةَ جرت على غير مَنْ هي له، فتأمل.
قوله: ((دون القدر المشترك)) أي: الذي هو مفهوم كل واحد.
قوله: ((فإنه غير مفاد وغير موضوع له)) الأَوْلَى أن يقدم قوله «غيرُ موضوع» على قوله «غيرُ مُفَادٍ» لأن عدم الإفادة يترتب على عدم الوضع، بل المناسب لِصَدْرِ العبارةِ أن يقول «فإنه غيرُ موضوعٍ له وغيرُ مستعْمَلٍ فيه».
قوله: ((أي: متجاوزا ... إلخ)) أَتَى الشارحُ بهذا جوابا عما يقال إن «دُونَ» معرفةٌ لإضافتها لمعرفة، والحالُ واجبةُ التَّنْكِيرِ
وحاصل الجواب أن «دُونَ» وإن كان مضافا لمعرفة هو نكرةٌ، لأنه بمعنى اسم الفاعل وهو «متجاوزٌ»، واسمُ الفاعل إضافتُهُ لفظيةٌ لا تُفِيدُ تعريفًا.
قوله: ((فإنه غير مفاد)) أي: فإن القدر المشترك غير مفاد وغير مفهوم من اللفظ، وكان الأَوْلَى أن يقول «فإنه غيرُ مُفَادٍ وغيرُ مُفْهَمٍ من اللفظ» للمناسَبة، وذلك لأن «مفاد» فِعْلُهُ «أفاد» وهو يُسْنَدُ للمستعمِل لأن الإفادة من صفاته، وكذلك «مُفْهَمٌ» فِعْلُهُ «أفهم» المسنَدُ للمستعمِل أيضا بخلاف «مفهوم» فإن فِعْلَهُ سقط فُهِمَ وهو يُسْنَدُ للسامع، فتعبيرُهُ بـ«مفاد» يقتضي أنه التفت إلى صفة المتكلم أعني المستعمِلَ فكان المناسب أن يأتي بالكلام على سَنَنٍ واحدٍ، فتأمل.
قوله: ((بحسب الوضع)) هذا محط الفائدة وهو متعلق بـ«استعمال» وقد أشار به إلى أن القدر المشترك قد يفاد من اللفظ ويُفْهَمُ منه لكن لا بحسب اللفظ لعلها الوضع بل مجازًا كما في قول المصنف الآتي «وذلك مِثْلُ اسمِ الإشارة» على ما يأتي للشارح.
قوله: ((فلا يقال «هذا» مثلا ويراد به الأمر العام)) الأَوْلَى أن يَزِيدَ بعدَ قوله «ويُرَادُ به الأمرُ العامُّ» «إرادةً مُسْنَدَةً للوضع» لأَجْلِ تَمَامِ التفريعِ.
قوله: ((الذي هو مفهوم ... إلخ)) إضافة «مفهومُ» إلى «المشار إليه» للبيان إن أريد من «المشار إليه» المعنى، أَمَّا لو أُرِيدَ «هذا اللفظُ» كان من إضافةِ المدلولِ للدَّالِّ، لأن لفظ «مشار إليه» مدلولُه المفهومُ الكليُّ وهو «مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ ثَبَتَتِ الإشارةُ إليه»، ((وإذا كان كذلك)) «كان» تامةٌ بمعنى ثَبَتَ، وكافُ التشبيه زائدةٌ، والإشارةُ لما ذُكِرَ أي: وإذا ثبت ما ذكر من أن اللفظ موضوع لكل فردٍ مشخَّص متعقل من كون الموضوع له كل فرد متعقل بقدر مشترك.
قوله: ((فَتَعَقُّلُ)) مُبْتَدَأٌ وقولُهُ «آلةٌ» خبرُهُ، و«تَعَقُّلُ» مَصْدَرٌ مُضَافٌ لمفعولِهِ بعدَ حَذْفِ فاعِلِهِ
وقولُهُ «المشتَرَكِ» بدلٌ أو عطفٌ من اسم الإشارة فهو مجرورٌ.
قوله: ((آلةٌ للوضع)) أي: للوضعِ المعهودِ وهو وَضْعُ اللفظِ لكل فردٍ بخصوصِهِ من المشخَّصَاتِ.
قوله: ((فقوله...إلخ)) لا يَظْهَرُ كونُ الفاءِ للتفريع لعَدَمِ تقدمِ ما يتفرعُ عليه ما ذُكِرَ بل هي فاءُ الفصيحةِ أي: إِنْ أردتَّ إِعْرَابَ هذه اللفظةِ فقولُهُ..إلخ، كذا قيل
وَلَكَ أن تَجْعَلَهُ مُفَرَّعًا على رجوعِ الضميرِ للأمر المشتَرَكِ، لأن رجوعَهُ له دُونَ الـ«تَعَقُّلُ» مع أن الـ«تَعَقُّلُ» هو المُحَدَّثُ عنه سابقًا يُشِيرُ إلى أَنَّ المُتَنَازَعَ في كونِهِ آلةً أو موضوعًا له القَدْرُ المشتَرَكُ لا التَّعَقُّلُ.
قوله: ((بتقدير اللام)) أي: قَبْلَ «أنه»، وقولُه «معطوف على الخبر» ظاهرُهُ أَنَّ «لا» جزءٌ من المعطوفِ مع أنها عاطفة، ففيه تساهل
والمُوجِبُ لتقدير اللام في المعطوفِ الإشارةُ إلى تصحيحِ الإِخْبارِ في كلام المصنف
وحاصلُه أن الإخبار بقوله «آلةٌ» عن الـ«تَعَقُّلُ» غيرُ صحيح لأن التعقل غيرُ الآلةِ، لأنها عندهم الأمرُ الكليُّ الذي تُلاحَظُ به الجزئياتُ ليُوضَعَ لها اللفظُ
وأجيب بأَنَّ في الكلامِ حَذْفَ اللامِ من المعطوف المشيرةِ إلى أن «آلةٌ» وإن كانت خبرًا في الظاهر علةٌ في المعنى للخبر الحقيقي، والتقديرُ «فَتَعَقُّلُ الواضعِ المشتَرَكَ ثابتٌ لأجل كونِ ذلك المشتَرَكِ آلةً للوضع لا لأنه الموضوعُ له».
قوله: ((إن قرئ «فتعقل» مصدرًا)) أي: مضافا لمفعوله بعد حَذْفِ الفاعلِ، وعلى هذه القراءةِ حَلُّ الشارحِ حيث قَدَّرَ الفاعلَ بعد «تَعَقُّلُ» ويلزمُ على هذا التقديرِ الذي قَدَّرَهُ تغييرُ إعرابِ المتنِ، فإِنْ تابعَ اسم الإشارة كان قبل التقدير مجرورًا وصار بعده منصوبًا.
قوله: ((من الثلاثي المجرَّدِ)) أي: وهو عَقَلَ.
وقوله: ((منصوب على الحال ية)) أي: من نائب الفاعل وهو اسمُ الإشارةِ.
وقوله: ((عطف عليه)) أي: بدونِ تقديرِ لامِ «لِأَنَّهُ» حالٌ لا عِلَّةٌ حتى يُحْتَاجَ لها أي: فتعقل مضارع ثلاثي مجرد اضبطه وتجب الياء كما سيقوله المحشي بعد قليل ذلك المشتَرَكِ آلةً لا موضوعًا له
ثم لا يخفى أنه على جَعْلِهِ مَصْدَرًا يكون مصدرًا للمزيد وهو «تَعَقَّلَ» فتكونُ قراءتُهُ مصدرًا بالتاءِ الفوقيةِ وبالقافِ المُشَدَّدَةِ، وأَمَّا جَعْلُهُ مضارِعًا مَبْنِيًّا للمفعول فيَقْتَضِي قراءتَهُ بالياء التحتية وعدمَ تشديدِ القاف بقدر مشترك فتعقل..إلخ
وأشار الشارح بتقدير ما ذَكَرَهُ إلى أن الفاء في قوله «فتَعَقُّلُ» للتفريعِ على ما عُلِمَ، فهذه اللفظةُ بعيدةٌ من تلك، فحيث كانت نُسْخَةُ المصنفِ بالتاءِ الفوقيةِ لم يَتَأَتَّ احتمالُ قراءتِهِ فِعْلاً وإن كانت بالتحتية فلا يَتَأَتَّى احتمالُ المصدريةِ
اللَّهُمَّ إلا أن يقال إن نسخة المؤلف خاليةٌ من نَقْطِ الحرفِ الأولِ أو يقالَ إن هذين الاحتمالين بالنظر للالتفات لنفس الكلمة مع قطع النظر عن لَفْظِهَا.
قوله: ((فالوضع كلي)) وَصْفُهُ بالكليةِ من بابِ وَصْفِ الشيءِ بوَصْفِ آلَتِهِ التي هي سَبَبٌ فيه، لأن آلتَهُ كليةٌ، وأما هو باعتبارِ ذاتِهِ مع قطع النظر عما تَضَمَّنَهُ من تَعَدُّدِ الأوضاعِ فجُزْئِيٌّ كما أنه كذلك باعتبار الموضوعِ له.
قوله: ((كما قررناه)) أي: حيثُ قال سابقًا «والثاني ما وُضِعَ لمشخَّصٍ باعتبارِ تَعَقُّلِهِ لا بخُصُوصِهِ..إلخ» وإلى هذا التحقيقِ الذي ذَكَرَهُ المصنفُ هنا أَشَارَ الشارحُ بقولِهِ سابقًا «على ما سَيَجِيءُ».
قوله: ((أي: اللفظ ... إلخ)) جَعْلُ اسمِ الإشارةِ لِـمَا ذُكِرَ من «اللفظُ» أَوْلَى من جَعْلِهِ لـ«الوَضْعُ»، إذ عليه يكونُ ذلك ليس واقعًا مَوْقِعَهُ وهو الإِشَارَةُ للبعيدِ، ولا يَصِحُّ حَمْلُ «مِثْلُ اسمِ الإشارةِ» عليه، لأَنَّ الوَضْعَ لَيْسَ اسْمَ الإِشَارَةِ، فَإِنْ صُحِّحَ بتقديرِ مُضَافٍ أَيْ: مِثْلُ وَضْعِ اسْمِ الإِشَارَةِ حَصَلَ التَّكَلُّفُ المستَغْنَى عنه بجَعْلِ اسمِ الإشارةِ لـ«اللَّفْظُ» المذكورِ.
قوله: ((نَزَّلَ ... إلخ)) هذا جوابٌ عما يُقَالُ كيفَ أَشَارَ بـ«ذلك» الموضوعِ للأشخاصِ المعيَّنةِ إلى الأمر الكليِّ وهو اللفظُ الموضوعُ لمشخص باعتبار أمرٍ عامٍّ
وحاصلُ الجوابِ أَنَّهُ شُبِّهَ هذا الكليُّ بمُشَخَّصٍ بجامعِ التمييزِ والتَّبْيِينِ واسْتُعِيرَ اللفظُ الموضوعُ للثاني للأول، والنُّكْتَةُ في ارتكابِ التجوُّزِ هنا خَلَلٌ أنه كان يكفيه أن يقول «مِثْلُ اسمِ الإشارةِ» بإسقاط «ذلك» كما هو الشائعُ في مَقَامِ التمثيلِ الإِشَارَةُ إلى كمالِ الاهتمامِ بتوضيحِ هذا القِسْمِ.
قوله: ((نَزَّلَ الأمرَ الكليَّ)) أي: وهو اللفظُ الموضوعُ لمشخَّصٍ باعتبارٍ أمرٍ عامٍّ، وإنما كان كليا لصدقه على كثيرين كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات والحروف.
قوله: ((منزلةَ المشار إليه المُعَيَّنِ)) أي: نَزَّلَهُ منزلتَهُ بواسطة تشبيهه به، وكان عليه أن يَزِيدَ بعدَ قولِهِ «المعيَّنِ» «المشاهَدِ المَحْسُوسِ» لأن المعيَّن صادق بالمعيَّن في الذِّهْنِ فقط وبالمُعَيَّنِ في الخارج واسمُ الإِشارَةِ إنَّما وُضِعَ للثاني، إِلَّا أن يُقَالَ إِنَّهُ أَسْقَطَ ذلك من هنا اتِّكالا على ما مَرَّ له في قوله «هذه فائدةٌ».
قوله: ((الحاصل بالبيانِ السابقِ)) أي: بالتبيين السابق في قوله «وقد يوضع له باعتبار أمر عام»، والحاصلُ أن اللفظَ الموضوعَ لمُشَخَّصٍ باعتبارِ أَمْرٍ عامٍّ قد تَبَيَّنَ بقوله سابقا «وقد يوضع..إلخ».
قوله: ((فاستعمل فيه «ذلك»)) أي: لفظَ «ذلك»، وكان على الشارح أن يَزِيدَ وَصْفَ البُعْدِ فيما تَقَدَّمَ بعدَ قولِهِ «الكليَّ» لأجل أن يَتَفَرَّعَ عليه استعمالُ اسم الإشارة الذي للبعيد فيه، لأن لفظَ «ذلك» موضوعُ للمشار إليه البعيدِ فلابد من تنزيل المعنى المجازي منزلةَ البعيدِ حتى يصحَّ استعمالها فيه، إلا أن يقال إنَّما لم يَزِدْ وصفَ البُعْدِ مع المعنى المجازي وهو الكليُّ لأن بُعْدَهُ حقيقيٌّ لتقدُّمِهِ قَبْلَ جُمَلٍ فلو زادَهُ لأَوْهَمَ أن بُعْدَهُ تنزيليٌّ مع أنه حقيقيٌّ.
قوله: ((أي: كل واحد...إلخ)) أَشَارَ بذلك إلى أن «أَلْ» في «المُشَارُ إليه» لاستغراقِ الأفرادِ أي: مسماهُ كلُّ فردٍ من أفراد المشارِ إليه، والقرينةُ على أن المراد بـ«المشارُ إليه» كلُّ فردٍ لا مَفْهُومُهُ وَصْفُهُ بالمُشَخَّصِ، وإضافةُ «مفهومِ» لـ«المشارِ إليه» للبيان.
قوله: ((مطلقا)) حالٌ من «المُشَارِ إِلَيْهِ» أي: حالةَ كونِ المُشَارِ إليه مَلْحُوظًا مطلقًا أي: ملحوظا على إطلاقه من غير نَظَرٍ لتحقُّقِهِ في فردٍ دون فردٍ.
قوله: ((صفة لكل واحد ... إلخ)) في العبارة قَلْبٌ، وأصلُها (صفةٌ لـ«المُشَارُ إِلَيْهِ» باعتبارِ أن المرادَ به كلُّ واحدٍ) لأَنَّ قولَهُ «المشخَّصُ» إنَّما هو تابعٌ لـ«المشارُ إليه» لا لـ«كلُّ واحدٍ».
قوله: ((ولا يجوزُ أن يكون صفة لـ«المشارُ إليه»)) أي: من حيثُ مفهومُه لأنه من حيث مفهومُه كليٌّ والمشخَّص جزئيٌّ، ولا يصح وصفُ الكلي بوصف الجزئي.
إن قلتَ: بل يصحُّ ويكونُ من وصف الجزء بوصف الكل، لأَنَّ الكُلِّيَّ جُزْءٌ لِلْجُزْئِيِّ.
قلتُ: غَرَضُ الشَّارحِ نَفْيُ التوصيفِ الحقيقيِّ، وما ذَكَرَهُ السائلُ توصيفٌ على ضَرْبٍ من التأويل والتجوُّزِ.
قوله: ((على ذي مُسْكَةٍ)) المُسْكَةُ في الأصلِ البَقِيَّةُ من الخيرِ، والمرادُ هنا البقيةُ من الطَّبْعِ السليمِ.
قوله: ((على أنه خبرُ هذا)) أي: خبرُ «ذا» مِنْ «هذا».
قوله: ((بتأويل ... إلخ)) علةٌ لمحذوفٍ أي: وهذا الإخبار صحيح بسبب تأويل «هذا» بـ«اللفظة» إذ المعنى (فإِنَّ لفظةَ «هذا» موضوعةٌ)، واحتاج لهذا التأويل لوجوب تطابق المبتدأ والخبر في التذكير والتأنيث، فلما كان الخبرُ مؤنثا احتيج للتأويل بالمذكور وهو إرادة «اللفظة» من المبتدأ لِيَحْصُلَ التَّطَابُقُ بينهما في التأنيث، وأَعَادَ الضميرَ على ذلك المبتدأِ مُذَكَّرًا بَعْدَ ذلك في قوله «ومسماهُ» باعتبار إرادة اللفظِ فقد تَضَمَّنَ كلامُه الإشارةَ إلى اعتبار الجهتين جهةِ المعنى فأَنَّثَ وجهةِ اللفظِ فذَكَّرَ
ثم إنه على هذه النسخةِ يكون قوله «ومسماه..إلخ» جملةً مستأْنَفَةً أو أنها خبرٌ معطوفةٌ على الخبرِ قبلها من عطف الجملة على المفرد، لَكِنْ فيه أَنَّهُ على كُلِّ حالٍ الإِخْبَارُ بـ«مَوْضُوعَةٌ» لا ثَمَرَةَ فيه إِذْ مِنَ المَعْلُومِ أَنَّ لَفْظَةَ «هذا» مَوْضُوعَةٌ، والنِّزَاعُ إنما هو فيما وُضِعَتْ له، فلَعَلَّ الأحسنَ أنه على هذه النسخة بجعل لعلها يُجْعَلُ جملةُ «ومُسَمَّاهُ» حالِيَّةً لا مَعْطُوفَةً فهي قَيْدٌ، ومعلومٌ أَنَّ القَيْدَ مَحَطُّ الفَائِدَةِ.
قوله: ((بإضافته إلى الضمير)) أي: بإضافةِ «موضوعُ» للضميرِ، وفي نسخةٍ بـ«إضافة الضمير» وهي من باب الحذف والإيصال، وأصلُها بـ«إضافتِهِ للضميرِ».
قوله: ((على أنه)) أي: لفظَ «موضوعُ» ((من قبيل الأسماء)) يعني الجامِدَةَ لا المُشْتَقَّةَ، ودَفَعَ بهذا ما يُقَالُ إن «موضوعُهُ» اسمُ مفعول معناه ذاتٌ لها الموضوعية، وإضافتُهُ لا تُفِيدُهُ تعريفًا، وهو على هذه النسخةِ يكون مبتدأً خبرُهُ «المشارُ إليه المشخَّصُ» وهو نكرةٌ ولا يَصِحُّ الابتداءُ بها إِلَّا مع الاعتمادِ، ولا اعتمادَ هنا
وحاصلُ الجوابِ أنه وإن كان في الأصلِ اسمَ مفعولٍ لَكِنْ لَـمَّا جُعِلَ مُبْتَدَأً لم يُرَدْ منه إِلَّا مُجَرَّدُ الذَّاتِ فيكونُ من الجوامد، وإضافتُها تفيدُ تعريفَها.
قوله: ((ومسماه حينئذ)) أي: حينَ إذ أُضِيفَ «موضوعُ» للضمير.
قوله: ((بيان له)) أي: ذو بيانٍ أو مبينٌ له أي: أنه معطوفٌ عليه عَطْفَ تفسيرٍ.
قوله: ((يعني أن مفهومَ «هذا»)) المرادُ بمفهومِهِ مدلولُهُ ومعناهُ الذي يُفْهَمُ منه بحسب الوضع، وحينئذٍ فالمعنى «يعني أن مدلول لفظ «هذا» وما يُفْهَمُ منه بحسب الوضع»
وقوله: ((ما صدق عليه المشارُ إليه)) أَيِ: الأَفْرَادُ التي يُحْمَلُ عليها مفهومُ المشارِ إليه وهو ذاتٌ ثَبَتَ لها الإِشَارَةُ
والحاصلُ أن مَدْلُولَ لَفْظِ «هذا» الأَفْرَادُ التي يُحْمَلُ عليها ذلك الكليُّ كزيد وعمرو وهذا الجِسْمِ..إلخ، لأَنَّ كلَّ واحدٍ يُحْمَلُ عليه «مُشَارٌ إليه».
قوله: ((المشخص)) صفةٌ لـ«ما» من قوله «ما صدق عليه» إن جُعِلَتْ معرفةً، أو بَدَلٌ إن جُعِلَتْ نَكِرَةً، أو خَبَرٌ بعدَ لعله سقط خبرٍ
و«أَلْ» في «المشخَّصُ» للاستغراق.
وقوله: ((الذي لا يَقْبَلُ)) أي: واحدٌ منها ((الشَّرِكَةَ)).
قوله: ((لا مفهومه)) أي: لا أن مدلولَ «هذا» ومعناهُ الذي يفهم منه بحسب الوضع مفهومُ المشارِ إليه أَعْنِي ذَاتًا ثَبَتَ لها الإِشَارَةُ
وهذا مَحَطُّ الرَّدِّ على المُخَالِفِ بالنظر إلى أن مِنْ حَقِّ اسْمِ الإِشَارَةِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ في المفهومِ جَرْيًا على الأَصْلِ من التوافُقِ بين الوضع والاستعمال لا بالنظرِ إلى أن المفهومَ من اسْمِ الإِشارَةِ حالةَ الاستعمالِ هو المعنى الكليُّ، إذ لم يَقُلْ أَحَدٌ إن المعنَى الكليَّ مفهومٌ منه ومدلولٌ له حالةَ الاستعمالِ، سواءٌ قلنا بوَضْعِهِ له أو بوَضْعِهِ لجُزْئِيَّاتِهِ.
قوله: ((الذي يقبل الشركة)) وصفٌ كاشفٌ لمفهوم المشار إليه.
قوله: ((كل مشار إليه)) أي: كلُّ فَرْدٍ مُعَيَّنٍ مُشَارٍ إليه.
قوله: ((وهو مفهوم ... إلخ)) أي: وذلك الأمرُ العامُّ هو مفهومُ لَفْظِ المُشَارِ إليه أي: مدلُولُهُ.
قوله: ((كما إذا حكمت ... إلخ)) أي: بأن قُلْتَ كُلُّ رُومِيٍّ أَبْيَضُ فالحكمُ بالأَبْيَضِ إنَّما هو على زيد وعمرو وغيرِهما من الأفرادِ المُلَاحَظَةِ، وهذه الأَفْرَادُ استُحْضِرَتْ عند الحُكْمِ عليها بأَمْرٍ كُلِّيٍّ وهو «رُومِيٌّ»
وهذا تنظيرٌ لمُلاحَظَةِ الأَفْرَادِ الشَّخْصِيَّةِ باعتبارِ تَعَقُّلِهَا بأَمْرٍ عامٍّ، لا أَنَّهُ تمثيلٌ لأن المُفَادَ مما بعدَ الكافِ حُكْمٌ لا وَضْعٌ بخلافِ ما الكلامُ فيه أَوَّلاً
والجامعُ بين ما هنا وما نَظَّرَ به مُلَاحَظَةُ الأَفْرَادِ الشَّخْصِيَّةِ في كُلٍّ لَكِنَّ مُلَاحَظَتَهَا هنا في حالةِ الوَضْعِ وفيما نَظَّرَ به في حالةِ الحُكْمِ.
قوله: ((بهذا العنوان)) الباءُ للمُلابَسَةِ أي: حُكْمًا ملتبسا ومُلَاحَظًا فيه عُنْوانُ الرُّومِيَّةُ لا عُنْوَانُ الإنسانيةِ مثلا، أو المعنى بمَعُونَةِ ملاحَظةِ كل واحد بهذا العُنْوَانِ، ولَيْسَتِ البَاءُ للتَّعْدِيَةِ مُتَعَلِّقَةً بـ«حَكَمَ» لاقْتِضَائِهِ أَنْ المَحْكُومَ بِهِ «رُومِيٌّ» مَعَ أن المحكومَ به «أَبْيَضُ»، والمرادُ بالعُنْوَانِ الحقيقةُ الطبيعيةُ.
قوله: ((فقد لاحظت ... إلخ)) يُحْتَمَلُ أن يكونَ تعليلاً لِلتَّنْظِيرِ، فالفاءُ للتَّعْلِيلِ أي: وإنَّما أَلْحَقْنَا بابَ الوضعِ ببابِ الحُكْمِ لأنَّكَ قد لاحَظْتَ..إلخ
ويُحْتَمَلُ أن يكونَ تفسيرًا للحُكْمِ على الكليِّ بأَنَّهُ أَبْيَضُ بهذا العُنْوَانِ.
قوله: ((المشخصات الروميين)) فيه أنه لا مُطَابَقَةَ بين الصفة والموصوف، لأن الموصوفَ جَمْعُ مُؤَنَّثٍ والصفةَ جَمْعُ مُذَكَّرٍ، فالأَوْلَى أن يُجْعَلَ قولُه «الروميين» مفعولا لمحذوف أي: أَعْنِي الروميين.