المتن
بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لواهب العطية والصلاة على خير البرية وعلى آله ذوي النفوس الزكية،
الشرح
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العبد المفتقر إلى ألطاف ربه الخفية، عصام الدين بن محمد حباهما الله مغفرتَه الجلية: إن أحسن ما تزاد به النعم الوفية، وتدفع به البلية في البكرة والعشية، (الحمد لواهب العطية) أي: كل عطية، أو عطيته المعهودة التي نزلت فيها السورة، فحينئذ تتناسب فقرتا الحمد والصلاة أشد تناسب، ولا يخرج الحمد بذلك عن أن يكون على النعمة الواصلة إلى الشاكر، لأن كل ما وهب لنبينا من العطايا يعم مسلمي البرايا (والصلاة على خير البرية) أي: جميع البرايا، أو البرية المعهودة التي عهد تفضيل النبي عليها من الإنس والجن والملك الكرام؛ إذ ما عداها خارج عن أن يكون له في سلك التفضيل انتظام، (وعلى آله) أي: أتباعه؛ إذ هي أحد معنى الآل، فلا يلزم على المصنف الإهمال، بل فيه إيهام حسن لا يخفى على أرباب الكمال.
ولو قال: وعلى آله العلية؛ لكان أحسن سبكًا، وأعلى مزية عند أصحاب الروية.
(ذوي النفوس الزكية) أي: المفلحة، قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس:9]، وزكاء النفس يستلزم زكاء العقل بطريق الأولى،
الحاشية
نحمدك اللهم على ما علمتنا من محاسن البيان ونشكرك على ما ألهمتنا من أحاسن التبيان - ونستزيدك من الصلاة والسلام على من جعلته المستعار منه فضل الخليقة سيدنا محمد المرسل بصريح الشريعة ومكنى الحقيقة وعلى آله المرشحين بتجريد نفوسهم عن شوائب الادناس وصحبه المطلقين عن سجن علائق الأرجاس
(أما بعد) فيقول راجي الغفران محمد بن على الصبان غفر الله ذنوبه وستر فى الدارين عيوبه هذه فرائد يتيمة وفوائد عظيمة وتحقيقات شريفة وتقريرات منيفة على شرح رسالة الاستعارات السمرقندية لمولى عصام الدين جعلنا الله وإياه وجميع المحبين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين جمعت فيها محاسن ما وقفت عليه مما كتب على هذا الشرح العظيم وضممت إلى ذلك ما فتح به على مولاى الكريم أسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا وعلى إخواننا الإيمان وأن يجعلنا وإياهم ممن جمع بين العلم والعمل إنه حنان منان
قوله (بسم الله الرحمن الرحيم) الظاهر إن هذه بسملة الشارح وأن بسملة المصنف حذفها الشارح لعدم تكلمه عليها أصلا كما هو عادة كثير من الأعاجم وما قيل من أن المصنف بسمل لفظا لاخطا ينافيه كتابتها في المتون المجردة. وأما حمد الشارح فهو حاصل بقوله (إن أحسن إلخ ) لأنه ثناء على حمده تعالى والثناء على حمده تعالى ثناء عليه طريق اللزوم فيكون حصوله بطريق الكتابة التي هي أبلغ من الصريح. بقى أنه لم بأت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن جملة الصلاة في كلام المصنف إما مستأنفة أو معطوفة على جملة الحمد والنفى على الأول ظاهر و أما على الثاني فلأن الثناء على الصلاة ليس بصلاة لأن الصلاة من المخلوق الدعاء والثناء ليس بدعاء
وأجاب الشارح في الحاشية المنقولة عنه بأن صلاة المصنف صلاة له فتكون جملة الصلاة بالنظر إلى المصنف معطوفة على جملة (الحمد الواهب العطية ) وبالنظر إلى الشارح انقلبت إلى العطف على جملة (إن أحسن إلخ ) أقول ذكر جماعة أن المقصود من صلاتنا عليه تعظيمه ولا يخفى أن الثناء على الصلاة عليه تعظيم له فيكون بمنزلة الصلاة عليه فعلى هذا إذا جعلنا جملة الصلاة معطوفة على جملة الحمد كان الشارح مصليا حكما فتأمل
فإن قلت يلزم على عطف الصلاة على الحمد أن الصلاة من أحسن ما تزاد به النعم وتدفع به البلايا وهذا إنما يعهد فى الشكر الذى منه مثل الحمد المذكور (قلت) الصلاة تستلزم الحمد لأن فيها اعترافا بأنه تعالى أنعم علينا بإرساله صلى الله عليه وسلم إلينا وأنه تعالى أهل لأن يسأل منه. فإن قلت لم قدم البسملة على جملة القول مع أنها بعض المقول؟ (قلت) ليحصل المطلوب من الابتداء الحقيقي بها أو لتعود بركتها على جملة القول أيضا هذا وقد أوسعنا في رسالتنا الكبرى في البسملة الكلام على ما اشتملت عليه البسملة من المجاز فراجعها تظفر بما فوق المراد
قوله (يقول) عدل عن المضارع المسند إلى ضمير المتكلم مع أنه مقتضى الظاهر ليتوصل إلى ذكر (العبد) و (المفتقر) على وجه يكون فيه العبد عمدة محضة فاندفع ما يقال كان يمكنه أن يقول أقول وأنا العبد إلخ أو أقول عبداً إلخ مع أنه ليس في العبارة الأولى من التواضع ما في عبارته وأيضا في عبارته التفات من التكلم في متعلق البسملة إلى الغيبة وهو من المحسنات والعبارتان المذكورتان خاليتان عنه
قوله (العبد) (أل) فيه للمعهد الخارجي الحضوري والعبد في الأصل صفة استعمل استعمال الاسماء واختاره مع ما فيه من الخضوع توطئة لصفة (المفتقر) أى إشعارا بها قبل ذكرها صريحا
قوله (المفتقر) أى المحتاج شديدا لان أصله من كسر فقار ظهره فهو أخص من المحتاج ولهذا آثره عليه وإنما آثره على الفقير لأن الفقير يستعمل اسما وصفة كما قاله بعضهم بخلاف المفتقر ولأن صيغة الافتعال تشعر بالميل إلى الشيء والسعي في تحصيله فتدل على أن الشارح راغب في تلك الصفة وفى ذلك من التواضع وجب القيام بصفة العبودية ما لا يخفى. واعلم أنه يقال افتقر إلى كذا بمعنى احتاج إليه ويقال افتقر أى كسر فقار ظهره فتعدية الشارح له بإلى قرينة على أنه بمعنى المحتاج
قوله (إلى ألطاف ربه الخفية ) الألطاف جمع لطف وهو لغة يطلق على الرفق والإحسان يقال لطف به كنصر لطفا بالضم وعلى الصغر والدقة يقال لطف ككرم لطفا بالضم و لطافة. وفى اصطلاح جمهور المتكلمين الإقدار على الطاعة فيه ومساو عندهم للتوفيق وحمله هنا على معنى الرفق والإحسان أولى لعمومه من حمله على الصغر و الدقة بمعنى النعم الصغيرة الدقيقة أو الإقدار على الطاعة ثم على المعنى الأول والثالث يحتمل أن يبقى اللطف هنا على معناه المصدرى والجمع باعتبار الأنواع أو الملطوف به وأن يجعل بمعنى الملطوف به والجمع حينئذ ظاهر و على الثانى بمعنى الملطوف به كما أشرنا إليه. والأحسن أن يراد بالألطاف الخفية على المعنى المصدري إفاضات العلوم والادراكات وعلى معنى الملطوف به العلوم والادراكات ليكون في الكلام إشعار بأن المشروع فيه من العلوم فيكون هناك نوع براعة استهلال والصفة أعنى (الخفية) على المعنى الثاني لازمة وعلى غيره مخصصة سواء جعل اللطف بالمعنى المصدري أو بمعنى الملطوف به وفى الوصف بالخفية إشارة إلى أن المتن دقيق يحتاج إلى ألطاف تناسبه وكذا فى جمع الألطاف ففهم أنه إنما قال (الخفية ) مع أنه مفتقر إلى الظاهرة أيضا كالملابس وصحة الجسم من الأمراض الظاهرة لأنها المناسبة للمقام أفاد غالب ذلك الشيرانسي.
(أقول) قد يناقش في جعله الصفة مخصصة على غير المعنى الثاني إذا جعل اللطف بالمعنى المصدري بأن المعنى المصدري تعلق القدرة وهو خفي دائما و يجاب بأن ظهوره باعتبار ظهور أثره ثم إنما يتم جميع ماذكر إذا كان لفظ (الخفية) بمعنى المستترة وهو المتبادر ويحتمل أن يكون بمعنى الظاهرة كناية عن عظمها وتناهيها فى الكمال بحيث لا ينكرها أحد يقال خفى الشئ إذا ظهر أو استتر ويقال خفيت الشيء أى أظهرته وأخفيته أى سترته وقيل هما لغتان في المعنيين جميعا وبعضهم يجمل حرف الصلة فارقا فيقول خفى له أى ظهر وخفي عليه أي استتر ولاحتياج الشخص إلى الألطاف الظاهرة والخفية أتى بصيغة مشتركة تحتملهما واختار عنوان الرب لاشعاره بأنه غير مستقل بأمره وأنه محتاج إلى تربية مولاه احتياج الأطفال استنزالا للإفضال، وفي قوله (الخفية) مخالفة للأفصح إذ الأفصح فيما عدا جمع الكثرة لغير العاقل المطابقة وفيه الأفراد و(ألطاف) جمع قلة
(أقول) المراد أن صيغته صيغة قلة فلاينافي أن صيغة القلة المضافة إلى معرفة للكثرة ولا يبعد أن أفراد الوصف للإشارة إلى ذلك فتدبر
قوله (عصام الدين) هذا لقبه واسمه إبراهيم ومن أجداده أبو إسحاق الاسفرايني كما ذكره الشارح في حواشيه على العقائد والعصام في اللغة الحفاظ أي ما يعصم به الشيء ويحفظ والجمع عصم ككتاب وكتب ولا يخفى ما في هذا التركيب باعتبار معناه الإضافي من الاستعارة المكنية في الدين والتخييلية في العصام أو المصرحة في العصام أما باعتبار معناه العلمي فلا لتنزل كل من المتضايفين منزلة الزاي من زيد
قوله (ابن محمد) نعت لـ(عصام) لا للعبد لئلا يلزم تقديم البدل أو عطف البيان على النعت مع أنه المقدم عند اجتماعه مع غيره قيل: محمد جده و اسم أبيه يوسف
قوله (حباها الله) كذا فى بعض النسخ وفى بعضها (حفهما) أما نسخة (حفهما) فمعناها أحاطهما مغفرته فيكون المطلوب غفرة عظيمة، وليس في هذا دلالة على كثرة الذنوب حتى يكون الاعتراف بذلك في حق أبيه سوء أدب منه ولو سلمت الدلالة قلنا في الكلام تغليب أو ادعاء أن ذنوبه سرت إلى أبيه منه أو أراد بالذنوب بالنسبة إلى أبيه ما هو سيئات المقربين التي هي حسنات الأبرار، ولا يخفى عليك ما في قوله (حفهما إلخ) من الاستعارة المكنية والتخييل حيث شبه المغفرة بساتر حسي يحيط بجميع جوانبهما ورمز إلى ذلك بــ(حف) أو المصرحة في (حف) حيث شبه الإحاطة المعنوية بالحسية، وأما نسخة (حباهما) فمعناها أعطاهما ويرد عليها أن حبا بمعني أعطى يتعدى إلى مفعولية بنفسه ويجاب بأنه ضمن حبا معنى أتحف فعداه بالباء أو معنى خص على أن الباء داخلة على المقصور عليه قصرا إضافيا لا على المقصور لأنه لا يناسب مقام الدعاء والمعنى أنهما مقصوران على المغفرة لا يتعديانها إلى المؤاخذة
قوله (الجلية) وصفها بالجلية مع ما فيه من المقابلة للخفية لفظا ومعنى أو لفظا فقط على ما مر لأن الساتر إذا كان خفيا لا يستر ما وراءه كل الستر والمغفرة الجلية هي التامة التي لا تبقى ذنبا من الذنوب ولا تترك الذنب أثرا ووصفها بالظهور مع أنها من المعاني باعتبار ظهور أثره لأنه إذا غفر له أدخله الجنة وأكرمه ولم يعاقبه أبدا
قوله (إن أحسن إلخ) مقول القول واعترض هنا بأمور الأول أنه يلزم على صنيع الشارح تغيير إعراب المتن لأن الحمد إلخ في المتن جملة استئنافية مركبة من مبتدأ وخبر وعلى صنيع الشارح صار جملة الحمد إلخ خبر (إن) ولم يحتج إلى رابط لأنه إن أريد لفظها فهي في حكم المفرد أو (الحمد) خبر (إن) و(لواهب العطية) حال منه أو ظرف لغو متعلق بـ(الحمد) واللام للتقوية، وتغيير إعراب المتن قيل لا يجوز مطلقا، وقيل إن لم يكن الشارح صاحب المتن
وقيل إن لم تتغير حركة الإعراب كما حرر ذلك ابن أبي شريف في حواشي شرح النخبة
(أقول) لا بد على الاحتمال الأول من احتمالات صنيع الشارح من تقدير مضاف أي جنس الحمد إلخ لأن الأحسن ليس لفظ (الحمد لواهب العطية) بخصوصه بل حمد الله بأي عبارة كانت فتأمل،
والجواب أن الشارح جرى على القول الأخير الثاني أنه يلزم على صنيع الشارح إعمال (إن) محذوفة هي واسمها ولم ينصوا على حذف (إن) وأخواتها مع الاسم فيما أعلم نعم ذكروا أنها تحذف مع اسمها وخبرها نحو (أين شركائي الذين كنتم تزعمون) أى تزعمون أنهم شركاء وأنها إذا حذفت ارتفع اسمها كما ذكره الدماميني في قول أبي العلاء:
*فلولا الغمد مسكه لسالا*
أي أن الغمد
(والجواب) أنه إنما يلزم ما ذكر لو كان المحذوف ملحوظا للمصنف وصرح به الشارح على لسان المصنف وليس كذلك إنما غرض الشارح الثناء على حمد المصنف بعبارة مؤكدة بينها وبين حمد المصنف شدة الارتباط والامتزاج، الثالث وضع (إن) لتأكيد النسبة ورفع الشك عنها ولا شك في نسبة الحمد الله ولا إنكار
(والجواب) أن الحكم قد يؤكد لبيان شرفه و مزيته كما في (إنا فتحنا لك)
(أقول) إيراد هذا غلط لأن التأكيد هنا ليس لنسبة الحمد الله حتى يرد الاعتراض بل للنسبة بين (أحسن) و(الحمد) وهي مما قد يشك فيه فافهم، الرابع كان مقتضى الظاهر أن يجعل (الحمد) مسندا إليه لأنه المعلوم و(أحسن) مسندا لأنه المجهول.
(والجواب) أنه قلب الجملة مبالغة في مدح الحمد
قوله (ما تزاد) هذه النسخة هي المناسبة لقوله (وتدفع) وفي بعض النسخ تزداد والمناسب لها وتندفع و(ما) نكرة موصوفة أو موصول اسمى أي إن أحسن شكر أو الشكر الذى تزاد إلخ، ثم لا يخفى أن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه فمفاد الكلام أن الحمد المدوح بالأحسنية شكر وهو كذلك لأنه في مقابلة نعمة كما تقتضيه قاعدة تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق ففي الكلام اشعار بأن الثناء بمضمون هذه الجملة علته هبة العطية ولا نعني أن مضمون الجملة نفسه علته الهبة وإن كان الغالب ذلك فلا اعتراض بأن ثبوت الحمد له تعالى ليس لمجرد الإنعام لأنه يستحق الحمد لذاته وصفاته وأفعاله، والحاصل أن المعلول هنا حمد المصنف بهذه العبارة لاثبوت الحمد الواقع مبتدأ فيها.
قوله (الوفية) مبالغة الوافية أى التامة واستشكل الجمع بين قوله (تزاد) وقوله الوفية بأن فيه تنافرا والجواب من خمسة أوجه الأول إن اتصاف النعم بكونها وفية حاصل بسبب تعلق الزيادة بها لا قبله ومبنى التنافر على ملاحظة وفائها قبل تعلق الزيادة بها وهل الوفية على هذا الوجه من مجاز الأول أى النعم التي تصير وفية بسبب تعلق هذه الزيادة بها أو لا؟ المشهور الأول ومختار صاحب -عروس الافراح- الثاني فإنه رد على من جعل قوله صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا فله سلبه) من مجاز الاول بما حاصله انه لا يتم من ذلك لانه لا يلزم وجود المفعول به بوصفه العنواني قبل تعلق الفعل به بل يجوز أن يكون مقارنا للفعل كما في (خلق الله السموات) فمعنى الحديث من فعل بكافر فعلا صار به قتيلا فله سلبه, الثانى سلمنا ان الوفاء قبل فالوفي يقبل الزيادة في الوفاء اذا الكامل يقبل الكمال وعلى هذا فزيادة النعم القاصرة مفهومة بالأولى لأنها أشد طلبا للزيادة من طلب الوفية لها لان طلب القاصرة لدفع النقصان وطلب الوفية لتحصيل كمال الكمال والاهتمام بشأن دفع النقصان أشد, الثالث اختلاف جهتى الزيادة والوفاء فالزيادة من جهة الكم والوفاء من جهة الكيف أو العكس ومبنى التنافر على اتحاد الجهة, الرابع وهو أحسن الأجوبة أن المراد أن الحمد سبب لزيادة النعم الوفية على ما عند الحامد من النعم فالنعم الوفية مزيدة لا مزيد فيها ومبنى التنافر على العكس, الخامس أن الوفية بمعنى الموفية بجميع المقاصد ومبنى التنافر على أن المراد وفية في نفسها
قوله (وتدفع به البلية) إنما لم يقل وتزال مع أنه الأنسب لفظا لاشتماله على الجناس المضارع لان إزالة التى تشعر بوصوله بخلاف دفعه فيكون التعبير به أبلغ في مدح الحمد لإشعاره بان الحمد يمنع من وصول البلية بالكلية. والموافق لقولهم التخلية مقدمة على التحلية تقديم قوله (وتدفع به البلية) على قوله (تزاد به النعم الوفية) ويظهر لي توجيه صنيعه بأنه قصد الجري على نسق قوله تعالى ((لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)) كما سيتضح. واعلم إن في قوله (إن أحسن إلخ) تلميحا إلى قوله صلى الله عليه وسلم ((رأس الشكر الحمد لله)) ولعل ذلك لكونه أصرح أنواعه وفي قوله (تزاد به النعم الوفية) تلميحا إلى قوله تعالى ((لئن شكرتم لأزيدنكم)) وفي قوله (وتدفع به البلية) تلميحا إلى مفهوم قوله تعالى ((ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)) فان مفهومها أن ضد الكفران وهو الشكر دافع للعذاب
قوله (في البكرة والعشية) البكرة الغداة وهى ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس والعشية آخر النهار والظاهر أن الجار والمجرور ظرف لغو متعلق بكل من (تدفع) و(تزاد) على سبيل التنازع أو بقوله (أحسن) ويحتمل على بعد أنه مستقر متعلق بمحذوف حال من (النعم) و(البلية) أي كاثنتين وأبعد من هذا تعلقه بالحمد المؤخر بل هو غير مناسب لاقتضائه أن الزيادة والدفع يختصان بالمحمد الدائم مع أنه ليس كذلك وعلى كل تقدير فالمراد جميع الأوقات كما هو عادة البلغاء أنهم يذكرون ملابسة الفعل لطرفي الزمان ويشيرون به إلى ملابسته لجميع أجزائه فان البكرة ينتهى بها الليل ويبتدئ بها النهار والعشية بالعكس وذلك مجاز مرسل من اطلاق الجزء وإرادة الكل ويحتمل أنه من باب حذف العاطف والمعطوف
قوله (لواهب العطية) كذا فى بعض النسخ ووجه بان في حذف الموصوف تنبيها على قوة اختصاص الصفة به وأنها مما لا يذهب الوهم إلى اتصاف غيره بها وبان في حذفه هنا مطابقة لحذفه في جملة الصلاة وفي بعضها (لله الواهب العطية) وفي بعضها (لله واهب العطية) أقول على النسخة الاخيرة ان كان اسم الفاعل بمعنى الماضى بناء على ان المراد عطية الكوثر أو بمعنى مطلق زمن فإضافة محضة تفيد التعريف فالمطابقة حينئذ بين النعت والمنعوت في التعريف حاصلة أو بمعنى الحال أو الاستقبال او الاستمرار فإضافته لفظية لا تفيد التعريف لمشابهته حينئذ هذا المضارع صرح به الرضى. فالمطابقة حينئذ بينهما في التعريف غير حاصلة مع انها واجبة عند الجمهور فيحتاج الى جعله بدلاً أو الى قراءته بالرفع خبر المحذوف أو النصب مفعولا لمحذوف تقديره أمدح, نعم نقل شيخنا السيد البليدي في -حواشيه على الاشمونى- عن بعضهم ان اسم الفاعل اذا أريد به الاستمرار جاز اعتبار دلالته على الماضي فتكون اضافته محضة واعتبار دلالته على الحال أو الاستقبال فتكون اضافته لفظية فاعرف ذلك. وقد ورد من أسمائه تعالى الواهب كما في -شرح ابن حجر على المنهاج- في باب العقيقة فلا يرد الاعتراض بان الوارد إنما هو الوهاب حتى يحتاج للجواب بان المصنف جرى على مذهب من جوز مثل ذلك مع ورود أصل المادة. والمراد بالعطية الشئ لا بوصف كونه معطى لئلا يلزم التكرار ففى الكلام تجريد ويصح جعلها من مجاز الأول وقد أسلفنا عن صاحب -عروس الافراح- ما يغنى عن التأويل فتنبه.
قوله (أى كل عطية)بجر كل لان ما بعد (أى) على ما يستحقه من الإعراب لو أتى به في موضع مفسره -بفتح السين- ولا يلزم من كون (كل) تفسيرا لـ(أل) التي لا محل لها من الاعراب أن يكون كل كذلك كما هو ظاهر فما قيل من ان (كل) في كلام الشارح يقرأ بالسكون لانه تفسير لـ (أل) المبنية على السكون شبيه بالهذيان. وقدم الشارح احتمال الاستغراق السكون الفائدة عليه أتم لاشتمال العطية حينئذ على العطية المعهودة وغيرها كعطية تأهيله لتأليف هذا الكتاب ولم يذكر احتمال الجنس لعدم مناسبته هنا لان الحقيقة لا تعطى وإنما تعطى الأفراد.
قوله (أو العطية المعهودة) اعترض بأنها لم يتقدم لها ذكر ولم يكن بين المصنف وغيره عهد فكيف جوز جعل أل للعهد وأجيب بانه قد يدعى شيوع استعمال العطية فيما ذكر على السنة حملة الشرع المفروض خطاب المصنف معهم أو أن المصنف حين ابتدائه تأليف هذا الكتاب كان بينه وبين تلامذته مثلا عهد لها لشيوع لفظ العطية فيها بينهم
قوله (التي نزلت فيها) أى بسبها (السورة) أى بعضها سواء أريد سورة الكوثر أو سورة الضحى وربح الأول يكون العطية فيها عطية بالفعل كما يفصح عنه التعبير بالماضى والتصدير بـ(انا) فاللنبي أن يعطى منها الآن بخلاف العطية في سورة الضحى فانها موعودة كما يفصح عنه التعبير بالمضارع المصدر (سوف) لا يقال ما وعد به تعالى محقق الوقوع بل بعض هذه العطية وهو ما أعطيه عليه الصلاة والسلام في الدنيا وقع بالفعل بالنسبة الى زمن المصنف لانا نقول يكفى وقوع عطية الكوثر بتمامها بالفعل مرجحا وبانها معلومة الشخص بخلاف العطية في سورة الضحى معلومة النوع فقط وبانها في صدر السورة بخلاف العطية في سورة الضحى ففي أثنائها. ورجح الثاني يكون العطية فيه أشمل لشموله جميع ما أعطيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا من كمال النفس وظهور الامر و اعلاء الدين واستيلاء المسلمين ولما ادخر له في الآخرة من الكوثر وغيره مالا يعلم كنهه الا الله تعالى وما روى من انه لما نزلت هذه الآية قال اذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار موضوع كما قاله الحفاظ واعلم انه اختلف في المراد بالكوثر فقيل الحوض ونقل عن عطاء وقيل نهر في الجنة ورجحه كثير. و الأظهر ما قاله ابن عباس أن المراد به فى الآية الخير الكثير المفرط في الكثرة من العلم والعمل وسائر ما أنعم به عليه فالحوض على هذا من الخير الكثير الذي أعطيه صلى الله عليه وسلم وكذا النهر الذي في الجنة قاله ابن أبي شريف في حواشي - شرح العقائد- وتبعه فيه غير واحد من أرباب الحواشي, قال العلامة الغنيمي شيخ الشيخ يس وعلى هذا فالاستغراق معنى موجود مع إرادة العهد أيضا فتأمل. أقول ظاهر كلامه أن مراده الاستغراق الذي في كلام الشارح وفى دعوى وجوده مع إرادة العهد على القول الأخير نظر لأن الاستغراق الموجود مع إرادة العهد على هذا القول استغراق ما أعطيه صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية والاستغراق في كلام الشارح استغراق جميع ما أعطاه الله لعباده أو للمصنف اللهم إلا أن يختار الشق الثانى ويقال ما أعطيه المصنف من جملة ما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم نعم الجري على هذا القول يعكر على بعض ما تقدم في ترجیح إرادة سورة الكوثر وترجيح إرادة سورة الضحى هذا ويجوز على احتمال العهد أن يكون المعهود هذا المتن أو التوفيق لـتأليفه أو العقل الذي هو أثر من آثاره
قوله (فحينئذ) أى حين إذ أريد العطية المعهودة هـذا هو الظاهر بل المتعين الذى يعينه قوله (ولا يخرج الحمد إلخ) فتجويز بعضهم أن يراد فحين إذ أريد كل عطية أو أريد العطية المعهودة ويراد بالأشدية الاشدية ولوفى المجلة إذ هي في العهد أظهر و توجه الأشدية بالنسبة للاستغراق بما وجه به أصل التناسب فيه مما سيأتي ويوجه أصل التناسب فيه بالتقفية كما سيتضح غفلة عن بقية كلام الشارح.
قوله (فقرتا الحمد والصلاة) قال فى القاموس الفقرة بالكسر والفقرة والفقارة بفتحهما ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب ثم قال وبالضم القرب ثم قال وبالكسر العلم من جبل أو هدف أو نحوه وأجود بيت في القصيدة. وكان علماء البديع نقلوها إلى ما هو بمننزلة البيت فإن الفقرة فى النثر عندهم بمنزلة البيت في النظم وأما السجعة فهى الكلمة الأخيرة من الفقرة باعتبار كونها موافقة للكلمة الأخيرة من الفقرة اللأخرى في الحرف الأخير.
قوله (أشد تناسب) لأن كلا من الفقرتين على هـذا متعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم أما فقرة الصلاة فظاهرة وأما فقرة الحمد فلكونه على عطية واصلة إليه صلى الله عليه وسلم وإنما قال (أشد تناسب) لأن أصل التناسب موجود على احتمال الاستغراق إما باعتبار اشتمال العطية عليه على العطية الواصلة إلى الرسول وإما باعتبار إن صلاته عليه التي تضمنتها الفقرة الثانية من جملة العطايا التي تضمنتها الفقرة الأولى وأما باعتبار أن الأولى متعلقة بالمرسل والثانية متعلقة بالمرسل وبينهما باعتبار وصفيهما لا ذاتيهما مناسبة.
وما قيل من أن قول الشارح (أشد تناسب) يدل على أصل تناسب وشدة تناسب وأشدية تناسب فأصل التناسب حاصل من التقفية لأن بين كل قافيتين مناسبة وشدة التناسب باعتبار تعلق الأولى بالمرسل والثانية بالمرسل وأشدية التناسب باعتبار تعلق كل بالرسول أما الثانية فظاهرة وأما الأولى من حيث إن المحمود عليه عطية واصلة إليه صلى الله عليه وسلم زيفها بعضهم بأن (أشد) يؤتى بها لما لا يصاغ منه اسم التفضيل كا لتناسب أي فلا يقتضى إلا وجود أصل الشيء فقط في المفضول ووجوده مع الزيادة في الفاضل كما في أفعل التفضيل وعلى تسليم هذا القيل يوجه أصل التناسب في احتمال الاستغراق أيضا بالتقفية ويوجه شدته أحد الاعتبارات الثلاثة السابقة في توجيه أصل التناسب فيه.
قوله (ولا يخرج (الخ) (أل) في (الحمد) للعهد والمراد حمد المصنف واسم الإشارة يرجع إلى قصد العطية المعهودة وهذا جواب عن سؤال مقدّر تقديره إذا جعلت (أل) للعهد والمعهود العطية الواصلة اليه صلى الله عليه وسلم كان حمد المصنف حمدا فقط لا حمدا وشكرا كما هو الأكمل وكما هو مقتضى قول الشارح (إن أحسن ما تزاد الخ) كما مر لأن هذه العطية ليست واصلة إلى المصنف والشكر يشترط فيه وصول النعمة إلى الشاكر.
وأنت خبير بأن هذا السؤال إنما يتجه عند من يشترط في الشكر اللغوى الوصول إلى الشاكر كما ذهب إليه طائفة منهم الرازي أما عند من لا يشترط ذلك فلا وهل هذا الخلاف جار فى الحمد العرفي أو لا، قال الشيخ يس كلام شيخنا الغنيمي يقتضى الجريان فيه أيضا وكلام الناصر في -شرح ديباجة المختصر الفقهي- يقتضى الاتفاق على عدم الاشتراط فيه. نعم الاشتراط لازم لمن يقول بتساوى الحمد العرفي والشكر اللغوي وبالاشتراط في الشكر اللغوي فإن كان الفخر و من تبعه يقولون بالمساواة لزمهم الاشتراط في الحمد أيضا وإلا كان الحمد العرفي عندهم أعم مطلقا من الشكر اللغوي. قال الغنيمي على أنا لو سلمنا الاشتراط وسلمنا أن العطية المذكورة لم تصل إلى الشاكر لا نسلم خلو حمده عن أن يكون في مقابلة نعمة لجواز أن يكون في مقابلة نعمة حصلت للمصنف غاية ما يلزم عليه أنه لم يذكر فى صيغة حمده النعمة الحاصلة له الباعثة على حمده.
أقول ينافيه قولهم تعليق الحكم بمشتق يؤذن بعلية المشتق منه فإن هذا يقتضى أن العلة الباعثة للمصنف على حمده هبة العطية فاعرفه
قوله (عن أن يكون على النعمة (الخ) قد يوهم كلام الشارح أن المحمود عليه في كلام المصنف النعمة وليس كذلك بل هو هبة النعمة أفاده الشبراملسي.
قوله (إلى الشاكر) لما كان حمد المصنف شكرا قال إلى الشاكر ولم يقل إلى المحامد مع أنه المناسب لفظا لقوله (ولا يخرج الحمد) إشارة إلى ما ذكرنا من أن حمده شکر.
قوله (لأن كل إلخ) هذه الكلية مخصوصة بغير خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا اعتراض على أن خصائصه شرف لكل مسلم
قوله (لنبينا) الضمير راجع إلى أمته صلى الله عليه وسلم من الثقلين فقط لأن الأصح أنه مرسل إليه ما دون الملائكة كما فى الزيباري وغيره
قوله (يعم مسلمى البرايا) إنما لم يقل يعمنا مع أنه مقتضى الظاهر رعاية للسجع وتحصيلا لنكتة الالتفات من التكلم في (نبينا) إلى الغيبة بناء على اتحاد المراد من الضمير و (مسلمى البرايا) وهو الأ وجه كما ستعرفه وإلا فلا التفات ولا يخفى أن الالتفات هنا على مذهب الجمهور أيضا فزعم المجد ولى أنه على مذهب السكاكى فقط باطل.
وظاهر العبارة دخول الملائكة لأن رحمة نالتهم كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام سأل جبريل بعد نزول قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فقال له (هل حصل لك من ذلك شئ) قال نعم ثناؤه علي بقوله (ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين) ودخول جميع المؤمنين من أمته ومن غيرها فيشكل وصف الكل الاسلام لأنه من خصوصيات هذه الامة كما رجحه السيوطى. والجواب أن وصف غير هذه الأمة بالاسلام باعتبارهم معناه اللغوي لا الشرعي فيكون من باب استعمال المشترك في معنييه أو فى الكلام تغليب هذه الأمة على غيرها أو هو مبنى على القول الثانى أن الوصف به ليس من خصوصيات هذه الأمة كذا قيل. أقول إدخال غير أمته في عبارة الشارح يزيفه أن كثيرا مما وهب له صلى الله عليه وسلم إنما يهم أمته فقط بل لو قيل الأكثر كذلك لم يبعد فينافي الكلية السابقة فيحوج التعميم هنا إلى مزيد تخصيص في الكلية السابقة فالأوجه أن يراد مسلمو أمته.
قوله (والصلاة) لم يقل والسلام خروجا مما اشتهر من كراهة إفراد أحدهما عن الآخر إما لأن المصنف لا يوافق على كراهة الأفراد مطلقا أو يرى انتفاءها بالجمع لفظا ولا يرى كراهة الأفراد خطا وإن صرح بها جمع وقد وقع للشافعي في -الأم- وغيرها الإفراد خطا قاله الشهاب ابن قاسم في آيا ته. أقول ممن توقف فى اطلاق الكراهة الحافظ ابن حجر ثم قال نعم يكره أن يصلى ولا يسلم أصلا و العكس أما لو صلي في وقت وسلم في وقت فإنه يكون ممتثلا. وهذا هو الرأى القوي ولا دلالة في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) على طلب المقارنة في الوقت إذ الواو لا تقتضى ذلك كما لا يخفى ووجه بعضهم الإسقاط برعاية تساوى الفقر وهو لا ينهض مع تسليم كراهة الإفراد.
قوله (على خير البرية) اختار هذا الوصف لاندراج جميع كمالاته صلى الله عليه وسلم فيه وتوجيه حذف الموصوف قد تقدم. والبرية فعيلة من البرء وهو الخلق فهى بمعنى مفعولة وأصله بريئة بوزن خطيئة فأبدلت الهمزة ياء وأدغمت الياء قبلها فيها والجمع برایا کخطایا وأصله برايئ بياء مكسورة هي ياء برية الأولى فهمزة هي أصل يائها الثانية فأبدلت الياء همزة كما هو القاعدة التصريفية في جمع فعيلة على فعائل فصار برائئ بهمزتين فأبدلت الهمزة الثانية ياء ولأن الهمزة المتطرفة بعد همزة تقلب ياء ثم قلبت كسرة الهمزة الأولى فتحة للتخفيف فقلبت الياء ألفا لتحركها و انفتاح ما قبلها فصار براءا بألفين بينهما همزة وهي تشبه الألف فاجتمع شبه ثلاث ألفات فأبدلت الهمزة ياء ولم تبدل واوا لأن الياء أخف.
قوله (أى جميع البرايا) لو قال أى كل برية لكان أحسن لفظا لموافقته ما قاله فى نظيره السابق أعنى (العطية) ومعنى لإيهام عبارته أن لام الاستغراق بمعنى الكل المجموعى لا بمعنى كل فرد لأن لفظ الجميع يستعمل كثيرا أو غالبا بمعنى الكل المجموعى. وأجيب بأنه إنما عدل إلى ذلك إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم خير من مجموع البرايا كما أنه خير من كل برية كما نص على ذلك الفخر في تفسيره عند الكلام على قوله تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) و يلزم من خيريته على المجموع خيريته على كل فرد. وكأن حاصل هذا الجواب ان الشارح حمل (أل) في البرية على الاستغراق المجموعى وإن كانت حقيقة في الاستغراق الإفرادي تنبيها على أفضليته على المجموع المعلوم منها أفضليته على كل فرد بالأولى. وأقول لك أن تجعل الجميع في عبارته من استعمال المشترك في معنييه فيكون تفسير المعنى (أل) الحاصل بطريق الوضع أعنى الاستغراق الإفرادي والحاصل بمعونة المقام أعنى الاستغراق المجموعى. نعم يندفع بالحمل على والاستغراق المجموعي وحده ما أورد على كون (أل) للاستغراق الأفرادي من اقتضائه تفضيل الكامل على الناقص بحدته وهو نقص فاعرف ذلك. وجمع البرايا مع أن المفرد صالح لعموم كل الخلق باعتبار أنواع الخلق إذ يطلق لفظ البرية على كل نوع من أنواع المخلوقات كما يطلق على مجموعها كالعالم صرح به بعضهم
قوله (أو البرية المعهودة) أى فـ(أل) للعهد قال الغنيمي وقد جعلها بعض الشراح للجنس ونظر فيه بأنه ميل منه إلى مذهب المعتزلة القائلين بفضل الملك ورد بما حاصله أن خيريته على الجنس تستلزم خيرية، على جميع الأفراد بطريق برهانى على أنى أقول بما قاله المحققون من أن محل الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة في تفضيل الملك على البشر في غير نبينا صلى الله عليه وسلم ومن زعم خلافه من المعتزلة كالزمخشرى فهو جهل منه بمذهبه.
قوله (من الإنس والجن والملك) قدم الإنس لشرفهم وثنى بالجن لمشاركتهم لهم في التكليف فيثابون ويعاقبون وثلث بالملك لبعد المشابهة في الجملة وإن كان الملك أفضل من الجن أو ليكون بادئا بشريف وخاتما بشريف أو ليكون الوصف أقرب إليهم
قوله (الكرام) المتبادر أنه صفة لجميع ما قبله لكن لما كانت كرامة الجن غير معهودة استظهر المحشى الحفيد أنه صفة لذلك قال وجمع (الكرام) لما أنه اسم جنس متضمن لمعنى الجمع وفيه نظر لأن تضمنه معنى الجمع إن كان بدون (أل) بناء على أنه اسم جنس جمعي فقضية ذلك أنه لا يطلق إلا على أكثر من اثنين كما في نظائره وليس كذلك وإن كان بالنظر لـ(أل) ففيه أنهم صرحوا بأن مدخولها بمعنی گل فرد وأنه يمتنع وصفه بالجمع إلا ما حكاه الأخفش من الدرهم البيض والدينار الصفر قاله يس. وما استند إليه المحشى من أن كرامة الجن غير معهودة يدفع بأن في عبارة الشارح تغليبا على أنه قد توجه كرامتهم كما قال بأنهم شرفوا بإرسال نبينا إليهم فصاروا من أمته قيل والإرسال إليهم من خصوصياته عليه الصلاة والسلام
قوله (إذ ما عداها) أى البرية المعهودة غنيمى
قوله (التفضيل) بمعنى كثرة الثواب غنيمي أقول لعل تفسيره بذلك لدفع إيراد نحو المساجد الثلاثة إذ هي ليست مما يثاب, ولا يخفى تقرير الاستعارة المكنية وتخييلها وترشيحه فى قوله (ليس له في سلك التفضيل انتظام)
قوله (أى أتباعه) أى فى الإيمان والعمل الصالح كما هو الأنسب بقوله ذوى النفوس الزكية ويحتمل أن يراد الأتباع ولو في مجرد الايمان و يراد بزكاء نفوسهم طهارتها من دنس الكفر
قوله (إذ هي أحد معنى الآل) أنت ضمير الأتباع التفاتا إلى كونهم بمعنى الجماعة أو الجماعات و (معني) مفرد مضاف فيعم فكأنه قال أحد معاني الأل. وكون (معنى) بصيغة المفرد هو الموجود فى خط الشارح لكتابته فيه بياء واحدة ولو كان مثنى لكتب بيائين والموافق للواقع إذ ليس له معنيان فقط بل أكثر قيل اثنا عشر معنی فراجعها.
قوله (فلا يلزم على المصنف الإهمال) أى إهمال الصلاة على الأصحاب مع استحبابها عليهم كالآل و ضمن (يلزم) معنى يتجه أو يرد فعداه بـ(على) وحاصل ما أشار إليه الشارح من الجواب عن الاعتراض على المصنف بتركة الصلاة على الأصحاب منع أنه تركها لدخولهم في الآل لأنه في كلامه بمعنى الأتباع وقد اختار كثير تفسيره بذلك في مقام الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام أقول الذي أختاره أن لا يطاق القول بمعنى معين في المقام المذكور بل ينظر إلى مضمون صيغة تلك الصلاة فإن كان لا يناسب إلا آل بيته فسر بهم كقولك اللهم صل على محمد و على آل محمد الذين أذهبت عنهم الرجس و طهرتهم تطهيرا وإن كان لا يناسب إلا الصلحاء فسر بهم كقولك اللهم صل على محمد وعلى آل محمد الذين أغرقتهم في بحر أنوارك وكشفت لهم حجب أسرارك وإن ناسب مطلق الأتباع كقولك اللهم صل على محمد و على آل محمد.
قوله (بل فيه إيهام حسن إلخ) الظاهر أن يحمل الايهام في كلامه على معناه الاصطلاحي المسمى بالتورية أيضا وهو أن يكون للفظ معنيان قريب وبعيد فيراد البعيد لقرينة خفية فالمعنى القريب المتبادر من آل النبي أهل بيته والمعنى البعيد بالنسبة إليه الأتباع والقرينة على إرادته قيل مقام الدعاء وقيل حال المصنف فإنها تقتضى أنه لم يهمل الأصحاب وأنه أراد بالآل ما يعمهم فيكون إيهاما والمراد يكون هذا الإيهام الموجود هنا حسنا أنه زائد فى الحسن وإلا فكل إيهام حسن لأنه من المحسنات البديعية وهذا أولى من أن يراد بحسنه الحسن اللازم لكل إيهام إذ عليه يكون قوله (حسن) تأكيدا لا تأسيسا بخلافه على الأول ووجه زيادة حسن الإيهام هنا كونه دافع اللاعتراض على المصنف أو كونه يشير إلى آية (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) ولدقة ذلك على غير أرباب الكمال قال (كما لا يخفى على أرباب الكمال) ويحتمل أن يراد بالإيهام هنا معناه اللغوي أى الايقاع في الوهم أى الذهن ووجه حسنه أيضا ماذكرنا
قوله (ولو قال وعلى آله العلية) أى لو زاد لفظ (العلية) قبل قوله (ذوي إلخ) كما ذكره المحشى الحفيد ووجه أحسنية السبك أن الفقر تصير أربعا و الأصل في السجع أن يكون مزدوجا لكل فقرة ما يقابلها ووجه كونه أعلى مزية عند أصحاب الروية أن الفقرة الرابعة تصير بمنزلة الدليل للفقرة التي قبلها و الروية الفكر والتأمل والاستدلال من آثاره و حاصل كلامه ترجيح ما قاله لفظا ومعنى وليس المراد أنه لو قال (العلية) بدل (ذوي النفوس الزكية) كما استقر به الزيبارى إذ لا وجه له كما قاله الشبراملسي وغيره لا يقال ما ارتضاه الشارح معارض بأنه حينئذ يكون المتعلق بالله تعالى فقرة واحدة وكذا المتعلق بالرسول ويكون المتعلق بالآل فقرتين لأنا نقول لما كان المراد من الآل الأتباع الشامل للآل بالمعنى الأخص ولغيرهم تعددت فقرته على أن العبرة إنما هو بعظم المعنى لا بكثرة اللفظ ولا يخفى علو مضمون الفقرة المتعلقة بالله والمتعلقة بالرسول على فقرتي الآل.
نعم أورد على ما ارتضاه الشارح ان السجعة الثالثة تصير أقصر ما قبلها وأفضل السجع ما تساوت قرائنه ثم ما طالت فيه اللاحقة عن السابقة ولا يستحسنون قصيرة بعد طويلة وحينئذ لا يكون ما ارتضاه أحسن سبكا والعجب أن الشارح عاب على المصنف عدم الإزدواج مع وقوعه فيه حيث قال (ولو قال إلخ) فأتى بثلاث فقر. و تأنیث (العلية) باعتبار أن الآل جماعة أو جماعات كما مر نظيره.
و في قوله (أحسن سبكا) استعارة بالكناية وتخيل حيث شبه السجع بالذهب مثلا ورمز إلى ذلك بالسبك الذى هو من ملايمات المشبه به لأنه الإذابة يقال سبك الذهب أى أذابه وخلصه من خبثه
قوله (ذوى) جمع ذى بمدنی صاحب جمع مذكر سالم على غير قياس كأخ وأب وحم فهو مجرور بالياء ، وقول ابن هشام لم يسمع هذا الجمع إلا في الأب والأخ والحم منظور فيه غنمي. أقول ما ذكره من أنه على غير قياس مذهب الجمهور وذهب الرضى إلى أنه قياسى لأنه جمع ذى بمعنى صاحب وهو وصف مستكمل لشروط الوصف الذي يجمع قياسا جمع سلامة فكذا ذو التي بمعناه أقول يؤيد ما ذهب إليه أنه كالمنسوب في الاشتقاق معنى لا لفظا و قد صرحوا بأن جمعه جمع سلامة قياسي فافهم
قوله (النفوس) جمع نفس تطلق تارة على الذات وأخرى على المعنى اللطيف القائم بالذات كما حرر فى محله
قوله (أى المفلحة) المتبادر أنه تفسير لقوله (الزكية) من باب التفسير باللازم وذلك لأن الزكاء في الاصل الطهارة والنمو وذلك يستلزم الفلاح وهو الظفر بالمطلوب والآية دليل على هذا اللزوم ودلالتها عليه مبنية على شيئين:
الأول أن (من) واقعة على نفس ليكون المفلح والمزكي بصيغة المفعول شيئا واحدا هو النفس لا على عقل وإلا تغايرا وانتفى اللزوم إذ لا يلزم من فلاح المزكى لغيره فلاح ذلك الغير المزكى بصيغة المفعول وعلى أن (من) واقعة على نفس فتأنيث ضمير (من) لاعتبار المعنى والضمير المستتر في (زكاها) لله تعالى كما هو أحد التفاسير ويؤيد موافقته للضمائر المستترة في الأفعال قبله.
الثاني اعتبار العموم في (من) بأن يكون التقدير قد أفلح كل نفس زكاها الله تعالى وإلا لم يتم الاستدلال بالآية على اللزوم إذ لا يلزم من فلاح نفس زكاها الله تعالى فلاح كل نفس زكية هذا أحسن الاوجه التي أشار إليها المحشى في تقرير كلام الشارح وقد ضعفه بقوله ومع ذلك عدم ملايمته ظاهر أى ومع الحمل على هذا التفسير المسند فيه التزكية إلى الله تعالى عدم ملائمته لقوله (وزكاء النفس إلخ) لأن النفس والعقل بالنسبة إلى الله تعالى سواء فيجوز أن يوجد في أحدهما ما لم يوجده في الآخر إذ هو الفاعل المختار. وأجيب بأن ذلك بحسب العادة التي أجراها الله تعالى وأحسن مما ذكر جعل (من) موصولة عامة والضمير المستتر في (زكاها) راجعا إلى (من) والضمير البارز فيه راجعا إلى نفس في قوله (ونفس وما سواها) والمعنى قد أفلح الشخص الذى زكى نفسه أى طهرها من كدورات المعاصى أو نماها بالعلم النافع والعمل الصالح وهذا خبر من الله وهو لا يتخلف وحينئذ فاللزوم ظاهر والملائمة ظاهرة.
أقول لا يقال كيف يدعى ظهور اللزوم على هذا الوجه مع أنه عليه لم يكن المفلح والمزكى شيئا واحدا هو النفس لأن الأول الشخص والثانى النفس مع أن الاستدلال بالآية على اللزوم يتوقف على ذلك كمامر لأنا نقول إن أريد بالشخص النفس فالاتحاد ظاهر وإن أريد الهيكل المخصوص الذى هو مجموع البدن والنفس فتضمن فلاح المجموع فلاح النفس لكونها جزأه يغنى عن ذلك الاتحاد لقيامه مقامه في تصحيح الاستدلال بالآية على الزوم فلاح النفس لزكائها فافهم.
فان قلت لم عدل الشارح من التفسير بالطاهرة أو النامية إلى التفسير بالمفلحة الذي هو تفسير باللازم, قلت لعل ذلك لكون الفلاح ثمرة الطهارة والنمو وفائدتهما والمقصد منهما ففيه إشارة إلى بلوغهم المقصد هذا و جوز بعضهم أن يكون قوله (أى المفلحة) تفسيرا لـ(ذوى النفوس الزكية)
قوله (وزكاء النفس الخ) جواب عن سؤال تقديره هلا قال المصنف (ذوى العقول الزكية) لأن العقل به كمال الإنسان وعليه مدار التكليف وبه تتفاوت مراتب الخلق فكان أولى بالوصف بالزكاء فأجاب بأن وصف النفوس بالزكاة يستلزم زكاء العقل بالطريق الأولى لأن ميل العقل إلي الكمالات والنفس إلى الشهوات فمن كانت نفسه زاكية فعقله بذلك أولى
وهذا الذى ذكره الشارح مبني على تغاير النفس والعقل وهو أحد قولين وذلك أنه قيل باتحادهما والاختلاف بالاعتبار فقط فباعتبار ميلها إلى الشهوات تسمى نفسا و باعتبار ميلها إلى الكمالات تسمى عقلاً وقيل بتغاير هما فالعقل قوة للنفس بها تستعد للعلوم والادراكات والنفس معنى لطيف رباني به حياة الانسان والخلاف في أنهما من الجواهر المجردة عن المواد العنصرية أو من الجواهر الجسمانية أو من الأعراض يطلب من محله.
وفى بعض النسخ (الفعل) بالفاء والعين وعليها فالكلام جواب عما يقال ترك ذكر زكاء أفعالهم مع أنه معهود فى مقام المدح فأجاب بأن زكاء النفس إلخ لأن الأفعال صادرة عنها و تابعة لها.
قوله (بطريق الأولى) متعلق بـ(زكاء العقل) لا بـ(يستلزم) كما هو ظاهر للتأمل والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة وفى نسخ (بالطريق الأولى) وهي ظاهرة.