بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: ((لك الحمدُ)) لفظ الحمد مصدر، وصيغ المصادر تستعمل إما في أصلِ النسبة وتسمى مصدرًا وإما للهيئةِ الحاصلةِ منها للمتعلَّق معنويةً كانت أو حسيةً كهيئة المتحرك الحاصلة من الحركة وتسمى الحاصلَ بالمصدرِ، وتلك الهيئة للفاعل فقط في الفعل اللازم كالتحركية والقائمية في الحركة والقيام أو للفاعل والمفعول في الفعل المتعدي كالعالِمية والمعلومية من العلم، وباعتباره تَسَامَحَ أهل العربية في قولهم المصدرُ المتعدِّي قد يكونُ مصدرًا للمعلومِ وقد يكون مصدرًا للمجهول يَعْنُونَ بهما الهيئتين اللتين هما المعنى الحاصلُ بالمصدرِ، وإلا لكان كل مصدرٍ مُتَعَدٍّ مشتركًا، ولا قائلَ به بل استعمالُ المصدرِ في المعنى الحاصل بالمصدر استعمالُ الشيء في لازمِ معناه.
فلفظُ الحمدِ هنا إما أن يراد به المعنى اللغويُّ أو العُرْفِيُّ
وكل واحد من هذين المعنيين إِمَّا أن يراد به المصدرُ المبنيُّ للفاعل أعني إحداثَ الحامدية أو المفعول وهو قبول المحمودية، أو الحاصلُ بالمصدرِ وهو الحامديةُ أو المحموديةُ أو التعظيمُ،
ويجوزُ أن يُرادَ «ما يطلق عليه لفظُ الحمدِ» وهو القدرُ المشتركُ بين الأمور الثلاثة.
ولامُ التعريف تَحْتَمِلُ الاستغراقَ والجنسَ والعهدَ الخارجيَّ باعتبار كونها مشارًا بها للحقيقة من حيث تحققُها في جميع الأفراد ولها من حيث هي أو للفرد الكامل، ولا التفاتَ للعهدِ الذهنيِّ هنا إمَّا لنُدْرَةِ استعمالِهِ أو لعدمِ الاعتدادِ به لكونِ مدخولِهِ في حكم النكرةِ أو لأن مقامَ الحمدِ آبٍ عنه، لأنه يقتضي الحصرَ كما في لامِ الاستغراقِ والجنسِ أو ظُهُورَ الفردِ بحيث يكون خارجا عن الذهن
مطلقا عليه الفرد كما في العهد الخارجي بناءً على أن الحمد واجب شرعًا وعقلاً، والواجبُ ينبغي أن يكون عَلانِيَةً ليَقْتَدِيَ به فيه غيرُهُ على ما قالوا من استحباب إعطاءِ الصدقةِ الواجبةِ جِهارًا.
ولامُ «للهِ» يَحْتَمِلُ المِلْكَ بمعنى الاختصاصِ على ما قيل إن لامَ المِلْكِ وُضِعَتْ للاختصاصِ بمعنى الارتباطِ لا للاختصاص بمعنى الحَصْرِ
والاختصاصُ ههنا إمَّا اختصاصُ الصفةِ بالموصوفِ أو المتعلِّقِ بالمتعلَّقِ أي: اختصاصِ صفةِ الحَمْدِ القائمةِ به تعالى واختصاصِ تَعَلُّقِ الحَمْدِ به تعالى أعمَّ من أن يكون ذلك الحمدُ صفةً قائمةً به تعالى أَوْ لا.
فالاحتمالاتُ اثنان وأربعون حاصلةٌ من ضربِ مَعْنَيَيِ الحمدِ في ثلاثةٍ {المصدرِ المبنيِّ للفاعلِ والمصدرِ المبنيِّ للمفعولِ والحاصلِ بالمصدرِ}، فيخرج ستةٌ، ثم ينضم لها المعنى الرابعُ وهو«ما يطلق عليه لفظُ الحمدِ» أعني المفهومَ الكليَّ فتصيرُ سبعةً، تُضْرَبُ في معاني اللامِ الثلاثةِ تَبْلُغُ إحدى وعشرين، تُضْرَبُ في مَعْنَيَيْ لامِ المِلْكِ تبلغُ اثنين وأربعين
فإن ضُمَّ المفهومُ الكلي باعتبار تحققه في الثلاثة أعني المصدرَ المبنيَّ للفاعلِ للثلاثةِ صار المجموعُ ستةً تُضْرَبُ في الاثنين تبلغ اثني عشر تُضْرَبُ في الثلاثة تبلغ ستةً وثلاثين تضرب في الاثنين تبلغ اثنين وسبعين
فإن ضُمَّ احتمالُ العهدِ الذهني للثلاثة تصيرُ احتمالاتُ اللامِ أربعةً تُضْرَبُ فيها الاثني عشر تبلغ ثمانية وأربعين تضرب في الاثنين تبلغ ستة وتسعين.
وقد أنهاها بعض فضلاء الأعجام المسمى بـ«مير سيف الدين علي» في رسالة له في خصوص هذا المحل إلى اثنين وثلاثين ألفا وستمائة وأربعين احتمالا
وكتبَ بعضُ الفضلاء بهامش هذه الرسالةِ ومن كان على تشويش من أنه كيف استخرج هذه الاحتمالاتِ فليطالع حاشية مولانا خسرو على تفسير القاضي البيضاوي فإنه استخرج من قوله تعالى: ﴿الٓمٓ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ﴾ إلى قوله ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ مائةَ ألفٍ وعشرين ألفًا ومائتين وأربعين وَجْهًا كي يندفع التشويش.
قوله: ((جعل الله مخاطَبا)) أي: عبر عنه بصيغةِ الخطابِ لا الغَيْبَةِ، وهذا جوابٌ عما يقال: المشهورُ في أمثال ما هنا التعبيرُ بالغَيْبَةِ، وهو الواقعُ في فاتحةِ التنزيلِ على أن المقامَ مقامُ الغَيْبَةِ لأنه تعالى غائبٌ عن أبصارنا، وأيضا وقع التعبير في البسملة بصيغةِ الغَيْبَةِ، ولأنه المناسبُ للتعظيمِ كما يقال في حُضُورِ السلطانِ «السلطانُ حَكَمَ بكذا تعظيمًا له».
قوله: ((تنبيها)) تعليل لِلْجَعْلِ المذكورِ، وفائدةُ هذا التنبيهِ الإشارةُ إلى أن هذا الحمدَ وَقَعَ على الوجه اللائق بحال الحامد، فإن اللائق بحال الحامد أن يلاحظ المحمود قريبًا على قياس ما ذكره في النكتة الثانية، فعلى هذا ترجع هذه النكتة إلى النكتة الثانية، فلا يَحْسُنُ التقابلُ بينهما، فكان الظاهرُ أن يَحْذِفَ الواو من قوله «ولأن اللائق..إلخ» ليكون علة للتنبيه المذكور.
ويجابُ بأن حاصلَ النكتةِ الأولى التنبيهُ على كون الحمدِ المذكورِ واقعًا على الوجه اللائق، وحاصلَ النكتةِ الثانيةِ إما التنبيهُ على أن اللائق بحال الحامد أن يلاحظ المحمودَ أوَّلا حاضِرًا ومشاهَدًا، وإما كونُهُ تعالى ملحوظًا في هذا الحمدِ على وجهٍ يقتضي التعبيرَ عنه بلفظِ الخطابِ، وعلى كِلا التقديرين فبَيْنَ النكتتين بَوْنٌ بعيدٌ.
قوله: ((على القرب)) أي: قربِهِ تعالى لا قُرْبِ الحامدِ منه تعالى وإن كانا متلازمين، يدل عليه قوله في الحواشي كما نَطَقَ به قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ فإن ما ذُكِرَ أوفقُ بمنطوقِ الآيةِ وأَمَسُّ بالمُدَّعَى وأليقُ بالتعظيم؛ لأن قُرْبَ الحامدِ منه تعالى لا يَصِيرُ سببًا لجعلِهِ مخاطِبًا، فيَخْتَلُّ الاستشهادُ بالآية
ويستفاد من الاستشهاد بها أيضًا نكتةٌ للتقديمِ غيرُ المذكورةِ وهو أن يكون فائدةُ التنبيهِ اشتمالَ الكلامِ على رعايةِ صناعةِ التلميح وهو الإشارةُ إلى قصة أو شعر من غير ذِكْرِهِ، وذلك لأن التنبيهَ على القُرْبِ إشارةٌ لمضمونِ الآيةِ كما أنه يمكن جعل النكتة الثانية أعني قوله «ولأن اللائق...إلخ» راجعةً أيضا إلى صناعة التلميح لكونها إشارةً لمضمون الحديث الذي أورده في الحواشي، وهو قوله عليه الصلاة والسلام «الإحسانُ أن تعبد الله كأنك تراه.
ويمكن أن يقال أيضًا إن اختيار طريق الخطاب لرعاية صناعة الاستغراب أو للالتفات بناءًا على أنه تعالى مذكورٌ في التسمية بطريق الغيبة أو لبراعة الاستهلال لأن المقصود ههنا بيان طريق المناظرةِ، ومدارُ المناظرة على المخاطَبة.
قوله: ((ولأن اللائق...إلخ)) عطف على قوله «تنبيها» فهو تعليلٌ ثان لاختيار صيغة الخطاب.
ثم إن ههنا مقدمة مطوية وهي (وكل ما يلاحَظ حاضِرًا ومشاهَدًا ينبغي أن يُجْعَلَ مخاطَبا)، لا سبيل إلى منع الكبرى، ولك أن تمنع الصغرى بأن ملاحظة الحامدِ المحمودَ مما يجب على الحامد، إذ الحمدُ وصفٌ بالجميل..إلخ فيتوقف على العلم بصدور جميلٍ بالاختيارِ عن المحمود، وتوقفُ ذلك العلمِ على ملاحظةِ ذلك وإدراكِهِ مما لا يُشَكُّ فيه، فالأَوْلَى بحالِهِ ليس إلا ملاحظةَ المحمودِ حاضِرًا ومشاهَدًا ولا دَخْلَ للأَوَّلِيَّةِ في الأَلْيَقِيَّةِ.
وأجيب عن هذا المنع بأن المراد بالأَوَّلِيَّةِ كونُه قبل الفراغ يعني عدمَ تَأَخُّرِهِ عن الحمد ليكون الحمدُ كاملاً مشتملاً على الحضورِ، وبهذا المعنى لا شك في مدخلية الأولية في الأليقية.
لا يقال إن قوله «ثم يَحْمَدَهُ» يَأْبَى هذا التأويلَ إذ كلمةُ «ثُمَّ» للتراخي
لأنا نقول يمكنُ أن يكون المعنى ثم يَخْتِمَ الحمدَ.
ثم إن الحديث الذي أورده في الحواشي بقوله كما يلائمه قوله صلى الله عليه وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك») ملائمٌ لهذا المعنى، ووجه ملائمته لهذا المعنى أن الحديث ظاهرٌ في أن الملاحظةَ المعتبرةَ هي الملاحظةُ في آنِ العبادةِ، والحمدُ نوعٌ منها،
وإنما قال «كما يلائمه» ولم يقل «كما يدل عليه» لأن الحديث المذكور إنما يستدعي أن يلاحَظَ المحمودُ كأنه مرئيٌّ ومشاهَدٌّ لا أن يلاحَظَ حاضِرا بحيث يستحق الخطابَ، فيجوز أن يلاحِظ العابدُ المعبودَ غائبًا ومع ذلك تكون العبادة كأنه يرى المعبودَ.
وبعد وُرُودِ هذا المنعِ والجوابِ عنه لك أن تمنعَ تقريبَ الدليلِ بأن المُدَّعَى إنما هو توجيهُ اختيارِ الخطابِ في أثناءِ الحمدِ لأن الحمدَ مجموعُ (لك الحمدُ) فالخطابُ واقعٌ في أثنائِهِ، والدليلُ المذكورُ على ذلك التقديرِ لا يثبته ولا يقتضيه أصلا بل إنما يقتضي الإتيانَ بالخطابِ قبل الشروعِ في الحمدِ لا في أثنائه مع أنه المطلوبُ.
ويمكن أن يجاب بأنه إنما اختار الخطابَ في الأثناءِ لأن اللائق بحال الحامد الملاحظةُ المذكورةُ قبل الشروعِ لأن المقامَ لكونه مقامَ الحمدِ يقتضي أن يتقدم على الجملة الحَمْدِيَّةِ شيءٌ بقدرِ الإمكانِ يدل على تلك الملاحظةِ ككاف الخطاب مثلا فأَتَى به في الجزءِ الأولِ من تلك الجملةِ تَدَارُكًا لما فات وتنبيها على حصول تلك الأليقية قبل الشروع، وبهذا يتم التقريب ويظهر وجه تقديم قوله «لك» على «الحمد» أيضًا فينتظم قوله «واستبان منه»، هذا.
ولو تَرَكَ قولَهُ «أوَّلا» وقولَهُ «ثم يحمدَه» لكان أخصرَ وأظهرَ لكن لا ينتظم حينئذ قوله «واستبان منه».
قوله: ((أوَّلا)) ظرفٌ لقوله «يُلاحِظَ».»
و«حاضِرًا ومشاهَدًا» حالان من المفعولِ، ولا يخفى أن الكلامَ هنا في حمدِ العبدِ المولى كما يدل عليه فاتحةُ الكلامِ، فهذه الملاحظةُ هي عينُ الحضورِ والمشاهدةِ
فمَنْ قال لا يلزم من كونه حاضرًا أن يكون مشاهَدًا حتى يُسْتَغْنَى بقوله «حاضرا» فقد غفل عن المقام ونَحَى مَنْحَى متفاهَم العُرْفِ في الكلامِ.
قوله: ((واستبان منه إلخ)) لأن المقدَّمَ بحسب الوجودِ العِلْمِيّ ينبغي أن يُقَدَّمَ في الذِّكْرِ ليكون الوجودُ الذكريُّ مطابقًا للوجودِ العِلْمِيِّ، وأيضا كما يَتَقَدَّمُ المحمودُ على الحمدِ بحسب الوجودِ العِلْمِيِّ كذلك يَتَقَدَّمُ عليه بحسب الوجودِ الأصليِّ، لأن الحمدَ صفةٌ للحامدِ بالقياس إلى المحمود وللمحمودِ بالقياس إلى الحامدِ، وكما يمكنُ أن يُجْعَلَ تقديمُ المحمودِ بحسب ملاحظة الحامد وجهًا لتقديم قوله «لك» على «الحمد» كذلك يمكن أن يجعل تقدمه بحسب وجوده الأصلي وجها آخَرَ له، فأشارَ إلى الأول بقوله «واستبان منه...إلخ» وإلى الثاني بقوله في الحواشي«ويمكنُ أن يقالَ إن الحمدَ كالنسبةِ بين الحامدِ والمحمودِ وهي متأخرةٌ» اهـ.
وإنما قال «كالنسبة» لأن الحمدَ إن كان بالجَنَانِ فهو من مقولة الكيف وإن كان بالأركان فهو من مقولة الفعل وإن كان باللسان فكذلك إذا كان الحمد اللساني عبارةً عن المعنى المصدري أعني التكلمَ بما يدل على التعظيم، وأما إذا كان عبارةً عن نفسِ الكلامِ المخصوصِ فهو من مقولة الكيفِ أيضًا، ومن البَيِّنِ أن الكيفَ ليس نسبةً أصلاً، لأن الأَعْرَاضَ النسبيةَ هي ما عَدَا الكمَّ والكيفَ فهي سبعةٌ، والفعلُ منها، وتمامُهُ فيما كتبناهُ على المُقُولاتِ.
قوله: ((وإن كان المقام إلخ)) مرتبطٌ بقوله «واستبان» في كونِهِ أَوْلَى بنقيضِ ذلك الشرطِ أو بقوله «تقديمَهُ» أو بمُقَدَّرٍ مثل قولنا: فَقَدَّمَهُ.
وأُورِدَ عليه أن الحمدَ مجموعُ قولِهِ «لَكَ الحمدُ» فالمقامُ إنما يقتضي تقديمَ «الحمدُ»» على «لك»» لو لم يكن «لك» داخلاً في «الحمد»» ومن جملةِ أجزائه، وليس كذلك.
والجوابُ أن «لك» و«الحمدُ» وإن كانا متساويين في الجزئية لهذا الفرد من الحمد أعني المجموعَ المركبَ منهما لكنَّ الحمدَ يصدقُ مفهومُهُ على هذا الفردِ كما يصدقُ على غيرِه من الأفرادِ، و«لك»» ليس كذلك، فمقامُ الفردِ لاقتضائِهِ كثرةَ الاهتمامِ بشأنِ ما يصدق هو عليه يَقْتَضِي تقديمَهُ على «لك» لو لم تكن نكتة تقديم «لك» موجودةً لكنها موجودةٌ فعُمِلَ بمقتضاها وقُدِّمَ «لك» على «الحمد».»
ثم لا يخفَى أن ما هنا ليس نظيرَ السؤالِ السابقِ، إذ حاصلُهُ أن الحمدَ عبارةٌ عن مجموعِ قوله «لكَ الحمدُ»» فلو كان ما به الخطابُ خارجًا عن الحمد لكان تقديمُهُ مستلزمًا لكون المشاهدة قبل الشروع، وهو ظاهر، وتأخيرُهُ مُنافٍ لذلك، فتأمل.
قوله: ((للتعظيم والشرف)) العطف تفسيري فهما نكتةٌ واحدةٌ.
وللتقديم وجوهٌ آخُرُ منها ما ذكرنا سابقا، ومنها التبركُ والاستلذاذُ ومجردُ الاهتمامِ والتشويق إلى المسندِ إليه، لأنه أهمّ خصوصًا في هذا المقام.
قوله: ((من كلمة اللام)) لم يَجْعَلِ التقديمَ للاختصاصِ واللامَ لتأكيدِهِ لتقدمِ اللامِ في الوجودِ والملاحظةِ على التَّقديمِ إذ اللامُ من تتمةِ المادةِ بخلاف التَّقديمِ، وبه يندفع ما يقال إن إفادة التقديمِ للاختصاصِ مطلقًا لا يستلزمُ كونَهُ تأكيدًا.
قوله: ((للاختصاص)) المستفادِ من اللامِ إذ المُؤَكِّدُ لابد أن يكون متأخرًا عن المُؤَكَّدِ في إفادة المعنى
وكونُ إفادته له بعدَ إفادةِ اللامِ ممنوع، إذِ الظاهرُ مَعِيَّةُ الإفادتين وإن كانتِ اللامُ مذكورةً قبلَ التقديمِ.
ثم إن المتبادَرَ من فَحْوَى الكلامِ أن المرادَ لامُ «لك»» فيَرِدُ عليه ما قالوا إن لامَ المِلْكِ إنما وُضِعَتْ للاختصاصِ بمعنى الارتباطِ لا الاختصاصِ بمعنى الحصرِ، والكلامُ فيه، وكأنَّ الشارحَ استشعر ورود هذا السؤالِ فقال في الحواشي «إن هذا مبنيٌّ على أن لامَ الجنسِ والمِلْكِ يدلان على اختصاصِ الحمدِ به تعالى كما صَرَّحَ به المحققُ الشريفُ في صدر حاشيةِ الكشافِ وغيرُهُ» اهـ.
ونُوقِـشَ فيـه بأن البنـاءَ المذكـورَ لا حاجـةَ إليه مع إفـادةِ لامِ الاستغراقِ للاختصاصِ الحَصْرِيِّ المقصودِ، وأيضًا لامُ المِلْكِ كافٍ في الدلالةِ على الاختصاصِ الحَصْرِيِّ المقصودِ على قولِ السيدِ سواءٌ كان لامُ التعريفِ للاستغراقِ أو للجنسِ أو للعهدِ أو لم يكنْ هناك لامُ تعريفٍ.
وأجيب بأن مقصودَ الشارحِ استفادةُ الحصرِ من لامِ المِلْكِ بناءً على ما صَرَّحَ به السيدُ فإن تَمَّ تَمَّ وإلا فلا، وأما ذِكْرُ لامِ الجنسِ فلموافقةِ ما صرح به لا لأن البناءَ موقوفٌ عليه بل لاختياره في مقامِ الحمدِ لامَ الجنسِ كما اختاره الزمخشريُّ على ما صَرَّحَ به شُرَّاحُ الكَشَّافِ وبَيَّنُوا وَجْهَهُ.
وبَقِيَ مَعَنَا بحثٌ وهو أن كون التقديم لتأكيد الاختصاص إنما يصح إذا كان الاختصاص المستفاد من التقديم عينَ الاختصاص المستفادِ من كلمة اللام، والحالُ أنه ليس كذلك، إذ الاختصاص المستفاد من اللام هو اختصاص الحمد بالمخاطَبِ والاختصاصُ المستفادُ من التقديمِ هو اختصاصُ الحمدِ بالاتصاف بقوله «لك» لما تقرر أن تقديم المسند لقصر المسند إليه على المسند، فمحصولُ ما دل عليه الكلامُ اختصاصُ الحمدِ بالاختصاصِ به تعالى.
وأجيب بأن اختصاصَ شيءٍ بشيءٍ يستلزم اختصاصه بالاختصاص به وبالعكسِ، فالاختصاصان متلازمانِ، وذلك كافٍ في التأكيدِ.
قوله: ((والمنَّةُ)) قال في الحواشي وفي ذكر المنة بعد الحمد إشارة إلى الاعتراف بالعجزِ عن أداء الحمدِ كما هو حقه كما في قولهم (اللهم إنا نحمدك والحمدُ من آلائِكَ) اهـ، وهو مبنيٌّ على أن يكونَ المرادُ بـالمنة المنة بسبب أداء الحمد، ووجه الإشارة إلى ما ذكره أن الكلامَ حينئذ يدل على أن الحمد من آلائه؛ إذ سبب المنة لا يكون إلا النعمةَ فلابد له من حمدٍ آخَرَ وهو أيضا من آلائه فلابد له من حمدٍ آخَرَ وهكذا فيتسلسل.
وما قيل إنه يجوز أن يتعلق حمد واحد بنفسه وغيره من النعم بأن يحمد مثلا على جميع النعم السابقة واللاحقة فلا يلزم التسلسلُ مدفوعٌ بأن لزوم التسلسلِ مبنيٌّ على مقدمةٍ مشهورةٍ هي أنه يجبُ بإزاءِ كل نعمةٍ حمدٌ آخرُ، ولزومُ التسلسلِ على تقديرِ صِدْقِها ظاهرٌ.
قوله: ((مِنْ مَنَّ عليه)) كلمةُ مِنْ إما صلةُ الاشتقاقِ على أن يكون الكلامُ مبنيًا على مذهبِ الكوفيين أي: مِنْ مَنَّ» الذي يستعملُ بــ«على»» وإما تبعيضية على حذفِ المضافِ أي: «مِنْ بابِ مَنَّ عليه» فيَحْتَمِلُ المذهبين.
قوله: ((وما يقال إلخ)) إشارةٌ إلى معارضةٍ تُوُرَدُ على كلامِ المصنفِ تقريرُها هكذا «كلامُ المصنف يتضمن إثبات المنة بالمعنى المبني للفاعل له تعالى، وكل ما تَضَمَّنَ ذلك فهو فاسدٌ، فكلامُ المصنفِ فاسدٌ».
دليل الصغرى أن قول المصنف «لك الحمدُ والمنةُ» يستلزمُ صحةَ إثباتِ المنة له تعالى،
ودليل الكبرى أن المنةَ بهذا المعنى صفةٌ مذمومةٌ منهيٌّ عنها في الآيةِ المذكورةِ، فإثباتُها له تعالى يكونُ فاسدًا قطعًا، فيكونُ كلامُ المصنفِ فاسدًا.
فالجواب الأول وهو قوله «أن المنهي عنه...إلخ» منعٌ للصغرى أي: لا نسلم أن كلامَ المصنفِ يتضمن إثباتَ المنةِ بالمعنى المبني للفاعل له تعالى، وإنما يتضمن إثباتَها له تعالى بالمعنى المبني للمفعول وهو امتنان المُنْعَمِ عليه، وهي بهذا المعنى ليس بمنهيٍّ عنها بل المنهيُّ عنه إنما هو المعنى المبني للفاعل وهو منتفٍ ههنا.
والثاني وهو قوله «وأيضا...إلخ» منعٌ للكبرى بمنع دليلها.
قوله: ((لا امتنانُ المنعَم عليه)) أي: تعداده النِّعم اعتناءً بها وقياما بواجب شكرِ المنعِم.
قال مير صدر «ولا يخفى عليك أنه يدل على أن المنة هنا مصدرُ المبنيِّ للمفعول، وذلك إنما يصح لو كان متعديًّا بنفسه، ولا يوجد في اللغة، ومع ذلك ينافي ما ذكره سابقًا من أن المنة مِنْ مَنَّ عليه» انتهى.
وأيضا كونُ المنعَمِ عليه ممنونًا يستلزمُ كونَ المُنْعِمِ مانًّا، فالإشكالُ باقٍ بحاله إلا أن يقال أراد بكون المنعَم ممنونًا المعنى العرفيَّ الذي لا يقتضي كونَ المنعِم مانًّا
وقد يُدْفَعُ الاعتراضُ أيضًا بأن في الكلامِ مضافًا محذوفًا أي: استحقاقِ المنةِ، واستحقاقُ المنةِ مع الإعراضِ عنها ليس مذمومًا منهيًّا عنه بل المذمومُ المنهيُّ عنه هو المنةُ بالفعلِ.
قوله: ((وأيضًا الخطابُ)) أي: الحكمُ الشرعيُّ كالوجوبِ والحرمةِ وغيرِهِمَا كما هو مصطلحُ الأصوليينَ في تسميتِهم الحكمَ الشرعيَّ خطابًا، لأن المكلَّفَ مخاطَبٌ به.
قوله: ((ويَدُلُّ عليه قوله تعالى: ﴿﴾)) هكذا في بعض النُّسَخِ، وبَدَّلَ الشارحُ رحمه الله تعالى هذه الآيةَ في النُّسَخِ حين القراءةِ عليه بقوله تعالى: ﴿ ﴾، وكأَنَّ وَجْهَ التبديلِ أن كونَ المنةِ في الآيةِ الأُولَى بالمعنى المنهيِّ من غيرِهِ تعالى محلُّ تأملٍ؛ إذ يجوزُ أن يكونَ بمعنى الإنعامِ بخلاف الآيةِ الثانيةِ، قاله مير صدر.
قوله: ((﴿أَنْ أَسْلَمُوا﴾)) أي: بأن أسلموا، وحَذْفُ الجارِّ هنا مَقِيسٌ،
و﴿إِسْلَامَ﴾ منصوبٌ على نزعِ الخافضِ فالجارُّ حُذِفَ منه مشاكلةً لما قبله وما بعده أو ضُمِّنَ معنى عدّ فَعُدِّيَ بنفسه.
قوله: ((وعلى نبيك الصلاة)) قِيلَ أي: على جميعِ أنبيائِكَ حملاً للإضافةِ على الجنس الاستغراقي إذ يَجْرِي فيها أقسامُ التعريفِ وإن كان الأصلُ بها العهدَ أي: على نبيِّكَ المعهودِ محمّدٍ المحمودِ صلى الله عليه وسلم
فعلى الاحتمالِ الأولِ وُجِّهُ التعبيرُ بلفظ النبي و لعلها دون او بدل الرسول كما قال به البعضُ أو للإشارةِ إلى أنه عليه الصلاة والسلام يستحقُّ الصلاةَ بمرتبةِ النبوةِ فكيفَ بمرتبةِ الرسالةِ أو متابعة الأمرِ الواردِ في الصلاةِ إذ هو واردٌ بلفظ النبي.
قوله: ((والتحيةُ)) مصدرُ حَيَّاكَ اللهُ، وهو دعاءٌ بالتعمير ثم استعمل في الدعاء مطلقا، فالمرادُ هنا السلامُ أي: الدعاء بالسلام بقرينة المقامِ، وتعقيبُ الصلاةِ بها لكراهةِ الاقتصارِ على الصلاةِ دون السلامِ على قولِ بعضِ العلماءِ الأعلامِ، والعدولُ عن صريحِ لفظِ السلامِ لرعايةِ السجعِ.
قوله: ((سلك هنا)) أي: في مقامِ الصلاةِ التقديمَ أي: تقديمَ المسندِ حالةَ كونِهِ جاريًا على الطريقة السابقة التي هي تقديمُ المسندِ، والجملتان مختلفتان إذ الأُولَى جملةُ الحمدلةِ والثانيةُ جملةُ الصلاةِ، فكأنه قال «سلك في أداء الصلاة ما سلكه في أداءِ الحمدِ» وهو كلامٌ مستقيمٌ لا غُبارَ عليه، والنسخةُ التي بين يَدَيّ لفظُها «على الطريقةِ السابقة»، وفي نُسَخٍ «الطريقةَ السابقةَ»» بحذف لفظة «على»» وكلاهما بمعنىً، تأمل.
قوله: ((على الطريقة السابقة)) أي: ليوافق أداءُ الصلاةِ أداءَ الحمدِ وليكونَ الكلام منتظما في سِلْكٍ واحدٍ.
قوله: ((لشأنه)) أي: شأن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الظاهر أو شأنِ اللهِ تعالى فإن تعظيم شأنه يستدعي تقديمَ الخطابِ المضافِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يُتَصَوَّرُ بدون تقديم النبي صلى الله عليه وسلم، والأولُ أَوْلَى لأن تعظيم شأنه تعالى مُنْدَرِجٌ في قوله «مع بعضِ النكاتِ السابقةِ»»
وإنما تَرَكَ نكتةَ شَرَفِ النبي صلى الله عليه وسلم اعتمادًا على المقايسة إلى التعظيم لِـمَا بينهما من القرب أو على أنه جَعَلَ التعظيمَ والشرفَ نكتةً واحدةً على ما سبق
وأنت تعلم أن رعاية التناسب بين أداء الصلاةِ والحمدِ يصح أن يُجْعَلَ نكتةً في تقديم المسندِ على المسندِ إليه أيضًا.
قوله: ((إفادة للاختصاص)) وهو حقيقي على تقدير أن تجعل اللام في الصلاة والتحية للعهد الخارجي أي: الصلاة والتحية الكاملتان، ولعله لم يجعله لتأكيد الاختصاصِ بحمل اللامِ ههنا على الجنسِ أو الاستغراقِ على ما هو اللائقُ بالمقامِ الخَطابي فيكونَ التقديمُ لتأكيدِ الاختصاصِ المستفادِ من اللام لكونه عَوَّلَ على ما نُقِلَ عنه في الحواشي «أن الاختصاص في السابق إنما حصل من لام الجنس والمِلْكِ، وههنا لامُ المِلْكِ مفقودةٌ، وقد عرفتَ ما فيه.
وأيضا تأخيرُ إفادةِ التقديمِ الاختصاصَ عن إفادةِ لامِ التعريفِ إياه غيرُ ظاهرٍ، لأن لامَ التعريف ليس لها من الارتباط بمدخولها ما للام المِلْكِ بخلاف تأخُّرِ إفادته عن إفادة لام المِلْكِ في قوله «لَكَ الحمدُ».
قوله: ((مع بعض النكات السابقة)) أي: مثلِها لا عينِها، ثم لا يخفى أن النكاتِ السابقةَ المذكورةَ في الأصل والحواشي جاريةٌ كلُّها هنا سوى تأكيدِ الاختصاصِ بزعمه، فالأولى أن يقال «مع أكثر النكات السابقة» أو «مع النكات سوى تأكيد الاختصاص».
قوله: ((بالصلاة على آله)) أي: أتباعِهِ بالعمل الصالح، والصحابةُ أشد الناس اتِّباعا له فهم داخلون في الآل، فيكون المرادُ بالآلِ ما يشملُ الأصحابَ
فلا يرد أن يقال لا وَجْهَ للتخصيص بالآلِ إذ الصلاةُ على الأصحاب أيضا من هذا القبيل.
قوله: ((لكان أَوْلَى)): قيل: كأنّه أَشْعَرَ بترك ذكر الآلِ والأصحابِ.
قوله: ((لأن ذكره عليه الصلاة والسلام ذكر لهم)) وما قيل في قوله تعالى: ﴿ ﴾ خصَّ النداء وعمَّ الخطابَ بالحكم لأنه إمام أمته ونداؤُهُ كندائهم والصلاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم صلاةٌ عليهم وعلى جميع المؤمنين أيضًا، لأنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فنزول الرحمة من الله تعالى عليه يتضمن نزولها عليهم.