بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ الحقيقيُّ لَكَ مِنْكَ يا حَمِيدُ يا مَجِيدُ، وإِنَّما مَجَازُ حَمْدِنَا تَخْيِيلُ اسْتِعَارَةٍ في إِطْلَاقِ التَّجْرِيدِ، وَرَشِّحِ اللَّهُمَّ أَسْرَارَنَا بِأَنْ تُضْمِرَ في نُفُوسِنَا شُهُودَ وَحْدَتِكَ الأَصْلِيَّةِ، مَعَ استعمالِنا في تَبَعِيَّةِ مُرْسَلِكَ بِبَيَانِ العَلاقَاتِ المَرْضِيَّةِ، صَلَّى اللُه عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّفَ وَمَجَّدَ وَكَرَّمَ، آمِينَ.
﴿أَمَّابَعْدُ﴾ فيَقُولُ مُحَمَّدٌ الأَمِيرُ المصريُّ الأَزْهَرِيُّ هذا ما نَرْجُوا اللهَ تعالى فيه على شَرْحِ شَيْخِنَا وشَيْخِ مَشَايِخِنَا ومَشَايِخِهِمُ العلامةِالملويِّ على الاستعارات، ونَسْأَلُ ربَّنَا اللُّطْفَ في جميعِ الحالاتِ، آمِينَ.
قال رحمه الله: ((بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) لا يَفِي الكلامُ بما يَتَعَلَّقُ بهذهِ الجملةِ الشريفةِ كَيْفَ وَهِيَ الجامعةُ لمعاني الكتابِ الذي لم يُفَرَّطْ فيه من شيءٍ ولكن ما يُنَاسِبُ الغرضَ أَوْلَى لمقتضيين، فلذَا قيل إِنَّ غيرَهُ قُصُورٌ أو تَقْصِيرٌ فهذا العِلْمُ يَبْحَثُ عَنْ حالِ اللَّفظِ من حيثُ الحقيقةُ والمجازُ والكِنَايَةُ، فالبَاءُ حقيقَتُها الإلصاقُ في الأظهرِ، قال في المُغْنِي «وهو معنىً لا يفارقها»، فلهذا اقتَصَرَ عليه سيبويهِ أي: حيث قال «إنها للإلصاق والاختلاط» ثم قال «فما اتَّسَعَ من غيرِ هذا في الكلامِ فهذا أَصْلُهُ» اهـ.
قال العلامة الخادمي «والأشبهُ أن الإِلْصَاقَ هنا مجازيٌّ لأنَّ زمانَ وجودِ القراءةِ بعدَ انقضاءِ ذِكْرِالاسم لامتناعِ اجتماعِهِمَا في آنٍ، لأنَّ الألفاظَ سَيَّالَةٌ ليست بِقَارَّةٍ» اهـ.
قُلْتُ: قال في المُغْنِي «الإلصاقُ حقيقيٌّ كأَمْسَكْتُ بزيدٍ إذا قَبَضتُّ على شيءٍ من جسمِهِ أو على ما يَحْبِسُهُ من يَدٍ أو ثَوْبٍ أو نحوِهِ، ومَجَازِيٌّ نحو مَرَرْتُ بزيدٍ أي: أَلْصَقْتُ مُرُورِي بمكانٍ يَقْرُبُ من زيدٍ، قال الدماميني «والظاهرُ في مسألةِ الثوبِ المجازُ إذ هو إلصاقٌ بما يُجاوِرُ زيدًا لا بِنَفْسِ زيدٍ» قال الشُّمُنِّيُّ «وجوابُهُ أن اللغةَ لا يُناقَشُ فيها هذه المناقشةَ، فلا يقال إن ماسِكَ ثوبِ زيدٍ ليس ماسكًا له بل يقال في اللغةِ إنهُ مَسَكَ زيدًا» اهـ فما نحن فيه من قبيل مسألة الثوب أو أَوْلَى، فَتَأَمَّلْ.
ثم حيثُ كانتِ الباءُ للاستعانةِ ففيها استعارةٌ تبعيةٌ لتشبِيهِهَا بارتباطِ الإلصاقِ على ما لا يَخْفَى تقريرُهُ فالاستعانةُ بالاسمِ مجازٌ على مجازٍ على ما قاله الخادِمي قال «لأنَّ الاستعانةَ حقيقةً بالذاتِ، والحقُّ جوازُهُ كما في الإِتقانِ كقوله تعالى: ﴿وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ فإنَّ الوَطْءَ تُجُوِّزَ عنه بالسِّرِّ لكونِهِ لا يقعُ غالبًا إِلَّا في السِّرِّ وتُجُوِّزَ به عن العَقْدِ لأنهُ مُسَبَّبٌ عنه» اهـ.
وشُبْهَةُ المانعِ أنهُ أَخْذٌ للشيء من غيرِ مالِكِهِ واكتفى المُجِيزُ باختصاصٍ ما، ثَمَّ في حذفِ المتعلق مجازٌ بالحذفِ إِنْ لم يُشْتَرَطْ فيه تغييرُ الإعرابِ ومجازٌ بالزيادةِ إن قيل بزيادة الباء أو اسم، والحقُّ أنهُ مجازٌبمعنى خلافِ الأصلِ لا المُعَرَّفِ بـ«الكلمة..»، قال الخادمي «وهنا مجازٌ ثالثٌ وهو كونُهُ مُقَدَّمًا مع كونِهِ حَقُّهُ التأخيرُ عند بعضٍ أي: باللهِ الاسمُ بناءً على أن المرادَ اللفظُ وإِنْ كان الأصحُّ أنه ليس بمجازٍ كما في الإِتقانِ عن البُرْهانِ» اهـ.
قلتُ في مَبْحَثِ علاقاتِ المجازِ المرسَل من حاشية المجدولي على العصام ما نصه «ومنه التَّقَدُّمُ والتَّأَخُّرُ نحوَ ﴿أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ(4)فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ﴾ والغُثَاءُ ما احتَمَلَهُ السَّيْلُ من الحَشِيشِ، والأَحْوَى الشديدُ الخُضْرَةِ وهما سابقان في الوجودِ على كونِهِ مَرْعَى» اهـ.
وإضافةُ«اسم» إن كانت بيانيةً فليست حقيقيةً كما صُرِّحَ به في كُتُبِ النحوِ فُشُبِّهَ ارتباطُ البيانِ بارتباطِ التخصيص فالاستعارةُ تبعيةٌ في هيئةِ الإضافةِ نظيرَ هيئةِ الفِعْلِ في ﴿أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ﴾، وقد قال المجدوليُّ في العلاقاتِ أيضًا «وإضافةُ الشيءِ إلى ما ليس له نحوَ ﴿مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾».
والاسمُ الكريمُ حقيقةٌ، وقال في الإتقانِ الأَعْلامُ واسطةٌ بين الحقيقةِ والمجازِ وكأَنَّهُ لاحَظَ أنَّها ليست من موضوعاتِ اللُّغاتِ الأصليةِ ولا يَخْفَاكَ أنها لا تَضْعُفُ عن اصطلاح التَّخَاطُبِ، والظاهرُ عدمُ المجازِيَّةِ فيه بوجهٍ من الوجوهِ، ولو قُلْنَا إنَّهُ كُلِّيٌّ وضعًا وإنهُ في الجزئيِّ باعتبارِ خُصُوصِهِ مجازٌ، إذ لا مانعَ من استثناءِ أَسمائِهِ تَعَالَى وَتَخْصِيصِهَا بمزايا كما جعلوا تعريفَ عَلَمِيَّتِهِ فوقَ الضميرِ إلى غيرِ ذلك، قال الخادمي «ثُمَّ على فَرْضِ الالتفاتِ عن الخِطابِ أى على مذهبِ السَّكَّاكِيِّ بناءً على أن مُقْتَضَى الظاهرِ خِطابُ المستعانِ به فهو مما اخْتُلِفَ في كونِهِ مجازًا أو حقيقةً لكنْ في الإتقان عن السُّبْكِيِّ لم أَرَ مَنْ ذَكَرَ هل هو حقيقةٌ أو مجازٌ» اهـ.
قُلْتُ الظاهرُأَنَّ قولَهمُ الاسمُ الظاهرُ من قَبِيلِ الغَيْبَةِ لا يقتضي أن استعمالَهُ في المخاطَب مثلا مجازٌ بل الأَعْلامُ حقيقةٌ مطلقًا لأن مُسَمَّاها لم يُقَيَّدْ بشيءٍ وَضْعًا، نَعَمْ الضَّمائِرُ في تَعَاقُبِهَا إلى المجازِ أقربُ حيثُ استُعْمِلَ أَحَدُهَا مع ملاحظةِ مَزِيَّةِ الآخَرَلا إِنْ قُطِعَ النظرُعنها بالالتفاتِ، فتدبر.
«والرحمن الرحيم» مِنَ الرحمةِ أَصْلُهَا رِقَّةُ القلبِ المقتَضِيَةُ لِلتَّفَضُّلِ فهو مَجَازٌ مُرْسَلٌ تَبَعِيٌّ عن التَّفَضُّلِ.
في بعضِ الحواشي هنا «أو كِنايةٌ»، وفيه أنَّ الكنايةَ يصحُّ معها الحقيقيُّ إِلَّا أَنْ يقالَ الاستحالةُ هنا لمعنىً خارجيٍّ والمرادُ أن ذاتَ الكنايةِ لا تُنَافِي الحقيقةَ على ما أُشِيرَ إليه في جِعْلِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ كنايةً عن نَفْيِ المِثْلِأ واستعـارةٌ تمثيليةٌ، وإضافةُ الحالِ له تعالى معهودةٌ في كتبِ الكلامِ للبيانِ، وكونُ المُشَبَّهِ به أقوى وإِسَاءَةُ الأدبِ في التشبيهِ مدفوعانِ باعتبارِمُجَرَّدِ التقريبِ، وقد قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ الآية، وكونُ اللفظِ مفردًا اقتصارٌ على أهمِّ المركبِ،على أنَّ الخادميَّ قال «يُمْكِنُ اعتبارُ التركيبِ في مجموعِ الرحمن الرحيم على معنى هيئةِ إيصالِ الدقيقِ والجليل» فلْيُتَأَمَّلْ.
ثم «الرحمن» لم يُسْتَعْمَلْ في غيرِهِ تعالى فهو مجازٌ لا حقيقةَ له في الاستعمالِ، إِمَّا اكتفاءً بالوضعِ أو باستعمالِ المصدرِ على ما اختارَهُ ابنُ السُّبْكِيِّ في جمعِ الجوامع، وقولُهم في مُسَيْلِمَةَ رَحْمَنُ اليَمَامَةِ استعمالٌ فاسدُ تَعَنُّتاً أو شاذٌّ أو المختَصُّ المُعَرَّفُ بـ«أل»، ولكونها كالجزءِ من مدخُولها غَايَرَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُنَكَّرِ فتَدَبَّرْ.
وجملةُ البَسْمَلَةِ مجازٌ علاقتُهُ الضِّدِّيَّةُ مِنَ الإِخبارِ المُقَيَّدِ إلى الإِنْشَاءِ التَّبَرُّكِيِّ كصِيَغِ العُقُودِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قوله: ((الحمد لله)) لَـمَّا كان مَضْمُونُ البَسْمَلَةِ التَّبَرُّيءَ من القوةِ والاعترافَ بأنَّ الفعلَ إنَّما هو بمَعُونَةِ رحمتِهِ ناسَبَ تَعْقِيبَ ذلك بشُكْرِهِ والثَّنَاءِ عليه حيثُ إِنَّ الأمرَ كُلَّهُ منه وإليه، وإنَّما يَتِمُّ باسمِهِ وهو السائق له، فهما جملتان مستقلتان على هذا المشهد ويَشْهَدُ له إِفرادُ كُلٍّ في حديثٍ،
وقدِ اقتَصَرَ كثيرٌ من الأئمةِ على البسملة لأن فيها حمدًا والعملَ على الاقتصار عليها في نحو الأكل.
وفَصَلَ بعضُهم الحمدلةَ بنحو «يقـول فلان...إلخ».
وأمَّا قولُ الشيخِ ابنِ العربيِّ «إِنَّ بسم مُتَعَلِّقٌ بالحمدِ» قال «لا يُثْنَى على الله إِلَّا بأسمائه الحُسْنَى» ففي ابن عبد الحقِّ على بَسْمَلَةِ شيخِ الإسلامِ «أَنَّهُ كما هو ظاهرُ سِيَاقِهِ في أَوَّلِ القُرْآنِ» قال «فلا يَنْبَغِي أن يُتَكَلَّفَ في القرآن محذوفٌ إِلَّا لضرورةٍ ولا ضرورةَ هنا» كذا في الفتوحات المَكِّيَّةِ، واشْتَهَرَ نقلُهُ مطلقًا حتى جُعِلَ دافعًا للتعارض بين الحديثين لأن البَدْءَ فيهما واحدٌ كما في بعض الحواشي، قال ناصر الدين الطبلاوي الكبير في شرح البهجة وهو بعيدٌ فإنَّ القَصْدَ إلى نَفْسِ الحمدِ لا إلى مُتَعَلَّقِهِ أَيْ مِنْ كونه اسمًا أو غيرَهُ، ويُبْعِدُهُ أيضًا ما نُقِلَ من صلاتِهِ صلى الله عليه وسلم والخلفاءِ بعدَهُ بالفاتحةِ قال أَنَسٌ«ولم أسمعْهم يُبَسْمِلُونَ» وقد جَزَمَ الشيخُ محيي الدينِ بأنَّها من الفاتحة على مناسبةِ كلامِهِ وأَيَّدَهُ بمكاشفتِهِ كِتَابَتَهَا في اللَّوحِ، ومعلومٌ أنهُ خِلافُ قولِ مالكٍ، قَرَّرَ لنا شيخُنا العِدْوِيُّ أن محيي الدين مالكيٌّ ويُؤَيِّدُهُ أنهُ أَنْدَلُسِيٌّ، ولكنْ رأيتُ في ديوانِهِ ما يَقْتَضِي اجتهادَهُ وهو:
نســبـوني إلى ابـن حـزم وإنـي
*
لست ممن يقول قال ابن حزم
لا ولا غـيــره فــإن مــقــــالـي
*
قال نص الكتاب ذلك علـمي
أو يقول الرسول أو أجمع الخلـ
*
ــق على ما أقول ذلك حكـمي
وشيخُنا ناقلٌ عن المُنَاوِي، ولا يَخْفَاكَ أنهُ على كلامِ محيي الدين حَقُّهَا التأْخيرُ عن الحمدِ، وأنهُ لا يُمْكِنُ تعليقُ غيرِ القرآنِ به على هذا الوَجْهِ قِياسًا على ما قِيلَ في السورتين آخِرَ الفِيلِ ولإِيلافِ، ثُمَّ هو مُضْطَرٌّ للتَّقْدِيرِ في بَسْمَلَةِ غيرِ الفاتحةِ.
ثُمَّ في بعضِ الحواشي أيضًا دَفْعُ التَّعَارُضِ بِجَعْلِ الباءِ في الحديثين للاستعانةِ أو للمُلابَسَةِ إذ الاستعانةُ بشيءٍ لا تُنَافِي الاستعانةَ بآخَرَ، وكذا الملابسةُ، اهـ وهو في الخيالي، قال الفناري «وهو لا ينفعُ فيما نحنُ فيه إذ الابتداءُ مُستَعِينًا بالبسملةِ يُنَافِي الابتداءَ مُسْتَعِينًا بالحَمْدَلَةِ لأن الاستعانةَ بالشيءِ ابتداءً إنَّما تكونُ إذا تُلُفِّظَ به ابتداءً، ومَبْنَى هذا الوجهِ على أن الابتداءَ حقيقيٌّ.
وأجاب بعضُهم بأن معنى الابتداءِ مُستَعينًا بهما الابتداءُ حالَ كونِ المُبْتَدِيءِ كأنه مستعينٌ بهما لعدمِ تَخَلُّلِ ثالثٍ بين الابتداءِ وذِكْرِهِمَا انْظُرْ عبدَ الحكيمِ.
ثُمَّ الجُمْلَةُ الاسميةُ تَدُلُّ على الدَّوَامِ على قولِ صاحِبَيِ الكشافِ والمفتاحِ، وفي كلامِ الشيخِ عبد القاهر لا تَدُلُّ إلا على مُجَرَّدِ الثُّبُوتِ، فَجَمَعَ السَّعْدُ بينهما بأن الشيخَ نَظَرَ لأَصْلِ الوَضْعِ وهما نَظَرَا للدلالةِ العقليةِ بقرينةِ المقامِ أو العُدُولِ أَيْ فيما إذا كان الأصلُ الفعليةَ بأن كان المسنَدُ إليه مَصْدَرًا كما هنا فالأصلُ حَمِدتُّ حَمْدًا كما في الأشموني وغيرِهِ على ما فيه من عَدَمِ المُلْجِيءِ القَوِيِّ، وأَمَّا استنادُ الرَّضِيِّ إلى أن الأصلَ في كل ثابتٍ استمرارُهُ فضعيفٌ لا يَخُصُّ الاسميةَ حتى قِيلَ به في «كَانَ»، وذَهَبَ الحفيدُ إلى حَمْلِ كلامهما على الأصل ومخالفةِ الشيخِ، ويَرُدُّهُ كلامُ الخطائي كما بَسَطَهُ العلامةُ الغنيمي، ثُمَّ ظاهرُ ما سبق أن الاسميةَ لا تُفِيدُ الدَّوَامَ بالوضعِ ولو كان خبرُها صفةً مُشَبَّهَةً وهو الذي في السَّيِّدِ على المُطَوَّلِ قال «اسمُ الفاعلِ لَـمَّا كان جاريًا في اللفظِ على الفِعْلِ جازَ أن يُقْصَدَ به الحدوثُ بمَعُونَةِ القرائن دون الصفةِ المُشَبَّهَةِ إذ لا يُقْصَدُ بها وضعًا إلا مُجَرَّدُ الثبوتِ والدَّوامِ معه باقتضاءِ المقامِ» اهـ في الحفيدِ أن الاسميةَ تُفِيدُ الدَّوامَ ولو خبرُها ظَرْفًا، ونُوقِشَ بأنَّها اختصارُ الفِعْلِيَّةِ، وأَجْرَاهَا بعضُهم على الخلافِ في المُقَدَّرِ، ولا يخفاك أن ما سبق للسيدِ يقتضي حدوثَ الوصفِ أيضًا، ولبعضِهم في التي خبرُها فعلٌ دوامُ الحدوثِ عملاً بالجُزْئَيْنِ .
إن قُلْتَ حيــث آلَ الأمرُ للقـرائـن فَلِـمَ خُصَّ في المشـهـورِ الاسمـيـةُ بالـدوامِ والفعليةُ بالتَّجَدُّدِ مع صلاحيةِ كُلٍّ لِكُلٍّ؟
قلت لِغَلَبَةِ الاستعمالِ الواقِعِيِّ مع مناسبةِ دخولِ الزمانِ المتجددِ في مدلولِ الفعليةِ، وإذا حَقَّقْتَ النَّظَرَ وَجَدتَّ العُدُولَ لا يَحْسُنُ قرينةً بمُجَرَّدِهِ ما لم يَثْبُتْ للاسميةِ الدوامُ مِنْ قَبْلُ وإلا فهو مشتَرَكٌ، فتَأَمَّلْ ما ذُكِرَ ولا تُبَالِ بما شَوَّشَ من سواه.
قوله: ((الذي)) وَقَعَ لِبَعْضِ الناسِ هنا إِيرادُ أنَّ الموصولَ وَصِلَتَهُ في قوةِ مُشْتَقٍّ مُؤْذِنٍ بالعِلِّيَّةِ ونَقَلَ الجوابَ عن ابن قاسم بأنهُ عِلَّةٌ لإنشاءِ المتكلمِ فلا يُنَافِي أن الاستحقاقَ ذاتي، وأنتَ خبيرٌ بأنَّ العِلَّةَ هنا استحقاقُ الذاتِ المُعَبَّرِ عنها بالضميرِ لحقيقةِ الحمدِ فكأَنَّهُ قيل يَسْتَحِقُّ الحمدَ لأن حَقِيقَتَهَ لا تَكُونُ إلا لَهُ.
وإنَّما أَوْرَدَ العلماءُ هذا حيثُ جُعِلَتِ الصِّلَةُ من جنسِ الإِنعامِ كقول السَّمَرْقَنْدِيِّ في شرح رسالة الوَضْعِ العَضُدِيَّةِ:
«الحمدُ للهِ الذي خَصَّ الإنسانَ بمعرفةِ أوضاعِ البيانِ»
وأَيْنَ هذا من ذاك بل لو كان الإِيرادُ هنا تعليلَ الشيءِ بنفسِهِ كان أظهرَ، فتَدَبَّرْ.
قوله: ((الـحمد)) أظهـرَ في محلِّ الإضمـارِ لزيادةِ التمكيـنِ وإظهارًا لنَّامُـوسِ الحضرةِ العَلِيَّةِ حيثُ لم يَحْتَجْ في حَقِّهَا للإضمارِ والـخفاءِ بخلافِ غيـرِها فلَمْ يُصَرِّحْ فيه بالحمدِ لأنه على خلافِ الأصلِ لعدمِ قُوَّةِ الشَّرَفِ فلذا قال «وهو لغيره» كأنَّهُ خائفٌ من التصريح، وهذا أَنْسَبُ من اعتبارِ التَّلَذُّذِ إذ ليس من مَقَامِ:
*ليلايَ منكنَّ أم ليلى من البشر*
أو كَرَاهَةِ تَوَالِي الضميرَيْنِ لو قال «هو وهو» وكلُّ هذا على اتِّحادِ الحمدَيْنِ، ويُحْتَمَلُ شِبْهُ الاستخدامِ بحَمْلِ أحدِهِما على القديمِ أو الَمقَالِي مثلا والثاني على غيرِهِ.
ومن البعيدِ وَإِنْ قَرَّرَهُ شيخُنا ما في بعض الحواشي من حَمْلِ الحَمْدِ على الحامِدِيَّةِ والمحمودِيَّةِ فإنَّهما كَوْنانِ نِسْبِيَّانِ تابعانِ للمصدرِ بل يَبْقَى على المعنى المصدري أعني نَفْسَ الثناءِ وفِعْلِ الفاعلِ لا الكونَ حامدًا أو محمودًا، فتَأَمَّلْ.
قوله: ((له)) خبرٌ، و«حقيقةٌ» حالٌ أو بالعكسِ أو أَنَّ «لَهُ» صلةٌ للحَمْدِ، والمراد بالحقيقةِ ما أَتَى على الأصل ونفسِ الأمرِ فإنه لا مُنْعِمَ في الواقع إلا اللهُ تعالى وحالُنا كحَدَقَةِ النَّمْلَةِ لِصِغَرِهَا تَرَى سِنَّ القَلَمِ دونَ الكاتب والدَّابَةِ تَأْلَفُ السائسَ دون رَبِّها المُكْرِي له وإنَّما العبيدُ كالقناة يَجْرِي منها الماءُ والبابِ يَخْرُجُ منه الناسِ كما قال الخواصُّ، والله تعالى خَلَقَهُمْ وما يَعْمَلُونَ، غايةُ الأمرِ أنه مُنَزَّهٌ عن أن يكون مَحَلًّا للأعراض فطَلَبَتِ الأعمالُ مَحَلًّا تَقُومُ به لأن العَرَضَ لا يَقُومُ بنفسِهِ كذا قَرَّرَهُ الشَّعْرَانِيُّ.
وعليه فالمجازُ ما خالف الأصلَ وانْبَنَى على التَّسَمُّحِ، ويُحْتَمَلُ أن المجازَ بمعنى الطريق لأنه لا يَحْمَدُ اللهَ مَنْ لا يَشْكُرِ الناسَ فإنهُ أَمْرٌ بالمُكَافَأَةِ أي: فلا يُعْتَدُّ بَحَمْدِهِ إلا مع امتثالِ أَمْرِهِ وأنهُ طريقُ الأُخْرَى إذ حيث حَمِدَ غيرَهَ فأَوْلَى الفاعلُ الحقيقيُّ فَحَمْدُ غيرِهِ مُنَبِّهٌ لحَمْدِهِ أو أنه بنفسِهِ حمده فإنَّ العلةَ تُدُورُ مع المعلولِ، وحيث كان الحمدُ للجميلِ فهو في الأيلولة راجعٌ لصاحب الجميل فكان كونُهُ لغيرِهِ طريقًا ظاهريًا يَرْجِعُ له نظيرَ ما قيل في حديث «يَسُبُّ ابْنُ آدَمَ الدَّهْرَ وأَنَا الدَّهْرُ» معناه الفعلُ لي لا للدهرِ.
ولا يَصِحُّ أنْ يُرَادُ هنا البَيَانِيَّيْنِ لا في الطَّرَفِ ولا في الإسنادِ فإنهُ حقيقةٌ باعتبارِهِما لهما وإن كان لا تأثيرَ لغيرِهِ تعالى إلا أنَّ اللغةَ تُبْنَى في مثل ذلك على الكَسْبِ والظاهرِ وإلا لَزِمَ سَدُّ بابِ الحقيقةِ من غيرِهِ تعالى، فَتَبَصَّرْ.
قوله: ((لغيره)) مُتَعَلِّقٌ بضميرِ المصدرِ عند مَنْ جَوَّزَ عَمَلَهُ مطلقًا أو في الظَّرْفِ، وجمهورُ البصريين يَمْنَـعُونَ ذلك ويُؤَوِّلُونَ ما أَوْهَمَهُ فُهَوَ مُتَـعَلِّقٌ بمحذُوفٍ حالٍ، وَوَقَعَ لبعضِ الناسِ إِخْلالٌ هُنا.
قوله: ((المحيط علمه)) جَعَلَ الإحاطةَ نعتًا لله تعالى ثُمَّ أَسْنَدَهَا للعِلْمِ لأنه لا تَغَايُرَ بين الذاتِ والصفاتِ على ما في «الكلامِ»، فَصَحَّ الإِسْنادُ لِكُلٍّ أَيًّا كانَ.
قوله: ((بأسرار البلاغة)) الأسرارُ النِّكاتُ التي يأتي بها المتكلمُ في كلامه كالتأكيد للإنكار فيُطَابِقُ مُقْتَضَى الحالِ أو ثمرة تلك المَزِيَّةِ أعني الردَّ على المُنْكِرِ مثلا فإِنْ أُريدَ بلاغةُ المتكلمِ فهي من إضافةِ المُسَبَّبِ للسَّبَبِ وإن أُريدَ بلاغةُ الكلامِ فبالعكس.
ومِنَ الخَطَأ قولُ بعضِ الناسِ من إضافةِ الجُزْئِيَّاتِ لِكُلِّيِّهَا.
ولا تُوصَفَ بالبلاغةِ الكلمةُ في اصْطِلاحِهِم وإن نَقَلَ شيخُنا في حاشيةِ ابنِ عبدِ الحقِّ عن بعضِ المتأخرين القولَ به قال «فالمَعْرِفَةُ تُطَابِقُ مَقَامَهَا...إلخ».
قوله: ((ووجوه البراعة)) أي: طُرُقِ التَّفَوُّقِ عَطْفُ عامٍّ يَشْمَلُ المُحَسِّنَاتِ، ودلائلُ الإِعْجَازِ بينها وما قبلها عمومٌ وَجْهِيٌّ لأنَّها الأمورُ يُعْجَزُ عن مِثْلِهَا.
وفيه مع براعةِ الاستهلالِ التَّوْرِيَةُ بكتابيِ عبدِ القاهرِ أسرارِ البلاغةِ ودلائلِ الإعجازِ وما أَلْطَفَ ما أَنْشَدَهُ ابنُ حَجْلة في ديوانِ الصَّبَابَةِ لعِمادِ الدينِ:
أرى العـقد في ثغـره محـكما
*
يرينا الصحاح من الجوهري
وتكملـة الحسـن إيضـاحها
*
روينـاه عن وجـهـك الأزهـر
ومنـثـور دمـعي غدا أحمـرا
*
على آس عارضيـك الأخـضر
وبعت رشادي بغـي الهوى
*
لأجـلك يا طلـعـة المـشـتـري
قوله: ((والصلاة)) استعمالُها في معانيها حقيقةٌ على المشهورِ، وأَمَّا على اختيار ابن هشام في المُغْنِي أنَّها للعطف ثم يتضمن المعانيَ بحسب ما أُسْنِدَ إليه، فَيَجْرِي على الخلافِ في التَّضْمِينِ أَمَجَازٌ هو أَمْ حقيقةٌ كالتَّعْرِيضِ أو جمعٌ بين الحقيقةِ والمجازِ هذا هو الظاهرُ، والأظهرُ جريانُهُ على ما في مَوَادِّ رسالةِ الوضعِ من أنَّ استعمالَ الكُلِّيِّ في جزئياتِهِ حقيقةٌ مطلقًا أو مجازٌ من حيثُ الخصوصُ، فتَأَمَّلْ.
وأمَّا جملةُ الصلاةِ فمجازٌ من الإِخْبَارِ للطلبِ خلافًا لقول يس وغيرِهِ يصح بقاؤُها على حقيقتِها لأَنَّ المقصودَالاعتناءُ وإظهارُ التعظيمِ.
وبَقِيَ مباحثُ شريفةٌ أوردناها في شرح البسملة الكبير وحاشية الشيخ عبد السلام اللَّقَاني على جوهرة والِدِهِ.
قوله: ((على)) قُرِّرَ فيها استعارةٌ تَبَعِيَّةٌ حيث شُبِّهَ مطلقُ ارتباطِ صلاةٍ بمُصَلَّى عليه بمطلقِ ارتباطِ مُسْتَعْلٍ بمُسْتَعْلَى عليه بجامع شدَّةِ التعلقِ، فَسَرَى التشبيهُ للجزئيات واسْتُعِيرَتْ «على» فيها.
قوله: ((سيـدنا)) فيه استعمـالُ السيـدِ لغيـرِهِ تعالـى، وما وَرَدَ«الـسَّـيِّـدُ اللهُ» منسوخٌ أو تَوَاضُعٌ أو باعتبار السيادةِ المطلقةِ ومِنْ هنا لا بَأْسَ بالتسميةِ بنحو عبد النبي، وقد عُهِدَ السيدُ لغيرِهِ تعالى في الجُمْلَةِ.
قوله: ((والدلائل)) عَطْفُ مُرَادِفٍ، والخَطْبُ مَحَلُّ إِطْنَابٍ، أو عامٍّ بقَصْرِ الآياتِ على القُرْآنِيَّةِ.
قوله: ((آله)) يَعْنِي كُلَّ مؤمنٍ لأنه دعاءٌ، ولا تَكْرَارَ فيما بعدَهُ بل هو خُصَّ لمزيدِالشرف، فتَدَبَّرْ.
قوله: ((إلى يوم الدين)) أي: إلى قُرْبِهِ فإن الساعةَ تَقُومُ على شِرَارِ الناس بِصَيْحَةِ فَزَعِهَا، والمؤمنون يموتون قبلُ بريحٍ لَيِّنَةٍ، وليس ظَرفًا لَغْوًا لِـ«تَبِعَ» وإلا كان قاصرًا على الفرقةِ الأخيرةِ بل المعنى مستمرين طائفةً بعدَ طائفةٍ إلى يوم الدين، وفيه تلميحٌ لحديثِ «لا تَزَالُ طائفةٌ من أُمَّتِي على الحقِّ» وحديثِ«أصحابي كالنجوم في السماء بأيِّهمُ اقتديتم اهتديتم».
قوله: ((بالفواضل)) جَمْعُ فاضلةٍ، والفضائل جَمْعُ فضيلةٍ، واشتَهَرَ أن الأُولَى المتعديةُ والثانيةَ القاصرةُ، ولعلَّهُ اصطلاحٌ، وإِلا فـ«فعيلة» بمعنى «فاعلة» فالمآلُ واحدٌ.
قوله: ((بَعْدُ)) من مُتَعَلِّقاتِ الجزاءِ أي: مَهْما يَكُنْ من شيءٍ فأقولُ بَعْدُ، لأنَّه حيثُ طُلِبَ الابتداءُ في القولِ بالبسملةِ وما معها كان لِتَقْيِيدِهِ بكونِهِ بَعْدَ ما ذُكْرَ وَجْهٌ، ولا داعيَ لِتَقْيِيدِ الشرطِ بذلك كما أَفادَهُ بعضُ محققي المغاربة وهو أَدَقُّ من قولهم في المشهورِ ليكونَ الشرطُ مطلقًا...إلخ.
قوله: ((فقد كنت)) الإِتْيانُ بـ«قد» و«كان» مع الماضي لمزيد التأْكيدِ والتَّقَادُمِ.
قوله: ((الإمام)) هو و«الأمةُ» يشتركان في مادَّةٍ «الأَمِّ» بمعنى القصد، ويتـعاكسان من جـهة أن الإمامَ يُقْصَدُ لِيُتَّبَعَ بالبناءِ للمفعول فيهما، والأمةَ تَقْصِدُهُ لِتَتَّبِعَهُ، ومن جهةِ أن الأمةَ تَكْثُرُ في الجماعة وتَقِلُّ في المفردِ نحو﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾وإمَّا بالعكس نحو ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.
والـ«رسالةُ» شُبِّهَتْ بالكتابِ الذي يُتَرَاسَلُ به لأنَّ شأْنَهُ الخِفَّةُ.
قوله: ((السَّمَرْقَنْدِي)) رأيت بخط شيخنا البدر الحفني بفتح الميم وسكون الراء نسبةً لسَمَرْقَنْدَ مدينةٌ وراءَ النهرِ.
قوله:((في الاستعارات)) شَبَّهَ غرضَ الشيءِ الذي لا يَخْرُجُ عنه بظرفٍ مُحِـيطٍ به من جميع جهاتِهِ، ولا يُنَاسِبُ قولَ بعضِ الحواشي «في» استعارةٌ تبعيةٌ لمعنى «على» مثلُها في قوله تعالى: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ أي: الدَّالةِ على الاستعاراتِ، وَوَجْهُ عَدَمِ مناسَبَتِهِ أنَّ كُلًّا من الظرفيةِ والاستعلاءِ هنا مجازٌ، فمامعنى الاستعارة بينهما ؟ وأمَّا في الآيةِ فقد تَحَقَّقَ الاستعلاءُ الحقيقيُّ، تَأَمَّلْ.
قوله: ((عوارف)) جمع عارفة بمعنى معروفة كـ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ بمعنى مَرْضِيَّةٍ.
قوله: ((الإخوان)) غُلِّبَ لجمعِ أَخِ الصُّحْبَةِ، وغُلِّبَ «إِخْوَةٌ» للنَّسَبِ.
قوله: ((معانيه)) الأَقْعَدُ أن الضميرُ لـ«الرسالةِ» وذُكِّرَ باعتبار أنَّها في معنى الكتاب.
قوله: ((تكثير الفوائد)) يعني المتعلقةَ ببيان المعاني، فلا يُنافِي الاقتصارَ السابقَ لأنه باعتبار خارج المناقشات في كلامِ القومِ.
قوله: ((والشواهد)) قيل الشاهدُ جُزْئِيٌّ يُذْكَرَ لإثباتِ القاعدةِ وهي قضيةٌ كليةٌ يُتَعَرَّفُ منها أحكامُ جزئياتِها، ومن جملةِ الجزئياتِ الشاهدُ فَجَاءَ الدَّوْرُ.
وجوابُهُ أنَّ الشاهدَ يُحَقِّقُ القاعدةَ ويُثْبِتُهَا وهي تُعَرِّفُهُ وتَذْكُرُهُ فقط يعني أنه يُعْطِيها التَّحَصُّلَ وهي تُعْطِيهِ الاستحضارَ.
وقيل القاعدةُ متوقِّفةٌ على الشاهدِ باعتبارِ الأئمةِ المُسْتَنْبِطِينَ للقواعد، والشاهدُ يَتَوَقَّفُ عليها باعتبار ما عند الطالب المتعلمِ وهو قريبٌ من الأَوَّلِ.
على أنَّا نقول الشاهدُ يُثْبِتُ القاعدةَ باعتبارِ غيرِهِ من الجزئياتِ لأنه هو المُحْتَاجُ للإثباتِ بالقياسِ، وهو ثابتٌ بنفسه لا يَحْتاجُ لِتَعَرُّفٍ منها وبالثبوتين تَطَّرِدُ القاعدةُ، وكأَنَّ هذا معنى ما يُقالُ الشاهدُ كالشَّاةِ من الأربعين يَكْفِي عن نفسه وعن غيرِهِ، فتَدَبَّرْ.
قوله: ((ولصعوبة العبارات...إلخ)) كأنَّه تعريضٌ بشرح العصام.
قوله: ((ونعم الوكيل)) الواوُ عند مانعِ عَطْفِ الإِنشاءِ على الخبرِ للاستئنافِ أو عاطفةٌ على «حَسْبِ» وهو مفردٌ لا يُوصَفُ بِخَبَرِيَّةٍ ولا يَلْزَمُ من تأويلِهِ بـ«يكفي» أنهُ مثلُه أو تُجْعَلُ الجملةُ الأُولَى لإنشاءِ الاحتسابِ أو يُقَدَّرُ في الثانيةِ مبتدأٌ أي «وهو نعم الوكيل» فالكبرى خبريةٌ إذ لا يَتَوَقَّفُ المدلولُ إلا على الصغرى، فتَأَمَّلْ.
قوله: ((لواهب)) إن لم يَصِحَّ وُرُودُهُ يكونُ على مَنْ أجاز كلما كان كمالا أو اكْتَفَى بِوُرُودِ المادَّةِ ولو بصيغةٍ أُخْرَى كـ«وَهَّاب».
قوله: ((العطية)) قال مَنْ حَشَّاهُ فيه مجازُ الأَوْلِ وليس بشـيءٍ فإنها عطيةٌ حالَ هِبَتِهَا للتَّلازُمِ بين الواهبِ والموهوبِ، وليس المرادُ واهبَها بإعطاءٍ آخَرَ حتى يلزمَ تحصيلُ الحاصلِ بل المرادُ أنه مسدي نفسِ المعنى الذي صارتْ به عطيةً فهو نظيرُ ضَرَبْتُ المضروبَ وقَتَلْتُ قتيلا.
وقد شَنَّعَ السُّبْكِيُّ في عروس الأفراح على مَنْ جَعَلَ قولَهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَتَلَ قتيلا فله سَلَبُهُ» مِنْ مجازِ الأَوْلِ كما نقلَهُ عنه بعضُ حواشي العصام ثُمَّ جَنَحَ إلى تفريعها على مسألةِ وجودِ المفعولِ به قَبْلَ الفعلِ المشهورةِ في﴿خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ﴾ ولَكَ أن تقولَ المُخْتَلَفُ فيه اشتراطُ وجودِ الذَّاتِ، وذاتُ العطيةِ تَسْبِقُ قطعًا، وإن قارَنَتْ في بعض المواضع فاتِّفاقِيٌّ لا مِنْ ذَاتِ العامل، وإنَّما المُقَارِنُ وصفُها بأنَّها عطيةٌ فقط فهي مفعولٌ به لا مطلقٌ على كِلا القولين، والكلام في مقامين، فتدبر.
قوله: ((نزلت)) قال الشِّهابُ الخفاجي على البيضاوي عند قوله في الخُطْبَةِ «الحمدُ لله الذي نزل الفرقان» إنه مجازٌ عقليٌّ لأن اللفظَ عَرَضٌ لا يَتَّصِفُ بالنزولِ إلا تَبَعًا للأجرامِ.
ونُوقِشَ بأن التبعيةَ لا تَقْتَضِي المجازَ فإن راكبَ الدَّابةِ أو السفينةِ يتحركُ بِتَبَعِيَّتِها ويُسْنَدُ التَّحَرُّكُ له حقيقةً.
وقد يقال هو لم يُعَوِّلْ على مُجَرَّدِ التبعيةِ بل مع العَرَضِيَّةِ، وظاهرٌ أن الحركةَ عَرَضٌ فلو اتصف بها العَرَضُ حقيقةً لَزِمَ قيامُ العَرَضِ بالعَرَضِ والراكبُ جوهرٌ والقياسُ مع الفارقِ فاسدٌ، ولقد تَحَيَّرَ بعضُ الناسِ في هذا زاعمًا إجماعَهُم على أنَّ القرآنَ نَزَلَ حقيقةً مع أنه عَرَضٌ يَنْقَضِي بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ، وأَكْثَرَ من اللَّغَطِ به في المجالس وارْتَبَكَ في ذلك.
وَلَعَمْرِي إِنَّما أجمعوا على مُجَرَّدِ إسنادِ النزولِ له واستعمالِ نَزَلَ القرآنُ وصِدْقِهِ، وأمَّا كونُ الإسنادِ حقيقيًّا أو مجازيًّا لأن النازلَ حقيقةً جبريلُ بسبب القرآنِ كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ فشيءٌ آخَرُ، نعم لا مانعَ من صَيْرُورَةِ الإسنادِ حقيقةً شرعيةً بَعْدُ، فتَأَمَّل.
قوله: ((لأن كلا من العطيتين)) قال العصامُ لأنَّ كلَّ ما وُهِبَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من العَطَايَا فهو يَعُمُّ الحامدَ وغيرَهُ من مُسْلِمِي البَرَايَا، قال الشارحُ في الكبيرِ هذه الكليةُ ممنوعةٌ قال وعَجَبِي لمن يأتي بالفَقْرَةِ ولا يَنْظُرُ فيها أَدْنَى نَظْرَة، ثُمَّ أَجاب بأنه يُمْكِنُ العمومُ ولو باعتبار الشَّرَفِ لأن كلَّ ما وُهِبَ له صلى الله عليه وسلم فهو شَرَفٌ لأمتِهِ اهـ.
وقد يقال لا يَسْتَحِقُّ هذا التَّشْنِيعَ، ولعلَّ العصامَ اعتمد على ظهورِ أن المرادَ كُلُّ ما وُهِبَ وأَمْكَنَ تَعَدِّيهِ إذ بديهيٌّ أَنَّ نحوَ جَمَالِهِ الشَّرِيفِ لا عُمُومَ فيه ولا تَعَدِّيَ.
قوله: ((تعم الحامد)) ظاهرٌ إِنْ لُوحِظَتْ حيثيةُ العمومِ أمَّا إن لُوحِظَ مُجَرَّدُ الوصولِ له صلى الله عليه وسلم فَحَمْدٌ فقط.
قوله: ((بتفضيل من الله تعالى)) عَرَّجَ الشارحُ على ما ذَكَرَهُ السنوسيُّ في شرح الوسطى واليُوسيُّ في أواخِرِ حواشي الكبرى مِنْ أن الأَوْلَى أن تقول محمّدٌ أفضلُ الأنبياءِ بِتَفْضِيلٍ من الله تعالى ولا تُعَلِّلَ بكمالِ مَزَاياهُ لأن للسيد أن يُفَضِّلَ من شاءَ من عبيده مع السلامةِ من إساءةِ الأدب في نسبة النقص لغيرِهِ بالمفهوم، هكذا قال بعض المحققين، وإن كان النَّقْصُ النسبيُّ لابُدَّ منه لكنْ لا يلزمُ من ذلك حُسْنُ كثرةِ الالتفاتِ إليه وإن غَلَبَ على بعض المحبين.
وأيضا أحكامُ الله لا تُعَلَّلُ، على أن فيه شائبةَ مُصَادَرَةٍ بناءً على أن مَرْجِعَ التفضيلِ التكميلُ، وقد اشتَهَرَ أن المَزِيَّةَ لا تَقْتَضِي الأفضليةَ، والقولُ بأن المنفيَّ اقتضاؤُها الذاتيُّ بدون حُكْمِ اللهِ تعالى يُرْجِعُ الخلافَ لفظيًّا فتَأَمَّلْ.
قوله: ((الناقص)) المرادُ به مَنْ يُعَدُّ ناقصًا لذاتِهِ عُرْفًا، وأمَّا النقصُ النِّسْبِيُّ فلابُدَّ منه بالنسبةِ للفاضل، والـحقُّ أن المحذورَ التفضيلُ على الناقص بخصوصِهِ ألا تَـرَى حُسْنَ تفضيـلِ السلطانِ على جـميعِ الناس، والقـولُ بأن «أل» الاستغراقيةَ تَتَضَمَّنُ قضايا بعددِ الأفرادِ فيَؤُولُ للخصوصِ مدفوعٌ بأنه لا يلزم من تَضَمُّنِ الشيءِ للشيءِ أنْ يُعْطَىَ حُكْمَهُ مِنْ كل وَجْهٍ والذَّوْقُ والاستعمالُ شاهِدَا عَدْلٍ.
قوله: ((ولله در)) لا يُنْسَبُ للعظيمِ إلا عظيمٌ، وعِظَمُ اللبنِ لعِظَمِ من تَرَبَّى به، والعِظَمُ مَحَلُّ التَّعَجُّبِ وهو المرادُ.
وفي النظم عَيْبُ التحريدِ وهو اختلاف الضرب فإن الأول صحيحٌ والثانيَ مقبوضٌ.
قوله: ((في العمل الصالح)) لعل «أل» للجنس فيَصْدُقُ بمجردِ الإيمانِ لأنه مَقَـامُ دعاءٍ، ونُقِلَ عنه «المتبادَرُ أن المرادَ ما زاد على الإيمان» وكأنَّه لأن الصلاةَ تُؤْذِنُ بالتعظيم فلذا لا تكونُ على غيرِ الأنبياءِ والملائكةِ إلا تَبَعًا فلحق بالمدح، وقد ورد ضعيفا «آلُ محمّدٍ كلُّ تَقِيٍّ» وفي ديوان العارف سيدي محيي الدين بن عربي قُدِّسَ سِرُّهُ:
لبسُ التقى للنفس خيرُ لباسِ
*
يَزْهُو به المسـعودُ بين النـاسِ
إن الشريف هو التقي المرتـضى
*
لا الهاشـمي ولا بنو العبـاسِ
إلا إذا اتــقـــوا الإلــهَ فـإنــهم
*
أهل المكارم والندى والباسِ
قوله: ((أو الطاهرة)) غير بعيد مما قبله، ومعاني الزكاةِ متقاربةٌ.
قوله: ((أبحاث)) منها أن العصام قال «في الآلِ إيهامٌ» فاعترض بأنه التوريةُ وهي إرادةُ المعنى البعـيدِ، والأتباع معنى قريـب في مقـام الدعاء.
وأجـاب الشـارح بأنه التفت للآل في حَدِّ ذاتِهِ فإن المتبادَرَ منه الأقاربُ بقطع النظر عن مقام الدعاءِ، لَكِنْ بَقِيَ أن شرطَ التوريةِ خفاءُ القرينةِ، والمقامُ قرينةٌ ظاهرةٌ، إلا أن يقال ليس قاطعا لجوازِ تخصيصِ الأقاربِ.
ومنها أن العصامَ قال «لو قال وعلى آله العلية ذوي النفوس الزكية لكان أحسن»، قال الشارح بل لا حُسْنَ لِقِصَرِالفَقْرةِ الثالثةِ عما قبلها، وأجاب بأنا نَنْظُرُلكلِّ فَقْرَةٍ وثانِيَتِها فقط فالرابعةُ أطولُ من الثالثةِ، والظاهرُ أن العصام لاحَظَ جهةَ الازدواجِ فقط لأنَّ كُلَّ فقرةٍ كشَطْرٍ.
ومنها أن العصام قال زكاءُ النفسِ يستلزمُ زكاءَ العقلِ بالأَوْلَى أي لأنَّ النفسَ للشهوات أَمْيَلُ، قال الشارح هذا مبنيٌّ على المغايرةِ بين النَّفْسِ والعَقْلِ، والعارفون على اتحادِهِما ذاتًا والتَّغايُرُ بالاعتبار، فهناك لطيفةٌ ربانيةٌ من حيث تَشْتَهِي نَفْسٌ ومن حيث تُدْرِكُ المعارفَ عَقْلٌ.