قوله: (ومعنى كون وجوده إلخ) قال الدواني وجوب الوجود عند المتكلمين أن تكون الذات علة تامة لوجوده وعند الفلاسفة وطائفة من محققي المتكلمين كونه عين وجوده اهـ، أي: فيكون الوجود زائدا على ذاته لازما من لوازمه على الأول لأن العلة تغاير المعلول دون الثاني.
قال بعض الأفاضل نقل الدواني عن جمهور المتكلمين أن الذات علة تامة لوجودها صحيح وما زعمه من أنه مخالف لمذهب الحكماء والمحققين باطل فإنهم يريدون أن الذات بذاتها بقطع النظر عن جميع الملاحظات كافية في انتزاع المفهوم المشترك فتكون علة تامة في وجودها بهذا المعنى بخلاف الممكنات فإنها لو نظر لذاتها لم تكن كافية في ذلك بل لابد من اعتبار الفاعل المؤثر فيها معها حتى تكون ماهية في الخارج حتى ينتزع منها ذلك المفهوم المشترك وهذا قول لم يتعرض لكون وجود الواجب في الخارج غيره بل فيه تعرض لكونه عينه كما ترى.
وأيضا فإن في المحالات بالبديهة أن يؤثر ذات في وجود نفسه الزائد عليها أو يكون مؤثر فيما اعتبر معه عدم المؤثر ولم يذكر أحد من المتكلمين أن وجود شيء أمر زائد على ذاته موجود قائم بذاته حتى يكون موجودا إلا ما أخذه المتأخرون من فحوى استدلالات بعضهم على أن الوجود زائد على الماهيات وهي مبنية على أوهام وإلا فأين الوجود وأين الماهية فليفصل كل واحد منها عن صاحبه حتى يتبين الصفة من الموصوف، كيف وأنه لو كان موجودا وهو ماهية من الماهيات لزاد وجوده عليه والقول بأنه يجوز أن يكون وجود الوجود نفس الوجود قول بأن الصفة يجوز أن تكون عين الموصوف مع أن الصفة صفة والموصوف موصوف أو بالفصل بين بعض الماهيات وبعض آخر في أن له وجودا زائدا أو ليس له وجود وهو ليس بمبرهن فليكن في الكل ليس وجود زائد وليس الصادر عن الفاعل إلا نفس الذات وليس الذات الواجب إلا محض ذات فسمها ما شئت.
قال ذلك الفاضل والعذر للدواني أنه تابع لصاحب المواقف والمقاصد وغيرهما ممن نَحا نحوَهما في التوغُّل في المقالات اللفظية ولو سمعت من قولهم في الحصص لتجرعت الغصص من أوهام بعضها فوق بعض فلا شقاق بين الفريقين في أن الوجود ليس زائدا على الماهيات غاية الأمر أنهم لما نظروا إلى ظاهر قول الأشعري أنه عين الماهيات نازعوه في أنه أمر ينتزع لاندراج الكل فيه فكيف يكون عينا فلابد أن يكون اعتبارا آخر سوى الماهية يحكم عليها به لما ذكرنا سابقا.
على أني أقول إن اسم الموجود الذي يحمل على الباري تعالى وعلى الممكنات إنما يصح أن يكون مأخوذا من (وجدته) بمعنى عثرت عليه وحصلته الذي كان يستعمل في المحسوسات ثم نقل حتى صار حقيقة في الأعم من المعثور عليه بالبرهان، فإذن إنما يحتاج إلى ثبوت مبدأ الاشتقاق هو الكون معثورا عليه والكون محصلا وليس هذا بوصف حقيقي كما لا يخفى على محصل ولا يصح أن يكون مأخوذا مما يدل على الوجود الذي هو بمعنى التحقق في الخارج حتى يحتاج الاتصاف به إلى ثبوت مثل هذا الوصف وكونه حقيقيا أو غير حقيقي إذ ليس لنا (وجدته) بمعنى أوجدته كما نص عليه علماء اللغة.
نعم قد جاء من هذا الوصف (أوجدته) والاسم موجد ولا يصح حمله على الواجب و(وجد) بمعنى خرج من العدم فهو موجود وليس له مبني للفاعل وذلك أيضا لا يصح حمله على الواجب لأخذ العدم في مفهومه وليس معنى الاسم من هذين الوصفين إلا ما هو اعتبار بين الفاعل والمفعول في الأول واعتبار نسبة الشيء إلى سلبه في الثاني فليس في حمل الوجود على شيء من الأشياء دلالة على ثبوت وصف حقيقي زائد على الماهية يقابل العدم تقابل التضاد حتى يتصور نزاعهم للأشعري في قوله إن الوجود المقابل للعدم ليس إلا نفس الماهية مستدلين بالحمل المذكور أي: حمل الموجود على الماهية فإنك قد علمت أن الموجود ليس مشتقا من الوجود الذي أراده الشيخ بل هذا الوجود الذي يقال إنه عين الماهية أو غيرها ليس إلا اسما جامدا بمعنى الذات لا بمعنى الحدوث حتى يشتق منه وصف.
وأما ما ذكره أي: الدواني عن الفلاسفة والمحققين في معنى وجوب الوجود فلم يتبين له محصل ينتفع به في هذا المعنى فإن الأمر المنتزع ليس هو الذي بسلبه يسلب الذات إذ هو سلب في ذاته لا تحقق له فلو كان سلبه في الخارج سلبا للذوات المحمول عليها لم يكن ذات أصلا فإنه لم يتحقق في الخارج أصلا ولا يتحقق والباري جل شأنه والممكنات في ذلك سواء والذوات سواء كانت ممكنات أو واجبات لا يتصور سلبها عن نفسها لعموم الحكم وكما صح توجه السلب إلى ذات الممكن من حيث هي ذات يصح توجهه إلى ذات الواجب من حيث هي كذلك بدون فرق ولا أثر لتسميتها بالوجود دون غيرها وذلك في الكل حكم واحد فكون ذاته عين وجوده بالمعنى الذي حققوه لم يفد وجوبه بل يعود وجوب الوجود إلى ما ذكره أصحابنا من أنه كون الذات بحيث لا يحتاج إلى شيء يؤثر فيها بل تكون بذاتها مع ذاتها وكونها عين الوجود أو غيره مسألة أخرى لا تخصها اللهم إلا أن يقال إن الدواني لم يفهم كلام الحكماء والمحققين وارتضاه على غير بصيرة وقرره على غير وجهه.
والتقرير الحق لكلامهم أن يقال ليس الوجود ما ألفوه من انتزاعات أو ما ظنوه من وصف قائم بل الوجود هو ما به الشيء يتحقق في الخارج المعبر عنه في الفارسية بهشت ثم إذا اعتبر مفهوم من المفاهيم مضافا إلى هذا الوجود كان موجودا متحققا وإذا اعتبر غير مضاف إليه فهو المعدوم وهو الممكن والوجود بهذا المعنى لا يصح سلبه عن ذاته فإن من المحال أن يسلب الشيء عن نفسه وأن يؤول الوجود إلى العدم بالبداهة بل ينتهي إليه كل سلب فهو ذات الذوات وحقيقة الحقائق فليس الوجود أمرا آخر زائدا على الذات من الواجب بل الزائد عدم والواجب وجوده والكل ظلمة والحق نوره، فافهم.
لكن قد يقال جاء في اللغة كان التامة وفسروها بمعنى وجد وثبت ومصدرها الكون بمعنى الثبوت واسم الفاعل كائن بمعنى ثابت وفسروا المصدر بالوجود وفسروا الثابت بالموجود وهذا يقتضي أن يكون الوجود بمعنى الثبوت والتحقق في الخارج الذي هو الكون في الأعيان فلا يلزم أن يكون الموجود وصفا مشتقا من الوجود بمعنى الكون معثورا عليه ولا أن يكون بمعنى المخرج من العدم بل يجوز أن يكون (وجد) الذي منه موجود، وإن كان جاء على صورة المبني للمفعول لكنه بمعنى المبني للفاعل ومثله الموجود فإنه وإن كان صيغة اسم المفعول لكنه بمعنى اسم الفاعل ومثل هذا كثير في اللغة.
وعلى هذا يكون معنى وجد ثبت وموجود ثابت ولا شك في أنه بهذا المعنى يصح حمله على الباري جل شأنه وعلى الممكنات أيضا وقد ورد «كان الله ولا شيء معه» وهو من كان التامة كما أنه لا شك في أن الوجود ليس أمرا زائدا في الخارج عن الموجود في الكل بلا شقاق على ما مر فتدبر ولا تقلد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وجعل الوجود صفة إلخ)، اعلم أنهم اختلفوا في أن الوجود عين الذات أو ليس بعين بل هو وصف زائد فذهب الأشعري إلى الأول في الواجب والممكن وجمهور المتكلمين إلى أنه زائد في الكل والحكماء إلى أنه عين الذات في الواجب وزائد في الممكن.
والمراد من الذات الماهية من حيث هي هي مع قطع النظر عن الوجود والعدم وهي التي ينضم إليها الوجود والعدم في الممكن ولا يلزم من قطع النظر عنهما خلوها عنهما في الواقع حتى يلزم ارتفاع النقيضين فيتجه على الأشعري أن الممكن ما يتساوي له الوجود والعدم بالنسبة إلى ماهيته من حيث هي هي ولا يمكن ذلك التساوي مع العينية بل لابد أن يكون كل من الوجود والعدم خارجا عن ماهيته مستفادا من العلة الخارجة وهذا قطعي لا ريب فيه.
والجواب أن مراد الأشعري من الذات الهوية الخارجية بمعنى أنه ليس في الخارج هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى بل هوية واحدة هي هوية الموجود لا الماهية من حيث هي كما هو مراد الحكماء وإنما ذهب إليه بناء على إنكاره الوجود الذهني فلو كان الوجود صفة زائدة على الذات فإما أن يعرضه في الخارج وهو محال ضرورة أن ثبوت شيء لشيء في الخارج فرع وجود المثبت له فيه فيلزم أن تكون الذات موجودة قبل عروض الوجود لها فتتقدم الذات على نفسها بالوجود، وإما أن يعرضه في الذهن وهو أيضا محال إذ ليس للماهيات وجود ذهني عنده فإذا لم يكن عارضا لها في الخارج ولا في الذهن فلا يكون وصفا زائدا في نفس الأمر فيكون عين الماهية الموجودة.
نعم لو قال بالوجود الذهني لقال بزيادة الوجود فما ذهب إليه المتأخرون من الأشاعرة من زيادة الوجود على الذات في الكل مع إنكارهم الوجود الذهني ليس على بصيرة منهم.
وما ذكره شارح المقاصد من أن ذلك ليس مبنيا على إنكار الوجود الذهني لأن المنكرين له لا ينكرون وجود الأمور الاعتبارية في نفس الأمر في ضمن الوجود التعقلي فمحل نظر ظاهر لأن الوجود في نفس الأمر منحصر في الخارجي والذهني وليس هناك قسم آخر يسمى بالتعقلي دون الوجود الذهني، نعم يلزمهم القول بالوجود الذهني من حيث لا يشعرون أو القول بعروض الوجود للماهيات في الخارج حيث قالوا بالزيادة كما لا يخفى.
ثم القائلون بالزيادة في الكل أو في الممكن اختلفوا في أنه وصف حقيقي موجود في الخارج أو اعتباري لا وجود له إلا في الذهن.
فذهب أكثر المتكلمين إلى الأول ولا يتجه عليهم أن يقال إذا كان موجودا بوجود هو عينه فيكون واجبا بالذات أو بوجود آخر زائد فننقل الكلام إليه ويتسلسل لأن لهم أن يختاروا الأول ويقولوا وجود الوجود عين الوجود ولا يلزم محذور؛ لأن معنى الوجود الواجب بالذات أنه مقتضى الذات من غير احتياج إلى فاعل غير الذات.
ومعنى تحقق الوجود بنفسه لا بوجود زائد عليه أنه إذا حصل الشيء إما من ذاته كما في الواجب أو من غيره كما في الممكن لم يفتقر إلى وجود آخر يقوم به فيكون المجعول نفس ماهية الوجود الخاص عندهم لا اتصاف الماهية به، لكن يتجه عليه أن الموجود الخارجي لا يعرض المعدوم في الخارج بداهة فكيف عرض الوجود الموجود في الخارج للماهية المعدومة في الخارج.
ولذا ذهب الفارابي وابن سينا وسائر المحققين من المتكلمين القائلين بالوجود الذهني والحكماء إلى الثاني ولا يعرض للماهية إلا في الذهن فيكون معقولا ثانيا وهو التحقيق كالوجود الذهني.
وعلى هذا يتجه على الأشعري أن عدم تمايز هوية الوجود عن هوية الموجود في الخارج لا يقتضي أن يكون هوية الوجود في الخارج عين هوية الموجود حتى يكون ما صدق عليه أحدهما عين ما صدق عليه الآخر لجواز صدق عدم التمايز بأن لا يكون للوجود هوية خارجية لكونه من المعقولات الثانية، كيف ولو اتحد الوجود بالسواد مثلا ذاتا بحسب الخارج لكان محمولا عليه مواطأة وأيضا لم يكن لأحد شك في أن الوجود موجود كما لا شك في أن السواد موجود على ما في شرح المواقف.
فالحق أن الوجود مع كونه من الأوصاف الاعتبارية زائد في الممكن وإن كان الصادر عن الفاعل ذات الممكن لا اتصاف الممكن بالوجود كما لا يخفى إلا أنك إذا تعقلت ذات الممكن ونظرت لها بدون الفاعل لم تكن كافية في انتزاع مفهوم الوجود المشترك منها، بل لابد من اعتبار الفاعل لها معها حتى تكون ماهية حتى ينتزع منها ذلك المفهوم كما سبق إيضاحه وهذا معنى الزيادة في الذهن في الممكن وعين في الواجب إذ لا عروض في وجود الواجب، أي: إن ذات الواجب هي محض ذات وماهية بنفسها بمعنى أنها بذاتها بقطع النظر عن جميع الملاحظات كافية في انتزاع ذلك المفهوم المشترك منها كما سبق أيضا وهذا معنى العينية المذكورة.
وبالجملة إن الممكن يمكن أن يتعقل في وجوده عروض وإن لم يكن الصادر من الفاعل إلا نفس ذات الممكن وماهيته ولا يعقل العروض في وجود الواجب فتأمل وفرّق ولا تقلد ولا تنس ما قدمناه لك قبل هذا.
قوله: (لا خلاف أن الوجود زائد ذهنا إلخ) قد علمت مما تقدم حقيقة الحال فلا إعادة