قوله: (إشارة إلى أن حقائق الأشياء ثابتة) حقيقة الشيء وماهيته ما به الشيء هو هو أي: ما به الشيء ذلك الشيء، فالباء للسببية والضميران للشيء.
والمراد بالشي هنا ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ولو مجازا أو جريا على أحد المذاهب في لفظ الشيء من أنه يشمل غير الموجود، أو المراد به الموجود والمعنى الأمر الذي بسببه الشيء الموجود هو ذلك الشيء الموجود الممتاز عن جميع ما عداه وما ذاك إلا الماهية.
فإن قيل لا مغايرة بين الشيء وماهيته حتى يتصور بينهما سببية، قلت هذا من ضيق العبارة والمقصود أنه لا يحتاج الشيء في كونه ذلك الشيء إلى غيرها وهذا كقولهم الجوهر ما يقوم بنفسه إذ لا مغايرة بين الشيء ونفسه حتى يتصور القيام بينهما.
ويصح أن يكون الضمير الثاني للموصول فالمعنى الماهية هي الأمر الذي بسببه الشيء هو ذلك الأمر بمعنى أنه لا يحتاج في ثبوت ذلك الأمر له إلى غير ذلك الأمر كما يستفاد من تقديم الجار والمجرور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأن العلم بها متحقق) أي: بالحقائق من تصوراتها والتصديق بها وبأحوالها متحقق فاللام في العلم لاستغراق أنواعه لأن الاستدلال على الصانع وصفاته الذي هو المقصود من العلم بها يتوقف على تصور الحقائق والتصديق بثبوتها في نفسها وثبوت أحوالها لها كالإمكان والحدوث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهم فرق ثلاثة إلخ)، الفرق بين مذهب العنادية والعندية أن العنادية ينكرون ثبوت الحقائق وتميزها في نفس الأمر مطلقا بتبعية الاعتقاد وبدونها.
ويلزم من ذلك نفي الحقائق بالمرة لأنها إذا لم تكن متميزة في نفسها ارتفعت بالمرة فالحقائق عندهم كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ليس له ثبوت في نفسه ولا بتبعية اعتقاد.
والعندية ينكرون ثبوتها وتميزها في نفس الأمر مع قطع النظر عن اعتقادنا يعني لو قطع النظر عنه ارتفعت الحقائق في نفس الأمر بالمرة لعدم بقاء تميز بعضها عن بعض لكنهم يقولون بثبوتها وتقررها في نفس الأمر بحسب الاعتقاد وبتوسطه.
وهذا كما ذهب إليه المصوبة من تصويب مذهب كل مجتهد.
والحق أنه لا طريق إلى المناظرة مع هؤلآء الفرق الثلاثة خصوصا اللاأدرية لأن جميعهم لا يعترفون بمعلوم ليثبت به مجهول بل الطريق تعذيبهم بالنار ليعترفوا أو يحترقوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لمن تأمل) مراده التعريض بالحكماء القائلين بقدم بعض العالم بالزمان بناء على قولهم إن الله علة العلل.
وحاصل تفصيل مذهبهم المشهور في ذلك أن الواجب لكونه واحدا من كل وجه لا يصدر عنه إلا واحد فأول صادر هو العقل الأول ولهذا العقل ثلاث اعتبارات الوجوب بالغير واعتبار الوجود واعتبار الإمكان بالذات.
فصدر عنه بالاعتبار الأول عقل ثان وبالاعتبار الثاني نفس وبالثالث فلك أول وهكذا إلى العقل العاشر إذ لم يكن علة لعقل آخر ولا لفلك آخر بل هو علة لما في جوف فلك القمر من مواد العناصر وصورها وصور العنصريات وسائر الحوادث عند تمام الاستعداد.
وأورد عليهم الإمام الرازي أن هذه الأوصاف اعتبارية في التحقيق فإن كفت في التغاير فللمبدأ الأول أيضا صفات اعتبارية سلبية وثبوتية عندهم بدليل أنهم أثبتوا له تعالى اختيارا بالمعنى الأعم المفسر عندهم بـ«إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل» فله تعالى إرادات مسماة عندهم بالعناية الأزلية فيجوز أن يكون علة للمعلولات المتكثرة باعتبار تلك الإرادات وسائر الاعتبارات من غير خلل في قاعدة أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
والفرق بين اعتبارات المبدأ الأول واعتبارات العقل الأول مثلا تحكم باطل على أنه لا يصح أن تكون العلة أدنى حالا في الوجود من المعلول فلا يكون الأمر الاعتباري علة للموجود الخارجي.
وأجاب بعض المحققين بأن المختار من مذهبهم استناد المعلولات المتكثرة إلى الأمور الموجودة دون الاعتبارية العقلية التي هي تلك الأوصاف الثلاثة فإن استنادها إلى تلك الاعتبارات ليس تحقيق مذهبهم وإن اشتهر في كتبهم.
وذلك التحقيق بأن يصدر عن «أَ» أى: عن المبدأ الأول «بَ» أي: العقل الأول وعن «بَ» أي: العقل الأول «جَ» أي: العقل الثاني وعن مجموع «أَ بَ جَ» أي: عن مجموع هذه الموجودات الثلاثة بمعنى ما يطلق عليه مجموعها حقيقة أو مجازا بأن يراد اثنان منها «دَ» أي: الفلك الأعظم المتكثر في ذاته بأن يصدر عن
مجموع «أَ بَ» نفسه المجردة وعن مجموع «بَ جَ» هيولاه وعن مجموع «أَ جَ» صورته الجسمية وعن مجموع «أَ بَ جَ» حقيقة صورته النوعية حتى تحصل معلولات متكثرة هي العقل الثاني ونفس الفلك وأجزائه الثلاثة في مرتبة واحدة من الوسائط أي: بواسطة واحدة هي العقل الأول الصادر عن المبدأ الأول هذا توضيح ما قاله البعض المذكور.
وهو مبني على أن المجموع موجود آخر سوى الآحاد وأن بعض المجموعات جزء من بعض فإنه أثبت وراء الآحاد الثلاثة أربع موجودات متباينة الآثار ثلاثة منها ثنائيات وواحد منها ثلاثي وجعل كلا منها علة لموجود آخر مباين لسائر المعلولات وجعل الثنائيات داخلة في جملة الثلاثية.
كذا يؤخذ من الدواني وحواشيه ومراده ببعض المحققين المحقق الطوسي في شرح «الإشارات» لكن إذا راجعت عبارة المحقق في شرحه المذكور يتضح لك أن ما قاله المحقق ليس مبنيا على ما فهمه الدواني وبعض حواشيه فإنهم إن أرادوا أن يكون للمجموع تحقق زائد عن تحقق أجزائه فلا نسلم بناء قول المحقق عليه إذ قول المحقق يتوقف على أن لكل من «أَ»و«بَ» دخلا في تحقق «دَ» أي: كل منهما جزء علة وهذا لا يتوقف إلا على وجود «أَ» ووجود «بَ» فقط لا على أن يكون لهما تحقق ثالث وإن أرادوا بتحقق المجموع تحقق نفس الأجزاء فهذا مما لا نزاع فيه لأحد وبناؤه عليه ظاهر إذ ما لم يكن «أَ»و«بَ» لم يصدر عنهما ثالث.
نعم ما يظهر من عبارة المحقق المذكور وغيره من الحكماء من قسمة المعلولات إلى صادر عن الأول بلا واسطة وهو المعلول الأول وصادر عن الواسطة وهو ما بعد المعلول الأول هو ما اشتهر عن الفلاسفة وهو خلاف التحقيق من مذهبهم نشأ من مثل تلك العبارات المتقدمة.
والتحقيق من مذهبهم كما حققه المحقق المذكور والإمام الرازي والجلال الدواني وغيرهم من المحققين أن لا مؤثر في الحقيقة ونفس الأمر إلا الله تعالى وإن كان قد يظهر في بادئ النظر صدور الأشياء عن غيره وأن هذه الوسائط والأسباب إنما هي من قبيل الشرائط والآلات وفعل الإيجاد والتأثير إنما هو لله تعالى وحده بل ليست عند التدقيق من الشرائط ولا من الآلات بل هي من متممات وجود الممكن كأن الممكن مجموعها عند التحقيق وكأنها داخلة في ذات الممكن ووجودها جزء من وجوده.
وقد صرح الشيخ الرئيس في الشفاء بما يفيد هذا التحقيق أي: بنسبة جميع الأفعال إلى الله وحده مباشرة.
وشنع الطوسي على من نقل عنهم خلافه لكنهم لا ينكرون توقف إيجاد بعض الممكنات على البعض الآخر لنقص في ماهية المتوقف فيحتاج إلى متمم لوجوده فلابد من أن يوجد الواجب هذا المتمم حتى يوجد هذا الممكن وذلك كالعرض المتوقف وجوده على وجود محله والكل الموقوف على وجود الجزء وما ينحو نحو هذا ولا شك أن إنكار التوقف في مثل هذا سفسطة ظاهرة لا تليق بالعقلاء.
وظاهر مذهب الشيخ الأشعري من نفي التوقف رأسا ينافي ما أثبته الحكماء من التوقف على وجه ما ذكر وإن كان حقيقة مذهبه الذي يجب حمل ظاهره عليه كما حققه الإمام الرازي في غير موضع أن جنس التوقف لا ينكره بل توقف بعض الوجودات على بعض واجب ضرورة لنقص في ماهية الممكن لا لعجز واحتياج من الفاعل.
على أن المحقق المنصف لا يبالي أن يقول بتوقف بعض أفعال الواجب على بعض فإن هذا بمنزلة توقف إرادته على علمه مثلا وتوقف جميع صفاته على الحياة والكل له سبحانه وتعالى فكما أن التوقف في هذا غير مضر فكذا توقف فعله على فعله الآخر لا يضر فإنه لم يتوقف في الحقيقة ونفس الأمر على ما سوى ذاته فليس في مثل هذا التوقف رائحة النقص أصلا.
وعلى هذا يتحد تحقيق مذهب الأشعري مع تحقيق مذهب الحكماء، وحينئذ فليست مسألة الإيجاب والاختيار وقدم العالم وحدوثه من لوزام هذه المسألة.
وعلى كل حال فقد اتفق كل من الأشعري والحكماء عند أولي التحقيق على أن الواجب تعالى فياض دائما لا يحجب جوده عن المستحق لا وجوبا عليه بل فضلا منه وإحسانا بمحض الجود والكرم وفاعل لكل شيء لا يشاركه غيره في إيجاد شيء من الأشياء لكمال قدرته وعموم قهره وإن كان قد يتوقف وجود بعض الممكنات على وجود بعض آخر لما أنه من متممات وجوده فتوقفه عليه لاحتياجه في حدوثه إليه لا لاعتماد من الواجب عليه فلا قصور من طرف الواجب بل القصور من طرف الممكن فلا خلاف بين القولين إلا ما كان من تعبير لفظي لا يعتد به في ما يتعلق بالاعتقاد.
وإنما أطلنا عليك في هذا المقام لكونه من مهمات المباحث ولتقف على بطلان شبه السالكين طرق العناد الذي يأبون سواه ولا ينصفون ويدعون أنهم أهل سنة وهم للبدعة ناصرون وماذا يضرنا لو وافقنا على ما نعتقد جميع أهل العلم فافهم ولا تقلد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فلا يرد أن حدوثه لا يقول به الفلسفي)، اعلم أن المتكلمين على أن كل ما في العالم حادث بالزمان فلا شيء منه بقديم وعلى ذلك أيضا بعض الفلاسفة الأقدمين والإسلاميين.
وأكثر الفلاسفة على أن بعض العالم قديم أي: أزلي واستدل القائل بذلك بأن من المسلم عند العقلاء أن الممكن يستحيل أن يكون له من نفسه وجود لأن العدم له في ذاته فلا يكون له الوجود بدون أمر غير ذاته يفيده الوجود وإلا لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بل المرجوح على الراجح بدون مرجح وهو محال بالضرورة فلابد للممكن من أمر غير ذاته يرجح وجوده على عدمه وهو ما يسمى بالعلة التامة.
ثم إن من المحال أيضا أن يتخلف الممكن عن تمام علته لأنه إن لم يجب عند تمام علته فلم يوجد عندها ثم وجد في زمان آخر فإن وجد بدون حدوث أمر آخر سوى ما فرض تمام العلة فإما وجوده من ذاته وقد مر بطلانه أو من العلة التامة المتقدمة عليه في الزمان وهي كائنة في كل جزء من أجزاء الزمان فليس وجوده بهذه العلة في جزء من الزمان أولى من وجوده في جزء آخر منه فإذا لم يوجد عند وجودها لم يوجد أصلا.
أما المرجح لوجوده عند وجودها فهو كونها في ذلك الزمان فإن صح تأخر وجوده عن وجودها فقد صح إلى غير النهاية فلا يكون له وجود أصلا لأن المفروض أنه لم يتجدد شيء سوى ذات العلة وقد فرض أن ذاتها لم تكن مرجحة بمجردها وإلا لوجب وجوده معها لاستحالة ترجيح العدم المرجوح على الوجود الذي صار راجحا بذات العلة حينئذ وإن حدث بحدوث شيء آخر سوى ما فرض تمام العلة فقد كان التمام غير تمام لبقاء جزء من العلة وهو ما حدث عند حدوثه إذ لو لم يكن جزءا لما كان له مدخل في حدوثه هذا خلف.
وبالجملة فوجوب أن يكون المعلول عند تمام علته يكاد أن يكون بديهيا ومع ذلك هو أمر متفق عليه بين المتكلمين والفلاسفة.
وبعد أن تقرر هذا قال الفلسفي المذكور لا يخلو إما أن يكون جميع ما لابد منه من فاعل وشرط ورفع مانع إلى غير ذلك من الأمور اللازمة لوجود ممكن ما حاصلا في الأزل أو لا يكون ذلك حاصلا فيه، فإذا كان الأول ثبت المطلوب من أزلية بعض الممكنات لوجوب كون المعلول مع علته بالزمان كما سبق ولكون العلة هنا أزلية فالمعلول أيضا أزلي، وإن كان الثاني فإذا حدث ممكن ما فإما أن يكون حدوثه بدون حدوث أمر آخر سوى ما كان غير تمام العلة فيلزم أن يكون حدوثه بغير تمام علته وبلا مرجح وهو محال لما سبق وإما أن يكون حدوثه بسبب أمر آخر فيكون ذلك الأمر متمم العلة فنقول إما أن يكون ذلك الأمر الذي حدث وتمم العلة وجوديا أو اعتباريا أو عدما هو رفع مانع والمانع الذي ارتفع إما أن يكون وجودا ارتفع بالعدم أو عدما ارتفع بالوجود والاعتباري لابد أن يكون له منشأ انتزاع موجود في الخارج ويكون حدوثه بحدوث منشأ انتزاعه؛ لأن الاعتباري المحض الذي هو أمر اختراعي لا يصلح أن يكون له أثر في الوجود ولا في العدم لأنه تابع لفرض الذهن واختراعه ولا تعلق له بالأمور الحقيقية كما هو ظاهر وعلى جميع التقادير السابقة يكون الأمر الذي حدث وتمم العلة وجوديا أو مستلزما لوجودي فنبحث عن تمام علته فإما أن يكون أزليا فيلزم أزليته كما سبق وقد فرض عدم أزليته هذا خلف وإما أن يكون حادثا فننقل الكلام إلى علته حتى يلزم التسلسل في العلل المترتبة الموجودة لأن كل واحد منها يجب وجوده لوجود الآخر لأنه تمام علته والتسلسل في الأمور المترتبة الموجودة محال.
وحاصل كلام هذا المستدل أنه يلزم أحد أمور ثلاثة:
إما أزلية ممكن ما وهو المطلوب.
وإما حدوث الممكن بدون تمام علته.
وإما التسلسل في الأمور المذكورة، والأخيران محالان فتعين الأول.
قلنا إن ما استدلوا به على قدم بعض العالم لا يقوم دليلا على قدم شيء منه فإن لنا أن نختار الشق القائل إن متمم العلة حادث فإن ألزمونا بالتسلسل التزمناه وقبلناه ومنعنا استحالته لأنه لم يقم دليل إلى الآن على استحالته وما برهنوا به على ذلك ليس بمفيد فإن تكافئ المتضايفين متحقق على فرض عدم التناهي من طرف المبدأ كما أن تطبيق المبدأ على المبدأ لا يقتضي ظهور الزيادة في طرف لاتناهي كما أن لنا مندوحة عن انطباق كل واحد من إحدى السلسلتين على كل واحد من الأخرى ولا يلزم على ذلك محال لانحناء الخط وجواز كون الزيادة في الأوساط إلى غير النهاية.
ولنا أن نختار الشق القائل بأن تمام العلة حاصل في الأزل ومع ذلك لا يلزم أزلية الممكن المعلول، وذلك لما تقرر في بحث العلة والمعلول من أن العلة إنما تفيد وجود المعلول بعد أن تحوز هي وجود ذاتها وكون المعلول معها في آن واحد يستلزم أن يكون العلة والمعلول كل واحد منهما قد حاز وجوده مع الآخر فلا تتحقق إفادة العلة وجود المعلول فلابد حينئذ من أن يكون وجود المعلول في الآن التالي لوجود العلة ولا يلزم عليه محال لأن التخلف المحال كما دل عليه الدليل السابق إنما هو التخلف في الزمان بحيث يقع بين العلة والمعلول أمد يصح أن يقال فيه إن الجزء المتأخر منه ليس أولى من المتقدم بوجود العلة فيه دونه وحيث إن العلة هنا أزلية يكون وجود المعلول في الآن التالي للأزلي الذي فيه العلة بدون أن يفصل بين العلة والمعلول أمد ولا مدة والآن الذي وجد فيه المعلول هو مبدأ الزمان المنتزع من الحوادث فالمعلول الأول هو أول حادث ينتزع منه بالقياس لما بعده امتداد الزمان، وهذا ظاهر لمن أنصف بل إن ذلك مما يفيد الحكماء في مسألة ارتباط الحادث بالقديم بدون إشكال وبهذا يتبين لك أنه لم يقم دليل على قدم شيء من العالم.
وأما دليل حدوثه فلأننا لا نعقل من معنى العلة إلا ما هو مفيد الوجود للمعلول ولا من المعلول إلا ما هو مستفيد الوجود من العلة وهذا شيء يقبله الخصم أيضا.
ومن البيِّن أيضا أنه لابد أن تكون ذات العلة مباينا لذات المعلول حتى يمتاز المفيد والمستفيد ويتحقق كل منهما ويتصور بينهما الإفادة والاستفادة وهذا ضروري ويقبله الخصم أيضا فإنهم قائلون بالتغاير بين ذات الواجب وذات الممكن تغايرا تاما ولا شك أن المستفيد بذاته مسلوب عنه ما استفاده من غيره قبل الإفادة إذ لو كان واجبا له قبل الإفادة لم تتحقق الاستفادة وتكون الإفادة تحصيلا لحاصل وهو محال وليس المفاد في هذا المقام إلا نفس الذات المعلولة ووجودها، وإذا كان المفاد مسلوبا قبل الإفادة كان الذات المعلولة معدوما وإفادتها إخراج لها من العدم فصار معنى الإفادة هنا إخراج الممكن من العدم إلى الوجود والإخراج من العدم يستدعي سبق العدم فما من ممكن ومعلول إلا وقد سبق عدمه على وجوده سبقية لا تجتمع مع المسبوقية لأنه لو اجتمعتا لزم كونه مخرجا من العدم في حال كونه لم يكن فيه أي: في حال وجوده فيكون إخراجه من العدم تحصيل الحاصل المحال.
وبالجملة البداهة شاهدة بأن إفادة شيء لشيء في آن كون هذا الشيء المفاد حاصلا للمستفيد إنما هو تحصيل حاصل محال فلابد أن يتحقق للمستفيد آن لم يكن له فيه المفاد حتى يتصور الإفادة والاستفادة.
وأيضا قد علمت مما قدمنا لك أن العلة لا تفيد المعلول وجودا ما إلا بعد أن تحوز هي وجود ذاتها وحينئذ يجب أن يكون وجود المعلول في الآن التالي لوجودها ويكون في آن وجودها معدوما ويسبق عدمه على وجوده سبقية لا تجتمع مع المسبوقية وهذا ما يعني من الحدوث الزماني لجميع العالم.
فتحصل من هذا أن الدليل العقلي يوجب أن يكون وجود العلة عقلا وخارجا متقدما على وجود المعلول كذلك وأن يكون وجود المعلول في الآن التالي لوجود العلة ولا يجوز تأخره وهذا معنى مقارنة العلة للمعلول في الوجود بدون أن يلزم محال فإنه لو تأخر وجود المعلول عن الآن التالي لوجود العلة ولم يوجد فيه لزم المحال الذي استدل به الفلسفي كما سبق وإن وجد المعلول في آن وجود العلة لزم المحال الذي هو تحصيل الحاصل حسب ما قلنا وبذلك ثبت أن العالم كله حادث حدوثا زمانيا وهو المطلوب.
ثم إنك إذا تأملت فيما قلنا وقالوا على وجه ما سبق ورجعت إلى ما قرره المتكلمون من أن الزمان أمر اعتباري ينتزع من الحوادث المتعاقبة وأنه امتداد ينتزعه العقل منها من مبدئها إلى منتهاها بحيث يعتبر العقل هذا الامتداد ظرفا لوجودها من المبدأ إلى المنتهى علمت أن الزمان على مذهب المتكلمين القائلين بحدوث العالم
بالزمان متحقق قبل الأفلاك ينتزعه العقل من أول حادث ممتدا منه إلى منتهى الحوادث فما من حادث إلا ووجوده وحدوثه مقارنا لجزء من أجزاء ذلك الزمان ورجعت إلى ما قرره الحكماء من أن الزمان مقدار حركة الفلك لا ذلك الامتداد الذي يسميه المتكلمون زمانا وأن الزمان على ما قالوا لا يتحقق سابقا على حركة الفلك إذ هو مقدارها وتحققه متأخر عن تحققها علمت أن ما كان وجوده غير واقع في ذلك الزمان الذي هو مقدار حركة الفلك وخارجا عن حيطته لم يكن زمانيا كالزمان نفسه وما تقدم عليه وإن كانت تلك الحوادث مترتبة متعاقبة بغير الزمان المذكور وما كان وجوده واقعا في الزمان بالمعنى الذي ذكروه كان حدوثه زمانيا وجميع الحوادث الواقعة في ذلك متعاقبة مترتبة بالزمان وإن كان لجميع الحوادث تعاقب وترتب في ذاتها بغير الزمان أيضا عندهم كالدهر والسرمد على ما بينوه.
وبهذا يتضح لك أن لا شبهة لأحد في أن جميع الحوادث سواء ما خرج منها عن حيطة الزمان بالمعنى الذي قاله الحكماء وما دخل في ذلك متعاقب بالتقدم والتأخر وينشأ من ذلك امتداد ينتزعه العقل منها وتكون هي منشأ انتزاعه ويعتبره العقل ظرفا لوجودها وواقعة فيه وهذا ما يسميه المتكلمون بالزمان والحكيم فقط لا يسميه بالزمان لكن لا ينكر تحققه لتحقق منشأ انتزاعه.
وإذا فتح الله بصيرتك وعدلت عن طريق العناد إلى طريق السداد علمت أن حدوث العالم الزماني الذي يقوله المتكلمون وبعض الفلاسفة الأقدمين والإسلاميين مما لا شك فيه عند أحد وأن قدم بعض العالم بمعنى أزليته كما قال به أكثر الفلاسفة ليس معناه إلا كون وجود ذلك البعض غير واقع في حيطة الزمان الذي هو مقدار الحركة وهذا يشبه أن يكون أمرا اصطلاحيا، كيف والجميع متفقون على أنه يستحيل أن يكون الممكن مصدرًا لأثر من الآثار لأنه لذاته عدم لذاته والعدم لذاته لا يصدر عنه وجود لذاته لأن الفاقد للشيء لا يمكن أن يفيد ذلك الشيء، بل الواجب استناد الآثار أجمع للواجب مباشرة،وهو القديم الذي لا أول لوجوده ولا يمكن أن يقارن وجوده وجود ممكن ما لأنه مفيد الوجود لما سواه فكل ما سواه مسبوق بالعدم، ولذلك نقل بعض المتأخرين القول بحدوث العالم عن جميع الحكماء الأقدمين وادعى غلط الناقلين للقدم عنهم في فهم كلامهم فتبصر ولا تضجر فإن المقام مقتضي للإطالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن الأصل فيه العدم) أي: أنه عارض للممكن من غير تأثير أمر خارج بخلاف الوجود فإنه يحصل بتأثير الغير فلما حصل وجوده بتأثير الغير دون عدمه فإذا خلي وطبعه فهو يميل بالطبع إلى جانب العدم أي: إلى المقارنة لعلة العدم وليس المراد أن عدم الممكن لذاته من غير مدخلية أمر خارج أصلا وإلا لكان العدم مقتضَى ذاتِهِ من حيث هي هي فينقلب الممكن ممتنعا وهذا مذهب البعض وذهب الجمهور إلى استوائهما لأن غاية ما ذكر تقدم العدم واشتراط الوجود به ولا يلزم ذلك أن يكون أولى بذات الممكن وفيه نظر فتأمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولك إلخ)، في الأول المشهور أثبت أولا الحدوث وترتب عليه الافتقار إلى الصانع وفي هذا الثاني بالعكس كما هو ظاهر.
قلت قد اعتمد القوم في إثبات الصانع القديم على بطلان التسلسل مع أنه لم يقم برهان على بطلانه وما ذكروه من التضايف والتطابق غير تام كما قد علمت حاله فيما سبق وإذا لم يقم لهم دليل على بطلان التسلسل فيبقى احتماله في إثبات الصانع الواجب قائما إلى أن يبطل بدليل جديد ودون ذلك خرط القتاد.
واستدل بعض المحققين على إثبات الواجب بدليل قليل الكلفة خفيف المؤنة ينبني على مقدمتين: إحداهما بديهية وهي أن ترجح الممكن بلا مرجح محال، والثانية نظرية وهي أن الممكن لا يصح أن يكون مصدرا لأثر من الآثار وذلك أن الممكن بعد تصوره حق التصور ليس له قيام إلا قيام موجده وهو لذاته عدم والعدم لذاته لا يصدر عنه وجود لذاته إذ الفاقد للشيء لا يعطي ذلك الشيء ووجود ممكن من الممكنات بديهي وقد علمت أنه يجب أن يكون بمرجح ولا يصح أن يكون ممكنا فلابد أن يكون واجبا فتأمل.
ويمكن أن يستدل عليه بالدليل المشهور عندهم ولكن نقرره على غير الوجه الذي قرروه بأن يقال لو ترتبت سلسلة الممكنات إلى غير النهاية فإنا لا نسأل عن سبب حادث حادث إلى غير النهاية حتى يقال أنه الذي قبله ولكن نسأل عن منبع هذا الوجود الغير المتناهي فهل هو ذوات الممكنات كيف وليس لها من ذاتها إلا العدم فكان وجود ذوات الممكنات من موجود خارج وليس إلا الواجب وهو المطلوب فإن الممكنات على فرض عدم تناهيها لم تخرج عن حد الإمكان الذي هو محيط دائرة العدم ولا يعقل لجملتها من ذاتها سوى العدم ولا يعقل لها وجود ما لم تستند لأمر خارج عنها موجود وذلك هو الواجب الأبدي فما لم تستند لواجب لا يدانيه العدم لا تكون موجودة فتأمل بذوق سليم.
ومع ذلك فوجود واجب الوجود في عالم الوجود لا يصح لأحد يزعم أنه من أهل الاستدلال أن ينكره ولذلك لم يخالف فيه إلا شرذمة قليلة لا يعتد بها تسمى البحثية ولانتفائه أنكروا المقدمة الأولى البديهية وهم مكابرون في البديهي فلا نظر إليهم وقلما يوجد أحد من هذه الفرقة الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (حدوثه وجوده بعد العدم) وذلك بالإجماع فمن جحد حدوث العالم بهذا المعنى فهو كافر لإنكاره ما أجمع عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا واسطة بين الحدوث إلخ) أي: الحدوث بالمعنى المتقدم والقدم الذاتي خلافا للحكماء حيث أثبتوا الواسطة وهو القديم بالزمان.
وقد أورد المحشي الصاوي أربعة عشر شبهة نسبها إليهم وأجاب عنها وفي نسبة بعضها لهم وتقرير بعضها وتقرير بعض الأجوبة نوع تأمل يظهر للمطلع.
وفي نقل القدم الزماني عنهم نوع اضطراب قال الفارابي في رسالة الجمع بين الرأيين بعبارات طويلة ما محصله أن أفلاطون وإرسط متفقان في حدوث العالم حدوثا ذاتيا وقدم العالم قدما زمانيا وإثبات الصانع القديم الواجب بالذات تعالى وشنع الفارابي على من نسب القدم الذاتي وإنكار الواجب إلى إرسط
وقال في الملل والنحل إنه حكى عن أفلاطون قوم ممن شاهدوه وتتلمذوا له مثل إرسط وطماوس أنه قال إن للعالم محدثا أزليا واجبا لذاته عالما لجميع معلوماته كان في الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل وخالفه تلميذه إرسط في حدوث العالم فأفلاطون يحيل حوادث لا أول لها فإنك إذا قلت إن كلا منها حادث فقد أثبتّ الأولية لكل واحد وما ثبت لكل واحد وجب أن يثبت للكل.
ويؤيده ما في ترجمة ابركليس من أن القول بقدم العالم وأزلية الحركات بعد إثبات الصانع والقول بالعلة الأولى إنما ظهر بعد إرسط لأنه خالف القدماء صريحا وأبدع هذه المقالة بناء على قياسات ظنها حجة وبرهانا فنسج على منواله من كان من تلامذته وصرحوا القول فيه مثل الإسكندر الأفردوسي وفرفوريوس كذا في القبسات.
ويخالفه ما في ترجمة إرسط من أنه سأل بعض الدهرية إرسط بأنه إذا كان الباري في الأزل ولم يكن شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه فقال له إرسط لم تنف الإحداث عنه إنما فعل ما فعل لأنه جواد فقال الدهري فيجب أن يكون في الأزل لأنه جواد في الأزل فقال إرسط معنى في الأزل لا أول له والفعل يقتضي أولا واجتماع ما لا أول وذي أول محال فقال الدهري فهل يبطل هذا العالم قال نعم فقال الدهري إذا أبطله بطل الجود قال إرسط يبطله ليصوغ الصيغة التي لا تحتمل الفساد.
وما في ترجمة فرفوريوس من أنه ادعى أن حكاية حدوث العالم عن أفلاطون غير صحيحة إذ ليس للعالم عنده بدء زماني أصلا بل بدء ذاتي فقط.
فانظر إلى اختلاف النقول ولا يجزم بواحد منها ذوو العقول وقد تقدم لك ما به يرتاح فؤادك في هذا المبحث فاشكر الله وحده فإنه الفتاح.