قوله: (خلافا للمعتزلة) هو مبني على قولهم بالحسن والقبيح العقليين والمعرفة واجبة بإجماع الأمة، إنما الخلاف في طريق وجوبها فعندنا الشرع وعندهم العقل.
والمراد بالمعرفة هنا التصديق بوجوده تعالى واتصافه بصفاته الكمالية الثبوتية والسلبية.
والمراد بالواجب هنا ما يعاقب تاركه العقاب المذكور في لسان الشرع ويثاب محصله الثواب المذكور في لسانه، وهذه قضية مجمع عليها بين المسلمين من أشاعرة ومعتزلة وغيرهم.
والنزاع في أنه هل يثبت من طريق العقل الوجوب بهذا المعنى، فذهب الأشاعرة إلى أنه لم يثبت من طريق العقل فإن علم مثل هذا الثواب وهذا العقاب مما لا يهتدي إليه العقل بمقدماته بل لابد فيه من مخبر صادق وهو النبي فإن علم الأمور الحسية كالجنة والنار وما فيهما من النعيم والعذاب لا يمكن أن يكتسب من طريق النظر والاستدلال بالمقدمات العقلية بل لابد في اكتسابه من الحس أو الإخبار الذي يفيد العلم بها كما هو ظاهر.
وإذا لم يعلم المترتب الذي هو الثواب والعقاب بطريق العقل فكيف يعلم ترتب ما ذكر على شيء من طريقه.
وحيث لم يعلم ما ذكر بطريق الحس أيضا فلا سبيل لعلمه إلا الإخبار من الصادق.
نعم إذا فسر الواجب بالكمال الذي يمدح محصله ويذم تاركه كانت المعرفة واجبا عقلا لأن معرفة الحقائق على الوجه الحق في الواقع على قدر الطاقة البشرية واجبة عقلا أى: كمال يمدح محصله ويذم تاركه وأن الواقف على الحقائق المتبصر بنور المعرفة منعم بعمله فإن الجاهل معذب بجهله وذلك مما يمكن للعقل أن يدركه بمقدماته بل قد وقع ذلك لكثير كما وقع لحكماء اليونان وغيرهم.
وكذلك سائر الأخلاق يمكن للعقل الاستقلال بإدراك أنها كمال يمدح صاحبه أو نقص يذم صاحبه وذلك بالنظر فيما يترتب عليها من المصالح والمفاسد البدنية والنفسية الروحية بل وجوب معرفة ما فيه الصلاح والفساد ليحصل الأول ويجتنب الثاني مما جبل عليه نوع الإنسان وفطر عليه وسيأتي دليل المعتزلة ورده فيما بعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فقيل إنه يكفي إلخ) هو قول الأئمة الأربعة إلا أنه يكون عاصيا بترك النظر كذا قاله علي القاري وهو مذهب أهل الفروع.
وإذا رجعت إلى كون الواجب لدى علماء أصول الدين هو الإيمان الذي هو المعرفة العلمية والإيقان بالدليل علمت عدم كفاية التقليد عندهم وإن ذكر المتأخرون الخلاف في كتبهم لأن الإيمان حقيقة واحدة وهو الإيقان والإذعان عن الدليل ومتى لم يتحقق جزء الماهية المتمم لها لم تتحقق.
نعم الصحيح كفاية الدليل الإجمالي وهو مركوز في عقول عوام المسلمين وإن عجز البعض عن التعبير والتفصيل فإن ذلك لا يضر لأن المدار على ما في العقل فافهم ولا تقلد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعليه فهل يجب إلخ)، قال في المواقف «النظر واجب بالإجماع منا ومن المعتزلة واختلف في طريق ثبوته فهو عند أصحابنا السمع وعند المعتزلة العقل» انتهى.
استدل أصحابنا بقوله تعالى:﴿فَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ ءَاثَٰرِ رَحۡمَتِ ٱللَّهِ ﴾، و﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ﴾، وبقوله عليه الصلاة والسلام حين نزل ﴿ إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾: «ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها»، والأمر هاهنا للوجوب لأنه عليه الصلاة والسلام توعد على ترك التفكر في دلائل المعرفة ولا وعيد على ترك غير الواجب.
قال في المواقف «إن هذا المسلك لا يخرج عن كونه ظنيا لاحتمال كون الأمر لغير الوجوب والمعتمد عند الأصحاب هو أن المعرفة واجبة بإجماع المسلمين
والنظر مقدمة وجودها لا وجوبها والمقدمة المقدورة للواجب المطلق شرعا واجبة شرعا.
وأورد عليه في المواقف إيرادات دفعها وعدل الدواني عنه ووسط العبادة وجعل المعرفة واجبة لكونها مقدمة العبادة.
وقال عبد الحكيم لم تظهر لي فائدة في توسيط العبادة لأن المعرفة أيضا واجبة بإجماع المسلمين» اهـ.
ووجهه الجلنبوي بما رده ولولا الطول لأوردناه.
لا يقال هذا الدليل عقلي لأنا نقول هو نقلي مستند للإجماع القطعي.
واستدل المعتزلة بأن شكر المنعم واجب على المنعم عليه عقلا والمعرفة مقدمته والنظر مقدمة هذه المعرفة والمقدمة المقدورة للواجب المطلق عقلا واجبة عقلا فيكون النظر واجبا عقلا وهو باطل من وجوه:
الأول أن مقدمته الأولى ليست برهانية بل هي خطابية مشهورية كما هو ظاهر.
الثاني أنهم إن أرادوا أن العقل حاكم بأن شكر المنعم واجب بمعنى أنه يترتب الثواب والعقاب المذكوران فيما سبق أى: بمعنى ما جاء في لسان الشرع فلا نسلم هذا فإن العقل ليس له سبيل أن يعلم هذه الأمور كما تقدم حتى يعلم ترتبها على شيء أو عدم ترتبها عليه كما علمت مما مر، وإن أرادوا أن العقل حاكم بأن الشكر واجب بمعنى أنه حسن ولازم يمدح عليه ويذم على تركه فلا نزاع في أن مثل هذا يمكن أن يعلم بطريق العقل فإذا كان النظر واجبا بهذا المعنى فلا خير فيه لكن الكلام ليس في وجوبه بهذا المعنى بل بمعنى ما يترتب الثواب على تحصيله والعقاب على تركه على ما سبق إيضاحه.
الثالث أن العقل يحكم بأن فقيرا إذا وجد شيئا من الذهب مثلا في طريق ولا يعلم من أين هذا ولا من أتى به فلا يجب على هذا الفقير أن يفتش على من أتى به حتى يشكره ليسدي إليه نفعا ولو أن هذا الفقير قابل هذا المحسن بالإساءة لا يحكم العقل بأنه يذم لعدم علمه بأنه محسن ولو أن المحسن سلب إحسانه عنه كان سفيها في حكم العقل إذ لم يخبره بأنه المحسن بل هذا الصنع دليل على أن المحسن غير طالب للمقابلة بالشكر ولو كان طالبا لذلك ولم يظهر نفسه فقد سفه نفسه فكيف يجب الشكر أو العبادة أو المعرفة على من لا يعرف إلها ولا خالقا ولم يدر أن للعالم صانعا من أصله ولم يشهد الإحسان والإساءة إلا من بني نوعه وكان محصلا أرزاقه من صنعته وكسب يده.
نعم يجب تحصيل علم ما ذكر من جهة أن تحصيل العلم كمال ومن أعظم الكمالات علم مبدأ العالم وما أشبه ذلك بل لو علم صانعه وخالقه وأنه المحسن المنعم لم يحكم العقل بوجوب شكره عليه إلا بإيجاب منه وإيذان بأنه يطلب منه ذلك، كيف لا وهو لا يعلم ماذا يليق بذلك المنعم من أنواع التعظيم والشكر فربما كان ما يظنه شكرا كفرا فلابد في ذلك من معلم صادق يخبره بما يرضاه ذلك المنعم من أنواع الشكر على حسب ما عَلَّمَهُ ذلك المنعم وذلك المعلم هو الشارع فلا طريق إلى وجوب ما ذكر إلا طريق الشرع الشريف فتدبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو لا بل شرط إلخ) لعل هذا مذهب بعض الأئمة كالغزالي والرازي في بعض تصانيفه حيث ذهبا إلى أن وجود الواجب بديهي لا يحتاج إلى نظر وإن كانت دعوى البداهة ممنوعة منعا بينا بالنسبة لكل العامة.
وقال بحر العلوم في شرح السلم: إن التأثيم بترك النظر لم ينص عليه الأئمة إنما حكم المتأخرون به من جهة ترك النظر الذي كان واجبا وهو ليس بشيء فإن النظر ما كان واجبا إلا لتحصيل الإيمان وإذا حصل الإيمان ارتفع سبب وجوبه فلا إثم في الترك كما إذا أسلم الكفار قاطبة فإنه يسقط الجهاد الذي كان واجبا من غير إثم اهـ، وهو كلام ساقط فإن المعرفة التي هي الإيمان العلمي واجبة بإجماع المسلمين والنظر كذلك واجب بإجماعهم لتحصيل ذلك الإيمان وما دام الواجب تحصيله على المكلف هو الإيمان العلمي فالنظر الموصل إليه واجب وقد مر نقل الإجماع على وجوب النظر وذلك واجب عينا على كل مكلف.
وأما تفصيل الدلائل بحيث يتمكن بذلك من إزالة الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين فهو واجب على الكفاية وقد ذكر الفقهاء أنه لابد أن يكون في كل حد مسافة قصر شخص متصف بهذه الصفة ويسمى المنتصب للذب والمنع ويحرم على الإمام إخلاء مسافة القصر عن مثل هذا الشخص كما يحرم عليه إخلاء مسافة العدوى عن العالم بظواهر الشريعة والأحكام التي يحتاج إليها العامة.
ولله المشتكى من زمان انطمس فيه معالم العلم والفضل وعمر فيه مرابط الجهل وتصدر فيه لرياسة أهل العلم والتمييز بينهم من عرى عن العلم والتمييز متوسلا في ذلك بالحوم حول الظلمة والانخراط في سلك أعوانهم والسعاية الباطلة سعيا لتحصيل مرامهم خذلهم الله ودمرهم تدميرا وأوصلهم قريبا إلى جهنم﴿وَسَآءَتۡ مَصِيرًا﴾ كذا قال الدواني.
قلت وزاد في زماننا هذا على ما قاله طاقات وأضعاف مضاعفة حتى وصل من أمرهم أنهم يكفرون من اتصف بتفصيل الأدلة ليقوم عنهم بفرض الكفاية نعوذ بالله من قوم لا يعقلون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وليس بشيء) أي: لأنه خلاف الإجماع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هي أول واجب) هو قول الأشعري.
وقالت المعتزلة والأستاذ هو النظر فيها إذ هي موقوفة عليه.
وقيل هو الجزء الأول من النظر لتوقف النظر الذي هو كله عليه.
وقال إمام الحرمين والقاضي أبو بكر وابن فورك هو القصد.
قال في المواقف والنزاع لفظي وبينه بما ردوه.
والظاهر أن يقال إن أريد الواجب بالقصد الأول فهو المعرفة عند من يجعلها
مقدورة والنظر عند من لم يجعلها مقدورة وإن أريد الواجب مطلقا فالقصد عند من يجعله مقدورا والنظر عند من لم يجعله مقدورا.
والمراد بالواجب أولا المقصود وجوبه أولا لا المقصود ذاته أولا كذا يؤخذ من مجموع كلام المواقف والإمام الرازي.
قلت على كل حال قول الأشعري هو الحقيق بالقبول فإنه لا شبهة في أنه يجب على المكلف قبل السعي في شيء من الأعمال الظاهرة والباطنة أن يسبر الحقائق حتى يقف على وجود الحق تعالى ولا شك أن ذلك هو الأصل المطلوب والكمال المرغوب وإيجاب الواجبات وتحريم المنهيات خصوصا في القسم العيني وهو ما يتعلق بذات الشخص إنما كان لأجل تتميم المعرفة بصفاء مرآة النفس فهي المقصد وجميع الواجبات فعلا وتركا توابع لها فمن أجل ذلك قيل يتفرع على المعرفة وجوب الواجبات وحرمة المنهيات وقد أشار الشارع صلى الله عليه وسلم إلى أن المقصد من العبادات والأخلاق هو التخلق بأخلاق الله تعالى وذلك لا يمكن إلا بعد معرفة الله تعالى فهي متقدمة على جميع العبادات وما يتبعها فهي أول واجب.
وقد اتفق على ذلك الملّيّون وجماهير الحكماء ومع اتفاق الجميع على أن المقصود أولا إنما هو المعرفة يكون القول بأن مقدماتها أول واجب قولا لا معنى له لأن الشارع إذا أوجب علينا الصلاة مثلا لم يكن غرضه من ذلك إلا إيجاب تحصيلها ولكن لم يقل يا أيها الناس قوموا وامشوا ثم اخطوا الخطوة الأولى ثم الثانية وهكذا ثم اتصلوا إلى الماء ثم اغترفوا بأيديكم منه ثم ضعوه على وجوهكم واغسلوا إلى آخر الأعضاء المفروض غسلها في الوضوء ثم قوموا واخطوا إلى آخر الوسائل المؤدية إلى الصلاة، ولم يقل يا أيها الناس اقصدوا هذه الوسائل فإن هذا مما لا يحكم به عقل ولا وهم بل متى قيل بوجوب أمر من الأمور فقد قيل بوجوب وسائله التي لابد منها عند العقلاء فإن المقصود من وجوبه وجوب تحصيله.
فإن قلنا إن شيئا هو أول واجب فمعنى ذلك أنه أول ما يجب تحصيله قبل كل ما يحصل فيجب مع جميع وسائله فالنزاع في ذلك ليس من دأب أهل التحصيل.
كما أن المراد من الواجبات التي أولها المعرفة الواجبات التي يترتب عليها السعادة العظمى والمقصد الأعلى وهي الواجبات الدينية التي لا يقصد منها إلا تهذيب الأخلاق والاعتمال لتحصيل الاستعداد لتحصل الإفاضة من الله تعالى وليس المراد الواجبات مطلقا ولو ما يقصد منه حفظ النفس والمال في الحياة الدنيا فقط كالإقرار الذي قد يقصد به حفظ المال والدم وسائر اللوازم التي يضطر لها الشخص كالأكل والشرب ونحو ذلك.
كما أن المراد بالمكلف ما يشمل المسلم والكافر لأن وجوب المعرفة حكم أصولي يكلف به الكافر بالإجماع.
بقي أن يقال إن المعرفة واليقين والاعتقاد كيف من الكيفيات فلا يتعلق به الإيجاب، وأيضا ترتب المعرفة على النظر بطريق الإيجاب على بعض المذاهب فلا تكون اختيارية فكيف ساغ القول بوجوبها.
قلت قد تقدم لك أنه لا معنى لإيجاب أمر من الأمور إلا إيجاب تحصيله وإحداثه والتحصيل والإحداث فعل هو السعي في الأسباب فمعنى قولنا المعرفة واجبة أن تحصيل اليقين بالله واجب والتحصيل والسعي في الأسباب من الأفعال التي يصح التكليف بها.
فإن قلت إن للعبد إرادة كلية عرفها أصحابنا بأنها صفة ترجح وتخصص وقوعه في وقت دون وقت ويقررون من أحكامها أنها ترجح أحد المتساويين بل المرجوح بمعنى أن المساوى أو المرجوح في أول الأمر والتصور قد يصير راجحا في آخر الأمر عند تمام الميل إليه بدوام صورة الملائم وغايته وتأكد التصديق بملائمته وتمام الميل هو الإرادة الجزئية والجزء المرجح.
وقد قال الدواني إن تصور الملائم والتصديق بأنه ملائم كلاهما أمر ضروري ويختلج في الصدر أن لا يتخلف فعل عن تصوره فإن التصور يوجب الشوق والشوق يوجب الإرادة الجزئية التي هي تمام الميل وهي توجب الفعل.
قلت هذا وهم فاسد فإن الاختيار ليس إلا عبارة عن تعارض التصورات كل يبعث الميل إلى طرف فيقع التردد فهذا هو الاختيار والكل ناشئ عن العلم الذاتي للنفس.
والتكليف إلزام بإيقاع طرف بعث إليه تصور من التصورات المتعارضة المفضية للتردد فإذا تصور ما يترتب على المكلف به فعلا وتركا من الجزاء تأكد تصوره حتى يعظم التصور فيترجح الحسن فيقع ويندفع الرأي الصادر عن القبيح فلا يقع فافهم سر ما أشرنا إليه ولا تلتفت لمن خلط في هذا المقام.
وهناك أقوال في أول واجب غير ما تقدم لم نوردها لعدم الاعتداد بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لعدم إمكان ذلك) أي: لامتناعه كما ذهب إليه الغزالي وإمام الحرمين والحكماء والصوفية قالوا حقيقته تعالى الوجود المطلق عن كل قيد واعتبار حتى قيد الإطلاق وما يحصل في ذهننا مقيد بقيد واعتبار فلا يكون ذاته معقولا.
وقال الفارابي في التعليقات «الأول بسيط في غاية البساطة والتجرد منزه الذات عن أن تلحقها هيئة أو حاشية أو صفة جسمانية أو عقلية بل هو صريح ثبات على وحدة وتجرد وكذا الوحدة التي يوصف بها ليست شيئا تلحق ذاته بل معنى سلبي الوجود وكذا اللوازم التي يوصف بها فيقال هي من لوازمه وهي خارجة عن تلك الذات وكل ما سواه لا يمكن أن يتوهم أن يكون بذلك التجرد» اهـ.
وبذلك يظهر أنه لا يمكن إدراك كنهه وأن ما حصل في ذهننا لا يكون في غاية التجرد والتنزه.
وأما عدم وقوع المعرفة بالكنه فغير خاص بذاته تعالى، قال الفارابي في التعليقات «الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر ونحن لا نعرف منها إلا الخواص واللوازم والأعراض ونحن لا نعرف الفصول المقومة لكل واحد منها الدالة على حقيقته».
وقال في موضع آخر منها «لما كان الإنسان لا يمكنه أن يدرك حقائق الأشياء ولا سيما البسائط منها بل إنما يدرك لازما أو خاصة من خواصه ولما كان الأول سبحانه وتعالى أبسط الأشياء كان غاية ما يمكن أن يدرك من حقيقته اللازم وهو وجوب الوجود إذ هو أخص لوازمه» اهـ.
والأحاديث الدالة على عدم وقوع معرفة الله بالكنه كثيرة مثل قوله عليه الصلاة والسلام «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك»، و«تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في ذات الله فإنكم لن تقدروا قدره».
وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه «العجز عن دَرَكِ الإدراك إدراك»، وقد ضمنه المرتضى كرم الله وجهه فقال «العجز عن دَرَكِ الإدراك إدراك والبحث عن كنه سر الذات إشراك».
في القاموس الدَرَكُ أي: بالتحريك أقصى قعر الشيء، يعني أن العجز عن غاية إدراكه تعالى ينشأ عن كمال الإدراك فإنه لا يحصل إلا بعد إدراك كمال ذاته وصفاته.
وجعل العجز عين الإدراك مبالغة، أو المراد إدراك العجز عن نهاية الإدراك إدراك والبحث عن سر كنه أى: عن الأمر الخفي الذي هو كنه الذات إشراك أي: مؤد إلى اعتقاد غير الواجب واجبا أيضا، أو أن البحث عما ذكر اتباع للهوى واتباع الهوى إشراك.