قوله (فالمجاز في الإسناد) لعل وجه البداءة به مع توقفه على الطرفين --قلة الكلام عليه، وطوله على المجاز المفرد، فبدأ به ليتفرغ لما بعده، ويحتمل أن نكتة ذلك الاهتمام به، ردا على من أورده في علم المعاني، نظرا إلى أنه معنى من المعاني الزائدة على أصل المراد ليطابق بها مقتضى الحال، فأورده مقدّما إشارة إلى أنه من علم البيان الموضوع لمعرفة كيفية إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة، وذلك لأن اختلاف الطرق يكون بالحقيقة والمجازية مطلقا في الطرف أو في الإسناد.
ثم ظاهر كلامه -نفعنا الله به- أن المجاز العقلي لا يجري إلا في الإسناد، ولا يجري في متعلق الفعل؛ بأن يعدل به عن التعلق بالمفعول به إلى جعله متعلقا بغيره، ولا في إضافة ما ينبغي للفاعل لغيره.
قال ابن يعقوب: وليس كذلك، بل نصوا على أن قول القائل "نومت الليل" و"أجريت النهر" من المجاز العقلي، لأن فيه إيقاع الفعل -كما يوقع على المفعول به- على ما ليس بمفعول به، فكان مجازا، ومنه قوله تعالى "ولا تطيعوا أمر المسرفين" لأن الطاعة في الأصل إنما تقع على المسرفين، فهو المفعول به، فكان إيقاعها على أمرهم مجازا، وكذا قولنا "أعجبني إنبات الربيع البقل"، لأن إضافة الإنبات للربيع إنما هي على طريقة الإضافة إلى الفاعل، وليس فاعلا حقيقة، فكلام المصنف -رضي الله عنه- لا يشمل ما ذكر إلا بتأويل الإسناد بمطلق النسبة الشاملة للإيقاع والإضافة والإسناد.
قال ابن يعقوب: وإنما جعلت النسبة الإيقاعية والإضافية مجازية لأنه تجوز بها عما ينبغي لها من كون الوقوع على المفعول به الحقيقي في الأولى، وكون الإضافة إلى الفاعل الحقيقي في الثانية إلى غيرهما، كما تجوز في الإسناد عما ينبغي له إلى غيره، فكانت النسبة إلى ما ذكر مجازية اهـ.
قوله (خبريا كان أو إنشائيا) أتى بهذا التعميم لئلا يتوهم من تسميته مجازا في الإثبات -كما سيأتي- أنه مختص بالخبر، فبيّن أنه لا يختص به، بل يجري في الإنشاء أيضا، نحو "يا هامن ابن لي صرحا" فإن فيه إسناد الأمر بالبناء إلى هامن مجازا، لكونه سببا آمرا، والأمر في الحقيقة للعَمَلة، لأن المأمور قصدا هو الذي يصدر عنه المأمور به، ونحو قولك "ليصم نهارك" مما ليس الغرض منه أمر المذكور لعدم صحة وقوع الفعل منه، بل الغرض ملابِسه –فالمعنى: "لتصم أنت في نهارك"، وكذا قوله "لا ينم ليلك" مما النهي فيه لغير ما وُجّه له، لعدم صحة صدور ترك المنهي عنه ممن وُجّه له النهي --فالغرض: "لا تنم في ليلك"، وكذا في التمني في قولك: "ليت النهر جار"، فإن المتمنى جريُه هو الماء لا النهر، وأسند إلى ملابسه مجازا.
قوله (إسناد الفعل) أي لفظه الاصطلاحي بدليل العطف، ولأن معروض الإسناد -كما تقدم- هو اللفظ دون المعنى.
وقوله (أو إسناد ما في معناه) أي أو إسناد لفظ دال على معنى الفعل الأصلي، وزاد قوله "الأصلي" لدفع ما يرد على قوله "ما فيه معناه" أن المتبادر من قوله "ما فيه معناه" أن يراد المعنى المطابقي للفعل، وهو الحدث والزمن، مع أن المشتقات غير الفعل لا تدل على الزمن وضعا، والحال أن الإسناد ثابت فيها، وحاصل الدفع أن المراد بـ"معناه" معناه الذي يدل عليه بمادته، وهو المعنى الأصلي الذي لا يفارقه، وهذا المعنى موجود في سائر المشتقات.
وقوله (وهو الحدث) تفسير للمعنى الأصلي.
وقوله (لأنه هو الذي يدل عليه جوهر اللفظ) علة لمحذوف، والتقدير: واقتصرنا في تفسير المعنى الأصلي على الحدث دون الزمان والنسبة، لأنه أي الحدث هو الذي دل عليه جوهر اللفظ أي جوهر لفظ الفعل أي مادته التي هي الحروف، بخلاف الزمن، فإنه يدل عليه بهيئته.
قوله (كالمصدر) نحو "يعجبني إنبات الربيع البقل"، واسم الفاعل نحو "عيشة راضية" أي راض صاحبها، واسم المفعول نحو "سيل مفعَم"، فإن السيل مفعِم بكسر العين أي مالئ، لا مفعَم بالفتح أي مملوء، يقال: أفعمت الإناء إذا ملأته، والصفة المشبهة نحو "زيد حسن وجها"، فإسناد الحسن إلى ضمير زيد من إسناد الشيء لغير من قام به، إذ هو قائم بالوجه، لكن الملابسة حاصلة بالكلية والجزئية، وأفعل التفضيل نحو "زيد أحسن منك وجها"، وهو على وزان ما قبله، والظرف كقوله "أعندك زمزم" أي ماؤها، فإن إسناد الاستقرار -المفهوم من الظرف- إلى زمزم -والمراد ماؤها- من إسناد ما فيه معنى الفعل إلى غير ما هو له، والمجرور نحو "في دار زيد زمزم" أي ماؤها على نمط ما قبله، وأدخلت الكاف اسم الفعل كقولك للجماد: "صه"، واسم المصدر نحو "طهر زيد بغسل الماء" أي باغتساله بالماء.
وإنما أوردت أمثلتها ليسهل ذلك على المبتدئين، وقس على اسم الفعل أمثلة المبالغة.
ثم المراد الظرف المجرور التامان، إذ هما اللذان فيهما معنى الفعل، كما هو معلوم.
قوله (إلى غير ما حقه أن يسند له) قال الاستاذ المحشي -نفعنا الله به- ما حاصله: يستفاد من هذا أنه لا بد من معرفة ما حق الإسناد أن يكون له، اهـ.
ومعرفة ذلك؛ إما ظاهرة، لظهور ما حق الإسناد أن يكون إليه، كقوله تعالى: "فما ربحت تجارتهم"، فإن إسناد الربح إلى التجارة مجاز، والحقيقة إسناده إلى أهلها أي فما ربحوا في تجارتهم، والتجارة لما كانت سبب الربح اسند إليها مجازا؛
وإما خفية لعدم ظهور الفاعل الحقيقي في تراكيب المستعملين، كما في قولك: "سرّتني رؤيتُك"، فإن رؤيتك لا تتصف حقيقة بجعل المتكلم موصوفا بالسرور، وإنما الجاعل هو الله، أي سرني الله عند رؤيتك، وكما في قول الشاعر:
يزيدك وجهه حسنا إذا ما زدته نظرا
أي يزيد الله حسنا في وجهه، فالإسناد في المثالين إلى السبب --مجاز، وخفاء هذه الحقيقة من جهة عرف الاستعمال، فإنه لا يقصد الإسناد الحقيقي في عرف اللغة، فصار بمنزلة المجاز اللغوي الذي لم تستعمل له حقيقة، ومثل ذلك قولهم: "أقدمني إليك حق لي عليك"، وأشباه ذلك.
قوله (أي تعلق بين المسند وذلك الغير) أشار به إلى أن الملابسة المذكورة في المجاز العقلي هي العلاقة المشروطة في كل مجاز، وهذا التعلق؛ إما بالسببية، كما في "فما ربحت تجارتهم "؛ أو بالظرفية، نحو "نهاره صائم"؛ أو الحالية والمحلية، نحو "نهر جار"؛ أو التعلق، نحو "عيشة راضية".
قوله (يشابه) أي التعلقُ المعني بالملابسة.
وقوله (تعلقه) مفعول "يشابه".
وقوله (بما هو له) متعلق بـ"تعلقه"، وظاهر كلامه أن العلاقة في هذا المجاز هو المشابهة، فيكون استعارة ، وهو خلاف مذهب القوم، فيتعين أنه ليس المراد بالمشابهة المذكورة --ما يكون أصله بالكاف ونحوه حتى يكون استعارة، بل المراد المناسبة المعتبرة في تحقق علاقة التجوز في الإسناد من غير مراعاة أصل التشبيه، لا في تقدير التركيب قبل التجوز، ولا في حصول محسنات التشبيه في أصل المعنى، هذا مذهب القوم في المجاز العقلي.
وأما مذهب السكاكي فيجعله من باب الاستعارة بالكناية، فما ورد منه أمثلة في القرآن –يقول: إنه استعارة بالكناية، ونحو "أنبت الربيع البقل" يقول فيه: شبه الفاعل المجازي بالفاعل الحقيقي بجامع تعلق الفعل بكل منهما، وإذا اختلفت جهة التعلق وحذف المشبه به، ودل على إرادته المشبه به بالإتيان معه بشيء من لوازم الفاعل الحقيقي، وهكذا قال الخطيب.
ولا يخفى ما في التشبيه في نحو هذا المثال من سوء الأدب، وأنه يلزم أن لا يكون الأمر بالبناء لهامان بل للعملة، وأن يتوقف نحو "أنبت الربيع البقل" على السمع لأن أسماءه تعالى توقيفية، واللوازم منتفية اهـ.
قوله (عند المتكلم) تنازعه كل من "قام" و"اتصف"، وهو قيد أخرج به من المجاز العقلي قول الجاهل: "أنبت الربيع البقل"، فهو حقيقة عقلية عنده، إذ الحقيقة العقلية إسناد الفعل أو ما في معناه لما هو له عند المتكلم في الظاهر، فدخل فيها أربعة أقسام:
أولها ما يطابق الواقع والاعتقاد معا، كقول المؤمن: "أنبت الله البقل".
وثانيها ما يطابق الاعتقاد دون الواقع، كقول الجاهل الذي يعتقد نسبة التأثير إلى الزمن بواسطة الأمطار: "أنبت الربيع البقل".
وثالثها ما يطابق الواقع دون الاعتقاد، كقول المعتزلي: "خلق الله أفعال العباد الاختيارية"، إذا لم يُعرف أنه يعتقد خلافه ولم ينصب القرينة.
ورابعها ما لا يطابق الواقع ولا الاعتقاد، كقولك: "جاء زيد" وانت تعلم أنه لم يجئ، إما تقوله كذبا أو مداراة.
فهذه الأقسام الأربعة من أقسام الحقيقة العقلية.
وانحصر المجاز العقلي فيما فيه إسناد لغير ما هو له عند المتكلم غيرًا بحسب الظاهر، لا غيرًا في نفس الأمر، ولا في الاعتقاد، وإنما يكون غيرا عند المتكلم بحسب الظاهر إن نصب قرينة على إرادة غير الظاهر، كما يأتي.
فقوله (إلى غير الفاعل) أعم من أن يكون غيرا في الواقع، أو عند المتكلم في الظاهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله (من مفعول... إلخ) بيان لغير الفاعل، وقد تقدمت أمثلته، ومنه "وأخرجت الأرض أثقالها".
قوله (يكون إسناد ذلك الفعل... إلخ) أفاد به أن المقام هنا في تحقق المجاز العقلي، وهو لا يكون إلا في الإسناد، أعني المسند إليه والمسند؛ فإما حقيقتان؛ وإما مجازان؛ وإما مختلفان؛ فالأقسام أربعة:
الأول الطرفان حقيقيان والإسناد مجازي، نحو "أنبت الربيع البقل"، فالإنبات والربيع مستعملان في حقيقتهما.
والثاني المجازيان، نحو "أحيى الأرض شبابُ الزمان"، فالإحياء الذي هو إيجاد الحياة قد استعمل في غير معناه، وهو نضارة الأرض وإحداث خضرتها بالاستعارة التبعية، حيث شبه إيجاد الخضرة وأنواع الأزهار --بإيجاد الحياة بجامع إيجاد ما فيه المنافع والمحاسن، وكذا الشباب الذي هو المسند إليه، معناه الحقيقي كون الحيوان في زمن ازدياد قوته، وقد استعير لفصل الربيع أعني وقت ابتداء الحرارة في الزمان، وهو وقت حدوث القوى النباتية، ووجه الشبه كون كل من الابتدائين مستحدثا لما يترتب عليه من الأفراح والمحاسن، فقد ظهر أن الطرفين مجازان لغويان، والإسناد مجاز عقلي.
والثالث أن يكون المسند حقيقيا والمسند إليه مجازي، نحو "أنبت البقلَ شبابُ الزمان".
والرابع عكسه، نحو "أحيى الأرض الربيعُ" اهـ.
قوله (وكذا الفعل المبني للمفعول) ومثله ما في معناه كاسم المفعول، فإذا أسند كل منهما إلى المفعول، أو الظرف، أو المصدر --فهو حقيقة، وأما إن أسند إلى الفاعل فهو مجاز، وأما إسناده للسبب فلم نعثر له على مثال، بخلاف صيغة المبني للفاعل.
وقوله (أو ما جرى مجراه) أي مجرى المفعول به في صحة النيابة من مصدر، أو ظرف.
قوله (مع قرينة) هذا تحقيق لما استفيد من تعريف المجاز، لأن إرادة الخلاف مبنية على ما يظهر من حال المتكلم، ومعلوم أن فهم خلاف الظاهر إنما يكون بالقرينة الصارفة عن الظاهر، لأن المتبادر عند انتفائها هو الحقيقة.
وقوله (مانعة) أي لأنها المشترطة في تعريف المجاز، وبها يخرج عن قسم الكذب، بخلاف القرينة المعينة فليست شرطا في تحققه، بل في حسنه.
قوله (فخرج بقوله... إلخ) حاصل ذلك -كما فصلناه سابقا- أن الفعل المبني للفاعل وما في معناه من كل اسم يعمل عمله؛ إن أسند إلى الفاعل الذي هو فاعل في الواقع والاعتقاد أو في أحدهما أو في الظاهر فقط --فهو حقيقة عقلية؛ وإن أسند لمفعول، أو مصدر، أو ظرف، أو سبب --فإن كان لملابسة وقرينة --فهو مجاز عقلي، فإن كان الإسناد يحتمل الحقيقة والمجاز، كقولك: "جاء زيد"، وأنت تعلم أنه لم يجئ، وقول الجاهل: "أنبت الربيع البقل" --فإن نصب المتكلم القرينة كان مجازا، وإلا فحقيقة.
وأما الفعل المبني للمفعول فإن أسند لمفعول، أو مصدر، أو ظرف --فهو حقيقة، أو للفاعل مع ملابسة وقرينة --فمجاز، فإن انتفيا --فهذيانٌ وتركيبٌ فاسد.
قوله (ما لا ملابسة بينه وبين المسند إليه) كقولك: "أنبت الزجاجُ البقل"، فإنه لا ملابسة بين الزجاج والإنبات فلا يسمى هذا مجازا عقليا، بل يسمى هذيانا.
قوله (الكذب) أي الذي اعتقد المتكلم كذبه، كقوله: "جاء زيد"، وهو يعلم أنه كذب وقصد ترويج ظاهره ولم يعلم المخاطب بكذبه، فهو الإسناد الحقيقي كما تقدم، وبهذا غاير قول الجاهل: "أنبت الربيع البقل"، فإنه وإن كان كذبا لكنه مطابق لاعتقاده، وإن كان غير مطابق للواقع، إذ لا يعتقد كذبه، كما سلف.
قوله (لاعتقاده) أي الجاهل، والمراد به من يعتقد إسناد التأثير للأسباب في المسببات، وهو علة لخروج هذا القول من المجاز العقلي، وقوله في الإسناد الحقيقي لأنه أسند فيه الفعل إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر، ولم تقم قرينة على أنه لم يرد ظاهره، وإن كان خلاف الواقع، وبهذا تعلم أن قول الجاهل المذكور خرج من تعريف المجاز بقيدين: الأول قوله: "إلى غير من هو له في الظاهر"، والثاني قوله: "مع قرينة"، فتدبر.
قوله (كما أنه) أي قوله "مع قرينة".
وقوله (قول الجاهل) أي لمن يعرف حاله، كما يدل عليه قوله: "لأنه نصب حاله قرينة"، بخلاف ما إذا جهل حاله، فإنه يحمل على الحقيقة، ولهذا لم يحمل قول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرُّ الغداة ومرُّ العشي
على المجاز، ما لم يظن أن قائله لم يعتقد ظاهره، لاحتمال أن قائله دهريّ يعتقد تأثير الزمان، فإن ظن أن قائله لم يعتقد ظاهره بقرينة --كان الإسناد مجازيا.
قوله (على أنه لم يرد ظاهره) أي فهو من إسناد الفعل إلى غير ما هو له عند المتكلم في الظاهر، وإن كان هو الفاعل في الواقع.
قوله (أيضا) أي كما يسمى مجازا في الإسناد.
قوله (والسلب تابع له وطار عليه) أي حقيقة السلب ومجازه تابعة للحقيقة والمجاز في الإثبات، فيدخل في الحقيقة العقلية "ما ضرب زيدا"، وفي المجاز العقلي "ما صام نهارك"، لأنه يقدّر فيه أن الإثبات كان قبل النفي، ثم طرأ النفي عليه، كما يشير إليه قول المؤلف نفعنا الله به: "وطار عليه"؛ فيصدق في قولنا "ما ضرب زيد" أن فيه إسناد الضرب في التقدير إلى فاعله المتصف به، وهو زيد، ثم حصل النفي بعد؛ وكذا في قولنا "ما صام نهارك" أن فيه إسناد الصيام في التقدير إلى غير من هو له، فهو مجاز، والنفي تابع له في ذلك أعني الحكم بالمجازية، وإن كان باعتبار انصباب النفي عليه حقيقة.
وهذا الذي ذكره المؤلف رضي الله عنه من أن السلب تابع للإثبات في الحكم بالحقيقة والمجاز --أولى من حمل بعضهم الإثباتَ في قولهم: "المجاز في الإثبات" على معنى أن المراد به النسبة الحاصلة بين الطرفين على وجه الإثبات أو النفي، لأنه على هذا التأويل يدخل في الحقيقة "ما صام نهارك"، فإن سلب الصيام على النهار حقيقي، مع أن الإسناد فيه مجازا اتفاقا.
وأما قول شيخنا في الحاشية: "وأجيب أيضا بأن المراد بالإثبات الحكم مطلقا" --فمراده بالحكمِ المطلقِ الحكمُ بقطع النظر عن تعلق الإثبات والنفي به، وهو جواب سديد.
قوله (لتصرف العقل فيه) أي لاشتماله على ما يتسلط عليه التصرف العقلي منه، وهو الإسناد، لأن من أدرك الأوضاع الافرادية أمكنه بالعقل نسبة أحد مفهومي اللفظ لمدلول الآخر من غير توقف على أمر موضوع لذلك، فكان اتصاف الكلام بالحقيقة العقلية والمجازية بالتبع للأمر العقلي، وهو الإسناد الذي هو محل تصرف العقل استقلالا.
قوله (فإنه يرجع إلى وضع اللغة) أي وبخلاف الشرع؛ فإنه يرجع إلى وضع الشرع، وبخلاف العرفي عاما أو خاصا؛ فإنه يرجع إلى وضع العرف كذلك، فإن نسبة المجاز إلى الشرع واللغة والعرف عاما أو خاصا --تكون باعتبار الاصطلاح المنسوب إليه الشيخ المستعمِل في غيره؛ بمعنى أن مستعمل اللفظ إن استعمله في غير ما اصطلح هو ومقلِّدُه على وضعه له --فإن كان ذلك المستعمِل في غير اصطلاحه لغويا فالمجازُ لغويّ؛ أو كان شرعيا فالمجازُ شرعيّ؛ أو كان من أهل العرف العام فالمجاز عرفيّ عامّ؛ أو كان من أهل العرف الخاص فالمجازُ عرفيّ خاصّ، فليس للعقل استقلال بالتصرف فيه، لافتقاره إلى الأوضاع المذكورة، بخلاف العقلي كما سلف.
قوله (بمعنى المصدر) دفع به ما يوهم لفظ "مجازيا" من نسبة الشيء إلى نفسه، وذلك لأن الإسناد المجازي مجاز، وقد نسب هنا إلى المجاز، فيلزم نسبة الشيء إلى نفسه.
ووجه الدفع كما أفاده الأستاذ المحشي نفعنا الله به --أن المنسوب هو المجاز بالمعنى المصطلح عليه الذي هو إسناد الشيء إلى غير ما هو له، والمنسوبُ إليه المجازُ بمعناه المصدري، من "جاز المكان" إذا تعداه، فاختلف المنسوب والمنسوب إليه.
قوله (بمعنى النسبة) دفع به ما يوهمه قوله "حكميا" من اتحاد المنسوب والمنسوب إليه.
وحاصل الإيراد أن المجاز الحكمي هو إسناد الشيء ونسبتُه لغير ما هو له، وقد نسب إلى الحكم أعني إسناد الشيء ونسبته.
وحاصل الدفع أن المنسوب –وهو المجاز- نسبة خاصة، والحكم المنسوب إليه بمعنى مطلق النسبة، فتغايرا بالعموم والخصوص، ومثل هذا التغاير يكفي،
أو يراد بالمجاز الحكمي إدراكُ النسبة، وبالحكم المنسوب إليه نفسُ النسبة.
وقوله (لوقوعه) أي المجاز المذكور، علةٌ لتسميته حكميا.
قوله (وله ملابسات شتى) تقدم أن المراد بالملابسة العلاقةُ التي بين المسند وذلك الغير الذي أسند إليه كالسببية والوقوع عليه أو فيه، والغالب في الجمع الصحيح موافقةُ حركاته لحركاة مفرده، فتكون الملابَسات بفتح الباء لا غيرُ، هذا إن كان جمع ملابَسة أي مناسبة وعلاقة، وإن كان جمع ملابِس صح الفتح والكسر.
والضمير في "له" للفعل وما في معناه، كما ذكره المصنف رضي الله عنه، لكن المراد به الفعل وما في معناه المعهودان المذكوران في تعريف المجاز العقلي السابق، وهو المسند لغير ما هو له للملابسة المذكورة، لأن الكلام فيه لا غير، ويدل على ذلك اقتصاره في تفصيل الملابسات على الزمان والمكان والمفعول والسبب، ولم يذكر الفاعل ولا نائبه، لأنه لم يتعرض للحقيقة العقلية.
فقوله: "شتى" أي مختلفة الاسم والمعنى مع اتحاد الحكم عليها كلها بأنها من علاقات المجاز العقلي، ولا يصح أن يفسر الاختلاف بأن بعضها ما هو له وبعضها غير ما هو له، إذ لا تعرض له للقسم الأول كما هو واضح.
قوله (يلابس الزمان والمكان) أي يسند الفعل أو ما في معناه لزمانه كـ"صام نهاره"، أو مكانه كـ"جرى نهره" للملابسة والمناسبة والعلاقة الحاصلة بين الصوم والنهار، وبين جري الماء والنهر.
وقوله (لوقوعه فيهما) أي لوقوع معنى الفعل في الزمان والمكان، ولا يخفى أن الزمان جزءُ مدلول الفعل ولازمٌ لمدلول ما فيه معناه، والمكانُ لازمٌ فيهما.
قوله (لوقوعه عليه) علة لبيان الملابسة بين الفعل والمفعول به، ومثال ذلك كما سيأتي "زيد في عيشة راضية" حيث أسند ما بني للفاعل وهو راضية --إلى ضمير العيشة، وهو مفعول به في المعنى وإن كان في التركيب فاعلا، إذ العيشة مرضية لا راضية، فأسند الرضى إليها على جهة الوقوع منها مجازا، والأصل: زيد راض عيشتَه، والعلاقة هي الملابسة بين الحدث ومن وقع عليه، وسيأتي إيضاحه.
قوله (فالمراد به) تفريع على قوله: "لوقوعه عليه"، وأما غيره من المفاعيل فإن كان مفعولا فيه أو مطلقا --فقد تقدم، ويأتي أنه يسند الفعل إليهما للملابسة، وأما المفعول له فهو داخل في قوله: "والسبب".
وأما المفعول معه وكذا الحال والتمييز فلا يسند الفعل وما في معناه إليها وإن كان لها تعلق بالفعل، إذ هي من متعلقاته، وقد نص البيانيون على أن علاقات المجاز لا بد من سماع نوعها، وإن لم يسمع شخصها، وقد تتبعوا ما ورد عنهم في ملابسات الفعل المذكور فلم يسمع في غير ما ذكر من الزمان والمكان والمصدر والسبب والمفعول به، على أن في المفعول معه مانعا من الإسناد، وهي الواو اللازمة له، وفي الحال والتمييز مانعا، وهو لزوم التنكير، فلو زال المانع المذكور صح الإسناد، ولذا قال الأستاذ نفعنا الله به في الحاشية: "لا يسند إلى المفعول معه" أي مع بقائه مفعولا معه أي لوجود المانع من صحة الإسناد، وهي الواو التي بمعنى "مع"، أما إذا جرّد عنها، وزالت عنه المفعولية المذكورة --فإنه لا مانع من الإسناد إليه، إذ يقال على سبيل التجوز "أنبت النيل البقل" مثلا، فالنيل في هذا التركيب زال عنه معنى المصاحبة التي هي معنى المفعول معه، بخلاف المفعول به إذا أسند إليه؛ فإنه باق على معناه من دلالته على وقوع الحدث عليه، نحو "عيشة راضية"، فتأمل ما أفاده الأستاذ رضي الله عنه.
قوله (لأنه الذي ينصرف إليه... إلخ) للتفريع المذكور.
وقوله (عند الإطلاق) أي التجرد عن القرائن، فلا يذكر مفعول غيره إلا مقيدا بقيد الإطلاق في المفعول المطلق.
قوله (ولو بواسطة حرف) قال ابن يعقوب: ومما ينبغي إدخاله في المفعول ليكون إسناد ما هو للفاعل له مجازا --ما لا يتوصل إليه ذلك المسنَد إلّا بحرف، فيكون المراد بالمفعول ما يتوصل إليه فعلُ الفاعل بنفسه أو بحرف، فنحو قولهم: "أسلوب حكيم" --مما أسند فيه إلى المفعول بواسطة الحرف، إذ الأصل "الشخص حكيم في أسلوبه"، وكذلك "الضلال البعيد"، إذ الأصل "الكافر بعيد في ضلاله"، اهـ.
ثم هذا التعميم إنما هو في المفعول به كما هو واضح من السياق، فلا يرد أنه ذكر الإسناد إلى الظرف مع أنه بواسطة الحرف --لأنه مفعول فيه، على أن المنصوص عليه أنه على تقدير معنى "في"، لا لفظِها، فليتأمل.
قوله (عاديا أو عقليا أو شرعيا) مثال الإسناد للسبب العادي --"أنبت الربيع البقل"، و"أروى الماء زيدا"، و"أشبع الطعام عمرا"، و"قطع السكين اللحم" ونحو ذلك عند الموحد الذي يعتقد أن الربط بين هذه الأسباب ومسبباتها --عاديّ يُمكن تخلّفه.
ومثال الإسناد للسبب العقلي --"العالم دال على وجود الله"، و"الأثر يرشدك إلى المؤثر"، فإن الدال والمرشد حقيقة هو الله، ولكن أسندت الدلالة للسبب العقلي الذي لا يمكن تخلفه عند وجودِ شرطه وانتفاءِ موانعه.
ومثال الإسناد للسبب الشرعي --"أوجب الزوال الظهر"، و"أوجب القتل عمدا القصاص أو الدية"، و"أوجب رؤية هلال رمضان الصوم"، فإن الموجب هو الله وأسند ذلك لسببه الشرعي.
قوله (لأن له) أي للسبب دخولا في حصوله أي الحدث، وهو علة في صحة الإسناد إليه، إذ الملابسة حاصلة.
واعلم أنه كما يصح الإسناد للسبب --يصح الإسناد لسبب السبب، ويقال له: "السبب بالواسطة"، نحو قوله تعالى "ينزع عنهما لباسهما"، فإن إسناد نزع اللباس عن آدم وحواء إلى إبليس، لأنه سبب بوسوسته ومقاسمته في أكل الشجرة، والأكل منهما سبب في نزع اللباس وسبب السبب سبب.
ودخل في السبب الإسنادُ إلى العلة الغائية، ويسمى السبب المآلي، نحو "يوم يقوم الحساب" أي يقوم الناس لأجل الحساب، فهو علة غائية وسبب مآلي.
قوله (وكذا يلابس المصدر) أي كقولهم فيما بني للفاعل: "وشعر شاعر" إن أريد بالشِعر المصدرُ، فإن الشاعر صاحب الشعر لا هو، وكذا قولهم: "جدّ جِدُّه"، لأن الجد مصدرٌ أسند إليه فعلُ الفاعل.
قوله (فيسند إلى كل منها أي مجازا عقليا كما يسند... إلخ) فالتشبيه في صحة الإسناد لا في نوعه.
قوله (ثم شرع في أمثلة المجاز) اعلم أن أمثلة المجاز العقلي في القرآن كثيرة، قال الله تعالى: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا"، وهو من باب الإسناد إلى السبب العادي، وقال: "يذبح أبناءهم"، والمذبح حقيقة أعوانُه، وهو سبب آمر، وقال: "ينزع عنهما لباسهما"، وفيه الإسناد إلى سبب السبب كما تقدم، وقال: "يوما يجعل الولدان شيبا"، وهو من الإسناد إلى الزمان، وقال: "أخرجت الأرض أثقالها"، وهو من باب الإسناد إلى المكان، وقال: "في عيشة راضية" وهو من باب الإسناد إلى المفعول، إلى غير ذلك.
وفيه ردّ على نفي وقوعه في القرآن؛ قال: "للزوم الكذب"، وردّ بأن القرينة تصرفه عن الكذب، وإلا لزم عدم وقوع المجاز أصلا، وهو باطل.
قوله (فيما بني للفاعل) احترز به عما إذا بني "صام" للمفعول وأسند إلى النهار، نحو "صِيم النهارُ" فإنه إسناد حقيقي، وكذا "أجرِيَ النهرُ".
قوله (وعيشة راضية) الشاهد في إسناد "راضية" إلى ضمير "عيشة"، فإن العيشة مرضية لا راضية، ولا شاهد في إسناد "راضية" إلى "عيشة"، أعني الاسم الظاهر لأنهما مبتدأ وخبر، والمجاز العقلي لا يدخل في إسناد المبتدأ والخبر عند المصنف تبعا للخطيب، فقول الشاعر: "فإنما هي إقبال وإدبار" في وصف الناقة --ليس من المجاز العقلي، كما أنه ليس من الحقيقة العقلية لعدم دخوله في تعريفهما، فإنهما مقصوران على إسناد الفعل أو ما في معناه، فيكون من المجاز المرسل الذي قصد به المبالغة المقصودة في كثرة الاتصاف، أو المجاز بالحذف؛ والمراد ذات إقبال وإدبار، لكن تفوت به المبالغة المقصودة للشاعر: وهو كونها لكثرة وقوع الإقبال والإدبار منها --صارت نفس كل منهما.
قوله (فقد جعل الفاعل) وهو الضمير العائد على "من ثقلت موازينه".
وقوله (ثم أسند إليها "راضية") أي أسند إلى ضميرها المستتر في اسم الفاعل، وهو محل الشاهد في الآية والمثال، ويحتمل أن المراد بالإسناد الاتصافُ أي ثم وصفت العيشة بـ"راضية"، وعلى كل حالٍ الشاهدُ في إسناد "راضية" إلى ضمير "عيشة".
قوله (والأباطح) جمع أبطح، وهو المكان المتسع الذي فيه دقاق الحصى.
وقوله (وأسند إلى المفعول به) قال الأستاذ أبو الإرشاد في الحاشية: "الأولى جعله من أمثلة المكان كما صنع السعد" اهـ، إذ لا فرق بينه وبين قولك "نهر جار" و"أجريت النهر".
فالظاهر ما قاله الأستاذ إلا أن المؤلف نفعنا الله به لا حظ أن المكان المختص كالنهر والبيت --لا يقال له "ظرف"، بل "مفعول به بالواسطة"، ومنه الأباطح، فيصح كل من الوجهين؛ فمن لاحظ كونه محلا جعله من الإسناد للمكان؛ ومن لاحظ إعرابه على الإصطلاح جعله من الإسناد للمفعول.
قوله (بواسطة "في") أي تعدى إليه الفعل بواسطة "في".
وقوله (توسعا) أي لدائرة الكلام.
وقوله (ثم حذف الفاعل) وهو الماء.
وقوله (إلى المفعول) أي بالواسطة.
قوله (ففعل به كما في الذي قبله) يعني فإن فيه إسناد الإخراج إلى الأرض مجازا، والإخراج في الحقيقة لله تعالى، فهو من باب الإسناد إلى الملابس الذي هو المكان، ولو كان لا يحسن هنا أن يقال: "أخرج فيها" --لكن يعتبر أن الإخراج منها قد ظهر متعلقه فيها، فهي كالظرف بهذا الاعتبار.
وقال الأستاذ أبو الإرشاد: "فحذف الجار توسعا، ثم حذف الفاعل، وأسند إلى المفعول"، اهـ.
قوله (أي ما فيها من الدفائن) قال ابن يعقوب: "دخل في ذلك موتاها وكنوزها"، اهـ.
قوله (وأنبت الربيع البقل) قال الأستاذ أبو الإرشاد: "المراد بالربيع المطر، وهو في الأصل حقيقة في الحشيش الذي يرعى، فيكون إطلاقه هنا على المطر مجازا لغويا مرسلا، والعلاقة السببية حيث أطلق وأريد سببه العادي وهو المطر، ثم أسند الإنبات إليه مجازا عقليا فهو مجاز عقلي على مجاز لغوي"، اهـ.
ومراده أن في التركيب مجازين: أحدهما في الطرف، والآخر في النسبة، وليس مراده أن هذا من قسم المجاز على المجاز، لأن محل المجاز هنا مختلف، بخلاف المجاز على المجاز، فإن التجوز فيه متحد، وقد تقدم أن طرفي المجاز العقلي يكونان مجازين، نحو "أحيى الأرض شباب الزمان".
قوله (إلى السبب الآمر) أشار به إلى نكتة تعدد المثال في الإسناد للسبب.
قوله (التي تقدم ذكرها) وهي القرينة الصارفة عن إرادة الظاهر المأخوذة في تعريف جنس المجاز على وجه الشطرية أو الشرطية على الخلاف الآتي، وإنما اعتبر وجود القرينة المذكورة ليخرج الكلام عن الكذب، إذ المتبادر عند انتفائها أن الظاهر هو الحقيقة.
قوله (دهري) أي ينسب التأثير للأسباب.
وقوله (إن الله على ك شيء قدير) وهو مقول القول، وهو القرينة اللفظية، كما وضحه الشارح نفعنا الله به، وكذا قوله "وهو في قصره".
قوله (من الموحد) المراد من يعتقد انفراده تعالى بالتأثير في المسببات.
قوله (لظهور استحالة قيام المجيء بالمحبة) قال ابن يعقوب : "فإن إدراك استحالة قيام المجيء الذي هو المشي بالأرجل بالمحبة ضروري لكل عاقل، هذا إذا لم يكن المعنى --"صيرتني جائيا" كما هو مذهب غير سيبويه في نحو هذا التركيب، وإلا فلا استحالة" اهـ، ومراده بمذهب غير سيبويه مذهب المبرد، إذ إن الباء في مثل هذا التركيب تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول، فقولك: "ذهبت بزيد" --صاحبته في الذهاب، ولا ريب أن المحبة لا تتصف بذلك، لاستحالة وصفها بالمجيء الحقيقي.
وأما مذهب سيبويه فإنها لا تقتضي ذلك، بل تعاقب الهمزة، كما في "ذهب الله بنورهم " أي أذهب، وعلى هذا فالمعنى أن المحبة سبب باعث لمجيء إليك، فهو من الإسناد إلى السبب العادي كـ"أنبت الربيع البقل"، فإن صدر من موحد كان مجازا، وإلا كان حقيقة عقلية، فتأمل.