قوله (اعلم أن المجاز... إلخ) لا يخفى أن أصل الخطاب توجيهه لمعين، مفردا كان أو جماعة، وقد يترك التعيين ليعم كل صالح له، على سبيل البدل لا على سبيل التناول دفعة، وإنما قلنا: على سبيل البدل إشارة إلى أن الخطاب لا يخرج عن وضعه بالكلية حتى يكون كالنكرات في العموم، بل يصاحبه الافراد المناسب للتعيين، وللإشارة إلى أن العموم الذي فيه هو العموم الذي كان في أصل وضعه، فإن الضمير كما قيل كلي وضعا، جزئي استعمالا، وذلك كقوله تعالى: "ولو ترى إذ المجرمون" فإن هذا الخطاب لم يقصد به مخاطب معين هو فلان مثلا، وإنما المراد من تمكن منه الرؤية يتناوله هذا الخطاب على سبيل البدل، اهـ.
قال الأستاذ العارف رضي الله عنه عند كتابته على هذا: لا بد قبل الشروع في الفن من معرفة مبادئه، ليكون الشارع على بصيرة في الطلب عند السعي يعني المبادئ العشرة المنظومة في قولي:
مبادي أتت للعلم كن حافظا لها
وها هي في عشر النظام به تسموا
فحد وموضوع وغاية واضع
وفائدة اسم ونسبته حكم
كذا فضله استمداده تم عدها
فافهم معانيها بها يسهل العلم
فأما حده فتقدم أنه علم باصول يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق متعددة... إلخ.
وأما موضوعه فالكلام العربي من حيث إيراد المعنى فيه بطرق مختلفة.
وواضعه أرباب الفن.
وفائدته فهم كلام الله وكلام رسوله على وجه لا خطأ فيه.
وغايته تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، إذ به تعرف بلاغة القرآن الخارجة عن طوق البشر من حيث اشتماله على المجازات اللطيفة، والحقيقة، والكناية، والتشبيهات الرقيقة، وهذا يستلزم صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما مسائله فالحقيقة، والمجاز، والكناية، والتشبيه.
واستمداده من الكتاب، والسنة، وتراكيب البلغاء، كما سلف.
واسمه علم البيان.
وحكمه الوجوب الكفائي، لتوقف فهم إعجاز القرآن عليه في الجملة.
ونسبته أنه آلة لعلوم الشريعة وإن كان علما مستقلا.
فلتحفظ هذه المبادئ وقد أسلفنا الكلام عليها قبل هذا.
قوله (أن المجاز) بدأ به لأنه أشرف مسائل هذا الفن، وأكثرها وقوعا.
قوله (مشترك بين المجاز العقلي... إلخ) المتبادر أن المراد الاشتراك اللفظي؛ بأن يدعى أن لفظ المجاز وضع لكل من الأقسام المذكورة بوضع مستقل، إذ حقائقها متباينة، وجمع المتباينات غير ممكن، وهو الذي جرى عليه شيخنا الأستاذ في الحاشية.
نعم، يمكن جعله من المشترك المعنوي؛ بأن يدّعى أن معنى المجاز، استعمال الشيء في غير ما هو له --أعم من أن يكون الشيء مفردا، أو هيئة منتزعة من متعدد، أو نسبة، وكذا يقال: "في غير ما هو له" أعم من أن يكون معنى آخر، أو نسبة أخرى، أو هيئة أخرى، لكنه بعيد.
وقوله: "بين المجاز العقلي واللغوي" أي مرسلا كان أو بالاستعارة، وإنما لم يذكر مجاز الحذف: نحو "واسئل القرية"، ومجاز الزيادة: نحو "ليس كمثله شيء" في قولٍ؛ إما لأنهما من أقسام المجاز المرسل كما قيل به؛ وإما لكون المؤلف رضي الله عنه لم يذكرهما في هذه الرسالة على أنهما ليسا بمعنى المجاز المشهور، بل بمعنى استعمال الشيء على خلاف أصله.
قال القزويني: قد يطلق المجاز على كلمة تغير إعرابها الأصلي؛ بأن انتفى الإعراب الأصلي، وحل محلّه إعرابٌ آخر بسبب حذف لفظ أو بسبب زيادة لفظ: كقوله "وجاء ربك" "واسئل القرية"، وكقوله "ليس كمثله شيء"، ووجه إطلاق لفظ المجاز عليه؛ إما لتشابه بينه وبين معنى المجاز المعهود، فيكون إطلاق لفظ المجاز على ما ذكر مجازا؛ وإما بالاشتراك اللفظي.
فإن قلنا بالتشابه فتوجيهه أن الكلمة التي استحقت في أصلها نوعا من الإعراب، ثم اتصفت بآخر يزيد أو ينقص --تشبه المنقولة من معنى إلى معنى آخر في استعمال كل منهما في حالٍ هو خلاف الأصل، فعليه يكون لفظ المجاز فيه مجازا.
وإن قلنا بالاشتراك فهو ظاهر، وقد تقرر بهذا أن تغير حكم الإعراب يكون بنقص لفظ ويكون بزيادته، فلو حصلت الزيادة أو حصل النقص ولم يتغير حكم الإعراب كما في قوله تعالى "فبما رحمة" أي فبرحمة، وقوله "أو كصيب" أي وكذوي صيب --لم تسم الكلمة مجازا.
ثم محل تسمية ذلك مجازا إن امتنع الحمل على الظاهر، كما في قوله تعالى: "وجاء ربك"، للقطع باستحالة المجيء على الله، إذ هو الانتقال من حيز إلى حيز آخر بالرجل، وهو مخصوص بالجسم الحي، وكما في "واسئل القرية"، للقطع بأن المراد بالآية سؤال أهلها كما يفيده السياق، لا سؤالها نفسها.
فإن أمكن الحمل على الظاهر، أو قامت القرائن على إرادته، كما إذا قال الإنسان لصاحبه: "اعتبر بهذه القرية الخالية، واسئلها أين ذهب سكانها"، فإن المقصود من سؤالها مخاطبتها للاعتبار، كمخاطبة الأطلال للتحسر والتحزن تنزيلا لها منزلة المجيب في الدلالة على المراد، إذ يشعر حالها بالجواب، وكما لو قال وليٌّ لشخص: "اسئل هذا المكان"، عند قصد إظهار خرق العادة --لم يسم هذا مجازا أصلا.
واعلم أنه اختلف فيما يسمى به مجاز الحذف والزيادة، فذهب السكاكي إلى أن الموصوف بالتجوز المذكور، والمسمى بلفظ المجاز --هو نفس الإعراب، فالنصب في القرية مثلا يوصف بأنه تجوز فيه بنقله لغير محله، لأن القرية بسبب التقدير --في محل جر، وقد أوقع فيها النصب، فيسمى ذلك الإعراب نفسه مجازا، لأن التجوز وقع فيه.
وذهب الخطيب إلى أن المسمى بالمجاز والموصوف بالتجوز هو الكلمة المعربة لا إعرابها، وهو الأقرب كما نبه عليه شراحه اهـ.
وأما التقديم والتأخير نحو "وإذا ابتلى إبراهيم ربه" فالظاهر أنه ليس من أقسام المجاز المصطلح عليه أيضا لا مرسلا ولا غيره، وتسميته مجازا من حيث إن الكلمة المتقدمة أو المتأخرة تجاوزت مكانها الأصلي إلى مكان آخر، فمعناه كمعنى مجاز الحذف والزيادة --الخروجُ عن الأصل لأمر يقتضيه، وقد ذكر الأستاذ في حاشيته أنه من المجاز المرسل، لكن لم يظهر وجهه، فتأمله.
قوله (مفردا كان) أي اللغوي.
وقوله (أو مركبا) أي هيئة منتزعة من أمور متعددة.
قوله (ثم قلبت ألفا) أي لتحركها بحسب الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، وذلك لأن المشتقات تتبع الماضي في الإعلال غالبا.
قوله (مِن جاز المكان) أي مشتق من لفظ "مجاز" الذي هو مصدر مزيد من مصدر "جاز" المجرد، أو من نفس "جاز" عند الكوفيين القائلين: إن الاشتقاق من الفعل الماضي.
وقوله (إذا تعداه) أي يقال ذلك إذا تعداه.
قوله (ميمي) أي مبتدأ بميم زائدة، وزيادتها شرط في صحة تسميته بالمصدر الميمي، فإن كانت أصلية كـ"مكن مكانا ومكانة" لم تصح تسميته بذلك، وهو نسبة للميم، من نسبة الكل إلى جزئه.
قوله (معناه التعدية) أي فهو باق على معناه المصدري، وهو التعدية أي الانتقال، نقل إلى انتقال خاص وهو انتقال الكلمة من معناها الأصلي واستعمالها في غيره، أو انتقال الإسناد مما حقه أن يسند إليه إلى غيره، فظهر أنه بهذا المعنى وهو التعدية --يعم العقلي وغيره، لأن العقلي فيه انتقال النسبة عمن هي له إلى غيره، وأما على الإطلاق الآتي فلا يعم، لقصوره على المجاز اللغوي الذي هو الكلمة الجائزة، فتدبر.
قوله (ويطلق) أي لفظ المجاز أي على سبيل الحقيقة العرفية.
وقوله (على الكلمة الجائزة) فيه اقتصار على بعض أنواع المجاز وهو المجاز المفرد في الطرف، ولو قال على الشيء الجائز أو المجوز به لعم العقلي واللغوي، مفردا كان أو مركبا كالذي قبله، لكن العذر للأستاذ المؤلف استناده لما ذكره في الاشتقاق، والمراد بالكلمة الجائزة الكلمة المستعملة في غير معناها المنقولة عنه، لأنها حينئذ متصفة بالجواز، إما لكونها جائزة أي متعدية مكانها المنقولة عنه، فيكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، أو لكونها مجوزا بها أي جاوزوا وتعدوا بها مكانها المذكور، فيكون المجاز بمعنى اسم المفعول.
ولم يذكر الشارح -نفعنا الله به- المنقول عنه بحيث يقول كما قال غيره: الجائزة مكانَها الأصلي، أو المجوز بها مكانَها الأصلي تنبيها على أنه لا يشترط في المنقول عنه أن يكون معنى أصليا أي حقيقة للكلمة، بل يجوز أن يكون معنى مجازيا وهو المعبر عنه بالمجاز على المجاز، إذ ليس المنقول عنه مكانا أصليا للكلمة، فلا يرد هذا القسم على المؤلف رضي الله عنه لدخوله في عبارته، وإنما يرد ذلك على عبارة مَن عبّر بقوله "مكانها الأصلي"، فقول الأستاذ رضي الله عنه في الحاشية "ومن أجل هذا التعليل قيل: لا تصح مجازات لاحقائق لها ولكن الحق خلافه" اهـ --مراده التعليل الذي ذكره قبلُ، تبعا لمن علل به غيرُ المؤلف، أما هو فلم يذكره، فلا يرد عليه شيء، بل المعنى على ما علل المؤلف أن المجاز هو الكلمة المتعدية مكانَ استعمالها الذي قبل هذا --أعم من المجازي والحقيقي،
ثم المراد بالجائزة ولو بحسب الشأن، فيدخل المجاز الذي لا حقيقة له، كـ"الرحمن الرحيم" بناء على اختصاصه به تعالى.
قوله (وهذا الإطلاق) اي إطلاق لفظ المجاز على الكلمة الجائزة أو المجوز بها.
وقوله (هو الشائع) أي المتبادر في الاستعمال أي عند الإطلاق أي التجرد عن إرادة الخصوص، وأما العقلي فلا يتبادر إليه لفظ المجاز إلا مقيدا.
قال الأستاذ:
إن قلت: إذا كان هو المتبادر كان هو المعنى الحقيقي، فيكون إطلاق لفظ المجاز على العقلي مجازا، وقد ذكر المؤلف سابقا أنه من قبيل المشترك.
أجيب بأنه لا يلزم من التبادر نفي الحقيقة غير المتبادرة، أي لأن التبادر علامة الحقيقة، والعلامة لا يلزم انعكاسها، فلا يلزم من نفيه نفي الحقيقة.
قوله (وهو ضم كلمة) إنما فسره بالضم، ولم يفسره بإثبات مفهوم لمفهوم كما قيل --لأن الإثبات من عوارض الضم، بل من فوائده المترتبة عليه، كما يأتي.
قوله (على وجه يفيد) أي فائدة الكلام المعتد به عند النحاة، أي يفيد أن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى، وهذا الحد كما لا يخفى --شاملٌ للخبر والإنشاء، فإن الإسناد المذكور --إن احتمل الصدق والكذب كان خبرا، وإلا فهو إنشاء.
قوله (ولو جملة) أي ولو كان المسند جملة في نفسه --فإن قولك "زيد قام أبوه" في تأويل زيد قائم الأب.
قوله (وإما أن يكون) أي المجاز في الكلمة، أي في أحد طرفي الإسناد وهما الموضوع والمحمول.
قوله (اسما كانت... إلخ) أشار به إلى أن المجاز المفرد يعم جميع أقسام الكلمة.
مثال وقوعه في الاسم المسند إليه أو في المسند "الحال ناطقة بكذا"؛
فإن جعلتها مكنية كان التجوز في المسند إليه؛ بأن يشبه الحال بإنسان، و"ناطقة" باق على حقيقته قرينة المكنية،
وإن جعلتها تبعية؛ بأن تشبه الدلالة بالنطق ويشتق من النطق "ناطقة" بمعنى دلالة --كان التجوز في المحمول، و"الحال" باق على معناه الحقيقي.
ومثال وقوع التجوز المفرد في الفعل وحده "نطقت الحال بكذا" على تقديرها تبعية.
ومثال وقوعها في الحرف "ولأصلبنكم في جذوع النخل"، فإنه استعير فيه كلمة "في" لمعنى "على"، وسيأتي ذلك موضحا.
قوله (وإما أن يكون) أي المجاز.
وقوله (في المركب) أي في جزئي المركب الإسنادي؛ بأن تنتزع هيئة من أمور متعددة واقعة في التركيب المذكور، وتستعار لهيئة أخرى كذلك غير مذكورة، كما في "إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى"، فإن فيه تشبيه هيئة منتزعة من حال شخص متفكر في أمر متردد فيه، يعزم على فعله تارة وينأى عنه تارة أخرى --بهيئة منتزعة من حال شخص ماش على رجليه، خائف من شيء أمامه، فيقدم رجله تارة ويؤخرها تارة أخرى، وسيأتي أن التحقيق عدم اشتراط ذكر جميع أجزاء التركيب الذي تنتزع منه هيئة المشبه به، بل يجوز أن يقتصر منه على الجزء الأهم كما في "الرحمن الرحيم" على قول من يجعل فيه استعارة تمثيلية، كما سلف.