قال -رضي الله عنه ونفعنا به-: (بسم الله الرحمن الرحيم) قد اشتهر التكلم على هذه الجملة الشريفة من كل فن تنبيها على أنها جمعت معاني القرآن الجامع لسائر العلوم،
قالوا: وينبغي لكل شارع في فن أن يتكلم عليها من الفن المشروع فيه، ليكون قائما بحقها وحق الفن، والتكلم عليها من غيره يفوّت الحق الثاني، وترك التكلم عليها رأسا إما قصور أو تقصير؛
فنقول: مقاصد هذه الفن منحصرة في مبحث الحقيقة والمجاز بأقسامه والكناية، وعند التأمل تجد البسملة مشتملة عليها، إذ بعضها مستعمل في حقيقة، وبعضها يجري فيه مجازُ الاستعارة على وجه، والمجازُ المرسل على وجه، ومجازُ حذف المضاف على وجه، ومجازُ زيادته على وجه، ومجازُ زيادة الحرف على وجه، والمجازُ المركب على وجه، والمجازُ العقلي على وجه، وبعضها محتمل للمجاز والحقيقة فقط، وبعضها يحتمل المجاز والكناية.
وبيان ذلك على وجه الاختصار أن هذه الجملة قد اشتملت على خمس كلمات: الباء، و"اسم"، ولفظ الجلالة، والاسمان بعده؛
فأما الباء فهي محتملة للحقيقة ومجازِ الاستعارة؛ وذلك أن المعاني المختلفة التي ورد حرف الجر لها، إن تبادرت منه كالاستعانة والمصاحبة والتعدية الخاصة والسببية بالنسبة للباء --فهي معان حقيقية، ويكون الحرف مشتركا بينها اشتراكا لفظيا، والتبادر علامة الحقيقة، فيكون استعمالها هنا للاستعانة أو المصاحبة أو التبركية استعمالا حقيقيا على ما فيه مما سننبه عليه،
وحينئذ، لا حاجة إلى تكلف أن المعنى الأصلي للباء الذي لا يفارقها هو الإلصاق، وأنه حقيقي كـ"أمسكت بزيد" إذا قبضت عليه أو على شيء يحبسه كالثوب مثلا، والمجازي نحو "مررت بزيد" أي ألصقت مروري بمكانٍ يقرب من مكانِ زيد، قال شيخنا الصاوي: وما هنا من باب "أمسكت بزيد"، بل أولى اهـ، أي فيكون حقيقيا، ولعل وجهه أن زمن الابتداء هو عين زمن النطق بالجملة الشريفة إن كان العامل "أبتدئ"، وإن كان "أؤلف" فأول زمن التأليف هو زمن النطق بها، وما ذكره بعض أرباب الحواشي هنا من أنه إلصاق مجازي معلّلا بأن زمن وجود القراءة بعد انقضاء ذكر الاسم --لا يظهر إلا إذا قدّر العامل "أقرأ" مثلا،
نعم، المشهور أنها للاستعانة أو المصاحبة التبركية في مثل هذا المقام، وباء الاستعانة هي الداخلة على واسطة الفعل المذكور معها، المتوقِّفِ وجودُه عليها كـ"بريت القلم بالسكين"، وباء المصاحبة هي التي يصلُح موضعَها "مع"، ويُغني عنها وعن مصحوبها الحالُ كما في "اهبط بسلام" أي مع سلام أو مسلما،
ثم إن خص مدخول باء الاستعانة الحقيقية بالالة الحسية وخصت المصاحبة الحقيقية بالمبصَرات لزم التجوز هنا، وهو إما بالاستعارة المصرحة التبعية؛ بأن يقال: شُبّهت الاستعانة الكلية الحاصلة بغير الالة الحقيقية --بالاستعانة الكلية الحاصلة بالالة الحقيقية، فسرى التشبيه إلى جزئياتهما، فاستعيرت الباء الموضوعة للاستعانة الجزئية الحاصلة بالالة الحقيقية --للاستعانة الجزئية الحاصلة بغير الالة الحقيقية، أو يقال: شبهنا المصاحبات المعقولة بالمصاحبات المحسوسة، فسرى التشبيه إلى جزئياتهما، فاستعرنا الباء الموضوعة للمصاحبة الجزئية المحسوسة --للمصاحبة الجزئية المعقولة على طريق الاستعارة التبعية فيهما، وقيل: الباء هنا للتعدية من غير اعتبار استعانة أو مصاحبة، وعلى هذا سقط التجوز.
وأما لفظ "اسم" فإنه مستعمل في حقيقته، إذ الاسم ما دل على مسمى، واستعماله في ماصدقاته استعمالٌ له فيما وضع له، غيرَ أن في دخول باء الاستعانة عليه تجوزًا قد علمته سابقا، إذ هي لا تدخل حقيقةً إلا على الة الشيء الحقيقية، ويصح اعتبار المجاز العقلي هنا من حيث إسناد الاستعانة إلى الاسم، والمستعان به حقيقة هو الذات، وذلك إسناد الشيء لغير من هو له، وقيل: إن لفظ "اسم" مقحم، لدفع توهم إرادة اليمين والتيمن، فيكون مجازا بالزيادة، لقول الشاعر: "إلى الحول ثم اسم السلام عليكما"، وقوله تعالى: "فاضربوا فوق الأعناق" في قول، ومعنى كونه مجازا ورودُه على خلاف الأصل، وليس معناه الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له... إلخ.
وأما لفظ الجلالة فالمراد به الذاتُ الأقدسُ الواجبُ الوجودِ، وهو حقيقة فيه، ولا يدخله التجوز بحال، وما قيل من أن الأعلام لا توصف بالحقيقة والمجاز لأنهما لا بد فيهما من الوضع المعتدّ به وهو وضع اللغة، والأعلام لا تختص لغة بعينها --قال شيخنا الصاوي: الصحيح خلافه، لأن قيد "اصطلاح التخاطب" معتبر في تعريف الحقيقة، ووضع العلم أقوى من قيد "اصطلاح التخاطب" المذكور، على أنه لا مانع من استثناء أسماء الله تعالى، فهي حقيقة لغة.
وأما "الرحمن الرحيم" فقد علمت أنهما مشتقان من الرحمة، وهي لغةً رقةُ القلب المقتضية للإحسان، فهي من الأعراض النفسانية المستحيلة عليه تعالى كالحيا والرضا والغضب، فوصفه تعالى بالمشتق منها إنما هو على ضرب من التجوز، والأحسن أن يكون من المجاز المرسل؛ من استعمال اسمِ السبب -وهو الرحمة- في المسبب القريبِ الذي هو إرادة الإحسان، أو البعيدِ الذي هو الإحسان؛ أو اسمِ الملزوم في اللازم القريب أو البعيد.
وقيل: إنه من باب المجاز المركب أعني الاستعارة التمثيلية؛ بأن تشبه هيئة إنعامه تعالى على عباده وتبسطهم بإحسانه على وجهٍ أكمل --بهيئة رقة الملك لرعاياه وعموم برّه لهم، بجامع هيئة تعمهما، وفيه من التكلف وإساءة الأدب ما لا يخفى، وهذا كله باعتبار اللغة.
وأما وصفه تعالى بهما بحسب الشرع فقد قال الصفوي: إنه حقيقة شرعية في الإحسان أو إرادته، لوجود التبادر وكثرة الإطلاق بدون ملاحظة علاقة وقرينة، وشرط المجاز ملاحظتهما، وعلى هذا فلا تجوز فيهما أصلا، ويصح اعتبار الكناية فيهما، إذ حقيقتها -على ما يأتي- الانتقالُ من الملزوم إلى اللازم أو العكسُ، فقد أطلق لفظ "الرحمن" الدال على الرقة، وأريد لا زمه وهو إرادة الإحسان أو الإحسان بالفعل، ولا يشترط فيها إرادة المعنى الحقيقي لها على ما يأتي.
وبعضهم قرر أنه من باب التورية وهي المسماة بالإيهام؛ بأن يذكر لفظ له معنيان: قريبٌ وبعيدٌ، ويراد البعيد بقرينة خفية، وذلك لأن رقة القلب معنىً قريبٌ للرحمة بالنسبة إلى اللغة وهو غير مراد، والإحسان أو إرادته معنىً بعيدٌ لها بالنسبة إليها وهو المراد بقرينة استحالة الرقة عليه تعالى فتدبره.
قوله (الحمد لله على ما أنعم من البيان) جملة إنشائية، ولذا لم يؤت فيها بالعاطف، والمراد أنها لإنشاء الثناء بمضمونها لا لإنشاء نفس المضمون، لأنه ثابت قبل النطق بها، إذ استحقاقه تعالى الحمدَ، واختصاصُه به ذاتيٌّ لا يقبل التجدد، بخلاف إنشاء الثناء به، فإنه يتجدد من كل حامد.
ويصح أن تكون خبرية لفظا ومعنى، والمراد بها -حينئذٍ- الإخبارُ بثبوت المحامد لله تعالى، وقد صرحوا بأن الإخبار بالحمد يُعدّ حمدا باعتبار لازمه، أعني الثناء على الله بالجميل،
وقوله "على ما أنعم" قيل: يجوز في "على" أن تكون ظرفية بمعنى "في"، وأن تكون للمصاحبة بمعنى "مع"، وأن تكون للاستعلاء إشارة إلى تفخيم الحمد، وأن تكون تعليلية اهـ.
وأقول: أما الأول فغير صحيح، إذ لا معنى لجعل الحمد مظروفا في الإنعام، نعم يصح أن تكون بمعنى "في" السببية، لكن يتكرر مع قوله: "تعليلية"،
وأما الثاني فبعيد، لأن الحمد المراد هنا اللفظيُّ، وهو يحصل بعد النعمة لا معها، إلا أن يراد بالمصاحبة عدم الفاصل،
وأما الثالث فكذلك، لأن الحمد من جملة النعم، فكيف يستعلى عليها، إلا أن يراد بالاستعلاء لا زمه وهو الشمول والإحاطة، فكأنه استغرق النعم وأحاط بها إحاطة المستعلِي على المستعلَى عليه،
وأما الرابع فهو الظاهر، والمراد أنه علة لإثبات استحقاق الحمد لله، أو لاختصاصه به لا لثبوته في نفسه، لأنه ذاتي ثابت له تعالى أزلا وهو لا يعلّل، ومعنى إثبات الاستحقاق اعتقاده ثابتا، ويصح أن تكون علة لإنشاء الثناء بالمضمون،
ثم هو إما ظرف لغو أو مستقر، خبر بعد خبر ليظهر تحقق الاستحقاقين، فهو إشارة إلى أنه -كما يستحق الحمد لذاته- يستحق لأفعاله.
وقوله (البيان) بيانٌ لما، والمراد به هنا النطق الفصيح كما في قوله تعالى: "علّمه البيان"، وفيه براعة استهلال بهذا الفن المسمى بعلم البيان، وهو علم بأصول يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة الوضوح في الدلالة على المعنى المقصود، وذلك كما إذا أريد الإخبار بكرم زيد، فإنه يعبر عنه تارة بالحقيقة؛ فيقال: زيد كريم، وتارة بالتشبيه؛ فيقال: زيد كحاتم، وتارة بالمجاز؛ فيقال: رأيت بحرا يعطي؛ تعني زيدا، وتارة بالتشبيه البليغ؛ فيقال: زيد حاتم، وتارة بالكناية؛ فيقال: زيد كثير الرماد،
وموضوعه اللفظ العربي من حيث إيراده بالطرق المختلفة،
وفائدته معرفة أسرار العربية ودقائقها،
وغايته معرفة وجوه إعجاز القرآن، واستنباط دقائقه المؤدي إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم،
ونسبته لباقي العلوم كنسبة الملح إلى الطعام، بجامع الإصلاح،
واستمداده من الكتاب والسنة وشواهد العرب.
قوله (وألهم من التبيان) قال شيخنا: الإلهام لغةً الإعلامُ، واصطلاحا إيقاعُ معنى في القلب بطريق الفيض لا بطريق الكسب اهـ، يعني: ولا يختص بالعقلاء، ويعبر عنه بالوحي، ومنه "وأوحى ربك إلى النحل"، والذي يظهر أن المراد به هنا خلق قدرة على التعبير عن المعاني بالمنطق الزائد في الفصاحة أو المقترن بالحجة، وليس المراد به وصول المعاني للقلب، لأنه ينافيه قولُه بعدُ:"من التبيان"، إذ هو بيان لما ألهم، والتبيان هو المنطق الزائد في الفصاحة أو المقترن بالحجة،
وهو بكسر التاء شذوذا كتِلقاء، والقياس الفتحُ، كالتَذكار والتَكرار، وعطف "ألهم" على "أنعم" من عطف الخاص على العام تنبيها على شرف الإلهام المذكور، وتفوقه على كثير من النعم.
قوله (والصلاة والسلام على سيد الأنام) جملة خبرية لفظا، استعملت في إنشاء الطلب مجازا مرسلا لعلاقة الضدية، ولا يخفاك ما اشتهر أن الصلاة معناها من الله الرحمة الخاصة، ومن غيره طلبها والدعاء بها،
لكن قال ابن القيم في بدائع الفوائد: قولهم "الصلاة من الله بمعنى الرحمة" مردود من ثلاثة أوجه؛
أحدها أن الله تعالى غاير بينهما في قوله "صلوات من ربهم ورحمة"، والثاني أن سؤال الرحمة يشرع لكل مسلم، والصلاة تختص بالأنبياء وآلهم تبعا لهم، فهي حق لهم، ولهذا منع كثير من العلماء من الصلاة على معين غيرهم، ولم يمنع أحد من الترحم على أي معين، الثالث أن رحمة الله عامة وسعت كل شيء، وصلاته خاصة بخواص عباده.
وقولهم "الصلاة بمعنى الدعاء" مشكل من وجوه؛
أحدها أن الدعاء يكون بالخير والشر، والصلاة لا تكون إلا بالخير، الثاني أن "دعا" يتعدى باللام و"صلى" لا يتعدى إلا بـ"على"، و"دعا" المتعدي بـ"على" ليس بمعنى "صلى"، وهذا يدل على أن الصلاة ليست بمعنى الدعاء، الثالث أن فعل الدعاء يقتضي مدعوا ومدعوا له، تقول: دعوت الله بخير، وفعل الصلاة لا يقتضي ذلك، لا تقول: صليت الله عليك ولا لك، فدل على أنه ليس بمعناه اهـ.
وأقول: أما ذكره من المغايرة بينهما بالعطف في آية البقرة --فلا يدل على منع ما اشتهر عن الجمهور، لأنهم نصّوا على أن الصلاة رحمة خاصة مقرونة بتعظيم خاص، ولم يقولوا: إنها مطلق الرحمة، فغاية ما في الآية أنه من عطف العام على الخاص، ولعل حكمته فيها أن الصابرين المخبَر عنهم بما ذكر يندرج فيهم الأنبياء والرسل وغيرهم، والصلوات خاصة بالأنبياء والرسل، لكون هذا العنوان مشعرا بالتعظيم، بل دالّا عليه، فاختص بالخاص، وأما مطلق الرحمة فوسعت كل شيء، وأما ما ذكره في وجه كون الصلاة بمعنى الدعاء من وجوه الإشكال --فلعله مندفع بما صرحوا به؛ من أنه لا يلزم من كون اللفظ بمعنى لفظ آخر --أن يطابقه من كل وجه، ولا أن يتعدى تعديته، والكلام في ذلك مبسوط في غير هذا، وأعقب حمد الله بالصلاة على سيد خلقه إشعارا بأنه كما ينبغي حمد المنعم الحقيقي --ينبغي شكر من وصلت النعم بواسطته.
والسلام معناه زيادة التأمين له من المكاره، أو معناه التحيةَ من الله له بكلامه القديم، وفي التعبير بـ"على" إشارة إلى أن المطلوب له صلى الله عليه وسلم صلاة وسلاما يتمكنان منه تمكّنَ المستعلِي من المستعلَى عليه، فهي هنا استعارة تبعية، وتقريرها أن تقول: شبه الارتباط الكلي الحاصل بين مصل ومصلى عليه --بالارتباط الكلي الحاصل بين مستعل ومستعلى عليه، فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات، فاستعيرت كلمة "على" الدالة على الارتباط الخاص الثاني --للارتباط الخاص الأول، والجامعُ التمكنُ في كلّ.
وفي كلامه إطلاق السيد على غيره تعالى، وفيه ثلاث أقوال حكاها ابن المنير؛ أحدها جواز إطلاقه على الله وعلى غيره معرّفا ومنكّرا، وهو الصحيح، ومعناه في حق الله تعالى العظيم المحتاجُ إليه على العموم، وفي حق غيره الفاضلُ الشريفُ الرئيسُ، ويدل على ذلك الكتابُ والسنة واستعمالُ العرب، وأصله "سيود" كما اشتهر، قلبت الواو ياء لاجتماعها مع الواو، وأدغمت في الياء،
قال الأستاذ الأكبر الشيخ الصاوي:
إن قلت: يلزم عليه اجتماع إعلالين في كلمة وهو ممنوع.
قلت: لا مانع منه، ألا ترى أن لفظ "قاض" وجد فيه ذلك، على أن من يقول بالمنع يخصه بما إذا لم يكن الإعلال الثاني إدغاما اهـ بتصرف.
قوله (وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام) المراد بالآل في مقام الصلاة أتقياءُ أمته، لِما علمت أنها دالة على التعظيم، وبين الآل والأصحاب العموم والخصوص في الوجه.
واشتهر أن أصل "آل" "أول" أو "أهل"، بدليل تصغيره على "أويل" أو "أهيل".
قال العلامة الأمير: والذي يظهر أن له أصلين، يصح رجوعه لكل منهما، ولا يقال: "إن في الاستدلال على الأصل بالتصغير دورا، لتوقف المصغَّر على المكبَّر من حيث فرعيته عنه، والعكس" --لأنا نقول: الجهة منفكة، لأن توقف المصغر على المكبر من حيث الوجود الخارجي، وتوقف المكبر على المصغر من حيث الوجود الذهني، وهو العلم بأصالة الحرف أو زيادته، أفاده الأستاذ الصاوي.
و"أصحابه" اسم جمع عند سيبويه، ومفرده صحِب بسكون العين، و"فعل" الصحيحُ العين لم يسمع جمعه على "أفعال"، ولا يرد أنه اشتهر أن اسم الجمع لا واحد له من لفظه، بخلاف الجمع --لأنا نقول: إن القاعدة أغلبية، كما نبه عليه أستاذنا رضي الله عنه.
و"الأئمة" بهمزتين وبإبدال الثانية ياء، جمع إمام، يطلق على المقتدى به، وعلى اللوح المحفوظ، وعلى الخليفة، ويستعمل مفردا وجمعا بلفظ واحد، ومن استعماله جمعا قولُه تعالى: "واجعلنا للمتقين إماما"، والأكثرُ استعمالُه مفردا، بخلاف أمة، فإن الأكثر استعماله جمعا، ومن استعماله مفردا قولُه تعالى: "إن إبراهيم كان أمة لله"،
و"الأعلام" جمع علم بفتح اللام، يطلق حقيقةً على الراية أو الجبل، فإطلاقه على الآل والأصحاب من باب الاستعارة؛ حيث شبههم بالراية والجبل بجامع الاهتداء، واستعير اسم المشبه به للمشبه على سبيل الاستعارة المصرحة الأصلية، وما يتوهم أن فيه جمعا بين الطرفين أجاب عنه المؤلف رضي الله عنه في تقريره؛ بأنه منقطع عما قبله فلا جمع، نبه عليه الأستاذ، لكن ينبغي أن يكون القطع إلى النصب حتى يصير التركيب خاليا عنهم وعن ضميرهم، فتأمل.
قوله (وبعد فهذا شرح لطيف... إلخ) اختلفوا في الواو الداخلة على "بعد"، فقيل: إنها عاطفة قصة على قصة أي عاطفة مضمون ما سيق لغرض بيان سبب التصنيف --على مضمون ما سيق لقصد التبرك، والعاملُ في "بعد" -على هذا- محذوفٌ، تقديره "أقول" ونحوه، والفاء زائدة، وقال الرضي: دخلت الفاء لتوهم "أما" إجراءً للمتوهَّم مجرى المحقَّق،
وقيل: إنها -أي الواو- ليست عاطفة، وإنما هي عوض عن "أما"، فهي نائبتها، والعامل في الظرف-حينئذ- قيل: الفعل المقدر كما سلف أعني فعل الجزاء، وقيل: الواو النائبة عن "أما" المتضمنة معنى الشرط والفعل معا، والتقدير مهما يكن... إلخ.
وضعّف بعض المحققين نيابة الواو عن "أما"؛ بأن التعويض يقتضي مناسبة بين المعوض والمعوض عنه تصحِّح النيابة، ولا مناسبة بين الواو و"أما"، وردّ بأن المناسبة ليست شرطا كما يعلم من تتبع كلامهم، والكلام في هذه الكلمة من حيث إعرابها ومعناها وموضع ذكرها وأول من تكلم بها --طويل شهير.
وحاصل ما ذكره الأستاذ العارف هنا أنها ظرف زمان كثيرا، وقد تأتي للمكان، وأنها إذا ذكر المضاف إليه، أو حذف ونوي لفظه، أو لم ينو شيء --تكون معربة بالنصب على الظرفية، أو بالجر بـ"من"، وإذا حذف ونوي معناه --تكون مبنية على الضم كما اشتهر، وتحقيقه يُعلم من غير هذا المحل، وأنها يؤتى بها للانتقال من مقام إلى آخر، فلا تقع ابتداء، ولا آخرا، ولا بين كلامين متحدي المعنى، ويسن الإتيان بها في الكتب والخطب والرسائل اهـ.
والشرح في الأصل مصدرٌ، بمعنى الشق، ومنه "ألم نشرح لك صدرك"، وقيل: معناه التوسعة، وعرفا ألفاظ مخصوصة تدل على معان مخصوصة، سميت بذلك لأنها توضح المبهم وتظهر الخفي، كما أن الشق يظهر ذلك، والمصدر هنا بمعنى اسم الفاعل، والإشارةُ للألفاظ الذهنية كما يأتي، وحمل عليها المصدر مبالغة.
ووصفه باللطف الذي هو في الأصل رقة القوام، أو صغر الحجم، أو كون الشيء شفافا لا يحجب ما وراءه --مجاز بالاستعارة التبعية، إذ المراد باللطيف سهل المأخذ أو عذب الألفاظ، فيقال: شبهت سهولة المأخذ وعذوبة الألفاظ --باللطف الذي هو رقة القوام أو صغر الحجم أو كون الشيء شفافا، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من اللطف "لطيف" بمعنى "سهل المأخذ... إلخ" على طريق الاستعارة الأصلية التبعية، ويحتمل أنه مجاز مرسل من إطلاق الملزوم؛ وهو لطيف بمعنى رقيق القوام أو صغير الحجم، وإرادة اللازم؛ وهو سهولة التناول، والعلاقة اللازمية أو الملزومية.
قوله (على الرسالة) أي دال على معانيها أي موضح لها، وكاشف عنها، فهو من استعلاء الدال على المدلول، وعبر بـ"على" دون اللام للإشارة إلى شدة تمكن الشرح من المشروح، حتى كأنه جسم مستعل على آخر، وفيه إشارة تبعية حيث شبه الارتباط الكلي الحاصل بين دال ومدلول --بالارتباط الكلي الحاصل بين مستعل ومستعلى عليه، فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات، فاستعيرت كلمة "على" الموضوعة للارتباط الجزئي بين المستعلي والمستعلى عليه --للارتباط الجزئي بين الدال والمدلول الخاصين، والجامع شدة التمكن، وسميت تبعية -كما سيأتي- لجريان الاستعارة في الجزئيات تبعا لجريانها في الكليات.
وسمى المؤلف رضي الله عنه كتابه رسالة لصغر حجمه، إذ الرسالة في الأصل اسم للمكتوب الذي يقع به التراسل بين الناس.
قوله (التي جعلتها) أي ألفتها.
وقوله (في بيان المجاز... إلخ) إن كان المراد بالبيان معاني المجاز وما بعده --فالظرفية من ظرفية الدال -أعني الرسالة التي أريد بها الألفاظ المخصوصة- في المعاني، وإن أريد به الألفاظ المبنية --كان من ظرف الكل في أجزائه، وسيأتي إيضاح ذلك.
وقوله (يوضح) صفة للشرح، وإسناد التوضيح إليه، والموضح هو مؤلفه، من باب المجاز العقلي وهو الإسناد إلى السبب، وضمير معانيها للرسالة، وإضافة المعاني إليها من إضافة المدلول للدال.
وقوله (ويحل) بضم الحاء أي يفك، والمباني جمع مبنى، وهو الكلمات والتراكيب، والمراد بحل المباني هنا بيان الفاعل والمفعول ونحوهما كمرجع الضمائر، وفي العبارة استعارة بالكناية؛ حيث شبهت ألفاظ الرسالة بشيء كان معقودا على المطلوب أزيل العقد عنه وتوصل بذلك إليه، وطوي ذكر المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه على طريق الاستعارة بالكناية، وذكر الحل تخييل وهو قرينة المكنية.
ويصح جعلها تبعية؛ بأن شبه تبيين معاني الألفاظ بإزالة العقد عن الشيء المعقود على المطلوب، ووجه الشبه إظهار المطلوب والتوصل إليه، واستعير للتبيين لفظُ الحل، ثم اشتق منه الفعل أعني "يحل" بمعنى يبيّن، فتكون الاستعارة في المصدر أصلية، وفي الفعل تبعية، وقرينتها تعلق الفعل بالألفاظ.
ويجوز أن يكون مجازا مرسلا، من إطلاق الملزوم أعني "يحل" وإرادة اللازم وهو التبيين، ويجوز أن يكون كناية اصطلاحية، فتدبر، وإضافة المباني إلى ضمير الرسالة من إضافة العام إلى الخاص، أو الأجزاء إلى الكل، أو الإضافة بيانية.
قوله (وبالله التوفيق) أي بمعونة الله وإقداره، التوفيق أي خلق قدرة الطاعة في العبد، وقيل: خلق الطاعة، وضده الخذلان، فهو -على الأول- خلق قدرة المعصية، وعلى الثاني خلق المعصية، ويرادفه العصمة، ولا تجب إلا للأنبياء والملائكة دون من عداهم، فإنها جائزة في حقهم.
قال القاضي البيضاوي: والتوفيق المختص بالمتعلم أربعة أشياء: العناية الشديدة أعني الهمة والاجتهاد، ومعلم ذو نصيحة، وذكاء القريحة، واستواء الطبيعة أي خلوها عن الميل لغير ما يليق بها اهـ، ويزاد على ذلك طول الزمان، والعمدة في ذلك --التقوى، واتقوا الله ويعلمكم الله.
وقوله (راجيا) حال من فاعل أقول، والرجا تعلق القلب بمرغوب فيه مع الأخذ في أسبابه، فإن لم يأخذ أسباب ذلك فليس برجاء، بل هو غرر وطمع.
وقوله (أنفع طريق) من إضافة الصفة إلى الموصوف.
قوله (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله) اشتهر أن هذه الجملة مفتاح كلام الله، الجامع لما جاء من قبل علاه، واسطة العقد الأعلى، ولله المثل الأعلى، ورَد أنه لمّا نزلت --هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وأقسم الله بعزته لا يسمي هذا الاسم الشريف على شيء إلا عوفي وبورك فيه، وكل حرف من حروفها التسعة عشر وقايةٌ من واحد من زبانية النيران، كما أنه بثمانية الحمد لله تفتح أبواب الجنان الثمان، وفي الحديث "جوِّدوها فإن رجلا جودها فغفر له"، وقال عليه الصلاة والسلام لمعاوية: ألق الدواة وحرّف "القلم"، وانصب الباء، وفرّق السين، ولا تعور الميم، وحسّن "الله"، ومدّ "الرحمن"، وجوّد "الرحيم"، وهي مجمع باء البها والبر، وسين السنا والسر، وميم الملك والمنة.
واشتهر أن جملة البسملة من الإيجاز بقسميه؛ أعني إيجاز الحذف، لما فيها من حذف المتعلق؛ وإيجاز القصر، وهو إفادة المعنى الكثير بلفظ يسير من غير حذف، وذلك يستفاد من الإضافة المستغرقة لجميع أسماءه تعالى، ومن الإطناب من جهة زيادة الباء على ما قيل، وإفحام لفظ "اسم" -على ما قيل- مبالغةٌ في التعظيم والأدب، وإبعادٌ عن توهم القسم، وإن كان الصحيح خلافه، لأن أسماءه تعالى معظمة منزهة كذاته الأقدس، واختار عنوان الحمد على لفظ الشكر مع أن هناك داعيا لاختيار الثاني وهو طلب المزيد --لأن ديباجة القرآن موشحة بفرقه، وللعمل بحديث البداءة به، كما اختار الجملة الاسمية لدلالتها على الدوام اهـ.
قوله (ابتدأ بهما هذه الرسالة) أي ابتداء حقيقيا بالنسبة للبسملة، وإضافية بالنسبة للحمدلة كما يأتي.
وقوله (اقتداء وعملا) علتان لقوله "ابتدأ"، وعبر في جانب القرآن بالاقتداء، وفي جانب الحديث بالعمل --لأن القرآن إمام يقتدى به، والحديث متضمن للأمر، فناسبه العمل.
قوله (بحديثي البسملة والحمدلة المعلومين) مراده بالحديثين قوله عليه الصلاة والسلام: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم"، وحديث "لا يبدأ فيه بالحمد لله".
واعلم أن معنى بدء الأمر ذي البال بالبسملة --أن تصدره بها وتذكرها بادئ بدء، وتجعل أولَ عمل تعمله ذكرَها، ثم تعقبها بباقي عملك، على ما هو المعنى الشائع المتبادر من "بدء الشيء بالشيء"،
ولا جرم أن العمل بأحد الحديثين يفوت العمل بالآخر، فيحصل التعارض، ويحتاج لدفعه؛ إما بترجيح حديث البسملة، ولذلك أطبق المؤلفون على تقديمها على الحمدلة، ووقع عليه عمل أهل الحل والعقد من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا، قال الأستاذ الأمير في بعض مؤلفاته: ولعل هذا يفيد ترجيح حديث البسملة على حديث الحمدلة، فيندفع التعارض الحاصل فيهما ظاهرا؛ وإما بغير ذلك، وقد اشتهر دفع التعارض؛ بأن الابتداء حقيقي وإضافي، فبالبسملة حصل الأول، وبالحمدلة يحصل الثاني، والابتداء الحقيقي هو الذي لم يسبقه شيء بالنسبة لجميع ما عداه، والإضافي هو الذي يتقدم أمام المقصود وإن سبقه بعض ما عداه.
قوله (ومن ثم) أي من هنا أي من أجل ما ذكر هنا، وهو أن الابتداء بهما لأجل الاقتداء والعمل --فالاقتداء والعمل علتان للبدأ بهما، ولترك العاطف بينهما. قال العلامة الأمير: لما كان مضمون البسملة التبري من الحول والقوة والاعتراف بأن الفعل إنما هو بمعونة رحمته --ناسب تعقيب ذلك بشكره والثناء عليه، حيث إن الأمر كله منه وإليه، وإنما يتم ذلك باسمه الكريم، فهما جملتان مستقلتان، ويشهد له إفراد كل حديث، وقد اقتصر كثير على البسملة لأن فيها حمدا، وقد جرى العمل على الاقتصار عليها في الأكل ونحوه اهـ.
قوله (والصلاة والسلام على رسول الله) أتى بالعاطف إشارة إلى الفرق بين ما يتعلق بالخالق وما يتعلق بالمخلوق.
ثم إن جعلت هذه الجملة خبرية لفظا إنشاية معنى، كما هو ظاهر قول المؤلف رضي الله عنه أي أطلب، وجعلت جملة الحمد كذلك --فلا كلام في صحة العطف، وكذلك إذا جعلتا خبريتين لفظا ومعنى، لحصول المقصود منها على هذا التقدير أيضا.
أما جملة الحمد فلأن الإخبار بمضمونها من جملة أفراد الحمد، إذ هو وصف جميل، وأما جملة الصلاة والسلام فلِما قاله بعض المحققين من أن المقصود بها الاعتناء والتعظيم، لا حقيقة الدعاء، وهو حاصل بالإخبار بمضمونها.
أما إذا جعلتا متخالفين ففي صحة العطف الخلافُ الجاري في عطف الإنشاء على الخبر وعكسِه، والمنع رأي ابن مالك وابن عصفور والبيانيين، والجواز رأي الصفار وجماعة آخرين، وعلى المنع فالواو استئنافية.
قوله (أي أطلب) أشار به كما قال الأستاذ العارف إلى أن جملة الصلاة خبرية لفظا إنشائية معنى، فهو مجاز مرسل علاقته الضدية.
قوله (فإن أضيفت إلى الله... إلخ) اعلم أنه قد اشتهر أن الصلاة من قبيل المشترك اللفظي الذي اتحد فيه اللفظ وتعدد المعنى وتعدد الوضع، فصلاة الله موضوعة للرحمة المقرونة بالتعظيم، وصلاة الملائكة استغفارهم للمصلى عليه، وصلاة غيرهم دعاؤهم له.
قال العلامة العدوي: بل هي من غير الله دعاء، لحديث "إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه"، واستصوب في المغني أنها من قبيل المشترك المعنوي، وهو ما اتحد فيه اللفظ والوضع والمعنى، وكان كليا تحته أفراده كالإنسان بالنسبة لأفراده، وقال: إن الصلاة لها وضع واحد لمعنى واحد هو العطف، فإن أضيفت إلى الله كان معناها العطف بمعنى الدعاء بخير للمصلى عليه، وإلى هذا المعنى يشير المؤلف نفعنا الله به بقوله: فإن أضيفت... إلخ، والخطب في ذلك سهل.
وقوله (إتمام النعمة وعظم القدر) فيه إشارة لما أسلفناه من أنه ليس معناه مطلق الرحمة حتى يرد الإشكال بآية "عليهم صلوات من ربهم ورحمة"،
وقوله: "إتمام النعمة وعظم القدر" يحتمل أنه منصوب عطفا على "إتمام"، ومجرور عطفا على "النعمة".
قوله (ولذا خصت بها الأنبياء والملائكة) الإشارة لكون معناها "إتمام النعمة وعظم القدر" إذا أسندت إليه تعالى،
وقوله: "خصت بها" الباء داخلة على المقصور عليه أي لا تتعداهم إلى غيرهم إلا تبعا كما سلف، قال العلامة الملوي: ومن فضائل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ما جرب من تأثيرها والنفع بها في التنوير ورفع الهمة وإذهاب حرارة الطباع وتقوية النفوس العلية اهـ.
قوله (والسلام التحية) وقيل: المراد به اسم الله، أي الله راض عنك أو حفيظ عليك، وقيل: معناه السلامة من النقائص، وجمع بينهما خروجا من خلاف من كره إفراد أحدهما عن الآخر، وهذا الخلاف في حق نبينا صلى الله عليه وسلم، وأما غيره من الأنبياء فلا خلاف فيه في عدم كراهة الإفراد لأحد من العلماء اهـ حموي.
قوله (أي المؤلفة الحاضرة في الذهن) أشار به إلى المختار في مرجع اسم الإشارة في مثل هذا المقام، وهو الألفاظ المتخيلة في الذهن، المستحضرة فيه باعتبار دلالتها على المعاني المخصوصة، ولا فرق في هذا الاحتمال بين كون الخطبة سابقة على التأليف أو متأخرة عنه، وهذا الوجه أحد احتمالات في مرجع اسم الإشارة هنا، ومسمى الكتب والتراجم،
فإن السيد الجرجاني ذكر فيها أن مدلولها إما الألفاظ وحدها، أو المعاني، أو النقوش، أو اثنان منها، أو مجموع الثلاثة، ثم قال: وأولاها أنه الألفاظ الخارجية باعتبار دلالتها على المعاني، وضعّف بأنها أعراض تنقضي بمجرد النطق، فلا تصح أن تكون مدلولا ولا بعض مدلول، وزاد بعض المحققين احتمال وضعها للعبارات الذهنية، قال: وظاهر أنه غير المعنى، فإنا نستحضر المعنى الواحد ونتخيل له عبارات شتى اهـ، وهذا الوجه الأخير هو الذي قصده المؤلف نفعنا الله به وهو الأحسن.
إن قلت: ما في الذهن مجمل، ولا يقوم به المفصل، والرسالة اسم للمفصل، فلم يتم الحمل،
أجيب بمنع كون الذهن لا يقوم به إلا المجمل، بل الصحيح أنه يدرك المفصل ويتخيله كما يدرك المجمل، ألا ترى قول الفقهاء: يجب على المصلي استحضار أركان الصلاة تفصيلا عند نطقه بتكبيرة التحريم؛ وعلى تسليم ذلك فيمكن تصحيح الحمل بتقدير مضاف، أي مفصل هذه رسالة.
إن قلت: ما في ذهن المؤلف جزئي، والرسالة اسم للألفاظ التي في ذهن المؤلف والتي في ذهن غيره ممن طالعها، وما في ذهن المؤلف غير ما في ذهن غيره، فلا بد من تقدير مضاف آخر حتى تصح الإشارة،
قلت: هذا مبني على أن أسماء الكتب من قبيل علم الجنس، وأن الألفاظ تتعدد بتعدد محلها.
قال الأستاذ المحشي نفعنا الله به: والحق أنها من قبيل علم الشخص، وأن الألفاظ المستحضرة في ذهن المؤلف --هي الألفاظ الموجودة المنقوشة المسماة بالرسالة، وقيامها بغير ذهن المؤلف لا يقتضي تعددها، واعتبارالتعدد فيها بذلك من تدقيق الفلاسفة اهـ.
قوله (نزلها منزلة... إلخ) لما كان الوضع الحقيقي لاسم الإشارة أن يشار به إلى محسوس بحاسة البصر، وهنا قد أشير به إلى المعقول --احتاج المؤلف إلى ذكر التنزيل المذكور؛
وحاصله أنه إن جعلت الإشارة لغير النقوش فلا بد من تجوز؛ إما مرسل لعلاقة الإطلاق أو التقييد؛ بأن يقال: استعمل هذه في مطلق حاضر محسوسا كان أو معقولا، ثم استعمل في خصوص الحاضر المعقول؛
أو بالاستعارة؛ والمشهور أنها أصليه؛ بأن يشبه ما في الذهن من المعقول بالشيء المحسوس بحاسة البصر، بجامع كمال الاستحضار في كل، واستعير لفظ "هذه" الموضوع للمشبه به للمشبه.
وذهب بعضهم إلى أنها تبعية؛ إما لكون اسم الإشارة متضمنا معنى الحرف، والاستعارة في معنى الحرف تبعية، فيقال: شبه مطلق معقول بمطلق محسوس، فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات، فاستعير لفظ "هذه" الموضوع لمحسوس خاص --لمعقول خاص؛ وجرى العصام على أنها تبعية؛ قال: لأن اسم الإشارة مؤول بالمشتق إذ هو في تأويل مشار إليه به، ورد بأنه لا يلزم من كون الشيء في تأويل شيء آخر --أن يعطى حكمه من كل وجه، فتدبر، أفاده الأستاذ المحشي نفعنا الله به.
قوله (رسالة) مشتقة من الرَّسل بفتح فسكون، وهو الانبعاث على تؤدة، يقال: ناقة رسلا أي جيدة السير، وفيه إشارة إلى سهولة هذا المؤلف، وصغر حجمه.
قوله (في بيان المجاز) إن جعلت الرسالة اسما للألفاظ، والمراد ببيان المجاز تفسيره ومعناه --كانت الظرفية من ظرفية الدال في المدلول، وإن جعلت الرسالة اسما للمعاني --كانت من ظرفية الكل في الجزء، وعلى كلٍ ففي الكلام استعارة تبعية حيث شبه مطلق التباس دال بمدلول كليين --بمطلق التباس ظرف بمظروف كليين، فسرى التشبيه إلى الجزئيات، فاستعيرت لفظة "في" الموضوعة لالتباس الظرف بالمظروف الخاصين --لارتباط الدال بالمدلول أو الكل بالجزء الخاصين على طريق الاستعارة التبعية.
وقوله (مطلقا) أي عقليا كان أو لغويا مرسلا، أو بالاستعارة مفردا أو مركبا.
وقوله (في بيان التشبيه) أي المطلق سواء بنيت عليه الاستعارة أم لا.
وقوله (على سبيل) أي طريق الاختصار، الإضافة بيانية، والظرفان أعني قوله "في بيان المجاز"، وقوله "على سبيل الاختصار" --وصفان لرسالة.
وقوله (وهو تقليل اللفظ وتكثير المعنى) أي فهو مرادف الإيجاز، فيهما تأدية المقصود بأقل مما يقتضيه الحال، كقول الشخص في مقام الشكوى بسبب انقراض الشباب وإلمام المشيب: "رب شخت"، إذ المقام يقتضي بسط الكلام، وقيل: الاختصار الحذف من عرض الكلام، كأن يؤدي المعنى الذي يدل عليه بكلمة مركبة من خمسة أحرف --بأقل منها: منهج بدل منهاج، والإيجاز الحذف من طوله، والخطب سهل.
قوله (على بعض الأقسام) أي أقسام المجاز والاستعارة أعني التصريحية والتخييلية والمكنية؛ فإن الأولى ترجع إلى ستة أقسام أصلية وتبعية، وتمثيلية، ومرشحة ومجردة ومطلقة، وقد استوفاها المؤلف نفعنا الله به كما يأتي؛ وأما التخييلية فتنقسم إلى أصلية وتبعية، وإلى مرشحة ومجردة ومطلقة ، وهذا التقسيم فيها على مذهب السكاكي، والمؤلف نفعنا الله به لم يتعرض لمذهبه، بل جرى على مذهب القوم حيث ذهبوا إلى أنها من قسم المجاز العقلي؛ والمكنية تنقسم إلى مرشحة ومجردة ومطلقة، وقد استوفاها المصنف على طريقة القوم، لا على طريقة السكاكي، ولا طريقة الخطيب.
قوله (تقريبا) علة للاختصار.
وقوله (تحفة) من التشبيه البليغ، إذ التحفة في الأصل ما يُتحف به المرءُ صاحبَه من الهدايا.
وقوله (مستظرفة) السين والتاء لعدّ الشيء كذا، أي يعدّها من يراها أو يسمعها ظريفة.
قوله (إلا أنه شاع... إلخ) إعتذار عن العدول عن صيغة الجمع الواردة في الفصيح، كقوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة" --إلى صيغته الثانية بشيوع الثانية في جمع الأخ بمعنى الصاحب، والأولى في جمعه بمعنى القريب المعروف.
قوله (في نظير العمل) أي يتفضل الله بإعطائه لمن يشاء بمحض اختياره من غير إيجاب ولا وجوب، وإنما قيد بقوله "في نظير العمل" --لأنه لا يسمى أجرا إلا وقع في مقابلة العمل وإن كان إعطاؤه بطريق التفضل، وأما الإحسان فهو الإنعام مطلقا، والعمل هنا حركة أعضاء البدن الظاهرة والباطنة، فيشمل الأقوال، والعزم القلبي، والتفكر في الله، والذكر القلبي، وقصد الامتثال، والإخلاص وغيرها من الأعمال القلبية، فهو مساو للفعل، وقيل: أخص منه، لاختصاصه بحركة البدن الظاهرة، والفعل يعم الكل، وظاهر الاخبار يؤيد الأول، وأما الصنع فهو حركة مع مزاولة الآلات اهـ.
قوله (عطف عام) ظاهر في أن المراد بالإحسان أثره، وهو المحسن به، ويدل عليه تفسير الأجر بمقدار من الجزاء... إلخ، ويصح أن يفسر الأجرُ بإعطاء الجزاء على العمل، والإحسانُ بالإعطاء مطلقا، ويكون من عطف العام أيضا.
قوله (على أنه... إلخ) يحتمل أن تكون "على" هنا للاستدراك على ما يتوهم من المتقدم من أن العبد له عمل يستحق في نظيره شيئا، فإن قوله "في نظير العمل" يوهم ذلك، فاستدرك عليه بنفي العمل منه، على حد قوله:
بكل تداوينا، فلم يشف ما بنا على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من تهواه ليس بذي ود
ويظهر حينئذ أنها بمعنى "لكن"، ولا تتعلق بشيء، وهذه هي العلاوة المشهورة، فتجدهم يوردون اعتراضا على كلام، ثم يقولون مثلا "على أنه لا يصح من أصله"، فهو استدراك على ما يتوهم من الكلام السابق أنه صحيح، غاية الأمر أنه يلزم عليه كذا، وربما يستدركون على الاعتراض بذكر جوابه، ولا تجد هذا الثاني إلا في تعبير المحققين،.
ويحتمل أن "على" للاستعلاء، خبر لمحذوف تقديره: والتحقيق ات... إلخ.
قوله (في الحقيقة) أي باطن الأمر، وإنما هو ربط ظاهري تفضل به الفاعل المختار، فالعبيد كالقناة يجري فيها الماء، والباب يخرج منه الناس، ولما كان تعالى منزها عن أن يكون محلا للأعراض --طلبت الأعمال محلا تقوم به، لأن العرض لا يقوم بنفسه.
قوله (والله خلقكم وما تعملون) أي وعملكم، لأن الأصل عدم حذف العائد، إذ لا يصار إلى دعوى الحذف إلا عند التعذر، فالأحسن جعل "ما" موصولا حرفيا، فيفيد أن العمل مخلوق لله بإيجاده، وهو المطلوب.
قوله (ولو سلم) أي فرضا وتنزلا أن للعبد عملا يوجده بنفسه، فلا نسلم وجوب الجزاء على الله، لأن محل وجوبه عليه إذا كان ينتفع بالطاعات ويتضرر بالمعاصي، وهو منزه عن ذلك، فلا يجب عليه شيء، وبالجملة إذا ثبت له جميع ما حواه الغنى --انتفى عنه جميع ما حواه الفقر، وقد تكلفت كتب الكلام، بالرد على هؤلاء اللئام، خلّى الله منهم بقاع الأرض، من طولها والعرض.