ألا تتساءلون معي؟
مع مرورِ الزَّمن، تخلقُ المادِّية وحوشًا من تلك المخلوقاتِ المُتطوّرة الّتي تُسمَّى البشر.
لطالما كان هدفُنا الأساسيّ ماديًّا بكلِّ أشكالِه: ذهب، عقارات، إلخ.
اليوم، نحيا مع هوسٍ بالمال والمُقتنيات ممّا يُدمّر الطَّبيعة الآدميّة فينا. تمامًا كما تتسبَّبُ مياهُ النّهر في تآكلِ الصُّخور عندَ ضفافِه، فيتَّخذ شكلُها بمرورِ الوقت شكلَ المسارِ المائي.
ويَكاد لا ينقصُنا لتكتملَ مأساتُنا الإنسانيّة، سوى جائحة ليس لها من دواء تشلّ حركةَ العالم بأسرِه. وهذه الجائحة، على الرَّغم من كلِّ تداعياتِها الوَخيمة الّتي أوقفت حياتَنا وزَخمَ العمل اليوميّ على الأرض، كان لها تأثيرٌ كبيرٌ علينا لا بدّ مِن الوقوفِ عندَه، فكانت أشبه بنداء لإيقاظِ إنسانيّتنا الغافلة.
في أوّل إغلاق عالميّ في مَارس مِن العام 2020، اعتقدنا جميعًا بأنَّنا معزولون. ومَع ذلك، صدِّقوني، لقد كنّا مُتّصلِين بقوة أكثر مِن أيِّ مرحلةٍ مضَت، ولسْتُ أبالغ أبدًا، هذا هو الواقع.
كان ردُّ فِعلنا الأوَّلي بشأنِ هذا الإغلاق على هذا النّحو: "أنا بحاجةٍ إلى هذه العطلة على أيِّ حال" أو "لنمضي الآن فيما نحن عليه، وستعود الأمور إلى طبيعتِها قريبًا جدًّا". في الحقيقة، كانت أهمُّ عطلةٍ في هذا القرْن، هي استراحةٌ مِن حياتِنا المزيَّفة، والبنوك، والانشغالات، والأعمال التّجاريّة، وجميعِ الالتزاماتِ الأخرى الّتي دومًا صرَفت انتباهَنا عن النّظر إلى أنفسنا. لأوّلِ مرّةٍ في التّاريخ، نواجهُ المصيرَ عينَه ونفسَ المخاوف وانعدامِ الأمان. لم تُوحّدْنا الأنفلونزا الإسبانيّة، وذلك ببساطة لأنّه لم يكُن هناك في حينها شبكةُ إنترنت تربط العالمَ ببعضِه ولا مِنصّاتِ تواصلٍ اجتماعيّ ناشطة، وكانت وسائلُ الإعلامِ بدائيّة للغاية.
الآن كما لم يسبقْ لنا أنْ كنّا، نحنُ متّصلون بأنفسِنا بعمق، ولا ننتَظر شيْئًا، ولا يُمكِنُنا حتَّى التّخطيط! بعبارةٍ أخرى، توقَّف الزَّمن وسكنَت ضجّة الحركة التي لا تنتهي. فصِرْنا نعيشُ اللَّحظةَ لنكونَ في الحاضرِ، محترمِينَ الطَّبيعةَ الّتي أهملنا تأثيرَها علينا وارتباطَنا بها لفترةٍ طَويلة.
يُمكنُكم العودةُ إلى قصصِكم على تطبيقِ الإنستاغرام Instagram خلال تلك الفترة من الحجرِ والإغلاق، والتحقُّق من مدى ارتباطِكم بالطّبيعة، وإظهارِ جمالِها كما لو أنّكم لم ترَوا شجرةً من قبل. لماذا؟ لأنَّ هذا هو سعيُنا الجوهريّ والفطريّ، وكنَّا ولا زلنا نحاولُ تغييرَه والتنكّرَ له كلَّ يوم من أجلِ ما يُعرفُ بالحضارة، حضارةٌ سِمتُها العقليّة الماديّة الجافّة، وهذا ما يمنعُ إنسانيَّتَنا منَ التفتُّح بالكامِل.
عندما عايشنا جائحةَ الكوفيد-19، وتيقَّنا أنّ فيروس كورونا المُستجد قد يُهاجم أحبَّاءنا أو يُهاجِمنا قريبًا، بدأت الأمور تتغيَّر. لقد دخلنا صراعَ البقاء على قيْد الحياة من الباب العريض وتلاشَت كلُّ اهتماماتِنا ورغباتِنا. إلّا أنَّ هذا الاتّصال الّذي بنيناهُ قبلَ أشهرٍ لم يدُمْ وانقطعَ مرّة أخرى. عُدْنا إلى أنانيتِنا المُعتادة أكثر حماسًا وأكثر شراسةً للاستمرار على قيْد الحياة مع مَن نحبّهم أو بدونهم. وهذا يعتمدُ على المكان الّذي نعيش فيه وما إذا كانت الحكومةُ تلعبُ دورًا بنَّاءً وتبذل الجهود الصّحيحة أمْ لا. مثلًا كأنْ تكون لديك مُستشفيات جيِّدة وسِعة كافية من الغرف المجهّزة. كما وظهر العديدُ مِن المعايير لتُملي إلى أيِّ حدٍّ يجبُ أنْ نكونَ خائفين ومأزومين نفسيًّا.
بالنّسبة لأولئك الّذين يُفضّلون عدَم وصفِ جائحة كورونا بالمؤامرة، أقول: يُمكن أنْ تكون حيلةً أخرى من يدري! قد يُظهرُ التّاريخُ أنَّ البشرَ دفعُوا حياتَهم مقابلَ جريمة عالميّة ارْتُكِبت من أجلِ زمرةٍ من الجَشعين الّذين تُنعشُهم الحروبُ والهيمنةُ الاقتصاديّة وتأمين المصالح والتمسُّك بالسّلطة والوسائل الماليّة بهدفِ ضمان السّطوة والسّيطرة على المقدّرات. تاريخيًا، حاربَت الدُّول كما نعرِفها بعنف ولا تزال من أجلِ الحصول على: موارد الطّاقة البديلة، وتوليد الطّاقة وإعادة تقسيمها، والسَّيطرة على البلدان الأخرى بما فيها من ثروات طبيعية وبشريّة.
يبدو أن تدمير البشر قد أصبح قاعدةً منذُ زمن بعيد. ومع ذلك، يختلفُ الوَضعُ في الوقت الرَّاهن في شيء واحد على الأرْجح: لربَّما حانَ الوقتُ لإبادةٍ بشريّة هائلة عبر استخدام جيلٍ جديد غامض من الحروب، حيثُ لم تعدِ البنادقُ والصَّواريخُ موضةً حربيّة إنَّما الأوبئة !
هل ما زِلنا نستحقُّ بأنْ نُدعى بشرًا؟
الخيارُ لكم.